من أفضل ما قيل عن الكتاب
الهروب
صدفة
في القريب العاجل
الصمت
عاطفة
الخطايا
الخدع
القوى
من أفضل ما قيل عن الكتاب
الهروب
صدفة
في القريب العاجل
الصمت
عاطفة
الخطايا
الخدع
القوى
الهروب
الهروب
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
نهلة الدربي
مراجعة
علا عبد الفتاح يس
من أفضل ما قيل عن الكتاب
تستحق أليس مونرو عن جدارة لقب أفضل كاتبة روائية في أمريكا الشمالية الآن. ومجموعة «الهروب» ما هي إلا رائعة أخرى من روائعها.
ذا نيويورك تايمز بوك ريفيو
تعتبر مونرو واحدة من أرقى كتاب الرواية المعاصرين، ويمكنك الرجوع إلى أي من القصص الثمانية في المجموعة القصصية «الهروب» لتعرف سبب ذلك.
تايم
مجموعة قصصية مثالية ... تشعرك وكأنها مجموعة مصغرة من الروايات، فحياة الشخصيات التي ترسمها لنا مونرو على هذه الصفحات ثرية وعميقة ومكتملة الجوانب.
شيكاجو تريبيون
أليس مونرو كاتبة تتمتع بالحس المرهف ولديها رؤية عميقة. تقدم لنا مونرو شخصيات واقعية برؤية متسقة.
جائزة قراء مجلة إل
تتمتع أليس مونرو بالحكمة في ضروب العواطف البشرية، كما أن قصصها شديدة الثراء ... حتى إن قصة قصيرة لا تتعدى خمسين صفحة تشعرك بأنها مكتملة الأركان وكأنها رواية طويلة.
جائزة اختيار نقاد مجلة بيبول
هذه المجموعة مليئة بالروائع الصغيرة التي تنير الحياة الواقعية ... إنها عميقة في كثير من النواحي المهمة.
سياتل بوست إنتيليجنسر
هذه المجموعة القصصية أروع من أن يفيها حقها اقتباس أو ملخص؛ السبيل الوحيد لذلك هو قراءتها ... وهو ما يعود بي إلى الجملة التي رددتها كثيرا: اقرءوا أعمال أليس مونرو.
جوناثان فرانزن، ذا نيويورك تايمز بوك ريفيو
مونرو واحدة من عظماء القرن العشرين.
نيوزداي
تنبض هذه القصص بالتألق والحكمة الموجعة، كما تتسم بالطرافة والروعة والمأساوية، وتظل مسيطرة على القارئ لساعات بعد قراءتها مثلها مثل الطقس المحيط به.
هيوستن كرونيكل
مجموعة متميزة مكتوبة ببراعة. تبرع مونرو في نقل الحياة الداخلية. إن أي مجموعة من قصص أليس مونرو بحكمتها ورقتها واستبصارها هي بلا شك متعة.
إنترتينمنت ويكلي
إنها ببساطة تأسر الألباب.
فورت وورث ستار تيليجرام
ليس من الشائع أن تجد قصصا موجعة مثل الجروح، قصصا تخطف الأنفاس، إلا إذا قرأت قصص أليس مونرو ... إن قصصها لا تقدم لنا أفكارا متكررة ولا مجرد حكم مريحة حول اكتساب القوة من خلال الصعاب، بل تقدم لنا إحدى أهم النعم التي يمنحنا إياها الأدب؛ وهي أن يجعل الأشياء التي لا تحتمل محتملة إلى حد ما.
ذا بالتيمور صن
مجموعة قصصية آسرة ... إن مونرو تفعل ما يحلم معظم الكتاب بفعله وتنجح في ذلك، صفحة بعد صفحة، وقصة بعد قصة، ومجموعة بعد مجموعة.
ذي أوريجونيان
هذه المجموعة تمثل مونرو تماما بكل ما تتميز به من أداء استثنائي.
كويل آند كواير
مجموعة قصصية كتبت ببراعة وتتميز بواقعية مذهلة ... فشخصياتها حقيقية للغاية، حتى إنك تراها تنظر إليك على صفحات الكتاب. كنت أضطر إلى إغلاق الكتاب بعد أن أنتهي من قراءة كل قصة حتى أترك هذه التجربة تترسخ في ذهني.
آشلي سيمبسون شايرز، روكي ماونتن نيوز
أليس مونرو كاتبة رفيعة الطراز ... إن قصصها من أثرى القصص على الإطلاق؛ فصداها يتردد مثل أي رواية متميزة.
ذا بلين ديلر
رائعة ... مذهلة ... إن مونرو لم تضعفها السنون، وإنما زادها مرور الزمن ذكاء وفطنة.
فرانسين بروز، مور
مجموعة قصصية تترك أثرا في النفس ولا تنسى.
ذا نيويورك أوبزرفر
ترصد أليس مونرو أسرار النفس البشرية وألغازها، ويستطيع المرء تلمس ما بها من تشويق ... إن عنصر المفاجأة المشوق في الحياة الواقعية التي تصر عليه أليس مونرو دائما - ولها الحق في ذلك - هو ما يشد القارئ إلى النهاية.
لوري مور، ذي أتلانتك منثلي
إن أقصر اللحظات بين يدي أليس مونرو تحوي أهم الحقائق في حياة الإنسان.
ماكلينز
استطاعت مونرو من مجموعة محدودة من المكونات الأساسية أن تغزل بيديها تباديل لا نهاية لها من الرغبات ومشاعر اليأس والآمال الخائبة ووابلا من التجليات ... فكل واحدة من هؤلاء النساء اللاتي ظهرن في قصصها مختلفة عن الأخرى، وهذه روعة أليس مونرو.
ذا فيليدج فويس
تعد هذه المجموعة القصصية عملا إبداعيا لأحد أكثر الأدباء تعمقا في الروح البشرية.
يو إس إيه توداي
تتفوق أليس مونرو على جيمس جويس وتقهر تشيكوف ... كل قصة من قصص هذه المجموعة تحوي تفاصيل حياتية كاملة تكفي لأن تكون رواية بذاتها ... نساؤها يتسمن بالبطولة ... فتلتصق في ذهن القارئ ولا تغادره.
ذا بوسطن جلوب
كما هو حال الكثير من قصص أليس مونرو، عندما نقرؤها نشعر بأن مواقفنا كلها تتغير وتكتسب عمقا. فهل هناك ما هو أفضل من ذلك؟ ... إنه حقا عمل جديد رائع.
لوس أنجلوس تايمز
تثبت العظيمة أليس مونرو مجددا أن كتاب القصة القصيرة لا يملكون إلا الانحناء لها إجلالا وتقديرا.
فانيتي فير
إلى ذكرى صديقاتي
ماري كاري
جين ليفرمور
ميلدا بيوكانن
الهروب
سمعت كارلا صوت السيارة وهي قادمة حتى قبل أن تعتلي ذلك المرتفع الصغير في وسط الطريق، والذي يطلقون عليه التل هنا في الجوار. إنها هي، هكذا قالت لنفسها. رأت السيدة جاميسون - سيلفيا - في طريقها إلى منزلها بعد أن أمضت إجازتها في اليونان. ومن خلال باب الإسطبل - حيث وقفت مبتعدة حتى لا يستطيع أن يلمحها أحد بسهولة - راحت ترقب الطريق الذي كان على السيدة جاميسون أن تقطعه بالسيارة؛ فقد كان منزلها يبعد حوالي نصف ميل بطول الطريق عن منزل كلارك وكارلا.
ولو أن أحدا على وشك الانعطاف بسيارته مقتربا من بوابة منزلهم، لكان عليه أن يهدئ من سرعته الآن، ولكن لا يزال الأمل يداعب كارلا، فقالت في نفسها: «ليتها لا تكون هي.»
