كان السيد ترافرس قد شيد ذلك المنزل، أو بالأحرى أمر ببنائه كهدية زواجه من السيدة ترافرس، وجعله مفاجأة لها. وعندما رأته جريس لأول مرة، كان قد مر على بنائه نحو ثلاثين عاما. كان ثمة تباعد بين أبناء السيدة ترافرس في أعمارهم على نحو كبير؛ جريتشن تبلغ الثامنة والعشرين أو التاسعة والعشرين من عمرها، وهي الآن متزوجة وصارت أما، أما موري فيبلغ الحادية والعشرين، وهو يمضي آخر عام له بالجامعة. ثم هناك نيل وهو في منتصف الثلاثينيات، لكن نيل لا ينتمي لعائلة ترافرس. إنه يدعى نيل بورو؛ إذ كانت السيدة ترافرس متزوجة من قبل، وتوفي زوجها، فعملت كمدرسة للغة الإنجليزية المختصة بأغراض التجارة في أحد معاهد السكرتارية؛ لتكسب عيشها وتتمكن من الإنفاق على طفلها. وكان السيد ترافرس عندما يشير إلى تلك الفترة من حياتها قبل أن يلتقي بها يصفها بأنها فترة من الكد والتعب تشبه عقوبة الأشغال الشاقة، وهي فترة يصعب التعويض عنها بالعيش في دعة وراحة لبقية العمر، وهي الراحة التي وفرها لها عن رضا منه وسعادة.
لكن السيدة ترافرس ذاتها لم تتحدث عنها على هذا النحو على الإطلاق؛ فلقد عاشت مع نيل في منزل كبير مقسم إلى شقق صغيرة لا يبعد كثيرا عن خطوط السكك الحديدية في مدينة بمبروك. أما القصص التي كانت ترويها على العشاء، فكانت تتناول بعض المواقف والأحداث التي مرت بها هناك؛ سواء عن جيرانها من المستأجرين، أو المالك الكندي ذي الأصول الفرنسية التي كانت تقوم بتقليد لهجته الفرنسية الحادة المتداخلة مع لغته الإنجليزية. وقد تحمل هذه الأقاصيص بعض الأسماء؛ مثل قصص ثيربر التي قرأتها جريس في «مختارات من الفكاهة الأمريكية»، التي كانت موجودة دون سبب واضح على أحد أرفف المكتبة في نهاية فصلها بالصف العاشر (كان هناك أيضا على ذلك الرف رواية «آخر البارونات»، ورواية «العامان الأخيران قبل تنكيس العلم»). «الليلة التي خرجت فيها السيدة كرومارتي العجوز إلى سطح المنزل»، «كيف غازل ساعي البريد الآنسة فلاورز»، «والكلب الذي التهم السردين.»
أما السيد ترافرس فلم يكن يروي أي أقاصيص، ولم يكن لديه الكثير ليقوله على العشاء، لكن إن حدث وشاهدك على سبيل المثال وأنت تتطلع إلى المدفأة المصنوعة من الأحجار، فربما يقول لك: «هل أنت مهتم بالصخور؟» ثم يشرع في إخبارك عن المكان الذي أتت منه كل صخرة، وكيف أضناه البحث عن الجرانيت ذي اللون الوردي؛ لأن السيدة ترافرس قد تعجبت ذات مرة من صخرة تشبهها كانت لمحتها على جانب الطريق، أو قد يعرض عليك بعض السمات التي لا تعد غير اعتيادية والتي قام هو نفسه بإضافتها إلى تصميم المنزل؛ مثل أرفف الخزانة التي تتدلى للخارج في زاوية المطبخ، ومساحة التخزين التي أضافها أسفل المقاعد الموضوعة تحت النوافذ. كان السيد ترافرس رجلا طويل القامة، به بعض التحدب، ذا صوت هادئ، وشعر خفيف ينسدل بنعومة فوق فروة رأسه. كان يرتدي حذاء الاستحمام عندما كان يذهب للسباحة، وبالرغم من أنه لم يكن يبدو ممتلئا في ملابسه المعتادة، فكانت تظهر تراكمات من اللحم الأبيض متدلية أعلى سروال السباحة القصير. •••
عملت جريس هذا الصيف في النزل القابع في بيليز فولز شمال بحيرة ليتل سابوت. وكانت عائلة ترافرس قد ذهبت لتناول العشاء هناك ذات مرة في بداية فصل الصيف، لكنها لم تلحظ وجودهم؛ فلم يجلسوا على إحدى الطاولات التي تقع في نطاق خدمتها، وكانت تلك الليلة مزدحمة؛ فكانت تقوم بإعداد إحدى الموائد من أجل مجموعة جديدة عندما أدركت أن هناك شخصا يريد التحدث إليها.
