محيي الدين والفرق الإسلامية
فإذا فرغ محيي الدين من وضع العلامات، التي ترشد إلى الطريق الأعظم الموصل إلى الله، وهو طريق الطاعة والعبادة، والصفاء، والمحبة، وأوضح لنا حق الله، وحق الناس، وحق النفس على صاحبها، بتزكيتها وتطهيرها وتوجيهها إلى فاطرها وموجدها، عطف على الفرق الإسلامية التي احترفت الجدل وتعبدت في محاريبه ؛ فتفرقت بها السبل، وركضت مع الأهواء، فركبتها حمى الكلام والنقاش، فحولت الإسلام من القلوب إلى الألسن والعقول، حولته إلى صراع وخصام، وتقاتل وتبارز بالألفاظ، وضربت على فطرته وصفائه الأول، بسحب مظلمة مرعدة، أخذت على المسلمين حياتهم؛ فانصرفوا من محاريب التقوى والعمل والإيمان إلى منابر الخصومات والجدل والكلام، وأسلمهم الجدل إلى تلاح وعناد لم تحل عقدته، وإلى فرقة لم يجمع شملها؛ لأنهم ضربوا بألسنتهم في بيداء لا حدود لها، وسبحوا في محيط صخاب، لا نهاية لعبابه وغضبة أمواجه، وهل ينتهي القول ما دام للجدل بابا، بل أبوابا، في مشاكل: القضاء والقدر، وخلق أفعال العباد، وصفات الله - سبحانه، وما إلى تلك المعضلات من شبيهات ومثيلات؟
ولقد وقف محيي الدين في وجه كل تلك الفرق، المتلاحية المتشدقة المتعالمة وقفة المؤمن العظيم، الذي يدعو إلى الله على بصيرة من أمره ونور من عقيدته، وقف وفي يمينه كتاب الله وسنة نبيه، يدعو إليهما، ويهتف بأن الإسلام تسليم وإيمان وعمل، لا يعرف الشك، ولا يقر الجدل، ولا يحتاج إلى حوار، مخاصما للتأويل محاربا له؛ لأن الإيمان يجب أن يكون بما أنزل الله من الألفاظ والمعاني، لا بما أوله العقل، وابتدعه التصور أو المنطق،
آمن الرسول بما أنزل إليه ؛ فالحق - تعالى - ما كلفنا أن نجادل في القضاء والقدر، بل أمرنا بالإيمان بهما، كما عبر عنهما، وما طلب إلينا بيانا بما ينسب من أفعال الإنسان إليه، وما ينسب إلى خالقه، وما أمرنا أن نعلم حقيقة نسبة الصفات إليه - تعالى؛ لعلمه بعجزنا عن ذلك،
1
فإن حقيقة صفاته - تعالى - مباينة لجميع صفات خلقه وحقائقهم؛ فليس كمثله شيء، وهذا هو الفيصل، فعلام الجدل والحوار، ولا طاقة للعقل البشري بذلك اللون من المعارف التي هي من فوقه، والتي تسمو على إمكانياته وخصائصه وما خلق له؟
الجدل والإسلام
ولقد حرم الإسلام الجدل ونهى عنه؛ لأن الجدل لا يصاحبه اليقين ولا يعرف التسليم، بل هو علامة من علامات الشك، أو كما يقول ابن عربي: «إيمان بما تبتكر العقول من ألوان وصور، لا بحقائق الإيمان كما جاء بها الفرقان.»
ولقد حذر الرسول - صلوات الله عليه - أصحابه ومن آمن به من الجدل وعواقبه، ونهى وأغلظ في الأمر بتجنب البحث وراء القضاء القدر وسرهما؛ لأنه يسلم إلى ظلمات من الشكوك، لا نور معهما ولا يقين. وطلب من أتباعه التفكر في آيات الله، لا في ذاته وصفاته وإلا هلكوا.
ومع هذا، فقد ألوى المسلمون بأعناقهم عن سنة نبيهم، وضربوا في شعاب الجدل والبحث، وأثاروا في أفق الإسلام غبارا لا يزال يخنق، ولا يزال يرمي بالضحايا.
صفحة غير معروفة