في مجلس علم أو في غير مجلس علم ، بل إن شيوخه علموا ذلك، فكانوا هم أيضاً لا يمزحون في حضرته، فقد روى ابن نعيم عن خلى بن سالم أنه قال: ((كنا في مجلس يزيد بن هارون، فمزح يزيد مع مستمليه، فتنحنح أحمد بن حنبل، فضرب بيده على جبينه، وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد هنا، حتى لا أمزح)).
كانت روح الجد والسكينة هي التي تظل مجلسه؛ لأن ذلك هو الذي يتفق مع رواية السنة النبوية الشريفة، وآثار الرسول الكريم، وفتاوى السلف الصالح رضوان الله تعالى عنهم، ومن شأن السكينة أن تجعل للقول مكانه من القلب، ومنزلته من النفس، وإنه وإن كانت الدعابة تذهب بالملال، كثرتها تذهب الروعة ورواء العلم، وقد تجنب أحمد المزاح جملة، إذ رواية السنة عبادة عنده، ولا مزح في وقت العبادة، بل المزح ينافيها، ولا خير فيمن يمل من العبادة برواية علم الرسول، وخير ما وصل إليه أصحابه.
٣٩ - ثاني الأمور، التي كانت تلاحظ في درسه أنه كان لا يلقي الدرس من غير طلب، بل يسأل عن الأحاديث المروية في موضوع، فيستحضر الكتب التي دون فيها تلك الأحاديث، فهو أولاً ما كان يقول حتى يطلب منه، وثانياً كان إذا قال حديثاً نبوياً لا يقوله إلا من كتاب حرصاً على جودة النقل، وإبعاداً لمظنة الخطأ ما أمكن، كما بينا، وفي الأحوال النادرة جداً كان يقول الحديث من غير رجوع إلى كتاب، حتى إنهم أحصوا المرات التي قال فيها الحديث من غير كتاب في مدى تحديثه، فكانت عدتها لا تتجاوز مائة حديث في حياة مديدة في الرواية والنقل مكث فيها يفتى ويحدث ما يقارب الأربعين عاماً.
وقد جاء في تاريخ الذهبي عن المروذي صاحب أحمد في وصف مجالسه: ((لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبدالله، كان مائلاً إليهم، مقصراً عن أهل
(١) راجع ترجمة الذهبي لأحمد بن حنبل التي نقلت في مقدمات طبع مكتبة المعارف لمسند أحمد بتحقيق الأستاذ الشيخ أحمد شاكر.
37