156

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

في الحديث والآثار كانت إمامته في الفقه، وإن فقهه آثار في حقيقته، ومنطقه، ومقاييسه وضوابطه، ولونه ومظهره، ولقد أنكر لهذا أن جرير الطبري، أن يكون فقيها، وعده ابن قتيبة في المحدثين، ولم يعده من الفقهاء، وكثيرون قالوا مثل هذه المقالة أو قريبا منها، ولكن النظرة الفاحصة لدراساته، وما أثر عنه من أقوال وفتاوى في مسائل مختلفة تجعلنا نحكم بأنه كان فقيها غلب عليه الأثر، ومنحاه.

ومهما يكن حكم العلماء على أحمد من حيث كونه فقيها، فإن بين أيدينا مجموعة فقهية تنسب إليه. وروايات مختلفة ومتحدة ذات سند مرفوع تحكي عنه، وقد تلقاها العلماء بالقبول. وإن كان بعضهم منذ القدم قد أثار حولها غبارا وإن لم يحجبها، ولم يطمسها، فإن العين عند الدراسة تواجهه في كشف الحقيقة من ورائه،

٣٧ - ولماذا ثار ذلك الغبار حول هذا الأمر الذي تلقاه العلماء بالقبول، وتوارثوه، على أن نسبته إلى أحمد صحيحة؟

الجواب عن ذلك أن أحمد رضي الله عنه كان ينهى أولا أصحابه وسامعيه عن كتابة غير الحديث، وكان يرى في أول أمره أن كتابة غير الحديث بدع من الناس، إذ كيف يجمع القرطاس بين كلام الرسول ﷺ وكلام سائر الناس، ولأنه رضي الله عنه كان يخشى انصراف الناس عن علم الحديث والآثار، إذا دونت آراء الفقهاء، فيتدارسون كلامهم في الفروع، وما استخرجوه من حلول للمسائل التي تقع، ويستغنون بذلك عن علم الحديث، ومتابعة الرواية، وتتبع الآثار، وكأنه كان يتوقع ما حدث للناس من بعد، ويخشاه، فإن فريقا كبيراً منهم قد استطابوا دراسة آراء الأئمة في الفروع، وعكفوا عليها، وروايتها عن أصحابها، بدل أن يرووا الحديث والآثار، ويتبعوها.

ولقد كان يرى أن الفقهاء يختلفون في تخريجاتهم الفقهية، ونظراتهم، فلو دون كل ذلك لكان الناس في حيرة في نظره، لأن هذا العلم في نظره دين، وما يجب أن يكون دين الله عضين، وأقوالا متفرقة، وآراء متضاربة.

من أجل ذلك كله أثر عنه النهي عن أن تكتب عنه فروع فقهية قط، وكان يقول في كتب غيره ناهيا عن قراءتها «لا تنظروا فيما وضع إسحاق، ولا سفيان، ولا الشافعى

155