ولكنها كانت هي بالفعل. التفتت السيدة جاميسون مرة واحدة صوب منزل كارلا بسرعة - وقد كانت تبذل أقصى ما تستطيع وهي تراوغ بسيارتها عبر الحفر الصغيرة والأوحال التي خلفها المطر على الأرض المفروشة بالحصى - بيد أنها لم ترفع يدها عن عجلة القيادة لتلوح بها؛ إذ إنها لم تلحظ كارلا. لمحت كارلا ذراعها المكتسبة سمرة من الشمس وقد كشفت عنها حتى كتفها، وشعرها وقد أضحى فاتحا عن ذي قبل؛ فقد أصبح يميل أكثر الآن إلى اللون الأبيض منه إلى اللون الأشقر الفضي، وقد لمحت أيضا تعبيرا ينم عن الإصرار والحنق، وقد كانت هي نفسها منشغلة بهذا الحنق، تماما على النحو الحري بالسيدة جاميسون وهي تقطع مثل هذا الطريق. عندما أدارت السيدة جاميسون رأسها كان هناك شيء أشبه بالنظرة اللامعة - التي تشي بالتساؤل والأمل - وهو الأمر الذي جعل كارلا تجفل.
إذن.
ربما لم يعلم كلارك بقدومها بعد. إن كان يجلس أمام جهاز الكمبيوتر، فلا بد وأن ظهره كان باتجاه النافذة والطريق.
ولكن قد تضطر السيدة جاميسون إلى أن تقطع رحلة أخرى، فربما لم تتوقف عند أي من محال البقالة لابتياع احتياجاتها وهي في طريقها من المطار إلى المنزل؛ إذ إنها لن تفعل حتى تصل إلى المنزل وترى ما الذي تحتاجه؛ وعندئذ قد يراها كلارك، أو قد يعرف بقدومها عندما يهبط الظلام وتضاء أنوار منزلها، ولكنه شهر يوليو، ولا يحل الظلام حتى وقت متأخر، وربما يواتيها الشعور بالتعب والإرهاق فلا تحفل بأمر الأضواء، وقد تأوي إلى الفراش مبكرة.
ولكنها من ناحية أخرى، قد تهاتفهم في أي وقت من الآن. •••
إنه موسم الأمطار، بل الأمطار الغزيرة؛ فهي أول شيء يترامى إلى مسامعك في الصباح؛ حيث تتساقط زخاتها محدثة صوتا عاليا على سطح المنزل المتنقل. وترى الطرق وقد تراكمت بها الأوحال، والحشائش الطويلة غمرتها مياه المطر، وأوراق الشجر تبعث بالماء المنهمر على نحو عشوائي بين الحين والآخر حتى في تلك الأوقات التي لا تنهمر خلالها الأمطار وتبدو السماء وكأنها في سبيلها إلى الصفاء. وكانت كارلا كلما ذهبت للخارج في ذلك الوقت ترتدي تلك القبعة العالية العريضة من اللباد ذات الطابع الأسترالي القديم، وتدس بجديلتها الكثيفة الطويلة داخل القميص الذي ترتديه.
لم يأت أحد لتلقي دروس الفروسية وتعلم ركوب الخيل عبر الطرق الوعرة، بالرغم من أن كلارك وكارلا جابوا حول المدينة واضعين الملصقات في كل المخيمات، والمقاهي، واللوحات الإعلانية المخصصة للسائحين، وفي أي مكان آخر يرد على أذهانهم. ولم يأت للدروس سوى بضعة تلاميذ، وكانوا من المجموعة التي تتردد بانتظام، وليسوا من مجموعات أطفال المدارس التي تمضي عطلاتها الصيفية، أو ممن تقلهم الحافلات من المخيمات الصيفية ، وهو ما جعلهم مشغولين كثيرا خلال الصيف الماضي. وحتى طلاب تلك المجموعة المنتظمة التي كانوا يعتمدون عليها، كان منهم من يأخذ إجازة من الدروس من أجل القيام برحلات أيام العطلة، أو من كان يلغي ببساطة تلك الدروس بسبب أحوال الطقس غير المشجعة، وإذا ما حدث واعتذر أحدهم في وقت متأخر، فإن كلارك كان يطالبه بثمن الوقت المهدر على أي حال. وحدث أن تذمر اثنان منهما، وغادرا بلا رجعة.
ولكن لا يزال هناك بعض الدخل يأتي إليهم من وراء العناية بثلاثة خيول. وكانت تلك الخيول الثلاثة، إضافة إلى الخيول الأربعة التي يمتلكونها تتجول بالخارج الآن، وتجوب بحرية في الحقول وسط الحشائش التي تظللها الأشجار. وبدا وكأنها لا تهتم بملاحظة توقف الأمطار في تلك اللحظة، وهو ما اعتادت عليه لبرهة في معظم الأيام خلال فترة ما بعد الظهيرة. أضحت السحب أكثر بياضا وصفاء، وسمحت بتخلل بعض الضوء خلالها بما يكفي لترتفع المعنويات، ولكنه ضوء خافت لا يصل إلى درجة إشراقة الشمس، بل سرعان ما يذوي قبل موعد العشاء.
انتهت كارلا من إزالة الروث من الإسطبل. واستغرقت وقتها المعتاد - فهي تهوى إيقاع أعمالها الروتينية اليومية، والمسافة العالية أسفل سقف الإسطبل، والروائح المنتشرة في المكان - وها هي قد ذهبت الآن لتتفقد حلقة التدريبات وترى مدى جفاف الأرض، وذلك في حال قدوم تلميذ الساعة الخامسة للتدريب.
معظم الأمطار التي تهطل بانتظام ليست أمطارا غزيرة على وجه الخصوص، ولا تصاحبها أي رياح، غير أنه حدث في الأسبوع الماضي أن نشطت الرياح نشاطا مفاجئا، وأعقبها هبوب عاصفة شديدة راحت تهز قمم الأشجار العالية وصاحبها هطول أمطار غزيرة. وفي غضون ربع ساعة، كانت الرياح قد هدأت، ولكن سقطت من جرائها بعض فروع الأشجار وتمددت بعرض الطريق، وهوت خطوط الطاقة الكهربائية المائية، وتمزق جزء كبير من السقيفة البلاستيكية التي تظلل حلقة التدريب. وتجمعت المياه مكونة بركة صغيرة أشبه بالبحيرة في نهاية مضمار التدريب، وعكف كلارك على العمل إلى ما بعد حلول الظلام وهو يحاول حفر قناة لتصريف تلك المياه .
ولم يقم كلارك بإصلاح السقف إلى الآن، ولكنه وضع سياجا من الأسلاك حول حلقة التدريب حتى لا تدلف الخيول وسط الأوحال، ووضعت كارلا علامات جديدة لتحديد مضمار أصغر للتدريب.
جلس كلارك يبحث عبر مواقع الإنترنت عن مكان يبتاع منه سقيفة، كأحد منافذ بيع الأشياء المستعملة، التي تعرض أسعارا في متناول أيديهما، أو عن طريق شخص ما يريد الاستغناء عن مثل هذه المواد ويعرضها للبيع. فهو لن يذهب إلى متجر هاي آند روبرت باكلي لمواد البناء في المدينة، والذي يطلق عليه متجر اللصوص والمنحرفين على الطريق السريع؛ فهو يدين لهم بالكثير من المال، علاوة على أنه قد تشاجر معهم من قبل.
ولا يتشاجر كلارك مع الأشخاص الذين يدين لهم بالأموال فحسب؛ فأسلوبه الودود الكيس، والذي يكون رائعا في البداية، قد ينقلب فجأة إلى غضب شديد؛ فهناك على سبيل المثال بعض الأماكن التي لا يمكن أن يذهب إليها بسبب شجار ما، ويجعل كارلا تنوب عنه في ذلك. ومن بين هذه الأماكن متجر الأدوية؛ فقد حدث ذات مرة أن دفعت سيدة عجوز نفسها في صف الانتظار وتقدمته - كانت قد عادت لتأخذ شيئا نسيته ورجعت مرة أخرى ودفعت بنفسها للأمام بدلا من أن تقف في نهاية الصف - وعندئذ تذمر كلارك واشتكى، فقال له الكاشير: «إنها تعاني من انتفاخ الرئة.» فقال كلارك: «أحقا هو الأمر كذلك؟ وأنا عن نفسي أعاني من البواسير.» واستدعي المدير المسئول وقال إن هذا ليس له داع على الإطلاق. وفي المقهى الذي يقع على الطريق السريع لم يحصل على الخصم المعلن عنه على وجبة الإفطار؛ وذلك لأن الساعة كانت قد جاوزت الحادية عشرة صباحا، واعترض كلارك على ذلك، ورمى قدح القهوة الذي طلبه على الأرض، والذي أوشك أن يصيب طفلا في عربته كما قال القائمون على المقهى، فأجابهم بأن الطفل يبعد عن القهوة مسافة نصف ميل، وأن قدح القهوة سقط من يده لأنهم لم يقدموه بالسوار الخاص به، فأجابوه بأنه لم يطلبه، فرد بأنه لا ينبغي له أن يفعل.
