63

وقليل من النقاد الدينيين في الغرب من يفطن للخاصة الإسلامية الأخرى التي تتمثل في قصة آدم مع الملائكة والجان، فإن الغالب عليهم أن يتكلموا عن زلة آدم فيسموها «سقوطا»، ويرتبوا عليها ما يترتب على السقوط الملازم لطبيعة التكوين، وليس في القرآن أثر قط للسقوط بهذا المعنى في حق كائن من الكائنات العلوية أو الأرضية، فليس فيه شيء عن سقوط الإنسان، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، أو من عهد البراءة والدعة إلى عهد التكليف والكلفة، وليس فيه شيء عن سقوط الملائكة وانحدارهم من طبيعة عليا إلى طبيعة دونها من طبائع الشيطان، وقصة الملكين هاروت وماروت فاصل بين ما يعزى إلى الملك ويعزى إلى الشيطان من ضروب السحر المباح أو السحر الحرام:

واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر .

فالملك الذي يعرف السحر لا يخدع به أحدا، ولا يعلم من يريد أن يتعلم إلا أن يطلعه على حقيقته، وليس الخداع ولا الإضرار بالعلم من طبيعة الملك، بل من طبيعة الشيطان.

هذه القصة بعينها - قصة هاروت وماروت - يطول فيها الجدل بين اللاهوتيين الباحثين عن أصولها؛ لأن شراح التلمود من اليهود يعتسفون الأقوال والشواهد لردها إلى المصادر الإسرائيلية، وكثير من الشراح اليهود أنفسهم وغير اليهود ينفون العلاقة بينها وبين تلك المصادر، فمن الذين ردوها إلى المصادر الإسرائيلية من يرى أن الملكين هما أريوخ وماريوخ الموكلان بحراسة كتاب إدريس. ويستند صاحب كتاب أساطير اليهود إلى مراجع كثيرة لتصحيح هذا الخطأ وترجيح مصدرها الفارسي

5 ... ويزعم جيجر “Geiger”

أنهما الملكان شمهازي وعزازيل اللذان هبطا إلى الأرض في عهد نوح فتزوجا من بنات الناس، ووجدا أنهن «حسنات» كما جاء في سفر التكوين، ويعتمد جورج سيل مترجم القرآن على تحقيقات هايد “Hyde”

في تصحيح هذا الخطأ، والرجوع بها إلى أصل بابلي، كما جاء في القصة القرآنية.

وكاد الخلاف على هذه القصة أن يعدل الخلاف على قصة آدم وتعليمه الأسماء ومخالفته أمر ربه بغواية الشيطان، وهي القصة التي يحسبها بعضهم من الأخبار التلمودية ، ويقول إبشتين وحرنبوم: إن التلمود اقتبسها مباشرة من المراجع الإسلامية، وبطريق غير مباشر من المراجع المسيحية.

غير أن هذه المناقشات جميعا يعتورها النقص الشامل لتحقيقات النصوصيين والحرفيين أجمعين، وهو الوقوف عند النص أو عند الحرف، وإغفال الجوهر الذي من أجله استحقت القصة أن تكون موضع اهتمام ومناقشة في مباحث المقارنة بين العقائد والديانات، فليست المسألة في هذه القصص مسألة أسماء ومواقع، ولكنها مسألة القيم الروحية التي ترتبط بها، وتتغير مع الزمن حسب تفسيراتها، ولو بقيت بنصها وحرفها في الروايات المتعاقبة.

وجوهر المسألة كله، في القصة التي نحن بصددها، أن القرآن الكريم لم يذكر قط شيئا عن سقوط الخليقة من رتبة إلى رتبة دونها، ولم يذكر قط شيئا عن سقوط الخطيئة الدائمة، وسقوط الخطيئة التي يدان فيها الإنسان بغير عمله؛ إذ العقيدتان كلتاهما غريبتان عن روح الدين الإسلامي كل الغرابة، ولا يعرف الإسلام إرادة معاندة في الكون لإرادة الله يكون من أثرها أن تنازعه الأرواح، وتشاركه في المشيئة، وتضع في الكون أصلا من أصول الشر، وتسقط الخلائق التي ارتفعت سوية بمشيئة الخالق.

صفحة غير معروفة