وهكذا ترى سفيان يدعو إلى الخمول والعزلة، وترك الرياسة، وهذا ما أخذ أحمد به نفسه، وكأنه كان يجيب دعوة ذلك الإمام الجليل.
ولقد علمت أن أحمد كان كثير الصمت لا يمزح قط، وكأنه في هذا كان يجيب دعوة سفيان، إذ يقول: ((تعلموا العلم، فإذا علمتموه، فاكظموا عليه، ولا تخلطوه بضحك، ولا لعب، فتمجه القلوب)) (١).
وهكذا نرى أخلاق أحمد وسمته، وسلوكه، هي أخلاق ذلك الإمام الجليل، ولذلك نعده من أساتذته، مع تباعد الزمان وعدم اللقاء، فأحمد لم يكن حافظًا لحديثه فقط، بل اتخذ منه أستاذًا وإمامًا، ولذلك كان يقول رضي الله عنه عن سفيان: ((لا يتقدمه في قلبي أحد))، ويصفه وحده بالإمام، فيقول لبعض أصحابه: ((تدري من الإمام؟ الإمام هو سفيان الثوري)) (٢).
وهذا صريح في أنه قد اتخذ من علمه ومن سيرته أستاذًا له، وإمامًا يقتفي طريقه، والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، والائتلاف قد يكون من غير تلاق، وقد يغني الكتاب عن الخطاب.
١٠٦ - هذا هو سفيان الثوري الذي لم يلقه أحمد، وتتلمذ له.
أما الثاني وهو عبد الله بن المبارك، فقد حاول أن يلقاه ولكن مات سنة ١٨١ قبل أن يتمكن أحمد من التلقي عليه، وقد سلك هو الآخر مسلك سفيان الثوري، واتبع طريقه وكان أشد الناس استمساكًا بمناهجه، ونزوعه إلى الورع.
وابن المبارك هذا الذي رغب أحمد في لقائه مسالكه هي مسالك أحمد في الورع والأخلاق، والابتعاد عن السلطان والجاه، ولكنه كان كثير المال، موفور الرزق راغد العيش، وكثير العطاء والنفقة، فإذا رأينا أخلاق أحمد كاملة، ورأينا فيها قدرة الفقير الصابر، فإن المبارك كانت فيه هذه الأخلاق، ولكن معها حمد الغني الشاكر، وكلاهما كان الفقير يعتز في مجلسه، ولا يكون أعز منه في هذا المجلس، فالنفسان متشاكلتان متشابهتان في المعدن والجوهر، وإن اختلفا في الغنى والفقر، والمظهر.
(١) الحلية ٦ ص ٣٦٨.
(٢) تاريخ ابن كثير الجزء العاشر ص ١٣٤.
102