قالت كارلا : «إنك تستشيط غضبا.»
قال: «هكذا يتصرف الرجال.»
ولم تنبس ببنت شفة عن شجاره مع جوي تاكر. وجوي تاكر هي أمينة مكتبة في المدينة تحتفظ بفرسها لديهما ليوفرا لها العناية اللازمة. كانت الفرس كستنائية اللون، حادة الطباع، تسمى ليزي، وتطلق عليها جوي تاكر - عندما تكون في حالة مزاجية جيدة - ليزي بوردن. وبالأمس توقفت لتلقي نظرة على الفرس، ولم تكن في حالة مزاجية جيدة، وراحت تشتكي بشأن السقف الذي لم يصلح بعد، ومظهر ليزي الذي يبدو مزريا، كما لو أنها مصابة بالبرد.
وفي حقيقة الأمر، لم يكن ثمة مشكلة تتعلق بليزي. وقد حاول كلارك من جانبه أن يلطف الأمر حتى لا يفقد أعصابه، ولكن كانت جوي تاكر هي من انفجرت غاضبة، وقالت إن المكان ليس سوى مقلب للنفايات، وإن ليزي تستحق ما هو أفضل من ذلك، فرد كلارك قائلا: «افعلي ما يتراءى لك.» ولم تأخذ جوي ليزي من المكان - أو أنها لم تفعل بعد - كما توقعت كارلا. وقد رفض كلارك - الذي كان يعامل الفرس كأنها حيوانه الأليف - أن يواصل اهتمامه بها. وحزنت الفرس نتيجة لتغير المعاملة، فأصبحت أكثر عنادا وتشبثا أوقات التدريبات، وصارت تحدث جلبة كبيرة عند تقليم حوافرها، كما يفعلان كل يوم خشية نمو الفطريات. وكان على كارلا أن تحترس من عضة الفرس.
ولكن الشيء الأسوأ في اعتقاد كارلا هو غياب فلورا؛ وهي النعجة البيضاء الصغيرة التي تصاحب الخيل في الإسطبل وفي الحقول. فلم تلمح لها أثرا منذ يومين، وتخشى كارلا أن يكون أحد الكلاب الشرسة أو ذئاب القيوط قد افترسها، أو حتى أن يكون قد فتك بها دب.
كانت قد رأت فلورا في أحلامها الليلة الماضية والليلة قبل الماضية. في الحلم الأول رأت فلورا وهي تقترب نحو الفراش وفي فمها تفاحة حمراء، ولكن في الحلم الثاني - ليلة البارحة - جرت فلورا مبتعدة عندما رأت كارلا تتجه نحوها. وبدت رجلها مصابة، ورغم ذلك هرولت مبتعدة. قادت فلورا كارلا إلى حاجز من الأسلاك الشائكة من ذلك النوع الذي تراه في ساحة المعارك، ثم تسللت فلورا خلاله، وقد جرحت ساقها ومعظم جسدها، ولكنها انزلقت خلاله مثل ثعبان البحر الأبيض وغابت عن النظر.
لمحت الخيول كارلا وهي تمر عبر حلقة التدريبات، وتحركت جميعها حتى وصلت إلى السياج لكي تراها كارلا في اتجاه عودتها، وقد بدت الخيول متسخة بعض الشيء بالرغم من أغطيتها الجديدة الواردة من نيوزيلاندا. تحدثت إليها كارلا بصوت خفيض، واعتذرت لأنها جاءت خالية الوفاض. أخذت كارلا تربت على أعناقها وتمسح على أنوفها برفق وتسألها إن كانت تعلم شيئا عن فلورا.
أصدر جريس وجونيبر صهيلا عاليا، وراحا يحركان أنفيهما لأعلى كما لو أنهما قد أدركا الاسم ويشاركانها القلق، ولكن ليزي دفعت برأسها بينهما وأخذت تدق برأسها على رأس جريس حتى تبعدها عن يد كارلا التي تربت عليها، بل إنها عضت يدها، وأمضت كارلا بعدها بعض الوقت في توبيخها. •••
حتى ثلاث سنوات مضت لم تكن كارلا تفكر في أمر المنازل المتنقلة، بل إنها لم تكن تطلق عليها مثل هذا الاسم أيضا. ومثلها كمثل والديها، كانت تنظر إليها كشيء ينم عن التكلف والمظهرية؛ فهناك بعض الأفراد يعيشون في عربات سكنية جاهزة، هذا كل ما في الأمر. ولم تكن هناك عربة سكنية تختلف عن الأخرى؛ فكلهم سواء، ولكن عندما انتقلت كارلا للعيش هنا، واختارت هذه الحياة مع كلارك، بدأت ترى الأشياء بطريقة مختلفة، فأخذت تردد تعبير المنزل المتنقل، وتلاحظ كيف يجهزونه ويعدونه؛ تلاحظ مثلا أنواع الستائر التي يعلقونها، والطريقة التي يتم بها طلاء الأطراف التزيينية، وكيفية إعداد الأرضيات والأفنية الداخلية، وبناء المزيد من الغرف. ولم تطق صبرا حتى تدخل هي الأخرى تلك التحسينات.
وقد شاركها كلارك أفكارها لفترة؛ فقد قام بتركيب بضعة سلالم جديدة، فاستغرق بعض الوقت وهو يبحث عن درابزين من الحديد المطوع. ولم يشتك بشأن النقود التي أنفقها على طلاء المطبخ، أو دورة المياه، أو شراء بعض المواد اللازمة من أجل الستائر. وكانت كارلا تقوم بمهام الطلاء على عجل آنذاك، فلم تكن تعرف وقتها أنه ينبغي نزع مفصلات باب الخزانة قبل طلائها، أو أنه يتعين تبطين الستائر، التي بهت لونها الآن بعد مرور كل هذا الوقت.
ولكن الأمر الذي عارضه كلارك هو التخلص من الأبسطة، التي كانت متشابهة في كل غرفة، وهو الشيء الذي رغبت في تغييره بشدة. لقد كان البساط مقسما إلى مربعات بنية صغيرة، وكل مربع يحتوي على أنماط وخطوط مائلة وأشكال بنية اللون بلون الصدأ. وقد اعتقدت لفترة طويلة أن الخطوط المائلة والأشكال منظمة بنفس الطريقة داخل كل مربع، ثم كان لديها الوقت الكافي فيما بعد - بل وقتا طويلا - لكي تركز انتباهها وتتأملها جيدا، ثم فطنت إلى أن هناك أربعة نماذج وأشكال مجتمعة معا لتكون مربعات كبيرة متماثلة. وكانت تستطيع في كثير من الأحيان أن تلمح ذلك النسق بسهولة، وفي أحايين أخرى كانت تستغرق بعص الوقت لكي تتبينه مرة أخرى.
لقد كانت تفعل ذلك وقت سقوط الأمطار، وعندما يكون مزاج كلارك معتلا بدرجة تملأ المنزل بالكآبة، ولا يريد أن يعير اهتمامه لأي شيء سوى شاشة جهاز الكمبيوتر، فإنه كان من الأفضل بالنسبة لها أن تختلق أو تتذكر عملا تؤديه في الإسطبل. ومن عادة الخيل ألا تلتفت إليها عندما تبدو حزينة، ولكن فلورا - التي لم يكن من عادة كارلا أن تقيدها قط - هي الوحيدة التي كانت تقترب منها وتتمسح بها، وتنظر إليها بعينين خضراوين لامعتين تميل إلى الصفرة بتعبير هو أقرب إلى سخرية ودودة منه إلى التعاطف.
