ومدرسة إبراهيم بن أدهم، وهي مدرسة التصوف الذي سمته المحبة المشبوبة، أنجبت ذا النون المصري، أكبر المتحدثين عن النفس ومقاماتها، والبسطامي العلم الفرد في توضيح حالات الفناء، وهي أسمى مراتب المريدين وأعلى قمة المحبين؛ حيث تنكشف في ساحاتها الحقائق الإلهية المكنونة على غير أهلها، وحيث تسمو الروح في رحابها إلى مرتبة الفيض والإشراق.
ثم يأتي دور الكمال الصوفي، ممثلا في شيخ الطريقة الجنيد، ودور الإبداع الفني في المحب الفاني الحلاج، الذي شرب من كأس الحب، حتى انتشى ثم غرق؛ فكان فتنة للناس، ودور الكمال العلمي متجليا في العبقري شهاب الدين السهروردي؛ رئيس الإشراقيين، وابن سبعين الصيقلي إمام المفسرين وعمدة الشارحين.
فإذا نمت للتصوف في القرن الخامس الهجري مدرسة جامعة، مميزة بسمات وعلامات، لها عناصرها وعلومها، وأساتذتها ومريدوها، وإذا تم للتصوف نفوذ القوي الغلاب على الأرواح والقلوب في سائر أنحاء المجتمع الإسلامي، وشيد الصرح الأسنى ورفعت قواعده؛ فقد آن له أن يتحلى بالمحراب والإمام والزعيم الأكبر في علوم الفيض والإلهام، وفنون العطايا الإلهية، والمعارف اللدنية، والكاتب المصطفى الذي يهب الحياة والخلود، لكل ما تدركه خواطره، أو يمسه قلمه، أو ينفث في قلبه من هدى ونور.
وجاء محيي الدين، على عرش قدر وأعد، فكان اسمه يحمل حقيقة رسالته، وكانت سمته الغلابة السلطنة والسيادة، وكان مقامه من التصوف كلمة الإمام صفي الدين: «الجنيد يربي المريدين، ومحيي الدين يربي العارفين.» وتربية العارفين - وهم من هم - قمة في التصوف تفرد بها، فهو أولها وهو أيضا ختامها.
جاء محيي الدين في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية الأندلسية، جاء في عصر مأهول بالعلماء، عامر الأفق بنجوم السماء، فلما ألقى من فيض ما تلقى بيانه وهداه، خشعت له القلوب، ودانت له العقول، ثم طوف في رحاب العالم الإسلامي، كالغيث المبارك أينما حل هطل فأنبت وأحيا.
وللبيئة الأندلسية التي وجد فيها محيي الدين، تأثير حاسم في حياته، فبينما كان المشرق الإسلامي يموج بطوائف من الملل والنحل والمذاهب.
أمم من الخوارج والمرجئة، ومجادلين من الأشاعرة والماتردية والمعتزلة، وبينما كانت هذه الطوائف تتصارع وتتلاحى، وتفني حويتها في الصراع والتلاحي، كانت الأندلس تحت أجنحة الرحمة أمة واحدة متجانسة الفكر، موحدة المذهب، رضية الجدل والحوار.
ولهذا لم يفن محيي الدين حياته صراعا وقتالا، كما فعل الغزالي الذي سبقه بقليل في المشرق في حروبه ومجادلاته، مع الفلاسفة والفقهاء ورجال المذاهب.
ولم تلظ حياته بأوار مستعر من الخصومات العنيفة، كما نشاهد في ابن تيمية في المشرق أيضا بعده بقليل مع القرامطة والفلاسفة والصوفية وغيرهم، بل امتازت حياته بالهدوء والصفاء والتفرغ المطمئن للتعبد والتلقي.
وإذا اشتبك في جدال أو حوار - وقليلا ما يشتبك - فهو الهادي السمح، الرحب الأفق والصدر؛ فلا يرمي بالكفر، وما إلى الكفر من نعوت وألقاب، كما فعل الغزالي، ولا يقذف بالزندقة والفجور، كما صنع ابن تيمية، بل أقصى ما يرمي وأجرح ما يوجه هو أن يقول لخصمه في سماحة: «لقد أخطأ عقلك، ولم يخطئ إيمانك.» كما قال للمجسدة والمعتزلة خلال مناقشته لهم في صفات الذات؛ فالإيمان عنده في القلب، أما الآراء فمن وثبات العقول.
صفحة غير معروفة