وإذا كانت عبارة السيد كلها اضطرابا وتناقضا واستغلاقا - كما يرى - فلماذا يرزؤني بها؟ أيكون سيدي وهو يعلم أن لا جد فيها قد استضعفني فهجم علي بالقول المشوش إيهاما لي بأنه من «العلم» «ودلائل العلم» التي يقصر عقلي عن التطاول إليها؟ لكني أقول له إني سمعت في زماني أن واجب العلماء أن يعلموا الضعاف أمثالي، لا أن يستغلوا ضعفهم فيخرسوهم بسلاح الإيهام، وإلا فقد حبط عمل هؤلاء العلماء عند الناس، وضاع أجرهم عند الله. (3) إن العقل ليقضي - كما أقول - بوجوب اختصاص كل نغمة بحرف ذي هيكل معين يدل عليه. أما الاعتماد في التمييز على مجرد النقطات فإنه من أشد الآفات. خذ أي كتاب عربي مطبوع ودقق النظر قليلا تجد أن شكل النقطة الواحدة وشكل النقطتين، أو شكل النقطتين وشكل الثلاث، كثيرا ما تختلط وتتشابه، إما لخطأ العامل، وإما لميوعة المداد أو سخافة الورق. فتختلط في غضون الكلمات، النون بالتاء، والتاء بالثاء، والفاء بالقاف، والباء بالياء. ولولا تعود القراء من أبناء اللغة لتعثروا في القراءة والفهم غالب الأحيان. أما المخطوطات فأنت عليم بأن العمدة فيها على فطنة أبناء اللغة من القراء؛ إذ النقطات كثيرا ما يقع الإهمال في إثباتها أو في أعدادها أو مواضعها، وهي آفة يضج منها كثير من الناس.
13
فاللاتينية تفضل العربية من هذه الناحية بلا نزاع. وأرجو سيدي أن لا يحتج بالإيجاز والاختصار؛ فإن الرسم ثوب للنغمة يقصد منه الإعلام بها. وكل إعلام تعرضه للتغيير والتشويه فهو في نظر العقل من الآفات. (4) ولقد حرت يا سيدي بين من يعترضون علي مستنصرين بالعلم ودلائله، ولا أدري أيهم أشايع وأيا منهم أباعد. أنت يا سيدي تقول بتينك المزيتين، وبحيازة الرسم العربي لهما، لكن أستاذا بكلية الآداب عندنا - استشهدت أنت - على بعض نقط اعتراضك بقول له ضمن اعتراض من جانبه نشرته «الثقافة» أيضا، قد فرط منه ما يدل على أنه لا يوافقك في هذا الصدد. إنك لو أعدت النظر على مقاله لوجدته يقول - ما مفهومه - إن الكتابة المثلى هي ما يكون فيها لكل صوت حرف خاص يدل عليه دلالة واضحة، ويروي عن دائرة المعارف البريطانية ما يؤيد قوله. فإلى أيكما أنحاز؟ أإليك أم إلى أستاذنا الجامعي؟ إني لا أنحاز إلا لما يقضي به العقل. والعقل - كما أسلفت - يهدي إلى وجوب الانحياز في هذه النقطة - لا إلى سيدي؛ لأن رأيه في غاية الخطر - بل إلى أستاذ جامعتنا، ولكن في هذه النقطة وحدها وبخصوصها من جملة ما قال.