كانت فلورا لا تزال صغيرة عندما أحضرها كلارك من إحدى المزارع التي ذهب إليها لمساومة أصحابها على شراء أطقم للأحصنة، كان هؤلاء الأشخاص ممن سئموا حياة الريف، أو على الأقل من تربية الحيوانات، وقد أفلحوا في بيع الخيول، ولكنهم لم يستطيعوا التخلص من الماعز. كان كلارك قد سمع عن قدرة الماعز على جلب الإحساس بالراحة والطمأنينة داخل الإسطبل؛ لذا أراد أن يجرب ذلك، وكانا ينتويان أن يجعلا النعجة تتزاوج، ولكن لم تبد عليها أي من علامات البلوغ.
كانت فلورا في أول الأمر أشبه بحيوان كلارك المدلل، تتعقبه في كل مكان، وتحدث جلبة من أجل أن تلفت انتباهه، فكانت سريعة ورشيقة، ومحبة للعب كهريرة، وأشبه بفتاة ساذجة واقعة في الحب، وهو ما كان يدفعهما إلى الضحك. ولكن عندما تقدمت في العمر، أضحت أكثر ارتباطا بكارلا، ومن خلال ذلك الارتباط أصبحت فجأة أكثر استكانة، وأقل نشاطا ولعبا، وبدت قادرة على إظهار بعض من الدعابة والسخرية غير الصاخبة. كان أسلوب كارلا في معاملة الخيول ينطوي على الرفق والحزم، وأقرب إلى الأمومة، ولكن كانت رفقة فلورا مختلفة تماما، فلم تكن تسمح لكارلا بأي شعور بالسيادة عليها.
قالت وهي تخلع الحذاء الخاص بالإسطبل: «أما من أخبار بشأن فلورا؟» فقد كان كلارك قد نشر إعلانا على شبكة الإنترنت يحمل عنوان «نعجة مفقودة».
أجابها بلهجة تنم عن انشغاله، ولكنها تحمل بعض الود في ذات الوقت: «ليس بعد.» وكان في رأيه - وليست هي المرة الأولى التي يعبر فيها عن ذلك - أن فلورا قد ذهبت لتبحث لنفسها عن شريك للتزاوج.
ليس ثمة خبر عن السيدة جاميسون. أوقدت كارلا الغلاية، وكان كلارك يتمتم ببعض الكلمات لنفسه كما كان يفعل عادة وهو يجلس أمام شاشة الكمبيوتر.
كان يتحدث إلى الجهاز في بعض الأحيان، وقد يتفوه بكلمة «هراء» عندما يواجه صعوبة أو تحديا ما، أو قد ينفجر ضاحكا على مزحة، ولكنه لا يتذكرها عندما تسأله عنها فيما بعد.
نادته كارلا قائلة: «هل تريد قدحا من الشاي؟» ولدهشتها الشديدة وجدته قد نهض من مكانه واتجه صوب المطبخ.
قال: «إذن كارلا ...» «ماذا؟» «إذن، فقد اتصلت.» «من؟» «جلالة الملكة؛ الملكة سيلفيا، لقد عادت لتوها.» «لم أسمع صوت سيارتها.» «لم أسألك إن كنت قد سمعت.» «إذن ما الشيء الذي اتصلت من أجله؟» «لقد كانت تريدك أن تذهبي وتساعديها في ترتيب المنزل. هذا هو ما قالته. غدا.» «وبماذا أجبتها؟» «لقد قلت لها: بكل تأكيد، ولكن من الأفضل أن تحادثيها بنفسك وتؤكدي على ذلك.»
قالت كارلا وهي تصب الشاي في الأقداح: «ولم أفعل طالما أنك أخبرتها بذلك؟ لقد قمت بتنظيف المنزل بالفعل قبل أن تغادره، ولا أدري ما الذي يمكن أن أفعله ثانية بهذه السرعة.» «لا تدرين، ربما تكون قد تسللت إلى المنزل بعض حيوانات الراكون وأحدثت بعض الفوضى.»
ردت قائلة: «لست مضطرة لمحادثتها في التو واللحظة، فأنا أريد أن أحتسي الشاي، ثم آخذ حماما.» «لو عجلت بالأمر لكان أفضل.»
أخذت كارلا قدح الشاي معها إلى الحمام وهي ترد عليه قائلة: «علينا أن نذهب إلى المغسلة؛ فالمناشف عطنة الرائحة بالرغم من أنها قد جفت.»
قال: «لا تديري دفة الحديث يا كارلا.»
وحتى بعد أن دخلت بالفعل لتأخذ حمامها وقف هو خلف الباب وقال لها: «لن أسمح لك بالهروب من مسئولياتك يا كارلا.»
اعتقدت كارلا بعدما انتهت من حمامها أنه ربما لا يزال واقفا في مكانه، ولكنه عاد ليجلس أمام شاشة الكمبيوتر. ارتدت ملابسها كما لو أنها ذاهبة إلى المدينة، وأملت في أنهما لو تمكنا من الخروج وذهبا إلى المغسلة، وجلسا في أحد المقاهي، فمن الممكن حينها أن يتحدثا بأسلوب مختلف، وأن تخف حدة التوتر ويسود بعض الهدوء. اتجهت نحو غرفة المعيشة بخطوة رشيقة وطوقته بذراعيها من الخلف، ولكن بمجرد أن فعلت ذلك اعترتها موجة من الحزن - ربما كانت حرارة المياه هي ما جعلتها تطلق العنان لدموعها - وانحنت أمامه وهي تبكي منهارة.
رفع يده عن لوحة المفاتيح، ولكنه لم يحرك ساكنا.
قالت: «لا تغضب مني.»
رد قائلا: «لست غاضبا، أنا فقط أكره تصرفك على هذا النحو، هذا كل ما في الأمر.» «إنني أفعل هذا لأنك غاضب.» «لا تملي علي الحالة التي أنا عليها، إنك تخنقينني. فلتعدي طعام العشاء.»
كان هذا هو ما قامت به بالفعل؛ إذ كان من الواضح أن متدرب الساعة الخامسة لن يأتي. أحضرت حبات البطاطس وشرعت في تقشيرها، ولم تتوقف دموعها عن الانهمار، حتى إنها لم تكن تتبين ما تفعله. جففت وجهها بمنديل ورقي، ثم سحبت منديلا آخر لتأخذه معها وذهبت للخارج وسط الأمطار. لم تتجه نحو الإسطبل؛ لأنه كان كئيبا دون فلورا، بل سارت عبر الممر في اتجاه الغابة، وكانت الخيول في الحقل الآخر، وقد اقتربت من السياج لمشاهدة كارلا. وكانت كل الخيول - ما عدا ليزي التي أخذت تثب بأرجلها وتصهل - تفهم جيدا أنها تركز انتباهها في مكان آخر. •••
بدأ الأمر كله عند قراءة ذلك النعي؛ النعي الخاص بالسيد جاميسون. لقد كان ذلك في جريدة المدينة، وعرضت صورته في أخبار المساء. قبل هذا بنحو عام لم يعرفا عن عائلة جاميسون سوى أنهم بعض الجيران المنغلقين على أنفسهم. كانت السيدة جاميسون تدرس علم النباتات في الجامعة التي تبعد عن مسكنهم بنحو أربعين ميلا؛ لذا كان عليها أن تمضي وقتا طويلا في الطريق، أما السيد جاميسون، فقد كان شاعرا.
كان الجميع يعرفون عنهم نفس القدر من المعلومات، إلا أن السيد جاميسون بدا مشغولا بأشياء أخرى؛ لقد كان قوي البنيان صارما ويتميز بالنشاط والخفة برغم كونه شاعرا ورجلا متقدما في العمر، ربما يكبر السيدة جاميسون بنحو عشرين عاما. كان قد طور نظام الصرف بمنزله، ونظف المجرى المائي وفرشه بالصخور، وحرث حديقة المنزل وزرعها بالخضراوات وأحاطها بسياج، علاوة على أنه حفر ممرات عبر الغابة، وكان يعتني بكل ما هو بحاجة للإصلاح في منزله.
