إنك يا سيدي إذا استطعت أن تعدني متزيدا بما تبسطت في الكلام على الصورة والترجمان، فإنك لا تستطيع بحال أن تخرج من ربقة التاريخ ودلالة حوادثه؛ فإني لست أنا الخالق للتاريخ، وليس لي ولا لك سيطرة على حوادثه، بل كلانا منفعل بها مساير لتيارها، ومن لا يعترف منا بقوة هذا التيار جرفه وأقصاه. فأرجوك أنت وقومك أن تتدبروا ما أقول، ولعل زيادة التأمل توفقكم إلى الإقرار بوجوب تعديل رسم كتابتنا العربية على الوجه المفصح المبين. وما يهمني أن يكون الإفصاح باللاتينية أو الوقواقية، كل ما أريده الإفصاح لا شيئا غير الإفصاح. غاية الأمر أن نظري الضعيف استقر بعد التأمل الطويل على أن الحروف اللاتينية هي وحدها وسيلة النجاح، ولا زلت منتظرا من يدلني - بحق - على وجه خطئي في هذا النظر الغريب.
على أني لا بد لي هنا من تقرير حقيقة يثبتها الاستقراء؛ وهي أن أهل اللغة كلما كانوا عليها أحنى وأحرص وإلى الاضطلاع بها أنشط، كانت صيحتهم لتقويم رسم كتابتها أعظم. هكذا كان الحال أيام عثمان بن عفان، وأيام عبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وأيام الخليل بن أحمد، وأيام من بعدهم من العلماء الذين اشتد حرصهم على العربية فكانوا يضبطون ألفاظها بالألفاظ. وهكذا الحال الآن ودبيب النهضة اللغوية العربية يدب في بيئتنا المصرية وفي بيئتكم وسائر البيئات العربية الأخرى. والعلة في هذا - وما أظنها تخفى عليك - هي أن أهل اللغة متى تنبهوا لخدمة لغتهم وإعزازها، وأخذت ملكتها تسيطر على ألسنتهم، أرهفت هذه الملكة حسهم وجعلتهم لا يطيقون عبث من يهدر قواعدها ولا يراعي حقوقها عند قراءة شيء من نصوصها، بل هم يتأذون ويتألبون صارخين طالبين توضيح معالم رسمها حتى يسقط عذر القارئ، ويزول مصدر اللحن الذي يؤذي لغتهم العزيزة عليهم كما يؤذي أسماعهم. وهذه العلة النفسانية تدور مع معلولها وجودا وعدما؛ ألا ترى أنه إبان الركود اللغوي، التابع للركود العقلي، قل أن يفكر أحد في اللغة، ولا في صونها أو عدم صونها من اللحن والأخطاء؟
إذا تقررت هذه الحقيقة، واعتقدتها وانفعلت بما تعتقد، سقط حتما ما ارتأيته في مقالك الجميل من أن رسمنا الحالي ينبغي أن لا يمس مهما يكن مضللا، ومن أن العلاج الوحيد للعربية لا يخرج عن تبسيط قواعدها؛ سقط لأنك ترمي بتبسيط القواعد إلى تقريب الفصحى للناس وتحبيبها إليهم، وحملهم على التمرس بها. وها أنت ذا ترى - مما أسلفت - أنهم كلما كانوا بها أعلم كانوا على سلامتها في الألسن أحرص، وإلى التأذي من العابث بها أوحى وأسرع، وإلى الصياح بطلب إفصاح رسمها أثور وأقوم.
