ذكرت أن إدخال حروف الحركات اللاتينية بالرسم العربي يؤدي - بالزمن - إلى اعتبارها حروف مد فتفسد أقيسة اللغة وتفسد أوزان الشعر. وأن التلقين لا يغني في مثل هذا الموضوع؛ لفساد القاعدة في أساسها، وقابليتها لمثل هذا التشويه، وأن اللغتين السودانية والتركية قد كتبتا بالأحرف اللاتينية فتشوه النطق بهما عن أصلهما، كما هو ثابت من أقوال من سمعوهما في القديم وفي الحديث، وأن كل هذه المحذورات لا بد أنها صارفة للمعارضين عن رأيهم.
خامسا:
تقول إنك ستوافي المعارضين بما يرضي رغبتهم في جعل الكتابة العربية، تدل على الحركات في أصل الكلمة، مما ينقطع به دابر الإشكال.
وإلى سيدي ردي:
أولا: (1) إن علماء اللغات السامية لم يقولوا عن العربية إن أساسها المصدر - كما تروي - فحسب، بل قد سمعت من معترض آخر قبل سيدي ما
حلقة ذكر صوفية فترقى إلى مقام شعري خيالي باطني، فروى أن بعض المستشرقين قال إن هذه الثلاثية تشبه مثل أفلاطون!
ولو أن السيد اطلع على البحث الطريف الذي وضعه حضرة القس ا. س. مرمرجي الدومنكي بالقدس، وبعث به لمجمعنا اللغوي من بضعة أشهر، لوجد أن حضرته وهو - كما يظهر - من خيرة المشتغلين بالعربية، يقول إن أصل الكلمات العربية ثنائي لا ثلاثي، وأن الرجوع لهذا الأصل يهدينا إلى معاني كثير من الألفاظ التي نعتبرها اليوم من الأضداد. كما أن معلما بمدارسنا قدم للمجمع بحثا يثبت فيه أن الفعل الماضي - لا المصدر - هو أساس الاشتقاق.
على أن العقل المجرد - يا سيدي - لا يمنع غلبة الظن بأن الإنسان الأول لم ينطق أولا بالمصادر ولا بالأفعال، بل إنه يكون شاهد في الغابة أسدا أو نمرا أو ثعبانا، فصرخ ونطق بلفظ جعله اسما يدل عليه. والعربي الأول والأعجمي الأول كلاهما كالإنسان الأول في الطباع والأحاسيس. فتكون الأسماء إذن سابقة للمصادر وما يشتق منها من الأفعال والأسماء، على خلاف ما تروي. (2) ولو أن اليونانيين عقب أخذهم حروف الهجاء من الفنيقيين لم يضعوا حروفا للحركات، بل استمرت كتابتهم إلى اليوم لا تشمل إلا حروف نغمات بغير حروف حركات، فلربما رأيت غالب المستشرقين يقولون إن اليونانية خلقها أهلها غير محتمل رسمها لحروف الحركات.
ولو أن النبطيين عند وضع رسم العربية أدرجوا هم أو الجاهليون الأولون في غضون الكلمات حروفا أو زوائد خاصة للدلالة على الحركات، لأخذناها عنهم قضية مسلمة، ولما خطر في بالنا ولا في بال المستشرقين أن خلقتها الأولى غير محتملة لحروف الحركات. لكنهم لم يضعوا، بل احتذوا حذو جيرانهم من السريانيين والصابئين الذين تذكرهم. وهذا من جميعهم نقص فاحش يحاولون سده في كل الأزمان، بما في الإمكان. غير أن الأقدمية والآثار السالفة والعادات المتأصلة لها حكمها القوي الذي يدفع إلى الصبر على كل منقوص مع الاقتناع بأنه منقوص. فأرجو سيدي أن لا يتعلق كثيرا بتقديرات المستشرفين فيما هو قابل عقلا للأخذ والرد من الشئون. ولا تلمني فأنت نفسك قلت فيما بعد: إن إدخال حروف للحركات في كتابة الصابئين عده العلماء تقديما. ولا تعجل بالاعتراض فسترى كلامي على تلك النقطة وعلى ما قيل من أن المدات في تلك اللغة اختلطت بالحركات القصيرات.
ثانيا: (1) أما قولك في الحركة إنه لا يؤبه لها في رسم العربية، فلا شك أنه من جانبك تقرير للموجود في الواقع. أما إذا كنت تريد به عدم أهمية رسمها، فإني أنكره عليك أشد الإنكار. ليكن الأصل في الكلمات العربية المصادر لا الأفعال الماضية، ولتكن ثلاثية الأصول كما يقولون، أو ثنائيتها كما يقول حضرة القس مرمرجي، ليكن من هذا ما يكون، فإن حروف النغمات الجوهرية الصامتة
صفحة غير معروفة