وكان موري. قال: «أتساءل إن كنت تودين أن نخرج معا في وقت ما؟»
كانت جريس نادرا ما ترفع بصرها وهي تقوم بوضع أدوات المائدة الفضية على المائدة. قالت: «أذلك رهان؟» فقد كان صوته عاليا يشوبه بعض التوتر، وكان متسمرا في مكانه دون حراك، وبدا وكأنه يجاهد ليجبر نفسه على ذلك. وكان من المعروف أنه في بعض الأحيان قد تقوم مجموعة من الشباب الذين يقطنون في بعض الأكواخ المجاورة بالمراهنة فيما بينهم على التجرؤ على دعوة إحدى النادلات للخروج معهم. ولا يكون الأمر مجرد مزحة؛ فالشخص الذي طلب إليها الخروج يأتي عادة في الموعد إذا ما وافقت هي على ذلك، لكنه قد يقصد في بعض الأحيان الجلوس معها في السيارة قليلا، ولا يدعوها لمشاهدة أحد الأفلام أو حتى لتناول القهوة؛ لذا كان قبول هذه الدعوة أمرا مخزيا، بل وقاسيا، لأي فتاة.
قال بألم: «ماذا؟» توقفت جريس عما تفعله، ونظرت نحوه. بدا لها أنها كشفت شخصيته في تلك اللحظة؛ شخصية موري الحقيقية؛ خائف، عنيف، ساذج، ذو عزم وتصميم.
ردت بسرعة: «حسنا.» ربما كانت تعني حسنا، اهدأ، أعلم أنه ليس رهانا، أعلم أنك لا تفعل ذلك. أو ربما كانت حسنا، سأذهب معك. هي نفسها كانت بالكاد تعرف مقصدها، لكنه اعتبر الكلمة موافقة على اللقاء، وعلى الفور رتب معها - دون أن يخفض من صوته، أو يلمح نظرات الجالسين على الطاولات المحيطة بهما - بأنه سيمر لاصطحابها في اليوم التالي بعد انتهاء عملها.
وبالفعل، اصطحبها إلى السينما، وشاهدا فيلم «أبو العروسة». وقد كرهته جريس؛ كرهت الفتيات أمثال إليزابيث تيلور في ذلك الفيلم؛ فقد كانت تكره الفتيات الغنيات المدللات، اللاتي لا يطلب منهن شيء، لكنهن من يتدللن ويطلبن ما يشأن. فقال موري إنها فقط نوع من الكوميديا، فأجابته جريس إن ذلك ليس هو المقصد، لكنها لم توضح مقصدها. وقد يعتقد أي شخص أنها تقول ذلك لأنها تعمل نادلة، ولأنها فقيرة بدرجة منعتها من الالتحاق بالجامعة، وأنها إن أرادت أن تحظى بزفاف كهذا، فعليها أن تمضي سنوات تدخر النقود حتى تتمكن من إقامة واحد مثله وتسدد هي ثمنه (وقد كان هذا أيضا رأي موري، وغمره شعور بالاحترام تجاهها، بل ربما وصل شعوره إلى درجة التبجيل).
لم تستطع أن تشرح، أو تفهم تماما، أنه ليس الشعور بالغيرة الذي انتابها على الإطلاق، إنما هو الغضب الشديد. ولم يكن منبع ذلك الغضب عدم مقدرتها على التسوق بهذه الطريقة، أو أنها لا تستطيع أن ترتدي مثل ذلك، لكن لأن هذا ما يفترض الآخرون أن تكون عليه الفتيات؛ وهو ما يعتقد الرجال، والناس أجمعين، أنه ما ينبغي أن تكون عليه أي فتاة؛ جميلة، غنية، مدللة، محبة لذاتها، ولا تتسم بأي نوع من الذكاء. هذا ما يجب أن تتصف به الفتاة حتى تجد من يقع في حبها، ثم تصبح أما فيما بعد وتكرس كل مشاعرها لأطفالها؛ وحينها لا تتسم بالأنانية، إنما بالحماقة والغباء، إلى الأبد.
صفحة غير معروفة