على أنك يا سيدي في رأيك هذا الثنائي الطبيعة؛ بقاء الرسم لاختزاليته وتبسيط القواعد لنشر راية الفصحى؛ كمن يبني بيد ويكسر بالأخرى آلة البناء. إنه لا يغيب عن سيدي أن محبي العربية مهما عملوا فلن يستطيعوا مغالبة قانون التطور إلا إلى حد محدود. إنهم لا يستطيعون القضاء على اللهجات العامية في كل بلاد العربية، بل كل الذي أطمع فيه أنا وأنت وغيرنا إنما هو بقاء لغة القرآن حية يمارسها من الناس أكبر عدد مستطاع. لكن هذا العدد مهما يكبر، فإنه قد لا يبلغ خمسة أو عشرة في المئة من مجموع أهل العربية، أما تسعة أعشار الناس فسيقيمون على لهجاتهم العامية على الرغم من مساعيك ومساعي ومساعي غيرنا. وأنت يا سيدي لا يفوتك أن الشأن في اللغات كالشأن في سلع التجارة، رخيصها يطرد غاليها؛ فالعوام بلهجاتهم الرخيصة سيبقون سابقين للخواص بفصحاهم النفيسة، وسيعينهم دائما أنهم أكثر عددا. وسيضطر الخواص دائما إلى مخاطبة العوام بلهجات العوام. أما العوام فلن يستطيعوا مخاطبة الخواص بلغة الخواص. ونتيجة هذا أن سيكون دائما بين رخيص اللغة وثمينها عموم وخصوص مطلق، كل رجل من الخاصة يتكلم العامية، أما رجل العامة فلا يتكلم إلا العامية، وهذا وضع له أثره وله قوته في مناهضة جهود من يعملون على إحياء الفصحى. هذه القوة المعاكسة لا بد من الاستعانة عليها بشيء ذي أثر. أنت تقول القواعد، ولكن القواعد نظرية، والنظري وحده لا يفيد. هبك طبعت للناس كل كتب النحويين من عهد سيبويه إلى الآن، وهبك بسطتها وسهلت مواردها ثم عرضتها عليهم، فهل تظن أن أحدا يقرؤها؟ لا تظن. إنما هي تبور في أيدي الوراقين؛ ذلك أن السواد الأعظم من الجماهير لا يهتم بالأمور النظرية ولا بما تمثل لقواعدك من: ضرب زيد عمرا، أو أكلت السمكة حتى رأسها. لأنها أمثلة تجريدية كاذبة لا حقيقة لها ولا غناء فيها، إنما هذا السواد يهتم للأخبار الطارئة والحوادث الجديدة والأقاصيص المسلية؛ فهو يتمنى أن لو استطاع قراءة الجرائد والمجلات والقصص الروائية حتى يعرف أخبار بلده وأخبار العالم الخارجي، ويرطب مزاج نفسه المكدودة. هذه العاطفة هي التي عليك أن تستغلها، وهي وحدها مناط الاستغلال. اجعل الصحف والمجلات وكتب الروايات والأقاصيص مكتوبة كتابة سهلة الانفهام مستوفاة الحركات والسكنات الأصولية، لا يتعثر فرد في قراءتها، ولا يشذ فرد في هذه القراءة عن فرد، اجعلها كذلك تكن هي أداتك العملية في البناء؛ يقرؤها المثقفون والعوام مدفوعين جميعا بغريزة حب الاستطلاع والاستجمام، متخيرا كل منهم ما يوافق هواه ودرجة عقليته. ومتى طال بهم الزمن وقراءتهم صحيحة الأداء، تمكنت عند المثقفين نظريات القواعد، وأصبحت الفصحى قريبة من أن تكون لهم سجية، وتحسنت حال العوام واقتربوا من أن يفهموا الخواص إذا خاطبوهم بالفصحى، وربما نشط بعضهم فعالج من أمر الفصحى وقواعدها النظرية ما يعالجه المثقفون. وهذا الوضع هو أقصى ما يصح لمثلك ومثلي أن نطمع فيه، فإن اتسع وارتفع بالزمن فبها، وإلا فالطفرة عليك وعلي - اعتمادا على مجرد القواعد النظرية - هي من المحالات وكواذب الآمال.
