لم يكن لكلامه هذا صدى، ولم يفهمه أحد، ويأمر القائد فيقبض عليه، ويستولي الذعر على تلاميذه فلا يدافع أحد منهم عنه فيخذلونه.
ويسمع في بستان الزيتون حفيف شجر وتواري ظلال في الظلام؛ فقد فر جميع الحواريين. •••
سيق يسوع إلى قصر رئيس الكهنة في ساعة متأخرة، فسير به من مسالك ومراق عريضة إلى غرفة واسعة خالية من الهواء ذات ستائر صفيقة، فرأى فيها على نور الشمع نحو عشرين رجلا جالسين على وسائد في نصف دائرة صامتين منتظرين، ثم وقع نظره في وسط هؤلاء على شيخ كنتي هزيل، متكرش الوجه، شاحب اللون، متلفف في أغطية، مستند إلى مخاد مشابه لرق الناموس الذي رآه في الهيكل. ومن وجه هذا الشيخ كان يخرج ألفاظ وشخير.
هذا هو حنان الذي كان رئيس الكهنة في عصر أغسطس الزاهر، ثم خلفه خمسة من أبنائه في وظيفته مع بقائه قابضا على زمام الأمر مرهوبا ممقوتا، وقيافا الذي هو رئيس الكهنة اليوم هو أصغر أولاده سنا، والرومان أصحاب السلطان هم الذين نصبوا قيافا هذا، فظل مع شيبته مطيعا لأبيه حنان البالغ من العمر مائة سنة.
ويتعذر جمع المجمع الكبير كله في تلك الليلة القريبة من العيد، فاجتمع ثلث الأعضاء، وهذا ما يكفي. ومن أحكام الشريعة أنه لا بد من انقضاء يومين للحكم بالإعدام وتنفيذه، فيمكن للضرورة الملحة عد تلك الليلة اليوم الأول، وعد الصباح التالي اليوم الثاني.
إعدامه أمر بت فيه؛ فالصدوقيون النافذون في المجمع الكبير لا يحبون الجدال كالفريسيين، بل يرون قرن الأقوال بالأفعال، وضل من يقول غير هذا، والسلطان والمال ينتقلان إلى الصدوقيين جيلا بعد جيل. ومن امتيازاتهم: بيع أنعام القرابين، وإيجار الأماكن في الهيكل للباعة، وتوزيع الوظائف، وتحديد الأثمان، والصدوقيون إذا ظلوا هادئين صابرين؛ على حين يثور الفريسيون ويهيجون، فليعملوا في الوقت المناسب، وليقضوا على عوامل الخطر في ساعة واحدة؛ فقد دقت هذه الساعة، فالشهود ينتظرون في خارج القاعة، والمتهم حاضر.
جيء بيسوع الجليلي أمام هؤلاء الذين نضجت أعمارهم، وحنكتهم التجارب، فأنعموا النظر فيه منذ دخوله أكثر من أن ينعمه فيهم، فرأوا في منظره وسلوكه مثل أوضاع ناقضي الناموس، ولم يكترث يسوع في محاكمته الجائرة لغير الشكل، ويعرف كلا الفريقين ما تسفر عنه هذه المحاكمة، ويغتم المتهمون، مع ذلك، أكثر من المتهم الذي يعلم هلاكه، أفلا يمكنه أن يصنع كما صنع زكريا في بدء حرب اليهود، فيمزق شبكة دسائسهم بصوت راعد يوجهه إلى الشعب؟ فما الذي يؤاخذه عليه الشيخ حنان؟ أيؤاخذه على الطراز الذي دخل به أورشليم؟ أم يؤاخذه على طرده الصيارفة من الهيكل؟ أم يؤاخذه على ما قذف به الفريسيين؟
لم يحدث شيء من هذا، ويقص الشهود ما عندهم، ويحاول الشيخ حنان أن يلبس المحاكمة مظهرا نزيها مع أنه خصم وحكم في آن واحد، ولم يسمع صوت المتهم بعد، فغاظه صمته تجاه ما وجه إليه من تهم وأسئلة، فطلب منه أن يوضح مذهبه.
النبي واقف هنالك بين أعدائه، فهل يكشف عن روحه الخفية أمام تلك الوجوه؟ لقد أجاب بفتور: «أنا كلمت العالم علانية، أنا علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل؛ حيث يجتمع اليهود دائما، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء، لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين قد سمعوا ما كلمتهم، هو ذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا.»
ما كان أحد ليجرؤ قبل الآن على النطق بمثل ذلك أمام السائل الهرم، فلطم أحد الخدم المتهم بيده قائلا: «أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟» وذلك قبل أن يكون لدى الشيخ حنان من الوقت ما يعنف به يسوع.
صفحة غير معروفة