ثم إلى الجلوة والخلوة، يطهر خواطره، ويطهر وجدانه، ويزكي نفسه لتلهم تقواها، حتى تفجرت في قلبه ينابيع الفيض، وأشرقت في حياته شمس الهبات والعطايا اللدنية.
وتراث محيي الدين، يشهد بأنه كان في صباه، مرهف الحس والذوق، قوي العاطفة، غلاب الوجدان، رحب الآفاق في الهمة والتطلع.
ويشهد بأن روحه، كانت أعظم من أن تطيق ذلك التلقين الرتيب من شيوخه وأساتذته، وأن تلك الروح قد انطلقت تنشد حبا أكبر من تلك العواطف التي تحيط به، وتبغي أفقا أعظم وأشمل من تلك الألوان من العلوم والمعارف.
والهمة - كما يقول - هي أساس الفتح والفيض؛ فإن التجرد يعطي الطهارة والطاعة، أما الكشف والفيض فأساسهما الهمة وعزمات الرجال.
وإن كانت همة خاله أبي مسلم، قد قعدت به عن اللحوق بأصحاب محمد - صلوات الله عليه - وإن كانت عزيمته قد ضعفت أجنحتها عن التحليق والتفوق في الكشف وفنونه، والإلهام وعلومه؛ فإن لمحيي الدين لهمة، وإن له لعزما، وإنه لسباق لا يسبق، وهداف لا يخطئ، وإن لروحه وثبات تكاد تذهب بها إلى الملأ الأعلى، وإن في قلبه لشيئا يكاد يضيء، ولو لم تمسسه تلك العلوم والمعارف.
وإذن؛ فليعرض محيي الدين عن شيوخه وأضابير معارفهم، وليختصر الطريق الممل الشاق، في وثبات روحية جبارة، إلى منابع العلوم ومصادرها، إلى النور الذي تعيش فيه الفئة التي رضي الله عنها وأحبها؛ فوهبها وعلمها من لدنه علما.
واعتزل محيي الدين الدنيا عزلته الأولى، عزلة هي سر بينه وبين فاطر السموات والأرض؛ ولكنها عزلة مهدت لتكوين تلك القوة العلمية الربانية العظمى، عزلة أحدثت عجبا، وأورثت علما، خشع له أكبر جبار في عالم العقل والفلسفة، خشع لها وأكبرها أبو الوليد بن رشد، ولنترك محيي الدين يحدثنا بقلمه الساحر، عن الالتقاء بين علم الهبات الربانية، والعلم المكتسب من العقل المتفوق المثقف، يقول محيي الدين في الفتوحات ...
بين ابن رشد ومحيي الدين
«... دخلت يوما بقرطبة، على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله علي في خلوتي، وكان يظهر التعجب مما سمع؛ فبعثني والدي إليه، في حاجة قصدا منه؛ حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بقل وجهي، ولا طر شاربي، فلما دخلت عليه قام من مكانه إلي؛ محبة وإعظاما، فعانقني وقال لي: نعم؟ فقلت له: نعم؟ فزاد فرحه بي، لفهمي عنه، ثم استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت له: لا؟ فانقبض وتغير لونه، وشك فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح؛ فاصفر لونه، وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه».
وابن رشد كان يهدف في فلسفته إلى التوفيق بين الدين والفلسفة ، وله في ذلك محاولات وجولات، وقد نشد في مقابلته لمحيي الدين أن يطمئن، وأن يأخذ اعترافا من رجل من رجال الدين والكشف، بأن القمة التي تصل إليها الفلسفة، هي بعينها غاية الدين وهدفه، وأن العقل يلتقي بالروح في خاتمة المطاف.
صفحة غير معروفة