والذكر والتقوى معارج إلى العلم اللدني الرباني:
واتقوا الله ويعلمكم الله ، وتفكر في آيات الله على ضربين: أولهما: يرشد إلى عظمة الحق ويدل عليه. وثانيهما: استنباط ما في تلك الآيات من قوى لخير الإنسانية وهداها ورفاهيتها، وهي علوم الدنيا.
فالمؤمن الكامل من اكتسب معارفه بالذكر والتقوى، والتأمل والتفكر في الآيات والبينات، مع الاعتصام بميزان الشرع، الذي لا يميل ولا يحيف.
ذلك هو التصوف في مبناه ومعناه، فالتصوف هو الظمأ إلى المعرفة على تعدد ألوانها وصورها، الظمأ إلى المثالية في علوم الدين وعلوم الدنيا.
وعلوم الدين غايتها الله - سبحانه - المعبود الواجب الوجود، المحب المحبوب، واهب الحياة وربها، وقيوم السماء وعمادها، يذهب الصوفي إليه بقلبه وروحه ووجدانه، فهو أبدا الذاكر الراكع الساجد الفاني في الطاعة والمحبة، المراقب لله في كل حالاته، كأنه يرى الله مشاهدة مبصرة، فإذا لم يكن يراه فإن الله يراه، ويعلم سره ونجواه.
وعلوم الدنيا، غايتها سعادة الإنسان، وكف الأذى ومنع العدوان، وإشاعة الحب والسلام، وتذكيره في كل لفتة أو خاطرة، بربه وخالقه الذي وهب له الكون، وسخره بأمره له، ليعطيه من خيراته وكنوزه ما أحب وأراد.
خلق الله الكون لنا، ميدانا لعقولنا، وساحة لأرزاقنا، وخلقنا لنفسه:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، فلننظر في آيات الكون ونتدبرها، ثم نسبح بحمد الله، ولنطعم من خيرات الأرض ونشكر الله، ولنستنبط من الأرض ما خفي وانطوى في باطنها، ثم لنرفع رءوسنا إلى موجد الأشياء جميعها بالحمد والشكر، ذاكرين أفضاله، مقدرين لنعمه ومننه.
ذلك هو نهج المتصوفة في الذكر والتفكر، وهذا هو الميزان الذي توزن به حياتهم، وتوزن به أعمالهم ومعارفهم.
فالتقوى طريق للعلم الرباني، والفكر والتفكر معراج إلى مناهل العلوم ومنابعها، والعلم أفضل ما في فضل الله كما يقول محيي الدين؛ فأولياء الله هم العلماء، وما اتخذ الله من جاهل وليا أبدا؛ إنما يخشى الله من عباده العلماء. والعلم يوجب الطاعة، والطاعة تستوجب المحبة من الله، وحب الله يصاحب الفيض والإشراق والإلهام. أو كما يقول الإمام مالك: «ليس العلم بكثرة التلقين والرواية ؛ وإنما هو نور يقذفه الله في قلوب من أطاعوه فأحبهم.»
صفحة غير معروفة