68

ومع المانوية والشامانية نحلة أخرى - أو نحل شتى على الأصح - تعرف باسم النحل الأورفية “Orphism” ، وتشترك في المراسم الخفية التي تعاقر فيها الخمر، وتستباح الشهوات، ويعلو فيها اسم ديونيس “Dionysus”

الذي يعتقد اليونان أنه ابن زيوس رب الأرباب من بيرسفون، وأنها حملت به منه وهو متنكر في صورة الحية، فقتله المردة، واستخلصت الربة «أثينا» قلبه، فهو القلب المقدس الذي كان أصحاب النحل الأورفية يحتفلون به ويتخذونه رمزا للأهواء والآلام.

ويعتقد الأورفيون أن الإله أورفيوس يهدي صحابته في ظلمات العالم الأسفل بعد الموت، ويحفظون لرحلته هذه مراسم منقولة من كتاب الموتى المعروف في الديانة المصرية القديمة.

وظاهر من صور الشيطان التي عاشت بين الأوروبيين المشارقة في صدر المسيحية، أن عباده يقرنون بينه وبين ديونيسس صاحب التجلي الأعظم في حفلات الخمر والمجون، وكانوا يتقربون لديونيسس بجدي يربونه لهذا الغرض، ويصورونه - أي ديونيسس - في صورة «الساتير» الذي يتزيا بجلد الماعز، ويلبس قرونا على جبهته، ويجر وراءه ذنبا طويلا كأذنابها، ويمشي بقدمين لهما ظلفان مشقوقان، وكذلك كانت صورة الشيطان في محافل عباده الأولين.

ومع المانوية والشامانية والأورفية ينتشر المعرفيون من بلاد فارس إلى عاصمة الدولة الرومانية، ومنهم من يؤمن بالخلاص إلى النور من طريق الظلام، والخلاص إلى الطهارة من طريق الرجس، والخلاص إلى الله من طريق الشيطان، والخلاص إلى المعرفة من طريق الجهالة بمعانيها جميعا، فيما اشتملت عليه جهالة العقل وجهالة الطباع.

هذه فلول العقائد التي تجمعت منها نحلة الشيطان، وطال بها الزمن قبل شيوع المسيحية في دور النزاع بين بقايا الأديان الوثنية وطلائع الدين الجديد، ويؤخذ من ألقاب الشيطان في بعض اللغات الأوروبية الشرقية أن المظالم الاجتماعية كانت بعض أسباب الكفر بالإله السماوي، والإقبال على عبادة الشيطان المتمرد الذي يناوئه ويعلن الثورة عليه، فقد كانوا يسمون هذا الشيطان «نصير العبيد»، وكانوا يحسبون أنه ضحية القضاء الكوني الذي هم ضحاياه. •••

ولم يكتب عباد الشيطان أسرار عبادتهم؛ لأنهم كانوا يكتمونها حذرا من خصومهم، ويكتمونها مجاراة لطبيعة العبادة «الشيطانية» التي لا غنى لها عن الظلمة والخفاء، وما رواه عنهم خصومهم لا تتفق فيه روايتان على جميع التفصيلات، ولا نخال أن عبادات الشيطان كانت متفقة بينها في أماكنها المتباعدة بين آسيا الوسطى وأوروبة الغربية، فإن العبادات الصريحة المكشوفة تختلف وتتنازع حين تنتشر على هذه المسافات الشاسعة من الأقاليم والسلالات واللغات والأحوال الاجتماعية والنفسية، فلا جرم تختلف العبادات السرية إذا باعدت بينها مسافات كهذه المسافات.

إلا أن المشهور من نحل العبادة الشيطانية ثلاث؛ هي: الكاثارية، والبوجمولية، والألبية، ويرجح المؤرخون لها أنها أسماء مفترقة لنزعة واحدة تختلف في التسمية حسب علاقاتها المحلية، مع وحدتها في مصادرها، والتقاء مصادرها جميعا في الرقعة الوسطى بين القارتين الآسيوية والأوروبية.

غلبت الكاثارية على العشائر الألمانية، واسمها مستعار من كلمة “Cathar”

بمعنى الطهارة في اللغة اللاتينية المتوسطة، وكانت في أصلها نحلة زهد ورهبانية، ثم انحرفت قليلا قليلا إلى خليط من الوثنية وبقايا الديانات المتخلفة من الحضارات الأولى.

صفحة غير معروفة