كان حجاب رقيق، هو الذي يفصل ابن رشد عن محيي الدين. وهذا الحجاب الرقيق هو الفيصل بين الهدى والضلال، والرضا والغضب، والإعراض والاصطفاء، أو كما يقول محيي الدين: بين نعم ولا تطير الأرواح، وما أيسر ما بينهما وما أعظمه!
وتلك فترة دقيقة حاسمة في حياة محيي الدين، فهو صريح كل الصراحة في أنه دخل الخلوة صغيرا لم يطر شاربه، دخلها بدون قراءة ولا مطالعة، إلا أيسر ما تكون القراءة والمطالعة؛ فرشد وألهم، وتعلم من لدن ربه الوهاب علما أخذ يزداد مع أنفاسه، ويترقى مع تسبيحاته، حتى بلغ من علم ربه ما قدر له، وحتى تمت له الزعامة التي لا تطاول ولا تغالب في علوم الإيمان وفيوضات القلب.
ويحدثنا محيي الدين عن علمه الموهوب فيقول: «وأنا أستمد علمي من كلمات الله التي لا تنفد:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ،
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله .»
ويقول: لو أن علمه كان نتيجة بحث أو فكر لحصر في أقرب فرصة، ولكنهما موارد الحق - تبارك وتعالى - تتوالى على قلب العبد، وأرواح البررة تتنزل عليه من عالم غيبه برحمته التي من عنده، وعلمه الذي من لدنه، والحق - تعالى - وهاب على الدوام، فياض على الاستمرار، والقلب البشري قابل على الدوام للتلقي والترقي.
العلم النظري واللدني
إنها لموارد الحق - تبارك وتعالى - تتوالى على قلبه، وإنها لأرواح بررة تتنزل عليه من عالم غيبه، وإنه لقلب زكي مختار، قابل على الدوام للتلقي والترقي، وإنه لروح أعد واصطفاه ربه، لأكمل ما يصطفى العلماء من الأولياء، وإن هذا الفيض الرباني، ليتوالى عليه، ولم يطر شاربه ولا بقل وجهه، ولم يلقن من قبل علما دنيويا يزاحم به ويفاخر.
بل إنه ليرى - كما ترى جمهرة أهل التصوف - أن القلب إذا سلم من النظر الفكري شرعا وعقلا في البداية، كان قابلا للفتح الإلهي على أكمل ما يكون الفيض والفتح؛ فليس في القلب عوائق من معارف سابقة، تتصدى للواردات أو تناقضها.
يقول الإمام الغزالي: «لما أردت أن أنخرط في سلكهم، وآخذ مأخذهم، وأغترف من البحر الذي اغترفوا منه، خلوت بنفسي واعتزلت عن نظري وفكري، وشغلت نفسي بالذكر، فانقدح لي من العلم ما لم يكن عندي؛ ففرحت بذلك، وقلت: إنه حصل لي ما حصل للقوم، فتأملت فيه، فإذا فيه قوة فقهية مما كنت عليه قبل ذلك؛ فعلمت أنه بعد ما خلص لي. فعدت إلى خلوتي واستعملت ما استعمله القوم، فوجدت مثل الذي وجدت أولا وأوضح وأسنى فسررت، فتأملت فإذا فيه قوة فقهية مما كنت عليه أولا، وما خلص لي، فعاودت ذلك مرارا والحال الحال؛ فتميزت عن سائر النظار أصحاب الأفكار بهذا المقدار، ولم ألحق بدرجة القوم في ذلك. وعلمت أن الكتابة على المحو، ليست كالكتابة على الصفاء الأول والطهارة الأولى ...»
صفحة غير معروفة