لقد كان منزلهم ثلاثي الأضلاع على نحو غريب، شيده بمعاونة بعض أصدقائه منذ سنوات عدة على أطلال بيت مزرعة قديم. وقد قال عنهم البعض إنهم من الهيبيز، رغم أن السيد جاميسون كان كبيرا في السن لدرجة لا تسمح له بأن ينتمي لهذه الحركة الشبابية، حتى قبل وجود السيدة جاميسون. وهناك قصة أخرى يتداولها الناس عن زراعتهم لمخدرات الماريجوانا في الغابة، وقيامهم ببيعها، وإخفاء النقود في برطمانات محكمة الغلق من الزجاج مدفونة حول مسكنهم. سمع كلارك بهذه القصة من أشخاص تعرف عليهم في المدينة، ولكنه عقب بأن ذلك ما هو إلا هراء.
وأضاف: «وإلا لكان أحدهم قد تسلل وحفر الأرض وأخرج النقود منذ زمن طويل؛ فلا بد وأن هناك من كان يستطيع أن يجد طريقة تجعله يفصح عن مكان النقود.»
عندما قرأ كل من كارلا وكلارك النعي الخاص علما لأول مرة بأن السيد ليون جاميسون كان قد حصل على جائزة مالية ضخمة قبل وفاته بنحو خمس سنوات؛ نالها عن كتابة الشعر، ولم يذكر أحد شيئا عن هذا مطلقا من قبل. يبدو أن الناس تصدق أن ثمة أموالا مخبأة في برطمانات زجاجية مصدرها تجارة المخدرات، ولا تقتنع بأن النقود يمكن أن تأتي من كتابة الشعر.
بعد الوفاة بفترة قصيرة قال كلارك: «كان من الممكن أن نجعله يدفع لنا بعض النقود.»
أدركت كارلا على الفور ما يرمي إليه، ولكنها أخذت الحديث على محمل المزاح.
وقالت: «لقد فات أوان ذلك، لا يمكنك دفع النقود بعد الوفاة.» «ربما لا يستطيع هو أن يدفع، إنما هي بمقدورها.» «لقد ذهبت إلى اليونان.» «إنها لن تمكث في اليونان إلى الأبد.»
ردت كارلا بهدوء أكثر: «إنها لا تعلم شيئا.» «لم أقل إنها تعلم.» «ليس لديها أدنى فكرة عن الأمر.» «يمكننا معالجة ذلك الأمر.»
ردت كارلا: «لا، لا يمكن ذلك.»
استمر كلارك في حديثه كما لو أنه لا ينصت إليها بالمرة.
فقال: «بإمكاننا أن نقول إننا سنلجأ إلى القضاء؛ فالناس تحصل على النقود من وراء تلك الأمور طوال الوقت.» «كيف تفعل ذلك؟ ليس بإمكانك مقاضاة رجل ميت.» «سأهدد بالذهاب للصحف. شاعر مرموق ذو مكانة، وستتهافت الصحف على هذا الخبر. كل ما علينا أن نهدد بذلك وستنهار على الفور وتستسلم تحت الضغط.»
قالت كارلا: «لا بد وأنك تتخيل، أنت تمزح بالقطع.»
رد كلارك: «لا، لا أمزح في الواقع.»
أخبرته كارلا أنها لا تريد أن تتحدث بشأن هذا الأمر مرة أخرى، فوعدها كلارك بألا يفعل.
ولكنهما تحدثا بالفعل بشأنه في اليوم التالي، بل وفي اليوم الذي يليه ولعدة أيام بعدها. لقد كانت تراوده في بعض الأحيان أفكار وآراء غير قابلة للتطبيق، بل إنها قد تكون غير قانونية على الإطلاق، وكان يعبر عنها بشغف متزايد ثم يطرحها جانبا دون أن تدري ما السبب. لو كانت الأمطار توقفت، أو تحول اليوم إلى مجرد يوم صيفي طبيعي، لتخلى هو عن فكرته كغيرها من الأفكار، لكن ذلك لم يحدث، وظل طوال الشهر الماضي يضرب على نفس الوتر كما لو أن الأمر يتسم بالجدية ومن الممكن تنفيذه على نحو مثالي. وكان السؤال المطروح هو كم من الأموال يمكن أن يطلباها؟ فلو طلبا مبلغا ضئيلا، فقد لا تأخذ السيدة حينها الموضوع مأخذ الجد، وتعتقد أنهما يخدعانها، وفي الوقت نفسه لو كان المبلغ ضخما، فربما تجفل وترفض وتصبح أكثر عنادا.
توقفت كارلا عن قولها بأن الأمر مجرد مزحة، وبدلا من ذلك، أخذت تخبره بأنه لن ينجح؛ لسبب واحد؛ وهو أن الناس يتوقعون أن يكون سلوك الشعراء على هذا النحو؛ لذا فالأمر لن يستحق سداد أي نقود للتغطية على الأمر وإخفائه.
فقال كلارك إنه من الممكن أن ينجح لو نفذ على نحو سليم؛ فكل ما على كارلا أن تفعله هو أن تتصنع الانهيار وتقص على السيدة جاميسون القصة بأكملها، ثم يتحرك كلارك بعدها، كما لو أنه اكتشف الأمر لتوه، ثم بعد ذلك ينفجر غاضبا، ويهدد بأن يخبر العالم كله، بل سيجعل السيدة جاميسون هي التي تعرض النقود. «لقد جرحت؛ إذ تحرش بك ولحق بك الخزي والعار، وتأذيت أنا بدوري وشعرت بالخزي والمهانة لأنك زوجتي. إنها مسألة كرامة واحترام.»
كرر عليها هذا الحديث بهذا الأسلوب مرارا وتكرارا، وحاولت أن تثنيه عن ذلك ولكن بلا جدوى، فقد كان مصرا.
قال: «اتفقنا؟» فردت: «اتفقنا.» •••
كل هذا بسبب ما قد كانت تحكيه له، وهي أشياء لا تستطيع أن تتراجع عنها أو تنكرها الآن. «كان يظهر اهتمامه بي في بعض الأحيان.» «الرجل العجوز؟» «أحيانا كان يدعوني إلى غرفته عندما لا تكون زوجته هناك.» «نعم.» «عندما كانت تذهب للتسوق، ولا تكون الممرضة موجودة أيضا.»
لقد كان ذلك بمثابة إلهام وفكرة جديدة منها، مما أسعده على الفور. «وماذا كنت تفعلين حينها؟ هل كنت تدخلين إليه؟»
تصنعت الخجل وقالت: «في بعض الأحيان.» «هل كان يستدعيك لغرفته إذن يا كارلا؟ ثم ماذا؟» «كنت أذهب لأرى ماذا يريد.» «وماذا كان يريد؟»
كانت كل تلك الأسئلة والإجابات تدور بينهما بهمس، حتى لو لم يكن هناك أحد يسمع، حتى عندما يكونان في أرض أحلامهما البعيدة ... في الفراش. كانت كقصة ما قبل النوم؛ حيث تصبح التفاصيل أكثر أهمية، وبحاجة إلى إضافات في كل مرة، وكل ذلك بإحجام وممانعة يشوبهما الإقناع، وبخجل وضحكات، بل وبذاءة. ولم يكن هو وحده الذي يشعر بالشغف والإثارة والامتنان، بل كانت هي أيضا كذلك؛ كانت حريصة على أن تسعده وتجعله يشعر بالإثارة، وأن تشعر هي نفسها بالإثارة، وكانت تشعر بالامتنان في كل مرة كان ينجح فيها هذا الأمر.
ولكن في جانب من عقلها كان ذلك حقيقيا؛ فقد كانت ترى ذلك العجوز الشهواني، وحركاته المشينة أسفل الملاءة، حيث كان طريح الفراش حقا، ولا يتحدث كثيرا في الغالب، ولكنه كان ماهرا في لغة الإشارة، ويعبر عن رغبته وهو يحاول أن يكزها أو يتلمسها؛ لكي يدفعها أن تشاركه فيما يريده من أفعال وعلاقة حميمية. لقد كان رفضها ضرورة، ولكنه مخيب لآمال كلارك إلى حد ما وبطريقة غريبة.
وبين الحين والآخر تأتي على ذهنها فكرة تحاول قمعها خشية أن تفسد كل شيء؛ فقد كانت تفكر في ذلك الجسد الهزيل الملفوف بالملاءة، وهو تحت تأثير المخدر ويزداد انكماشا كل يوم في فراش المستشفى المستأجر، والذي لم تلمحه سوى مرات قليلة عندما تنسى السيدة جاميسون أو الممرضة إغلاق باب الغرفة، وكانت هي ذاتها لا تقترب منه بما هو أكثر من ذلك.
