أرأيت إذن أي شر جلبه سوء الرسم على المرء في ولده وفي دينه؟ وإنه في نظري ليستأهل؛ لأنه قصر في حق اللغة فجعلها ألعوبة في أيدي المصحفين.
كأنك تقول ما لنا وللصورة والترجمان وزيادة الفيهقة في بيان الآثار اللازمة عن تعوير الصورة وتحريف عبارة الترجمان؟ تقول هذا وتلومني على الإسهاب في معنى واضح، وبسيط لدرجة التفاهة. لا تقل ولا تلم؛ فإن البديهيات العقلية أشد التصورات بساطة ووضوحا، والتعبير عنها يقع موقعا أتفه من التفاهة. ومع هذا فإنها أساس سلوك الناس في الحياة، وعليها عمارة الكون. إن بداهة ضوء الطريق ووضوح معالمه إذا كانت الشمس طالعة، هي التي تدفع بالإنسان إلى السير فيه سعيا وراء الرزق، وبداهة الإظلام إذا كانت الشمس غائبة، هي التي تحجبه في بيته وتمنعه عن المسير خشية الارتطام في حفرة، أو تلجئه إلى اتخاذ مصباح كيما يستطيع الكتابة والقراءة أو تناول ما يريده من الأشياء.
على أني أعفيك من هذه البسائط التي تحسبها تافهة. أتنكر أن الأحداث التاريخية من أدل الدلائل على اتجاه عقول بني الإنسان في هذه الحياة؟ انظر أحداث التاريخ في الشأن الذي نحن فيه بخصوصه، شأن رسم الكتابة. إن المصريين بدءوه تصويريا يعبر عن الفكرة بالصورة، لكنهم ما لبثوا أن ضاقوا ذرعا؛ لأن مفردات اللغة ليست مقصورة على أسماء الذوات التي لها صور تدرك بالحس، بل فيها أيضا كثير من أسماء المعاني؛ كالعلم والجهل والعدل والرحمة والشفقة والطيش والشجاعة والجبن وما ماثل ذلك. وبعض هذه المعاني إذا أمكن الاحتيال عليه بالتصوير التقريبي، فإن بعضها الآخر يستعصي على التصوير. وهم في معاملاتهم وأحوال مدنيتهم يريدون الإبانة والإفصاح، فضرورة الإبانة حفزتهم إلى الكتابة المقطعية، وهي تشخيص الألفاظ اللغوية نفسها بصور ذوات، أوائل أسمائها من مقاطع اللفظ المراد تصويره. فكان اللفظ ترسم له عدة صور بمقدار تعدد مقاطعه، فينطقون المقاطع الأولى من مسميات الصور، فيكون مجموعها هو اللفظ المروم. أو ليس أنهم ضاقوا أيضا بهذه الطريقة؛ لأنها لا تسعفهم بالبيان والإيضاح، ولأن السواد الأعظم لا يستطيعها، فأعملوا فكرهم، فتوصلوا لوضع رموز خاصة، كل منها يعبر عن نغمة من النغمات الدائرة في الألفاظ، فكان هذا مبدأ الهجاء المعروف؟ أوليس أن الفنيقيين أتوا من بعد فاستفادوا من عمل المصريين، فوضعوا أحرفا للهجاء مستوفاة، وعنهم أخذ اليونان وأهل آسية؟ أوليست كل تلك التطورات تدلك على اتجاه العقل الإنساني في رسم الكتابة إلى البيان والإفصاح وإلى التيسير في البيان والإفصاح؟ فمن صور لا يستطيعها إلا بعض المتخصصين، وهي في ذاتها يتعذر أن تؤدي كل المعاني اللغوية، إلى هجاء مقطعي يستلزم التصوير الذي لا يقدر عليه إلا المتخصصون أيضا، إلى حروف نغمات تؤدي نغمات الكلمة، وهي إن قصرت عن بيان حركتها فإنها - على كل حال - أوسع في البيان مدى، وأقل مؤنة على سواد الجماهير؟ ثم انظر ماذا دونه التاريخ من بعد؛ إنه يذكر لنا أن الحروف الفنيقية كانت لا تؤدي إلا نغمات متراصة خالية من الحركات، وأن اليونان لما أخذوها ضاقوا بها فأدخلوا في الكلمات حروف الحركات، فاستطاع الناس أن يقرءوا اللغة قراءة صحيحة مطابقة للملفوظ به من الكلام. أوليس التاريخ يروي لنا أيضا أن إدخال حروف الحركات كان فتحا جديدا وفخرا خالدا للعقل اليوناني؟ أوليس أن أهل أوروبا إطلاقا نقلوا عن اليونان حروف الكتابة، وفيها حروف الحركات؟ حتى الأمم الآتية إليها من آسية ولم يكن في رسم لغتهم حروف حركات. وإذن فاتجاه العقل الإنساني في أطواره التاريخية المعروفة دال على أنه متطلع بالاستمرار في أمر الكتابة إلى الإيضاح والتبيين والمطابقة بين ملفوظ اللغة ومكتوبها. ولم يثبت قط في التاريخ ميله في الكتابة إلى التعمية والتجهيل.
لنترك هذا الكلام العام، ولنحصر القول في الرسم العربي بوجه خاص. فهل يرى السيد أن اتجاه الأقدمين فيه كان إلى الاختزال؟ كلا، ثم كلا. إن العرب ضاقوا أشد الضيق برسمهم الاختزالي السخيف، وهذا معنى متسع يجيش بالصدر، وليس في الناس أحق منك ومن أهل العراق بسماعه، ولا أقدر منكم على فهم ظاهره وخافيه، والاقتناع بأنه حق لا ريب فيه.
