123

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

آراؤه

(١) لم يكن أحمد بن حنبل من الرجال الذين كفوا على دراسة الملل والنحل، والفرق المختلفة، ومجادلاتهم، ولم يكن ممن يستجيزون العكوف المطلق على الدراسات العقلية، غير مستندة إلى أصل من كتاب أو سنة، ولم يكن ليستبيح لنفسه الجدل في أي صورة من صوره، لأن الحقائق لا تطمس إلا بمثارات الجدل، ولا تذوب إلا في حومة الخصومة البيانية، ولأنه فهم العلم طلبا للحقائق، ودراسة للآثار، وليس غلا با ولا تزالا، ولا اعتراكا بالأقوال، كاعتراك الجند بالسيوف، ولأن من جعل طلب هذا العلم الدين بالجدل، فقد جعل دينه هدفا للخصومات، وغرضا لسهام الطعن، وليس هذا ما يتدلى إليه إمام السنة أحمد رضي الله عنه.

وحين عكف أحمد على دراسة السنة وحدها، وعلم الدين وفقهه عن طريق المأثور عن الرسول الكريم كانت تجرى قريبا منه معارك الجدل الكلامي في العقائد، ومعارك الجدل حول الخلافة والخلفاء السابقين، والمفاضلة بين الصحابة، وأحمد كان يتحامى الخوض، ويذر الخائضين في خوضهم، وكل ميسر لما خلق، وكلها قوى عقلية تؤدي عملا إسلاميا قد يكون له ثمرات طيبة، وقد تكون عقيمة الأثر، وقد يكون إنمها أكبر من نفعها، وشرها أكبر من خيرها.

ولكن الزمن، وملابساته لا تترك أحمد في هذا العلم الديني بعيدا عن مثار الخلاف، ومتنازع الأهواء، ومضطرب الفكر، بل تجرى العوامل المختلفة لحمله على القول فيما يخوضون فيه، هذه العوامل أدبية معنوية، ثم مادية تقرن بقوة السلطان إذ حمل المأمون الفقهاء والمحدثين على أن يقولوا مقالته في القرآن طوعا أو كرها، وحسب أن ذلك القول هو الدين لا منجاة لمؤمن إلا أن يعتنقه، وأن على من بيده الأمر أن يحمل الناس على ذلك القول طوعا أو كرها.

امتنع أحمد عن أن يقول مقالة المأمون، والخليفتين من بعده، ونزل به ما نزل مما ذكرنا، ومن بعدها صار إمام أهل السنة، والملاذ الذي يلوذون إليه في تعرف ما يتفق مع ما كان عليه السلف الصالح من عقيدة صحيحة، وما يجب الإيمان به، ليحتموا

122