لم يسكت الملك عن هذا الأمر، ولكنه خشي أن يلوي ابنه في عنف، أو يزجره في قسوة، فينفلت الزمام من يده؛ فهو يعلم أن ابنه ذو روح شاعرة طليقة لا تطيق القيد ولا ترضاه حتى ولو كان هذا القيد ملكا، فهو يدعو ابنه ويبصره في روية ويسايره في الحديث والرأي أول الأمر ليصل به إلى رأيه الذي يريده له في آخر الأمر؛ فهو يقول عن نفسه إنه شاعر وإنه يحب الشعراء ويقربهم وإنه ليترسل مع ولده في الحديث حتى ينتهي به إلى تلك الأبيات التي قالها في صدر شبابه:
قسمت زماني بين كد وراحة
فللرأي أسحار وللطيب آصال
إذا نام أقوام عن المجد ضلة
أسهد عيني أن تنام بي الحال
وإن راق أقواما من الناس منطق
يروق بدا مني مقال وأفعال
وإن المعتضد ليطلب إلى ابنه أن يقسم زمانه بين شعر وإمارة ولكن المعتمد لا يقطع برأي، بل يلف مع المقال ويدور في طاعة من الحديث وعصيان عن الوعد، والمعتضد ذكي يعلم ما يجول بخاطر ابنه، ويعلم أنه يخشى من وعد يقطعه ثم لا يطيق أن ينفذه، ويترامى الحديث ويطول فلكل إحراج من المعتضد مخرج عند المعتمد، حتى إذا أحس المعتضد أنه مفض إلى إخفاق فيما يريد صارح ابنه أنه سيوليه إمارة شلب، فيستهول الولد الخطب ويهم بأن يستقيل أباه؛ فهو شاعر لا شأن له بالإمارة، فإن تفض إليه في غد له بعيد فهو سيصاب بها مرغما لأنه لا يطيق لها دفعا، أما أن يصاب بها وأبوه على قيد حياة وهو بعد ما يزال غارقا في الشعر وابن عمار، ودون أن يرى داعيا لتلك الإصابة فهذا ما لا يطيق. ويقرأ المعتضد هذه المعاني على وجه ابنه وفي عينيه فيشير إلى ابنه أن يسكت قبل أن ينطق ثم يبدأ في حديث آخر نابع من القلب: - وبعد يا بني، أتعين الدهر علي؟ فلقد أصابني بأخيك الأكبر أرغب ما يكون في الخلافة وأعجل ما يكون إليها، حتى لقد هم بقتلي ليعتسفها مني قبل أن يتيحها له موتي، وقتلته، وقتلت به شطرا من نفسي وجانبا كان في حياتي إشراقا حين ميلاده فإذا هو السواد الحالك.
ثم صرت أنت الأكبر والأمل، فإذا أنت أزهد ما تكون في الخلافة وأقعد ما تكون عنها، فلا والله لن يصاب ملك في ملكه وأولاده كما أصاب، فبالله إلا أعنتني على الدهر وأعيذك أن تكون عونا له.
واغرورقت عينا المعتضد بالدمع وهمت أن تفيض به لولا أن أمسكه عزة الملك وقبول الابن.
صفحة غير معروفة