أليست دجلتكم تتحدر من جبال أرمينية؟ أولستم أعلم الناس بأنه وقت فتح ذلكم الإقليم تخالف جنود المسلمين في قراءة القرآن وكاد بعضهم يكفر البعض، وأن عثمان بن عفان لما بلغه الخبر خشي سوء العاقبة فسارع إلى جمع القرآن وإرسال نسخه للأمصار؛ لتكون هي الثبت الذي يرجع إليه، وقد جعلها في كل جهة تحت مراقبة الحفاظ المتدينين المأمونين، الذين عليهم المعول في رواية هذا المصدر الأساسي للدين؟ تلك حادثة أولى يدونها التاريخ. فقل لي ما مبعث هذا التخالف؟ هل النعرة فيمن حضر الفتح من قبائل العرب حملت كل قبيل على أن يخترع قرآنا، وتعصب كل قبيل لقرآنهم، فكان التخالف وكانت المشادة ووشك التكفير؟ قطعا لا، أنزل القرآن نفسه متغاير الآيات بعينها، في السورة الواحدة بعينها، متخاذل المعاني في تلك الآيات؟ قطعا لا أيضا. إذن لم يبق من مبعث للشر إلا سبب واحد؛ هو سوء رسم العربية. لقد كان القراء قليلين، والكتاب أقل من القليل، والرقاع أندر من الندرة. فأيما قبيلة ظفرت بصحيفة مكتوب فيها سورة أو بضع آيات من سورة، حرصت عليها، وتعبدت بتلاوتها على الوجه الذي استطاعت أن تقرأها عليه. وإذ كان رسم الكتابة إذ ذاك أشد اختزالا مما هو الآن؛ لتجرده من النقط والألفات الممدودة، وكان الكتاب بدائيين لا يستطيعون ضبط الكتابة - حتى برسمها القاصر السخيف - إذ كان هذا فإن باب الخطأ والتصحيف كان مفتوحا على مصراعيه. ويكفي أن يكون للألفاظ - بعد تصحيفها - معان تتلاءم قليلا أو كثيرا، حتى يمضي القارئ في قراءته ويتعصب لها.
أرأيت إذن يا سيدي مبلغ الضرر الذي نشأ في أول الإسلام عن سوء الرسم ووجازته وقابليته للتصحيف؟ فهل لا زلت مصرا على رأيك من مزية اختزال رسمنا العربي وكونه قابلا لزيادة الاختزال؟ إن كنت لا زلت على هذا فالأمر - في حماية الفصحى - لله.
على أن عثمان إذا كان له عند الله وعلى المسلمين يد بجمعه القرآن، فإن عمله لم ينحسم به الشر من أساسه، كل ما كان أنه كفى المسلمين شر جهل الكاتبين الذين لم يحسنوا كتابة ما لديهم من الصحف حتى على قاعدة الرسم العربي السخيف، ثم شر من كانت لديهم صحف كتبوها في أوقات متباعدة وفرص متفرقة، فأتت بطبيعة الحال غير وافية أو غير مراعى فيها ما للقرآن من ترتيب في السور والآيات. أما منبع الشر الحقيقي، وهو رسم العربية القابل لكل تصحيف، فبقي على ما كان عليه، ولم يعالج بشيء أكثر من إيكال الأمر في كل مصر إلى الحفاظ المتدينين الصالحين. وهو في ذاته علاج واهن ضئيل، ألا ترى أن المسلمين استمروا ضائقين خائفين من التصحيف، وأنه لم يمض إلا قليل حتى قام الحجاج بن يوسف - وكان عندكم بالعراق عاملا لعبد الملك بن مروان - فعمل على تنقيط الحروف في كلمات القرآن؟ وهذه حادثة ثانية يرويها التاريخ. ولم يبعث عليها مزية اختزالية رسم القرآن، بل الباعث هو ضرر هذه الاختزالية الموقعة للناس في الضلال، وضرورة الإيضاح والتبيين.
لم يمض بعد إلا قليل حتى كانت التجاريب المتعبة التي قام بها السلف، ومنهم الخليل بن أحمد، قد انتهت بوضع الشكل توضيحا لرسم حركات الحروف في كلمات القرآن وغير القرآن. وهذه حادثة ثالثة يرويها التاريخ، وليس لها من مبعث سوى ضيق الناس بانبهام طريقة النطق بكلمات القرآن وغير القرآن، ووجوب توضيح هذه الطريقة منعا من الوقوع في خطر التصحيف.
يدلنا الواقع في كتب السلف من العلماء على شدة تغيظهم من رسم الكتابة، وعدم اعتمادهم، لا على التنقيط الذي أتى به الحجاج، ولا على الشكل الذي اخترعه من بعده، مهما يكن هذا الشكل قد حسنه من أتوا بعد مخترعيه. نجد أولئك السلف يضبطون الألفاظ في كتبهم بألفاظ مثلها. فيقولون: بالثاء المثلثة الفوقية، بالجيم الموحدة التحتية، بالضم، بالكسر، وزان قمر، وزان سحاب ... إلخ. وهو من جانبهم عمل زائد يأتون به حتى لا تجني سخافة الرسم ووجازته على ما يكتبون. وهذه حادثة رابعة كلية شائعة في كتب الأقدمين.
فالتاريخ يدلنا على أن الاتجاه في العربية بخصوصها إنما كان نحو التخلص من اختزال رسمها وقصوره.
صفحة غير معروفة