ولقد كان يحث تلاميذه وأصحابه على ذلك، وينهاهم أن يحدثوا من غير كتاب خشية أن يضلوا، يروى أن علي بن المديني كان لا يحدث إلا من كتاب، وقال: ((إن سيدي أحمد بن حنبل أمرني ألا أحدث إلا من كتاب)).
وابن المديني الذي يحكي عن الإمام أحمد ذلك الأمر هو الذي يقول فيه: ((ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبدالله)).
٤٠ - وثالث الأمور التي كانت تلاحظ على مجالس أحمد بن حنبل في دروسه أنها كانت من حيث موضوعها قسمين: (أحدهما) رواية الحديث ونقله، وهذه عليها على تلاميذه من كتاب، كما رأيت، ولا يعتمد على حفظه إلا نادراً.
(وثانيهما) فتاويه الفقهية التي كان يضطر إلى استنباطها، وهذه لا يسمح لتلاميذه أن يدونوها، ولا يسمح لهم أن ينقلوها عنه، إذ أنه ما كان يستجيز التدوين إلا لأحاديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ويرى أن علم الدين وحده هو علم الكتاب والسنة، وأن من البدع تدوين آراء الناس في الدين بجوار كتاب الله وسنة رسوله، وكان أبغض الأشياء إليه أن يرى كتاباً قد دونت فيه فتوى له رضي الله عنه، وكان يكره من أصحابه أن ينقلوا عنه فتاويه، وربما أنكر نسبتها إليه، لأنه لم يحفظ ما قال، ولم يقصد إلى حفظه؛ لأنه ذلك غير جائز في نظره.
لقد بلغه أن بعض تلاميذه روى عنه مسائل، ونشرها بخراسان، فقال: اشهدوا أني رجعت عن ذلك كله)، وجاء إليه رجل خراساني بكتب، فنظر في كتاب من بينها، فوقع نظره، فوجد كلامه، فغضب، ورمى الكتاب من يديه.
ولم يكن ذلك بالنسبة لآرائه هو فقط، بل بالنسبة لفقه غيره، فلقد سأله رجل هل يكتب كتب الرأي، فقال: (لا): قال السائل، فابن المبارك كتبها، قال أحمد: ((ابن المبارك لم ينزل من السماء، إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق (١))) وينهى المحدثين عن أن يكتبوا كتب الشافعي، وأبي ثور، مع أن الشافعي منزلته منه بمنزلة الأستاذ، وله عنده المكان المكين، ولكن أحمد الذي كان ينهى ذلك النهي جمعت كل الروايات
(١) راجع هذه النقول في المناقب لابن الجوزي ص ١٩٢ - ١٩٣
39