وفي واقع الأمر، كانت تخشى الذهاب إلى منزل عائلة جاميسون، لكنها كانت بحاجة إلى النقود، وكانت تشعر بالأسف من أجل السيدة جاميسون التي كانت تبدو كما لو كانت ممسوسة أو مرتبكة، كما لو كانت تسير وهي نائمة. ولمرة أو مرتين انفجرت كارلا ضاحكة وفعلت أشياء تافهة لمجرد أن تلطف الأجواء، وهو الشيء الذي تفعله مع أي متدرب جديد يمتطي الحصان لأول مرة ويشعر بالإحراج والخزي بسبب قلة مهاراته، وكانت تفعل نفس الشيء مع كلارك عندما لا تكون حالته المزاجية على ما يرام، ولكن لم يعد الأمر يفلح معه، غير أن قصة السيد جاميسون كانت قد نجحت، بالقطع ودون شك. •••
ليس ثمة وسيلة لتفادي تلك الأوحال المتراكمة في الممر، أو الحشائش الطويلة المغمورة بطول الطريق، أو نباتات الجزر التي أينعت حديثا، ولكن الهواء كان دافئا بدرجة لم تشعر معها بأي برودة. لقد ابتلت ملابسها كما لو أنها كانت بسبب العرق المتساقط منها أو بسبب دموعها التي انسابت على وجهها واختلطت برذاذ المطر. خفت دموعها الآن، ولم تجد شيئا تمسح به أنفها - فلقد تشبعت المناديل الورقية بالمياه - فانحنت نحو الأرض المغطاة بالأوحال وأخرجت ما في أنفها بقوة.
رفعت رأسها وراحت تطلق صفيرا طويلا كالذي اعتادت عليه لتنادي على فلورا وعلى كلارك أيضا. انتظرت بضع دقائق ثم أخذت تنادي باسمها، وراحت تكرر ذلك عدة مرات؛ فتنادي على الاسم وتطلق صفيرها.
ولم ترد عليها فلورا.
وبرغم هذا، كان هناك إحساس بالارتياح لشعورها بأن الألم الذي تشعر به الآن ما هو إلا لفقد فلورا - ربما فقدها للأبد - وذلك مقارنة بالفوضى التي اجتاحتها بشأن موضوع السيدة جاميسون وتعاستها المتأرجحة مع كلارك. على الأقل لم يكن غياب فلورا بسبب غلط اقترفته كارلا. •••
في المنزل، لم يكن هناك ما تفعله سيلفيا سوى أن تفتح النوافذ فحسب، وأن تفكر - بشغف أثار خشيتها دون أن يكون سببا في دهشتها - في موعد مجيء كارلا.
تم التخلص من كل الأدوات التي كان يستعملها في فترة المرض، وتنظيف غرفة النوم الخاصة به هو وسيلفيا - وهي الغرفة التي توفي بها - وترتيبها وكأن شيئا لم يحدث فيها. لقد ساعدت كارلا في كل ذلك، وعاونت بكل طاقتها أثناء تلك الأيام العصيبة ما بين حرق الجثة والسفر إلى اليونان. وقد جمعوا كل قطعة من الملابس التي ارتداها ليون وتلك التي لم يرتدها - بما في ذلك بعض الهدايا التي أهدتها له أخته والتي ما زالت في تغليفها - وحزموها داخل حقيبة السيارة وأعطوها «لمحل بيع الأشياء المستعملة». وحتى أقراص الدواء الخاصة به، وأدوات الحلاقة، وزجاجات المقويات التي لم تفتح، والتي كانت تقيم أوده طيلة الوقت، وعلب مقرمشات السمسم التي كان يتناول منها بالعشرات، وزجاجات الملطف البلاستيكية التي كانت تريح ظهره، وجلد الغنم الذي كان يضطجع عليه؛ فقد جمعت في أكياس القمامة وتم التخلص منها، ولم تحاول كارلا أن تقول أي شيء؛ فلم تقل قط: «ربما يمكن أن يستفيد منها شخص آخر.» أو أن تشير إلى أن هناك صندوقا بأكمله من زجاجات الدواء لم يفتح بعد. وعندما قالت سيلفيا: «ليتني لم آخذ الملابس إلى المدينة، ليتني قمت بإحراقها جميعا في المحرقة.» لم تعبر كارلا عن دهشتها.
ثم قاموا بتنظيف الموقد، وتنظيف الخزانة، وغسلوا كل الجدران والنوافذ. وفي أحد الأيام كانت سيلفيا تجلس في غرفة المعيشة تتصفح رسائل التعزية التي تلقتها (لم يكن هناك وجود لأي مجموعة من الأوراق أو المفكرات، كما هو متوقع في منزل كاتب، أو حتى أعمال غير مكتملة أو مسودات لأعمال مكتوبة. لقد أخبرها منذ بضعة أشهر أنه قد تخلص من كل شيء «ودون أي ندم»).
لقد كان جدار المنزل المائل نحو الجنوب يحوي نوافذ ضخمة. ورفعت سيلفيا بصرها، وأثار دهشتها ضوء الشمس الذي يتخلل الأمطار؛ أو بالأحرى طيف كارلا، بساقيها العاريتين، وذراعيها المكشوفتين، وهي تعتلي سلما، ووجهها الذي يكسوه الحزم مزين بخصلات شعرها الملون بلون الهندباء الذي لم يسمح قصره بعقد جديلة. وكانت كارلا ترش زجاج النوافذ وتلمعه بكل همة ونشاط، وعندما لمحت سيلفيا وهي تنظر إليها توقفت عن ذلك، وراحت تحرك ذراعيها وتمدهما للأمام وترسم تعبيرات مضحكة بوجهها، وأخذتا تضحكان، وقد شعرت سيلفيا بأن موجة الضحك هذه تتدفق من أعماقها وتبعث فيهما بعض المرح. وعادت مرة أخرى تنظر إلى الأوراق التي بين يديها في حين استأنفت كارلا تنظيف الزجاج. وقد قررت سيلفيا أن كل تلك العبارات الرقيقة - سواء أكانت صادقة أو مصطنعة؛ للمدح أو للرثاء - ستلقى نفس مصير جلد الماشية أو مقرمشات السمسم.
وعندما سمعت كارلا وهي تنزل من فوق السلم، وترامى إلى مسامعها وقع الحذاء ذي الرقبة على الأرضية، شعرت فجأة بالخجل. كانت لا تزال جالسة في مكانها وتحني رأسها عندما دخلت كارلا الغرفة ومرت بجانبها وهي في طريقها إلى المطبخ لكي تضع الدلو وقطع القماش بجوار المغسلة، وكانت كارلا لا تتوقف لحظة أثناء عملها؛ فقد كانت سريعة كالعصفور، ولكنها توقفت لتطبع قبلة على رأس سيلفيا المحني، وراحت تتمتم بشيء لنفسها.
ظلت تلك القبلة عالقة في ذهن سيلفيا منذ ذلك الحين، ولم تكن تعني شيئا بعينه، بل مجرد قولها هوني عليك وابتهجي، أو أن الأمر على وشك الانتهاء. لقد كانت تعني أنهما صديقتان وفيتان مرتا بالكثير من الأوقات العصيبة، أو ربما تعني أن الشمس قد أشرقت، وأن كارلا تفكر في الحصول على مكان يلائم خيولها. ومع ذلك، فقد رأتها سيلفيا كبرعم زهرة مشرقة، تنتفش بتلاتها بداخلها بحرارة شديدة أشبه بهبات الحرارة في سن انقطاع الطمث.
وبين الحين والآخر كانت ثمة طالبة صغيرة متميزة ممن يتلقون العلم لديها في محاضرات علم النباتات، وكانت مهارة تلك الطالبة، وتفانيها، وكبرياؤها الشديد واعتزازها بذاتها، أو ربما أيضا ولعها بالعالم الطبيعي يذكرها بنفسها عندما كانت في سنها. ومثل أولئك الفتيات كن يتقربن من سيلفيا في ود وتبجيل؛ طلبا لمزيد من التقرب والحميمية التي لم يكن يتخيلن - في معظم الأحوال - أنهن سيحصلن عليها، وسرعان ما كن يسببن لها الضيق بسبب ذلك.
