طريقته في التأليف
يقول محيي الدين: «فإن تأليفنا هذا وغيره لا يجري مجرى التآليف ولا نجري فيه نحن مجرى المؤلفين؛ فإن كل مؤلف إنما هو تحت اختياره، وإن كان مجبورا في اختياره، أو تحت العلم الذي تعلمه خاصة، فيلقي ما يشاء ويمسك ما يشاء، أو يلقي ما يعطيه العلم وتحكم عليه المسألة التي هو بصددها، حتى يبرز حقيقتها، ونحن في تأليفنا لسنا كذلك؛ إنما هي قلوب عاكفة على باب الحضرة الإلهية، مراقبة لما ينفتح له الباب، فقيرة خالية من كل علم، لو سئلت في ذلك المقام عن شيء، ما سمعت لفقدها إحساسها، فمهما برز لها من وراء ذلك الستر أمر ما، بادرت لامتثاله وألقته على حسب ما حد لها في الأمر.»
قلوب عاكفة على باب الحضرة الإلهية، مراقبة لما ينفتح له الباب، هذا هو صفوة ما يقال في عبقرية أهل الله، ومن هذا الباب كانت معارف محيي الدين، معارف متلاحقة متدفقة، ممتزجة متداخلة متشابكة، أشبه بدائرة المعارف، التي ليست لها أبواب ولا مناهج، بل هي بحار زاخرات متلاطمة المعاني جبارة الأمواج.
يقول رجال الدنيا: إن العبقرية صبر طويل وكفاح مرير، أما رجال التصوف فالعبقرية عندهم سجود القلب الطويل، في محراب النور والهدى، والمجاهدة المريرة الشاقة، التي توصل إلى الباب الأسنى.
العبقرية العلمية عند رجال التصوف منحة وخلعة، وهبة مستفادة من صفاء الروح وطهارة القلب، ومراعاة الله مع الأنفاس؛ فلا يصعد نفس ولا يهبط إلا بذكر الله وخشيته، والشوق الحار المشبوب بمحبته وسجود القلب تحت ظلال رؤيته.
وسجود القلب عزم عظيم، لا يطيقه إلا الفحول من أهل الحظوة والفتوة، وملازمة الباب مجردا من كل شيء حتى من نفسه، مجردا لربه قاصدا إليه؛ فحينئذ تهبط الخلع والمنح، وتترى الهبات والنفحات، وتتنزل العلوم، وتتدفق في القلب ينابيع من المعارف لا تحد ولا تحصر،
واتقوا الله ويعلمكم الله .
كتب محيي الدين، إلى فخر الدين الرازي، الإمام العلامة صاحب التفسير المعروف، رسالة يبين له فيها نقص درجته في العلم عن أهل الله: «اعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك - أن الرجل لا يكمل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله - عز وجل - بلا واسطة من نقل أو شيخ، فإن كان علمه مستفادا من نقل أو شيخ، فما برح عن الأخذ من المحدثات، وذلك معلول عند أهل الله - عز وجل، ومن قطع عمره في معرفة المحدثات وتفاصيلها، فاته حظه من ربه - عز وجل؛ لأن العلوم المتعلقة بالمحدثات يفني الرجل عمره فيها ولا يبلغ إلى حقيقتها، ولو أنك يا أخي سلكت مسلك أهل الله - عز وجل - لأوصلك الله - تعالى - إلى حضرة شهوده؛ فتأخذ عنه العلم وما أدراك ما هذا العلم الذي من رجاله الخضر - عليه السلام.»
ذلك هو علم المتصوفة، وهذا هو المصدر الأعلى لمعارف محيي الدين، ومن يرد أن يعرف محيي الدين، فليلتمس له بابا إلى تلك المعارف؛ ويومئذ يعرف محيي الدين، وما أدراك ما محيي الدين؟! ثم ما أدراك ما محيي الدين؟!
مكانته من الفكرة والأسلوب
صفحة غير معروفة