وأما رجال المطلع؛ فهم الذين لهم التصرف في الأسماء الإلهية؛ فيستنزلون بها منها ما شاء الله، وهذا ليس لغيرهم، ويستنزلون بها كل ما هو تحت تصرف الرجال الثلاثة، وهم أعظم الرجال، وهم «الملامتية». وكان محيي الدين منهم.»
وكان شيخه الرابع الفقيه العابد يوسف الكومي، يحدثنا عنه محيي الدين فيقول: «سألني شيخي يوسف الكومي سنة ست وثمانين وخمسمائة عن مسألة من مشكلات التصوف فقال:
إذا اجتمع عارفان في حضرة شهودية عند الله - تعالى - ما حكمها؟
قلت: يا سيدي، هذه مسألة تفرض ولا تقع؛ لأن الحضرة لا تسع اثنين، ولا تشهدها عين زائدة، فإن افترضناها مثالا، فإذا اجتمعا فلا يخلو كل واحد منهما أن يجمعهما مقام واحد أو لا يجمعهما، ثم حكم التجلي من حيث الظهور واحد، ومن حيث المتجلى له مختلف؛ فالتذوق متباين لاختلافهما في أعيانهما، ولا يجتمع شهود وخطاب وتجل ورؤية غير .»
وتأذن ربك لمحيي الدين بالانتقال إلى مرتبة الشيخ والإمام، وآن له أن يشرق في أفق جديد رحب، وأن يغادر ركب المريدين إلى طلائع المرشدين.
يقول محيي الدين: «ولقد أنعم الله علي ببشارة عظمى بشرني بها، وكنت لا أعرفها من حالي وكانت حالي، فأوقفني عليها الإمام خليفة القطب، فقد نهاني عند التقائي به عن الانتماء إلى من لقيت من الشيوخ. وقال لي: لا تنتم إلا إلى الله؛ فليس لأحد ممن لقيته عليك يد مما أنت فيه، بل الله تولاك برعايته وعنايته، فاذكر فضل من لاقيت إن شئت، ولا تنتسب إلا إلى الله.»
وبذلك دخل في نطاق الذين أدبهم ربهم واجتباهم، وهم قلة في الطريق لا يتجاوزون الآحاد، بل وضع قدمه على أول الطريق إلى القمة العلمية الربانية، وهي شرعة هو صاحبها وربانها وإمامها الأوحد.
وكما اصطفاه الله في مطلع حياته مع شيوخه؛ فأرسل الخضر إليه مرشدا ومربيا، كذلك حفه برحمته في مطلع إفاضات الأسرار اللدنية عليه، فقد باح أول أمره بسر من أسرار المحب، وهي إباحة قلما نجا من عواقبها مراد أو مريد، يحدثنا عنها فيقول: «ولقد منحني الله سرا من أسراره بمدينة فاس سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فأذعته فإني ما علمت أنه من الأسرار التي لا تذاع؛ فعوتبت فيه من المحبوب، فلم يكن لي جواب إلا السكوت. إلا أني قلت: تول أنت أمر ذلك فيمن أودعته إياه، إن كانت لك غيرة عليه؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وكنت قد أودعته نحوا من ثمانية عشر رجلا، فقال لي: أنا أتولى ذلك، ثم أخبرني أنه سله من صدورهم وسلبهم إياه، فالحمد لله؛ حيث لم يعاقبني بالوحشة والحرمان، كما عوقب غيري.»
المقامات والأحوال
لم يعاقب محيي الدين؛ لأن العناية الربانية تعده في رحمتها لرسالة ستتكشف عنها الأيام وتأتي بها الأنباء.
صفحة غير معروفة