ولم تكن كارلا تشبه أولئك في شيء، وإن كانت تشبه أحدا في حياة سيلفيا، فسيكون بعض الفتيات اللاتي عرفتهن في مدرستها الثانوية؛ هؤلاء الفتيات اللاتي يتسمن ببعض الذكاء ولسن متقدات الذكاء؛ فتيات يمارسن الرياضة ببساطة ولكن لا يدخلن ساحة المنافسة الشديدة، متفائلات ولسن مسببات للمشاكل مفتقدات للتهذيب. ببساطة سعيدات بطبيعتهن. ••• «في المكان الذي كنت أعيش فيه، في تلك القرية الصغيرة، بل شديدة الصغر، مع اثنتين من صديقاتي القديمات، كانت تقف حافلات السياح من آن لآخر، كما لو أنها ضلت طريقها، ويغادرها السائحون ويتلفتون حولهم وقد غلبتهم الحيرة؛ لأنهم لا يجدون شيئا أو أي أماكن حولهم، فليس ثمة شيء يبتاعونه.»
هكذا تحدثت سيلفيا عن اليونان. وكانت كارلا تجلس على بعد سنتيمترات. وأخيرا كانت تجلس في الغرفة - تلك الغرفة التي طالما امتلأت بأفكار عنها - تلك الفتاة المبهرة، القلقة ذات الأطراف الضخمة؛ وكانت تبتسم بوهن، وتومئ برأسها ببطء .
قالت سيلفيا: «وكنت أنا أيضا أشعر بالحيرة في البداية، كان الطقس شديد الحرارة، ولكن الأمر كان صحيحا بشأن ضوء النهار، لقد كان رائعا بحق، ثم قررت ما يمكن أن أقوم به، ولم تكن هناك سوى بعض الأشياء القليلة البسيطة، ولكنها كانت كافية لملء اليوم؛ فقد كنت أسير مسافة نصف ميل عبر الطريق لشراء القليل من الزيت، ونصف ميل آخر في الطريق المعاكس لشراء الخبز أو النبيذ، وهكذا ينقضي الصباح، ثم أتناول طعام الغداء تحت الأشجار، وبعد ذلك يكون الطقس حارا بدرجة شديدة؛ بحيث لا يكون بمقدورك فعل أي شيء سوى إغلاق مصراع النافذة والاستلقاء على الفراش، وربما القراءة. في البداية تقرئين، ثم تزداد الحرارة فتتوقفين حتى عن فعل ذلك، فلم القراءة؟ وبعد أن ألاحظ أن الظلال امتدت، كنت أنهض لأمارس السباحة.»
قطعت سيلفيا حديثها قائلة: «أوه، كدت أنسى.»
ثم هبت من مكانها وذهبت لكي تحضر الهدية التي جاءت بها من اليونان، والتي لم تنس أمرها على الإطلاق في حقيقة الأمر؛ فلم تكن تريد أن تعطيها لكارلا على الفور، بل أرادت أن يأتي الأمر بصورة طبيعية، وحين كانت تتحدث كانت تفكر مقدما في اللحظة التي يمكن أن تذكر خلالها البحر، والذهاب للسباحة، وأن تقول - كما تقول الآن - لقد ذكرتني السباحة بالهدية؛ لأنها نسخة طبق الأصل من الحصان الذي وجدوه في البحر، وهو مصنوع من البرونز. لقد التقطوه بعد مرور كل هذا الوقت؛ إذ يعود للقرن الثاني قبل الميلاد.
عندما دخلت كارلا، وأخذت تبحث عن عمل تقوم به، قالت لها سيلفيا: «أوه، اجلسي لدقائق، فإنني لم أجد أحدا أتحدث معه منذ أن عدت من اليونان، أرجوك.» جلست كارلا على حافة المقعد، وساقاها منفرجتان بعض الشيء، واتكأت بيديها على ركبتيها، وبدت مكتئبة إلى حد ما. قالت وهي تحاول أن تبدو دمثة: «كيف كانت اليونان؟»
والآن وقفت، ورقائق الورق الشفاف تحيط بالحصان، ولم تكن قد أزالتها عنه تماما.
قالت سيلفيا: «يقال إنه يمثل خيل السباق، وهو يقفز تلك القفزات النهائية، أقصى ما يبذل من جهد في الدقائق الأخيرة من السباق. وكما ترين الصبي الفارس أيضا، يدفع الحصان ليجري بأقصى ما يستطيع من قوة.»
لم تذكر لها أن ذلك الفارس الصغير قد ذكرها بكارلا، ولم تستطع أن تعرف السبب حتى الآن. لقد كان الولد لا يتعدى العاشرة أو الحادية عشرة. ربما قوة ورشاقة الذراع التي تقبض على الزمام، أو تلك التغضنات في جبهته الطفولية، أو ذلك الانهماك والجهد الخالص الذي يشبه بشكل أو بآخر طريقة سيلفيا في تنظيف النوافذ الضخمة في الربيع الماضي، وربما ساقاها القويتان داخل سروالها القصير، وكتفاها العريضتان، وضرباتها القوية فوق الزجاج لتنظيفه، ثم الطريقة التي مدت بها ذراعيها وجسمها على سبيل المزحة، والتي دفعت، بل أجبرت سيلفيا على الضحك.
قالت كارلا، وهي تتفحص بعناية التمثال الأخضر الصغير المصنوع من البرونز: «إنك ترين هذا، أشكرك بشدة.» «على الرحب والسعة، لنحتس القهوة، لقد أعددت بعضا منها. كانت القهوة في اليونان ذات نكهة قوية بعض الشيء، ربما أكثر قوة مما أفضل، ولكن الخبز كان غاية في الروعة، ناهيك عن التين الناضج، لقد كان مدهشا بحق. اجلسي لدقائق أخرى، أرجوك. عليك أن توقفيني عن الاسترسال هكذا. ماذا عن هنا؟ كيف كانت الحياة تسير هنا؟» «لقد كانت تمطر معظم الوقت.»
ردت سيلفيا من خلال المطبخ الذي يقع عند نهاية الغرفة الكبيرة: «أرى هذا، أرى أنها كانت تمطر باستمرار.» قررت وهي تصب القهوة أن تخفي أمر الهدية الأخرى التي أحضرتها، إنها لم تكلفها شيئا (في الواقع كلفها الحصان أكثر مما تتخيل الفتاة)، كانت مجرد صخرة صغيرة جميلة ذات لون أبيض ضارب إلى الوردي التقطتها من الطريق. «هذه لكارلا.» هكذا قالت حينها لصديقتها ماجي التي كانت تسير بجوارها: «أعلم أنه قد يبدو الأمر ساذجا، ولكني أرغب في أن يكون لديها قطعة صغيرة من هذه الأرض.»
كانت قد أخبرت صديقتها ماجي عن كارلا، كما أخبرت أيضا صديقتها الأخرى سورايا، وكيف أن وجود الفتاة قد أصبح يعني الكثير والكثير لها، وأنه ثمة رباط لا يمكن وصفه تولد بينهما، وهو الشيء الذي ساعدها وواساها في الأشهر الفظيعة التي مرت بها خلال الربيع الماضي. «إنه لشيء جميل أن يرى المرء شخصا كهذه؛ شخصا صغير السن يمتلئ صحة وحيوية يأتي إلى المنزل.»
ضحكت كل من ماجي وسورايا بود، إلا أن ضحكاتهما شابها بعض الانزعاج.
قالت سورايا وهي تمد ذراعها البنية الممتلئة في كسل: «هناك دائما مثل هذه الفتاة.» وقالت ماجي: «نتعرض جميعنا لذلك في بعض الأحيان؛ إنه الافتتان بفتاة.»
شعرت سيلفيا بقليل من الغضب بسبب تلك الكلمة: افتتان.
قالت: «ربما يرجع ذلك إلى أنني وليون لم ننجب أطفالا. إنه غباء ... مشاعر أمومة موجهة في غير موضعها.»
