أوليته
جرت العادة في تراجم أدبائنا أن لا يعنى المترجمون بأولية الأديب ونشأته وكيف درس وبمن تخرج وعمن أخذ وما هي الحوادث التي جعلت منه أديبا، وإنما يعرضونه لنا ثمرة ناضجة إلا في النزر اليسير، وابن المقفع أحد من أغفلت هذه الجهات في سيرته، بل أحد أولئك الذين غمطوا في حياتهم ومماتهم وبعد مماتهم، فابن خلكان لم يعقد له ترجمة خاصة، بل ذكره بالمناسبة في ذيل ترجمة الحسين الحلاج.
فلم يبق لدينا إلا النبذ المنتشرة في كتب الأدب نجمعها ونستخلص منها صورة تمثل أولية ابن المقفع ما أمكن، مع الاستعانة بالزمن والبيئة التي عاش فيهما.
عرفت أن ابن المقفع نشأ في البصرة وفي ولاء آل الأهتم، وعرفت أي مركز للعلم والأدب كانت البصرة، ومن هم آل الأهتم في الفصاحة، فلا عجب أن يكون الناشئ في تلك البيئة من أعلام البلاغة، أما مشايخ ابن المقفع في الفصاحة فلا نعرف إلا واحدا منهم، هو أبو الجاموس الأعرابي، قال ابن النديم: «أبو الجاموس ثور بن يزيد الأعرابي، كان يفد إلى البصرة على آل سليمان بن علي، وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة، ولا مصنف له.» ولابن المقفع جملة تدل على سعة روايته لكلام العرب، قال: شربت الخطب ريا، ولم أضبط لها رويا، فغاضت ثم فاضت فلا هي نظاما وليس غيرها كلاما. على أن له فقرة أخرى تدل على مبلغ اعتماده على نفسه في أدب النفس والدرس، سئل مرة: من أدبك؟ فقال: نفسي، كنت إذا رأيت حسنا أتيته، وإذا رأيت قبيحا أبيته. أما معرفته بالفارسية فقد كان عالما بلغات الفرس وآدابها وخطوطها، روى عنه ابن النديم أقوالا في لغات الفرس وخطوطهم تدل على رسوخ قدمه في أدب قومه.
وبعض المعاصرين ممن ترجم له يدعي أنه كان يعرف اللغة اليونانية؛ لأنه ترجم بعض الكتب اليونانية، ونحن لا نرى ذلك؛ لأن ما نقله عن اليونانية إنما كان ترجم إلى الفارسية قبل ابن المقفع وهو نقله عن الفارسية كما سيأتي ذلك عند الكلام على كتبه.
عند ابن هبيرة
ابن المقفع وإن كان معدودا من كتاب العصر العباسي فإنه بدأ حياته الكتابية في دولة بني أمية وهو فتى لا يزيد عمره كثيرا عن عشرين سنة، فحينما كان زميله عبد الحميد بن يحيى يكتب بالشام لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية كان ابن المقفع الشاب نابه الذكر يكتب لداود بن هبيرة في العراق.
وداود هذا كان مع أبيه والي العراق يزيد بن عمر بن هبيرة الذي ولاه مروان بن محمد سنة ثمان وعشرين ومائة، وبقي مع أبيه في العراق يدافعان دعاة بني العباس إلى أن قتل مروان سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فأمن أبو جعفر يزيد بعد أن عجز عن الظفر به، ثم قتله ومن معه من أهله وحاشيته، وكان داود من جملة من قتل، ولكن ابن المقفع نجا تلك المرة من سيف أبي جعفر واستبقاه لوقت آخر مع أنه قتل كاتبا غيره من كتاب ابن هبيرة، ولم تبق الأيام على أثر مما كتبه ابن المقفع عن داود.
عند بني العباس
خدم ابن المقفع بعد مقتل ابن هبيرة والي الأمويين على العراق أعمام السفاح الثلاثة: سليمان وعيسى وإسماعيل أبناء علي بن عبد الله بن عباس، كما أنه ترجم لأبي جعفر المنصور كتبا في المنطق عن الفارسية، فقد كتب لعيسى بن علي أيام ولايته على كرمان وعلى يديه أسلم، جاءه يوما وقال له: قد دخل الإسلام في قلبي، وأريد أن أسلم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر. ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجعل يأكل ويزمزم على عادة المجوس، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت عزم الإسلام؟ فقال: كرهت أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده وسمي بعبد الله، وكني بأبي محمد وكان يكنى أبا عمرو.
صفحة غير معروفة