رابعا: (1) لست
فإن معوله الأول هو على ما ارتسم من قبل في ذهنه من الصورة الكلية لكل كلمة يقرؤها، لا على كل حرف حرف من الكلمة. ولسنا محتاجين في إدراك هذا لا إلى آلة التاشيستوسقوب ولا غيرها، ما دام دليل ذلك يتكرر عمليا أمامنا كل يوم. إنك تقرأ خطابا من أحد الإخوان قراءة سريعة، فتفهمه ولا تلاحظ في لغته شيئا من العيوب، فإذا قرأه غيرك، أو أعدت أنت قراءته بشيء من البطء، وجدتما فيه كثيرا من الأغلاط. بل أكثر ما يلاحظ هذا في تصحيح المطبوعات، يقرأ المصحح التجربة (البروفة) مرة فلا تقع عينه إلا على بعض ما فيها من التحريفات، مع أن المصححين لا يسرعون إلا قليلا. فإن صححت التحريفات ثم قرأها ثانية عثر فيها على أغلاط أخرى لم يرها في التصحيح الأول. وما ذلك إلا لأن المسرع في القراءة لا يقرأ الكلمة حرفا حرفا، بل يقرؤها كصورة كلية اعتاد فهم مدلول رسمها، فالمسألة في هذا لا تحتاج لا للعلم ولا لتجاريب العلماء. (2) مع تقريري لهذا ألفت نظر سيدي إلى أن ما يقوله في واد ونحن في واد؛ إن تلك القراءة المجموعية التي يشير إليها، هي قراءة السر في سرعة قليلة أو كثيرة، لا قراءة الجهر في سرعة أو بطء. ونحن لسنا بسبيل قراءة السر، بل بسبيل قراءة العلانية. موضوعنا رجل يلفظ بالعربية لفظا ذا صوت وجرس، نريد أن يكون لفظه المسمع جاريا وفق أصول العربية وقواعدها؛ يرفع المرفوع، وينصب المنصوب، ويجر المجرور ويجزم المجزوم ولا يلحن في شيء من هذا. أما القراءة السرية فلا شأن لنا بها، وليست من موضوعنا. إن القارئين من مثقفين وغير مثقفين، جميعهم يقرءون ويفهمون ما يقرءون إلا ما كان فوق طاقتهم من مسائل العلم والفن والأدب، ولكن إذا كلفتهم النطق والإسماع سكنوا أواخر الكلمات وحركوا حروفها وفقا للهجتهم العامية، وهي لهجة مفهمة، بل أشد في الإفهام بين الجميع من الفصيحة التي لا يستطيعونها ولا تلوكها ألسنة المثقفين منهم إلا في النادر القليل.
أرأيت إذن يا سيدي أنك هنا تخرج من الموضوع معتمدا على بلاغة عبارتك وما تستنصره من التاشيستوسقوب ومن أقوال العلماء؟
إن التاشيستوسقوب (أو التاكيستوسكوب) لفظ أجنبي مديد البناء، لا يدرك معناه من لا يعرف إلا العربية، بل لا يدركه من يعرف الفرنسية وغيرها ولا يكون من الاختصاصيين. إن قارئه من هؤلاء وهؤلاء لا يناله منه إلا الانذعار والاستهوال، ولا سيما من لا يعرف غير العربية؛ لأنهم علموه أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فالشقنداف عنده أوسع معنى من الشقدف ومن الشقداف. والتاشيستوسقوب أزيد من الشقنداف حروفا، فهو لا يراه إلا غولا من أضخم الغيلان. أفلم يكن في وسع سيدي أن يتجاوز عن ذكره حتى لا يرعب الناس؟ (3) أما ما تفيض فيه يا سيدي من أن الكتابة العربية، بما فيها من كثرة الأعمدة المرتفعات عن أصل كتلة السطر، تبقى - عند الابتعاد عنها - ظاهرة يتبينها النظر، بعد اختفاء الكتابة اللاتينية التي من مقاسها، فإنه - مهما يكن صحيحا - لا فائدة فيه. اللهم إلا إذا أثبت لي أن دقة الحروف اللاتينية واستخفاءها على النظر قد منعا أهلها من مزاولة العلم والفن والأدب، ومن بلوغهم في جميعها أرقى الدرجات. وأنت لا تستطيع إثبات ذلك، فقولك إذن لا طائل من ورائه.
خامسا :
تقول: كلا إن فائدة ذلك حفظ النظر من الضعف؛ فإن خمسة وثلاثين في المائة من طلبة المدارس العالية بفرنسا مصابون بقصر النظر؛ لانكبابهم على مطالعة كتبهم غير الواضحة الحروف. كما أن العلماء قالوا: إن عدم وضوح الحروف يصد عن القراءة. هذا حاصل كلامك. فاسمع - غير مأمور - كلامي:
لئن كان الطلبة الفرنسيون أصيبوا بقصر النظر، فلا بد أن يكون أمثالهم في جميع البلاد التي تكتب باللاتينية قد أصيبوا به كذلك. وأنا يا سيدي لا أرى - أنا ولا غيري من المصريين - أثرا لهذا عندنا.
صفحة غير معروفة