35

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

وإذا كان أحمد حريصاً على الاتباع في هذه الأمور التي تعد من صغار الأعمال فأولى أن يكون متبعاً في ذلك الأمر الجليل الذي لا يوجد عمل أخطر منه في نظر أحمد وغيره، وهو عمل النبيين صلوات الله وسلامه عليهم، ألا وهو الدرس والتحديث والإفتاء، لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في الأربعين، وبلغ رسالة ربه في هذه السن، ولم يرسله الله رحمة للناس إلا فيها، فلا بد أن أحمد المتبع المقتدى استحيا أن يجلس للفتيا والحديث إلا بعد أن بلغ الأربعين، وبعد أن تكامل نموه في الجسم والروح.

هذا ما نراه تعليلاً لامتناعه عن الجلوس للحديث والفتوى قبل أن يبلغ هذه السن، وهو تعليل متلمس من جملة أحواله، وإن لم نجد نصاً عليه فيما تحت أيدينا من مصادر.

٣٥ - ولسنا نستطيع أن نقرر أن أحمد قد استفتى فيما يعلم فيه أثراً وامتنع عن الفتوى قبل هذه السن، أو سئل حديثاً وامتنع عن ذكره، بل إننا نقطع بنقيض ذلك، لأنه إن امتنع كان كاتماً للعلم؛ حائلاً دون نشر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن كتمان العلم، والدين يوجب إفشاء أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشرها.

ولقد شهدت بعض الأخبار بصدق ذلك، فقد رؤي يفتى في مسجد الخيف، سنة ١٩٨ أي وهو في الرابعة والثلاثين.

وإن الجمع بين هذا الخبر وما قررناه من أنه لم يجلس للتحدث والفتيا إلا بعد أن بلغ الأربعين - يكون بأن الفتيا عند الضرورة أمر لابد منه تجب على كل من يعلم موضع الفتوى مهما يكن، أما الجلوس للدرس يقصده أهل العلم لطلبه، والأخذ عنه، والرجوع إليه، فذلك ما لم يتصد له أحمد إلا بعد الأربعين، عندما وجد المكان شاغراً ببغداد فملأه، وعندما وجد أن الاتباع ألا يجلس للتحديث والإفتاء إلا بعد بلوغ سن الرسالة والله أعلم.

٢٥ - لم يجلس أحمد للدرس والإفتاء إلا بعد أن اكتمل، كما بينا، وسرى بين الناس حديث صلاحه وتقواه وورعه وزهده وعفته عما في أيدي الناس،

34