ولما جاء المعتزلة، ونفوا صفات المعاني، ثم بالغوا، فأنكروا أن يكون الله سبحانه وتعالى متكلما، وما ورد في القرآن من أن الله سبحانه وتعالى كلم موسى تكليما أولوه بأنه سبحانه وتعالى خلق الكلام في الشجرة، فهم لا يصفون الله بأنه متكلم، ولكنهم يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى يخلق الكلام، كما يخلق كل شيء، وعلى هذا الاعتقاد بنوا دعواهم أن القرآن مخلوق لله سبحانه وتعالى.
ولقد خاض المعتزلة في حديث خلق القرآن خوضا شديدا في العصر العباسي، وشاركهم بعض قليل من الفقهاء، فقد كان بشر بن غياث المريسي من المصرين على ذلك القول، وقد نهاه أبو يوسف أستاذه وصاحب أبي حنيفة فلم ينته، فطرده من مجلسه.
ولقد ابتدأ خوض المعتزلة يشتد في عهد الرشيد، فأخذوا يدعون الناس إلى ذلك، ولكن الرشيد لم يكن من يشجعون الخوض في العقائد، والجدل فيها على ضوء أقوال الفلاسفة، ولذلك لم يشجع المعتزلة على ذلك الخوض، بل يروى أنه حبس طائفة من المجادلين من هؤلاء المعتزلة، ولما بلغته مقالة بشر بن غياث قال: ((إن أظفرني الله به أقتله)) فظل بشر مستخفيا طول خلافة الرشيد.
٤٧ - فلما جاء المأمون أحاط به المعتزلة، وكان جل حاشيته من رجالهم، وأدناهم هو إليه، وقربهم زلفى نحوه، وأكرمهم أبلغ الإكرام، حتى يروى أنه كان إذا دخل عليه أبو هشام الفوطي من أئمة المعتزلة تحرك له، حتى يكاد يقوم، ولم يكن يفعل ذلك مع أحد من الناس.
والسبب في ميل المأمون للمعتزلة ذلك الميل أنه كان تلميذا لأبي الهذيل العلاف في الأديان والمقالات، وأبو الهذيل من رؤوس المعتزلة.
ولما عقد المأمون المجالس للمناظرات والمناقشات في المقالات والنحل كانوا الفرسان السابقين في الحلبة، والبارزين على الخصوم، لما اختصوا به من دراسات عقلية واسعة، فكان لذلك لهم الأثر الكبير في نفس المأمون، يحتبي منهم من يشاء
44