أنت في هذا المقام تخشى زيادة الضرر لو استكمل الرسم آلات الحركات، لكن اسمح لي أن أقول لعلك واهم. إن مؤلفي الكتب الأدبية ومديري الجرائد والمجلات في يومنا الحاضر هم في الصف الأول من مجيدي العربية. وكلما طال الزمن كانوا فيها أرقى وأكمل. هؤلاء الكملة هم الذين يطبعون للناس ما يقرؤه الناس، وهم لا يطبعون - كما نشاهد - إلا الصحيح عربية كل الصحيح. فأنت يا سيدي تخاف بلا موجب. إن من القواعد الحكيمة أن اليقين لا يزول بالشك. ومن اليقين أن وضع حروف أو علامات للحركات مفيد من وجهين؛ إبراز معاني الألفاظ في العبارات، وتعويد الناس صحة الأداء. هذا اليقين المفيد تريد أنت إزالته بما يحتمل وقوعه من الفساد اللغوي لو أن الكاتب كان غير ملم إلماما تاما باللغة وقواعدها. إن هذا من جانبك مجرد افتراض، وهو افتراض لا أسلم لك به تسليما مطلقا؛ لأنه إذا كان صحيحا في الذهن فهو لا يمكن - في الواقع - أن يصح على إطلاقه، ولا أن يدوم على إطلاقه. إنه إذا خرج من الذهن إلى ميدان الواقع أكل بعضه بعضا فتهافت. إن الجريدة إذا كثرت فيها الأغلاط لأي سبب كان، سقطت في نظر الناس وكسدت، فاضمحلت وماتت، ومثلها الكتاب. ويتأكد تهافتهما وموتهما إذا تيقن القراء أن أصحابهما هم من الدرجة الواطئة في علم العربية، على أن الحق في هذا الداء الذي تبني عليه افتراضك أنه داء لا شأن له بالكتاب. وعلاجه لا يصح أن يكون بإزالة اليقين الجوهري المفيد، بل يكون بالبحث عن علته والقضاء عليها. وأنت إذا بحثت تأكد لك أن واضعي الكتب ومحرري الجرائد ليسوا هم الذين يخطئون في الأوضاع العربية كما تفترض، إنما المخطئون هم عمال المطابع صفافو الحروف. سل صاحب المجلة التي نشرت ردك يقل لك إنه يصحح التجربة (البروفة) الأولى، ثم يعود فيصحح الثانية، ثم يعود فيصحح الثالثة، حتى ينفد صبره ويحل ميعاد إخراج الصحيفة فيخرجها آسفا على ما أبقاه الصفافون فيها من الأغلاط.
على أني يعز علي أن تمر المسألة من غير أن أقول كلمة لإنصاف الصفافين، وهي كلمة سبق لي الجهر مرارا بها، إنهم عمال معذورون، يجهد العامل منهم أضعاف أضعاف ما يجهد زميله في البيئات الأجنبية. ولا ينال من الرزق إلا دون الدون. للحرف الواحد عنده هياكل أربعة، وله هيكل واحد عند ذلك الزميل، فرأسه تدوخ من كثرة التلفت لصناديق الحروف، والدائخ عرضة للأخطاء حتى ولو كان بالغا في فقه اللغة درجة المحررين. فما تراه في الصحف أو الكتب من الأغلاط، وما تراه في كتبنا جميعها من الصحائف المتعددة التي توضع بعد الطبع لتصحيح ما سرى فيها من الأخطاء، كل ذلك سببه لا المحررون بل الصفافون المعذورون. والعلة الأولى لخطأ الصفافين هي تلك العاهة المستديمة الملازمة للرسم العربي، والتي تشتد عقابيلها إذا أضيف إليها شيء من «الشكلات»؛ لأن صناديق الرموز تزداد، والدوار يزداد، والأخطاء تزداد. وهذه الحقيقة هي من جملة الدوافع التي دفعتني لاقتراح الحروف اللاتينية لرسم العربية. وأنا يا سيدي إذا كنت أعيد تقريرها الآن فلمجرد إنصاف الصفافين، بعد أن برأت المحررين، ثم للتبصير بحرج المركز الذي نحن فيه، لعل لكم بالعراق رأيا يخرجنا جميعا من هذا السوء.
إلى هنا أظنني بينت:
أولا:
أن طبائع الأشياء ذاتها قاضية في رسم اللغة أن تكون صورته كاملة مستوفية كل ما يدل على نغمات الألفاظ وعلى حركات هذه النغمات، وإلا كانت صورة بتراء تؤدي إلى كثير من الشرور.
ثانيا:
صفحة غير معروفة