134

ابن الرومي: حياته من شعره

تصانيف

واغتباق واصطباح

والمزاح الجد إن فك

رت والجد المزاح

وتختلف نزعات هذا الإسراف، وسببها كلها واحد: سببها كلها توفز الحس ومطاوعة الرغبة الحاضرة والاندفاع معها، وقلة الصبر عنها، ولو أن هذه الأشواق الجامحة شفعت بمسكة من العزم المتين لاعتدلت حاله ولو بعض الاعتدال، وسلم جسمه ولو بعض السلامة، ولكن أنى له العزيمة وهو أسير إحساس اللحظة التي هو فيها، لا يترك له استغراقه في مؤثراتها الحاضرة منفذا إلى التفكير في قابل أو غابر، ولا يعدل بما يزينه الحس والخيال حظا تزينه له الحكمة والحصافة.

وصاحب هذا المزاج إذا خلا من الإحساس الثائر، والرغبة الجامحة يثوب لا محالة إلى وجوم يجثم على صدره، وانقباض يثقل على وجدانه، كالنشوان لا يفيق من أحلام الكأس حتى يرين عليه السأم فيسرع إلى النشوة، فهو أبدا بين النقيضين من ثورة الإحساس وشدة الوجوم.

وليس التناقض بين ثورة الإحساس والوجوم في الحقيقة إلا ظاهرا لا يتعمق إلى البواطن الداخلية؛ إذ إن فرط الإحساس كثيرا ما يؤدي بصاحبه إلى فرط الوجوم؛ اتقاء الألم أو شعورا بالوحشة التي تنتابه حين يرى التفاوت بين شعوره وبلادة من حوله، أو مضيا مع عادة التفكير والخلو بالنفس التي ينميها التفات الإنسان إلى موارد الإحساسات المتوالية على وجدانه وحسه، وإذا لم يتوجه الإحساس إلى العمل والحركة فسبيله التي لا محيد عنها أن يتوجه إلى التأمل ومناجاة السريرة، وندر أن يوجد الخجل والاحتجاز إلا مع شدة الوعي والتنبه لكل حركة يتحركها الإنسان، وكل كلمة ينبس بها، وكل أثر يكون لحركته وكلامه في نفوس غيره، فالسكون أدل على الحس المتوفز في بعض الأحيان من الحركة والاضطراب.

ولعل الأصوب أن نقول: إن ابن الرومي وقع من مزاجه وإسرافه في حلقة موبقة لا يدرى أين طرفاها، فمزاجه أغراه بالإسراف، والإسراف جنى على مزاجه، فإن هذا الإسراف الموكل بالاستقصاء في كل مطلب ورغبة خليق ولا غرو أن يسقم جسمه، وينهك أعصابه، ويتحيف صوابه، بيد أنه لا يسرف هذا الإسراف إلا وفي جسمه سقم، وفي أعصابه خلل، وفي صوابه شطط لا يكبح جماحه، فالعلة هي سبب الإسراف، والإسراف هو سبب العلة! وهو من هذه الحلقة الموبقة في بلاء واصب، ومحنة لا قبل بها للضليع الركين فضلا عن المهزول الضئيل، وعلاقة كل ذلك باختلال الأعصاب وشذوذ الأطوار بدءا وعودا ثم عودا وبدءا علاقة من جانب الجسد ومن جانب التفكير.

ولا تعوزنا الأدلة على اختلال أعصاب ابن الرومي وشذوذ أطواره من شعره أو من غير شعره، فإن أيسر ما تقرؤه له أو عنه يلقي في روعك الظنة القوية في سلامة أعصابه واعتدال صوابه، ثم يشتد بك الظن كلما أوغلت في قراءته والقراءة عنه، حتى ينقلب إلى يقين لا تردد فيه، وكل ما نعلمه عن نحافته، وتفزز حسه، وشيخوخته الباكرة، وتغير منظره، واسترساله في الوجوم، واختلاج مشيته، وموت أولاده وطيرته، ونزقه وشهوانيته الظاهرة في تشبيبه وهجائه، وإسرافه في أهوائه ولذاته، ثم كل ما نطالعه في ثنايا سطوره من البدوات والهواجس - قرائن لا نخطئ فيها الدلالة الجازمة على اختلال الأعصاب، وشذوذ الأطوار، بل لا تخطئ فيها الدلالة على نوع الاختلال ونوع الشذوذ.

ونقول: «نوع الاختلال»؛ لأن هذه الكلمة عنوان واسع يشمل من الحالات النفسية والجسدية مثلما تشمله كلمة «الصحة» أو أكثر، فهذا صحيح وهذا صحيح، ولكن البون بينهما جد بعيد، وهذا مختل الأعصاب وذاك مختلها، ولكن الخلاف بينهما في الأخلاق والمشارب كأبعد ما يكون بين فردين مختلفين من بني الإنسان، فتختل أعصاب المرء فإذا هو جسور عنيد متعسف للأخطار، هجام على المصاعب لا يبالي العظائم ولا يحذر العواقب، وتختل أعصاب المرء فإذا هو وديع مطيع، حاضر الخوف، متوجس من الصغائر ، يبالغ في تجسيمها أو يخلقها من حيث لم تخلق، ولم يكن لها وجود في غير وهمه، وبين الحالتين - لا بل في كل حالة من الحالتين - نقائض وفروق لا تقع تحت حصر، ولا تطرد على قياس.

وبديهي أن ابن الرومي لم يكن من الفريق الأول في «نوع اختلاله»، ولكنه كان من الفريق الثاني الذي يستحضر الخوف، ويكثر التوجس، ويختلق الأوهام.

صفحة غير معروفة