ونعود فنقول: إن الديانة العبرية تحملت أعباء التوسط بين الديانات الوثنية وديانات التوحيد الكتابية، وصورة الشيطان في عقائدها هي أوفق مقياس لسلم التطور الذي ارتقت عليه من أقدم عهودها في التاريخ إلى العهد الذي ظهرت فيه المسيحية.
ففي أقدم العهود لم يكن عند العبريين فارق بين خلائق الكائنات العلوية، وخلائق الكائنات الأرضية من إنسانية وحيوانية، ولم يكن عندهم كذلك فارق بين هذه الخلائق وخلائق الشيطان.
فكان الشيطان يحضر بين يدي الله مع الملائكة، وكان الملائكة يهبطون إلى الأرض فيعاشرون بنات الناس، وكان الإله نفسه يمشي في ظل الحديقة مبتردا، ويأكل اللحم والخبز، ويحب ريح الشواء، ويغار ويحقد وينتقم كما يفعل كل مخلوق من مخلوقاته في الأرض أو في السماء.
وتطورت عقائدهم في الملائكة، فأصبح منهم نظراء لقوى الطبيعة في أساطير الوثنيين الأقدمين، فمنهم ملائكة للآبار، وملائكة للأنهار، وملائكة للتلال، وآخرون للمغاور والوهاد، وآخرون للأسماك والحيتان، ولكل صيد من حيوان البر والبحر والهواء. ومن هؤلاء الملائكة من يعمل في طاعة الشيطان، ويتنقل بين الأعمال السماوية وأعمال الأرض والهاوية كأنها نمط واحد من الأعمال يختلف باختلاف الرؤساء والدعاة.
وتروي «الزوهار» أن الملائكة هم الذين استكبروا آدم يوم صنعه الله لأول مرة ملء السماوات والأرضين، فتساءلوا مستنكرين: أفي الكون إلهان؟ فصغره الله وجبل له جسما من التراب.
وفي ميثاق أخنوخ، أن الملك شمهازي قاد رهطا من الملائكة إلى الأرض ففسق وعصا، وخاف أن ينفرد بالعقاب فدعاهم أن يقسموا معه ليفعلن مثل فعله، فأقسموا معه على جبل حرمون، وسمي الجبل بهذا الاسم لأنهم أقسموا عليه بحرمة الحرمان، وعقدوا النية على المحرمات، ثم فجروا مع النساء، وعلموهن الزرع والحصاد، وهموا بإهلاك رجالهن، فتعلم الرجال منهم الفتك والعدوان.
ويروى عن أخنوخ أنه هو الذي عزر الملائكة المتمرسين بشهوات الأرض، وقال لهم حين تشفعوا به: أولى لكم أن تهجروا الأرض، وأن تعيشوا سماويين لا تأكلون ولا تشربون.
2
ومن علماء الأساطير العبرية - مثل أبشتين وجرنبوم - من يقررون أن اليهود أخذوا طائفة من قصص الشيطان رواية عن المصادر الإسلامية، وأن سعديا وابن سابا نقلا أسباب سقوط إبليس عن هذه المصادر، ومعها كثير من الأوصاف والفعال التي يتميز بها الشياطين.
وكان الحكماء والربانيون يختلطون بكهان الديانات البابلية والمجوسية، ويسمعون منهم أوصاف أهريمان إله الظلام وجنوده، فينقلونها إلى الشيطان، ويضعون هذا الشيطان شيئا فشيئا في موضع العدو المناجز لله والإنسان، ومما اقتبسوه من أولئك الكهان - من الفصل الثالث في كتاب البنداهش “Bundahesh” - أن أهرمان تشكل بشكل الحية وملأ آفاق الفلك الأعلى والأرضين حتى لم يبق فيها منفذ لإبرة، ونفث سمومه فامتلأت حتى هبط إله الخير «أورمزد» إلى الأرض فرده إلى قراره.
صفحة غير معروفة