شيء لم توصلها؟ قال: أنا كنت أرفع تلك الأخبار!! رميت بها في الماء، فجعل الوالي يسترجع، ويقول: ((هذا غلام يتورع، فكيف نحن (١)!
فهذه القصة تدل على أن أسرة أحمد لم تنقطع صلتها بالخلافة والولاة، ولم يكن أحمد يستحسن ذلك، تورعًا وابتعادًا عن الريب منذ صباه.
١٢ - ولد أحمد الورع التقي من هذين الأبوين العربيين الكريمين فهذه أمه
قد كان أبوها من وجوه بني شيبان، جوادًا كريمًا قد فتح بابه للعرب، تنزل عليه القبائل فيضيفها، وهذا جده ندب محتسب قوي يتولى الولاية، ثم يرى دعوة يحسبها الحق، فيناصرها، وينزل به في سبيل هذه المناصرة الأذى الشديد، فيصبر صبر الكرام، وهذا أبوه جندي يحمي الحي، ويدافع عن الحوزة وما خلع زي الغزاة، بل كان على ذلك إلى أن مات.
من هذين الأبوين الكريمين كان أحمد، وفي عروقه جرى ذلك الدم الأبي الكريم، وورث عن أسرته عزة النفس وقوة العزم، والصبر واحتمال المكاره، والإيمان الراسخ القوي، وكان ذلك كله ينمو كلما شدا وترعرع، ويتبين في سجاياه، كلما عركته الحوادث، وأصابته نيران الفتن.
١٣ - ولقد هيأ الله لهذه السجايا الموروثة أن تنمو، وأن تقوى ، إذ أمدها
بالجو النفسي الذي تتنفس فيه، وتتغذى من طيب هوائه، وصقلها بالتجارب التي جلت الصدأ الذي يعرض للنفوس بسبب سيطرة البيئات، ثم هداها إلى النزوع الفكري والنفسي الذي يوائمها، ولا يناهضها.
وذلك أنه لم يكد يرى نور الوجود، حتى رأى أنه فريد فيه، قد فقد أباه، وكلاته أمه، فإن أباه قد مات وهو طفل، ويذكر أنه لم ير أباه ولا جده، والمعروف أن أباه مات بعد ولادته، وإذا كان قد مات بعد ولادته، فلا بد أن ذلك كان وهو صغير لا يعي ولا يدرك شيئًا، بدليل أنه نفى رؤيته لأبيه وجده، وذكروا أنه مات شابًا في الثلاثين
(١) المناقب لابن الجوزي ص ٢٢
15