ويدهش رجال الشريعة، ويعجب بعضهم باطلاع هذا العلماني على التوراة من غير أن ينطقوا بكلمة، ويسر الفريسيون في هذه المرة بما صفع به النبي خصومهم، وقد قيل: إن كلا الفريقين يتبارى في إسقاطه، فالآن يرسل الفريسيون كاتبا ليسأله: «أية وصية هي أول الوصايا؟»
فيجيبه يسوع: «إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك، هذه هي الوصية الأولى، وثانية مثلها هي: تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين.»
كان لهذه الكلمة أبلغ الأثر؛ فقد شعر السائل شعورا مبهما بأن المعتقد القديم والتفسير الجديد يتعارضان في جملتين، فيهز رأسه، وينسى رسالته، ويقول حائرا: «جيدا يا معلم بالحق قلت.» ثم يكرر كلمات يسوع مضيفا إليها: «هذه هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح.» ويبدو يسوع متساهلا بعد أن سمع لهجة السائل السلمية، فيقول له: «لست بعيدا عن ملكوت الله.»
وهكذا يقترب ذانك العالمان أحدهما من الآخر لوقت قصير.
ويستمع الفريسيون إلى ما قصه صاحبهم فيقولون: أيمكن القبض عليه إذن؟ ألا يؤخذ بسبب عطفه على الخطأة المذنبين؟
ويعن لأحدهم رأي؛ فقد قبض في هذه الليلة على امرأة وهي تزني، فيخوض أهل المدينة في أمرها، فليؤت بها إلى النبي، فمن يدري أنه لا يبرئها؟
طلبت المرأة السجينة، وبحث عنه فوجد في إحدى الباحات الدنيا جالسا مع أصحابه على الأرض في أسفل الدرج الأربع عشرة المؤدية إلى داخل الهيكل، فيدهش إذ يرى الجمع الآتي إليه، ويرى امرأة يؤتى بها من الشوارع، فيسأل في نفسه متفرسا: من هي هذه المرأة؟ فيقول الذي يمسكها: «يا معلم، هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم، فماذا تقول أنت؟»
نظر يسوع إلى المرأة عن كثب وإلى المتهم لها، فوجده سيئ الحمية، ووجدها حزينة خجلة، فهل يجيب بما يملي عليه قلبه؟ وهل بين الجمهور من يدرك أمره إذا ما فعل ذلك؟ تحدق إليه العيون، ويغض البصر ناظرا إلى الأرض كاتبا عليها بإصبعه، ويتبادل الحضور النظرات ويتساءلون عما يدل عليه ذلك وينتظرون، ثم يفرغ صبرهم فيسألونه ثانية، فيرفع عينيه فيرى أنه لا يستطيع الدفاع عن تلك الأثيمة، وإن كان راغبا في توبتها، مبغضا لعرض الفضائل والجهر بها، فيخاطب أفئدة المتهمين بقوله: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر!»
ثم يحني رأسه ثانية على استحياء ويكتب على الأرض.
ولم يحدث أن كان لقول له فعل وأثر أكثر مما كان لتلك الكلمة.
صفحة غير معروفة