29

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

إلى تلقى الحديث عن أبى يوسف، ويقول ابن كثير إنه كان في حداثته مختلفًا إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ولا شك أن اختلافه إلى مجلس ذلك القاضي الفقيه الذي كان يفتي ويقضي برأيه إذا لم يجد النص المسعف له في فتواه، وفي قضائه، لابد أن يعطيه فكرة عن الاستنباط الفقهي، وأنه إن تعلم الحديث لم يكن المحدث الذي يروي من غير أن يستنبط، ويتحرى، ويفهم النصوص وغاياتها المصلحية ومراميها، وإن متابعتنا لما تلقاه من دروس، ومن التقى بهم من شيوخ يجعلنا نعتقد أنه كان معنيًا باستنباط الأحكام من النصوص، كما كان معنيًا بالرواية والرواة،

لقد رأيناه في مكة يلتقي بسفيان بن عيينة، ويروي عنه، ويكتب ما يستمع إليه منه، ثم يلتقي بالشافعي، وقد كان يدرس أصوله، فتسترعي مناهجه الفقهية أحمد، ويتلقى عليه تلك المناهج، ويعجب بصاحبها إعجابًا يدفعه إلى أن يدعو رفقته في رحلته للاستماع إليه.

فقد جاء في معجم ياقوت عن الآبري ما نصه: "قال إسحاق بن راهويه كنا عند سفيان بن عيينة نكتب أحاديث عمرو بن دينار، جاءني أحمد بن حنبل، فقال لي قم يا أبا يعقوب، حتى أريك رجلًا لم تر عيناك مثله، فقمت، فأتى بي فناء زمزم، فإذا هناك رجل عليه ثياب بيض، تعلو وجهه السمرة، حسن السمت، حسن العقل وأجلسني إلى جانبه، فقال يا أبا عبد الله هذا إسحاق بن راهويه الحنظلي، فرحب بي، وحياني، فذاكرته، وذاكرني، فانفجر لي منه علم أعجبني، فلما طال مجلسنا قلت قم بنا إلى الرجل. قال هذا هو الرجل، فقلت يا سبحان الله، قمت من عند رجل يقول حدثنا الزهري، فما توهمت إلا أن تأتينا برجل مثل الزهري أو قريب منه، فأتيت بنا إلى هذا الشاب، فقال لي يا أبا يعقوب اقتبس من الرجل، فإنه ما رأت عيناي مثله".

فهذه القصة تدل دلالة لا شك فيها على أن أحمد كان يعجب بعلم الشافعي أيما إعجاب، ولقد روى أن أحمد قال: "يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلًا يقيم لها أمر دينها ،

28