ولمن تحالفه شيع
ونزل ابن عمار من فوق الحصان الذي كان يمتطيه ومشى إلى حيث يمشون به، يا لسخرية الأقدار! إنه سيركب حمارا، حمارا مرة أخرى. نظر ابن عمار إلى الحمار فلم يتمالك نفسه من الضحك رغم هذا الضنك الذي يحيط به، حمار؟ أبعد كل هذا السفر الطويل في مدارج المجد وعليا المراتب يعود إلى الحمار؟ ويح الأقدار! بل إن الحمار ليشبه ذلك الذي سرق أو انسل في إشبيلية عند قصر المعتضد، إنه ليكاد أن يكون هو نفسه يحمل خرجا كذلك الذي كان يحمله حمار، بل إنه ليكاد أن يكون نفس الخرج وإن كانت جنباته قد ملئت اليوم تبنا بدلا من تلك الكسرات التي كانت فيها، عود على بدئه يرجع، بل إلى شر من بدئه. لا بأس إذن فمن على ظهر الحمار صعد إلى القمة فعلى ظهر الحمار ينحدر إلى الهاوية.
لقد كان المعتمد هو الذي مهد سلم المجد لابن عمار فصعد وهو هو نفسه من يمهد له الطريق إلى الهاوية، هو الذي أوصله وها هو ذا يعيده، وعلى الحمار يعود.
ركب ابن عمار الحمار وهم بمسير ولكنه رأى عن بعد رجلا يركب حصانا يعدو إليه ناهبا الطريق نهبا، فسارع ابن عمار ومد يده إلى عمامته ورفعها عن رأسه وألقى بها إلى الأرض وكان راكب الحصان قد وصل فوقف حائرا لا يدري ماذا يفعل، فسأل ابن عمار واحد ممن يحيطون به: ماذا فعلت حتى جعلت الرجل يقف باهتا؟
فقال ابن عمار: لقد كان هذا الراكب قادما من عند المعتمد ليرفع عمامتي من على رأسي ويلقي بها إلى الأرض إمعانا في تحقيري والنيل مني فسبقته إلى ما يريد أن يفعله فبهت كما ترى.
ونظر السائل إلى راكب الحصان فإذا هو يؤيد ابن عمار فيما قال معجبا من ذكاء الوزير ودهائه، وهكذا لم تتخل الومضة النافذة عن ابن عمار حتى وهو في أحلك أوقات حياته.
سار موكب الخزي يطوف بأنحاء قرطبة، فلم يبق من أحد فيها إلا وقد رأى ابن عمار على مطيته الجديدة القديمة إلا المعتمد الذي كان في قرطبة وأبى أن يرى ابن عمار.
نعم، ابن عمار الذي كان كل ما يخشاه أن يبعد عنه لحظة من زمن، هو نفسه من يأبى رؤيته اليوم، بل يأمر المعتمد أن يسير الركب إلى إشبيلية فيدخلها ابن عمار كما دخل قرطبة ثم يلقى به في السجن، فكان ما أمر به المعتمد واستقر ابن عمار في السجن.
ومن هناك أخذ ابن عمار يستشفع بكل ذي أكرومة أن يطلب الصفح من المعتمد والمعتمد يزجر كل محاول فتتكسر على أبوابه الشفاعات حتى إذا ضاق بكثرتها نادى ابن عمار وذكره، ذكره المعتمد بملابسه القذرة التي دخل بها القصر، وذكره بليلته الأولى بين شعراء القصر، ذكره بنفسه وزيرا في شلب، ثم أميرا لشلب ثم قائدا للجيش، ثم ملكا أو شبه ملك لمرسية، ذكره فما ألفاه ناسيا، ثم ذكره بخروجه عليه في مرسية، وذكره بقصيدته التي هجاه فيها، ذكره فلم يلفه ناسيا، فهب المعتمد في وجهه: فماذا تريد إذن؟ لقد أفقدتني شبابي وهيهات أن يعود، ألا لعن الله يوما عرفتك فيه، إذن لأبقيت لنفسي ذكرياتي نقية منك.
وعاد ابن عمار إلى السجن وأخذ يكتب إلى أصحابه أن يعاودوا الشفاعة، وهو يكتب إلى أصدقائه، ينظم أنته شعرا عساها أن تريح بعضا مما يجد فيقول لأحدهم:
صفحة غير معروفة