فحيث ترى حقدا على ذي إساءة
فثم ترى شكرا على حسن القرض
إذا الأرض أدت ريع ما أنت زارع
من البذر فيها فهي ناهيك من أرض
ولا عيب أن تجزي القروض بمثلها
بل العيب أن تدان دينا فلا تقضي
فهذا اعتراف صحيح يتلهف عليه القضاة؛ قضاة المحكمة العتيقة، ولكنه بعد ليس بالمهم في البحث عن أخلاق الرجل؛ لأن وراءه سرا هو الأهم في هذا الصدد، وهو الحقيق بأن يدار البحث إليه.
فيجب أن نعلم أولا لماذا شهد ابن الرومي على نفسه بالحقد هذه الشهادة، فإن الحقود لا يشهد على نفسه بحقده، والمطبوع على الصراحة لا يكون مطبوعا على الحقود، وصراحة ابن الرومي هنا تلفت النظر إلى أمر شاذ في هذا «الاعتراف»، وتدعونا إلى السؤال عن سره، وسره ليس ببعيد.
فالرجل كان يدعي الحقد ليخيف الذين يستوطئون جانبه، ويستسهلون إرضاءه بعد إغضابه، فما كان يذكر الحقد إلا وهو ينذر ويتوعد من طرف خفي أو ظاهر، ويخير الناس بين شكره وحقده؛ ليغنموا شكره، ويجتنبوا حقده. فهذه الدعوى عنده كتلك السحنة البغيضة التي ينتحلها بعض الحيوان للإخافة والتهويل حين لا يكون مخيفا ولا هائلا في الحقيقة، وهو محتاج إلى دعواه حاجة الحيوان إلى سحنته البغيضة في معترك الحياة.
وسبب آخر لاعترافه بالحقد أنه كان يتفلسف ويدرس الجدل ويتعاطى صناعة البرهان، ويجب أن يمتحن قوته في المنطق والفلسفة بتقبيح الحسن وتحسين القبيح حسبما يبدو له من وجهيه، ومن تنازع الأقوال فيه، وتلك سنة كانت معروفة في ذلك العصر يقيسون بها البلاغة، ويقيسون بها قوة البرهان، فمدح ابن الرومي الحقد وذمه، ولم يقصر بحجة الذم عن حجة المديح، وهو القائل في ذم الحقد والرد على مادحيه:
صفحة غير معروفة