ابن حزم حياته و عصره آراؤه وفقهه
الناشر
دار الفكر العربي
مكان النشر
القاهرة
رأينا ذلك في صدر شبابه، ومثل ذلك ممن له مواهب ابن حزم مجتهد ذو الأمر في إبعاده عن العامة، أو تصغير شأنه بينهم.
وفوق ذلك فإنه يظهر أنه وهو المؤرخ الذي كان يسجل وقائع عصره، وما يجري فيه لم يكن يسجل فيه ما يبغون، فكان يكتب بعبارته اعتقاده وما يراه لا يخشى في ذلك لومة لائم، ولا يهمه رضوا أو سخطوا، وقد رأينا نموذجاً من ذلك فيما نقلناه من كتابه «نقط العروس» خاصاً بالمعتضد وأبيه ويسمي فعلهم الذي نسبه إليهم من نحل اسم هشام لرجل حصري، وادعاء أنه هو هشام، واستمرار ذلك الادعاء نيفاً وعشرين سنة يسمي ذلك «أخلوقة لم يقع مثلها في الدهر».
وإن هذا صورة مما كان يسجله على هؤلاء وغيرهم فكان العلاج لتلك الأمور الذي يسجلها هو إحراق الرق والكاغد، ولذا يقول هو إنه ما أحرق علمه في صدره، وأنه معه حيث ينتقل، وإنه إن أحرق ما سجله فيه فسيسجله في غيره أو يحدث به الناس، أو يموت في صدره:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس . بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركابي وينزل إذ أثوى ويدفن في قبري
٥٩ - ضاقت الأندلس بعلم ابن حزم ولسانه وقلمه، أو بالأحرى ضاق الأمراء ذرعاً بذلك، فما كانت الأرض تضيق بالعلم الناضج، أو لسان الصدق، أو القلم المسجل للحقائق، ولكن ضاقت صدور العلماء ومن يناصرونهم بذلك، لأن فريق الفقهاء قد وضعوا أنفسهم في أفق محدود لا يعدونه وهو مذهب إمام دار الهجرة مالك، وحسبوا أن الحق لا يعدوه. فإن تجاوزه أحدهم فإلى مذهب من المذاهب الأربعة التي تعترف الجماعة بها. ومن يخرج عن ذلك فهو المارق عن الحق المشنوء منهم مهما يكن مقدار اتصال قوله بالمصادر العليا للشريعة الإسلامية. وغير الفقهاء قد رأوا في ابن حزم من يخشى منه لسابق اشتغاله بالسياسة، ولمنزلة أسرته. لأن مثله قد يطمع في الإمرة، وولائه للأمويين، وخشيته أن يدعو إلى إعادتهم ليكف من غرب الأمراء، ولأنه فوق ذلك عالم فقيه ينطق بالحق، ويصك
50