18

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

ثم إن نشأته فقيراً مع ذلك الطموح، والاحساس بشرف النسب، يجعله يحس باحساس الناس، ويندمج في أوساطهم، ويتعرف خبيئة نفوسهم، ودخائل مجتمعهم، ويشعر بشعورهم، وذلك ضروري لكل من يتصدى لعمل يتعلق بالمجتمع، وما يتصل به في معاملاته، وتنظيم أحواله، وتوثيق علائقه، وإن تفسير الشريعة، واستخراج حقائقها، والكشف عن موازينها ومقاييسها، يتقاضى الباحث ذلك. يروى أن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كان يذهب إلى الصباغين، ويسأل عن معاملاتهم، وما يجري بينهم، وما كان يفعل ذلك إلا ليكون حكمه في مسألة تتعلق بشئون الناس، وتتصل بعاداتهم أقرب إلى تلك العادات، ما لم تخالف أصلاً من أصول الشرع وأحكامه، فهذه النشأة الفقيرة مع النسب الرفيع يتهيأ بها تهذيب كامل، لا يتسامى عن العامة، فيبعد عنهم، ولا يهوى إلى مباذلهم فيصغر، فكان لنسبه علوه، ولفقره طيبته (١).

١٦ - ولقد كان لنسبه وفقره غير المدقع أثرهما، عند ما ألقيت الدنيا بين يديه، فألقاها بعيداً عن مواضع أقدامه، ونحاها عنه بنفس نزهة، وقلب تقي، كان يهدي إليه المتوكل بدر الأموال، فيردها في تواضع كريم، وكان متطامن النفس محسا بإحساس الناس، ما نزل إلى مباذل الناس، وما تسامى عليهم بنسبه الرفيع، حتى لم يلاحظ عليه قط خر بنسبه العربي، ولقد قال كتاب سيرته إنه ما رؤي الفقير عزيزاً في مجلس، كما كان في مجلس أحمد رضي الله عنه، وهذه الخصال الكريمة قد نبعت من ذلك النبع الكريم الذي امتزج فيه شرف النسب بقناعة الفقر، وبسمو الروح، وفضل التقي.

١٧ - تربيته : نشأ الإمام أحمد رضي الله عنه ببغداد، وتربى بها تربيته الأولى، وقد كانت تموج بالناس الذين اختلفت مشاربهم، وتخالفت مآربهم، وزخرت بأنواع المعارف والفنون، فيها القراء والمحدثون، والمتصوفة، وعلماء اللغة، والفلاسفة الحكماء، فقد كانت حاضرة العالم الإسلامي، وقد توافر فيها ما توافر في حواضر

(١) كتاب الشافعي ص ١٨

(٢)

17