56

جاء مارتن لوثر في أواخر القرن الخامس عشر، وعاش إلى ما بعد منتصف القرن السادس عشر (1483-1546)، ولم يتغير بين عصر الأكويني وعصره معتقد واحد من المعتقدات التي كانت شائعة عن الطبيعة الشيطانية.

فكان لوثر يؤمن بوجود السحرة ومبايعتهم سرا أو علانية لأرواح الشر وزمرة الشيطان، وكان يؤمن بقدرتهم على تسخير الأوبئة والآفات، واستحقاق السحرة قضاء الموت الأبدي إذا ثبتت عليهم ممالأة الشياطين على المؤمنين الأبرياء. وتمتلئ أحاديث المائدة التي نقلت عنه بما كان يرويه لجلسائه من قصص الشياطين السحرة في زمانه وقبل زمانه، ومنها أن رجلا من المؤمنين بصق على الشيطان فلاذ بالفرار، وأن رجلا آخر لقيه فكسر له قرنا من قرونه، وحاول ذلك رجل آخر دونه في الإيمان فبطش به الشيطان، ونصيحة لوثر للمؤمنين أن الشيطان سخرية فأضحكوا منه ولا تهابوه!

ومما تحدث به في مجالسه قصة عن الإمبراطور فردريك الذي كان يصادق علماء الغرب، ويطلع على علومهم، ويتهم بالزيغ والكفر لاشتغاله بالمحرمات من العلوم والصناعات، وخلاصة هذه القصة أن الإمبراطور دعا إلى مائدته ساحرا مشهورا، وأراد أن يناجزه في القدرة ، فجعل له في يديه مخالب كمخالب الرخاخ الأسطورية ذات الأجنحة والقوائم والأنياب، فخجل الساحر ولم يمد يديه إلى الطعام ... وإنهم لعلى المائدة إذا بصيحة من الطريق تزعج الإمبراطور، فينهض إلى النافذة ليطل عليها، فيغنم الساحر فرصته السانحة ويجعل للإمبراطور قرونا على رأسه كقرون الأيائل، فلا يستطيع أن يرتد برأسه عن النافذة وعليه تلك القرون ...

وعلى جدار من جدران قلعة «وارتبرج» مداد سائح بقيت آثاره، وعلم الزوار مما يرويه حراس القلعة، نقلا عن المعاصرين، أنه من مداد الدواة التي ألقاها لوثر على الشيطان، حين تراءى له ليصده عن دعوته، ويكفه عن هجماته على أحبار زمانه، ولم يبرح لوثر طوال أيامه إلى آخر حياته ينادي بأنه في حرب مع الشياطين، ويحسب القائمين بالسلطان في الأرض باسم الدين نورا على ملكوت السماء. •••

ثم انقضت القرون الوسطى وتقدمت النهضة العلمية، فاصطدمت في كل وجهة تتجه إليها بالكلام في «الشيطانيات» أو علم «الديمنولوجي» كما عرف في الزمن الأخير.

كانت النهضة العلمية تصطدم بهذا البحث خاصة؛ لأنه كان يدور على السحر والسحرة ومخالفة «المعرفة الدنيوية» للشياطين أعداء الله وأعداء الدين، وكانت مجالس التفتيش تعمل عملها في مطاردة السحرة أو المتهمين بالسحر؛ لأنهم ينظرون في الكتب التي لا يقرها اللاهوتيون.

وانقسم الباحثون في «الديمنولوجي» قسمين متنازعين: قسم اللاهوتيين، وهمهم الأكبر أن يوفقوا بين النصوص الكتابية ومعارف الزمن الحديث، وقسم العلماء التجريبيين، وهمهم الأكبر أن يدفعوا عن أنفسهم تهمة التحالف مع الشيطان، ويشككوا في وجود الشيطان أو يجزموا بإنكاره؛ لأنه لا يظهر لهم عيانا، ولا يظهر لهم بالتجربة والبرهان.

غير أن اللغة التي تداولها الناس من قبل القرون الوسطى قد تلقت من «الديمنولوجي» تعبيرات مفهومة غير ملتبسة على أحد يتكلم بها أو يسمعها، وجرت هذه التعبيرات على ألسنة المتدينين كما جرت على ألسنة المنكرين أو المتشككين في العقائد الدينية، فلما كان لوثر يقول - مثلا - عن الربا وبيوت التجارة والمصارفة في القرون الوسطى إنها «مخترعات» شيطانية، وإن الشيطان هو الذي يدير تلك البيوت لحسابه، لم يكن أحد يحمل كلامه على المجاز ، أو يشك في قصده إلى شيطان غير شيطان النصوص الدينية الذي يجوز أن يبدو للعيان، أو يعمل مع أصحاب تلك البيوت في الخفاء، ولكن المتدينين وغير المتدينين شهدوا بعد ذلك قيام الصناعة الكبرى وأجهزة البخار الضخمة، فوسموها «بالشيطانية»، ونعتوها بالصناعة السوداء أو بصناعة الظلام، وهم يأخذون من هذه الكلمات معناها الذي لا يختلفون فيه، ويفهمون منها أن تلك الصناعة خلو من الرحمة والعطف، مظلمة من ظلام الفحم والدخان، أو ظلام الغشم والقسوة، سواء نسبوها إلى الشيطان، أو جعلوا الشيطان علما مفهوما على كل هذه المساوئ والنعوت.

ويغلب على الظن أن سهولة التعبير المجازي على هذا النحو سولت لأناس في القرن التاسع عشر أن يقحموا فوارق اللون والعنصر في أحاديث «الديمنولوجي»، وأن يزعموا كما زعم الدكتور كارترايت أن الشيطان لم يتكلم في الجنة بلسان الحية، بل كان كلامه بلسان زنجي أسود على مثال الشيطان الذي كان يصبغ بالسواد في صور القرون الوسطى، وكأنما أراد كارترايت أن يترقى بالفكرة درجة فوق الدرجة التي وصل إليها الأسقف آدم كلارك في تعليقاته على سفر التكوين «سنة 1825»، فجعل الحية زنجيا بعد أن كانت في رأي كلارك قردا من فصيلة الأورانج أو تانج ... وفي هذه الآونة - أو حواليها - كان الرحالون يسيحون في أمريكا الجنوبية فيسمعون من أهلها البيض أن الزنجي هو البهيمة الكبرى التي ذكرت في كتاب الرؤيا الإبكريفية،

4

صفحة غير معروفة