تحدثت صديقتاها في الوقت نفسه، وقالتا شيئا ما بطريقتين مختلفتين، مفاده أنه قد يكون حقا من الغباء، ولكنه الحب على أي حال. •••
ولكن الفتاة، بالنسبة إلى سيلفيا اليوم، لا تشبه كارلا التي كانت تتذكرها سيلفيا في أي شيء؛ فلم تعد تغلب عليها تلك الروح المرحة الهادئة، ولم تعد ذلك الشخص الخالي من الهموم الذي لطالما لازمها في اليونان.
لقد كانت بالكاد تهتم بأمر الهدية، وكان يغلب عليها الحزن والكآبة وهي تمد يدها لتأخذ قدح القهوة.
قالت سيلفيا بحماس: «هناك شيء آخر أعتقد أنك كنت ستهوينه بشدة؛ وهو الماعز؛ فالماعز هناك كانت صغيرة الحجم للغاية حتى في تمام نموها. كان بعضها أبيض اللون والبعض الآخر كان مرقطا، وكانت تقفز حول الصخور كأنها ... كأنها أرواح منتشرة في المكان.» كانت تضحك بطريقة مصطنعة، ولم تستطع أن تمنع نفسها من الضحك. «لم أكن لتصيبني الدهشة إن وجدت أكاليل الزهور حول قرونها. كيف حال نعجتك الصغيرة؟ لقد نسيت اسمها.»
قالت كارلا: «فلورا.» «فلورا.» «لم يعد لها وجود.» «لم يعد لها وجود؟ هل قمت ببيعها؟» «لقد اختفت ولا نعلم مكانها.» «أوه، إنني جد آسفة، ولكن أما من فرصة لعودتها مرة أخرى؟»
لم تجبها. نظرت سيلفيا مباشرة نحو الفتاة، وهو الشيء الذي لم تكن لتستطيع أن تفعله قبل الآن. وقد رأت عينيها مغرقة بالدموع، وتكسو وجهها بعض البقع، بل إنه في الواقع كان متسخا بعض الشيء، وكانت تعتريها موجة من الحزن الشديد.
لم تفعل شيئا لتتفادى نظرات سيلفيا. ضمت شفتيها، وأغلقت عينيها، وأخذت تهتز في مكانها للأمام وإلى الخلف كما لو أنها تصرخ بصوت مكتوم، وفجأة، ولصدمة سيلفيا، راحت تتأوه وتصرخ بالفعل. أخذت تصرخ وتبكي، وتحاول استنشاق الهواء، وسالت الدموع على خديها، وسالت أنفها، وراحت تتلفت حولها بحثا عن شيء تمسح به وجهها. وهبت سيلفيا من مكانها وأحضرت حفنة من المناديل الورقية.
قالت، وهي تعتقد أنه من الأفضل أن تأخذ الفتاة بين ذراعيها: «لا تقلقي، ستكونين بخير، سيكون كل شيء على ما يرام. تفضلي المناديل.» إلا أنها لم يكن لديها أدنى رغبة في أن تفعل ذلك، وقد يزداد الأمر سوءا إثر ذلك؛ فقد تشعر الفتاة بعدم رغبة سيلفيا في احتضانها، أو أنها انزعجت في الواقع بسبب ذلك الانفعال الصاخب.
وقالت كارلا شيئا، وأخذت تقوله مرارا.
لقد قالت: «مروع، مروع بحق.» «لا عليك، جميعنا نكون بحاجة للبكاء في بعض الأحيان، لا بأس، لا تقلقي.» «إنه أمر مروع.»
ولم تستطع سيلفيا أن تمنع نفسها من الشعور - إبان كل لحظة من لحظات التعاسة التي عبرت عنها كارلا - بأن الفتاة جعلت من نفسها واحدة من أولئك الطالبات الباكيات اللاتي يأتين لمكتب سيلفيا؛ فبعضهن يبكين بسبب الدرجات التي حصلن عليها، ولكن غالبا ما يكون بكاء متصنعا، ويظهرن بعض التشنجات المتكلفة غير المقنعة. أما عندما تكون الدموع حقيقية، وهو نادرا ما يحدث، فيكون بسبب شيء يتعلق بقصة حب، أو بشجار مع الوالدين، أو بسبب حمل إحداهن. «لا يتعلق الأمر بفقدان النعجة، أليس كذلك؟» «لا، لا.»
قالت سيلفيا: «من الأفضل أن أحضر لك كوبا من الماء.»
واستغرقت بعض الوقت لإحضار كوب من الماء البارد، وهي تفكر فيما ينبغي أن تقوله أو تفعله بعد ذلك، وعندما عادت به كانت كارلا قد هدأت بالفعل.
قالت سيلفيا بينما تتجرع كارلا الماء: «والآن، ألست أفضل حالا؟» «نعم.» «الأمر لا يتعلق بالنعجة، فما الخطب إذن؟» «لا أستطيع أن أتحمل أكثر من هذا.»
ما الذي لا تستطيع تحمله؟
واتضح أن الأمر يتعلق بالزوج.
إنه يظهر غضبه منها طوال الوقت، يتصرف كما لو أنه يكرهها. لم تعد تفعل أي شيء سليم، ولم تعد تقول أي شيء. إن الحياة معه ستصيبها بالجنون، بل إنها تعتقد في أحايين كثيرة أنها جنت بالفعل، أو أنه هو الذي فقد عقله في أحيان أخرى. «هل آذاك يا كارلا؟»
لا، إنه لم يؤذها جسديا، ولكنه يبغضها، إنه يحتقرها، إنه لا يحتمل بكاءها، وهي لا تتوقف عن البكاء؛ لأنه يثور في وجهها دائما.
لم تعد تدري ما الذي يمكنها فعله.
قالت سيلفيا: «ربما تعرفين ما عليك فعله.»
شرعت كارلا في البكاء مرة أخرى وقالت: «هل أهرب؟ لو كان بمقدوري ذلك لكنت فعلته.» «سأفعل أي شيء لأهرب، ولكني لا أستطيع؛ فليس معي أي نقود، وليس لدي مكان آوي إليه.»
قالت سيلفيا بأسلوب ناصح قدر الإمكان: «فكري جيدا، هل هذا هو الحال بالفعل؟ أليس لديك أبوان؟ ألم تخبريني أنك نشأت في كينجستون ولك عائلة هناك؟»
كان أبواها قد انتقلا للعيش في بريتيش كولومبيا، وهما يكرهان كلارك، ولا يهتمان هل ماتت أم ما زالت على قيد الحياة.
وماذا عن الإخوة والأخوات؟
هناك أخ واحد يكبرها بتسع سنوات، متزوج ويقيم في تورونتو، لا يهتم لشأنها ولا يحب كلارك، وزوجته من ذلك النوع الذي يتسم بالتكبر والغرور. «ألم تفكري في الذهاب إلى «مأوى السيدات»؟» «لا يقبلونك هناك إلا إذا كنت قد تعرضت للضرب أو ما شابه، وسرعان ما يكتشف الجميع الأمر، وهو ما سيؤثر بالسلب على عملنا.»
ابتسمت سيلفيا في رقة وهي تقول: «أهذا هو الوقت الذي تفكرين فيه في أمر العمل؟»
ضحكت كارلا وقالت: «أعرف هذا، أنا مجنونة.»
قالت سيلفيا: «أنصتي، أنصتي إلي جيدا، لو كنت تملكين نقودا كافية للرحيل، هل كنت سترحلين؟ وإلى أين ستذهبين؟ وماذا ستفعلين؟»
ردت كارلا سريعا: «كنت أذهب إلى تورونتو، لكني لن أذهب إلى أخي، بل سأقيم في أي نزل صغير، وأبحث لنفسي عن وظيفة في أي إسطبل.» «هل تعتقدين أنه بمقدورك فعل ذلك ؟» «لقد كنت أعمل في أحد إسطبلات الخيول في الصيف الذي قابلت فيه كلارك، ولقد أصبحت الآن أكثر تمرسا من ذلك الحين، أكثر بكثير.» «تتحدثين كما لو أنك قررت ذلك بالفعل.»
قالت كارلا: «لقد قررت ذلك الآن.» «إذن متى يمكنك الرحيل إن كان بوسعك هذا؟» «الآن، اليوم، في التو واللحظة.» «وهل كل ما يمنعك هو قلة النقود؟»
أخذت كارلا نفسا عميقا وقالت: «كل ما يمنعني هو قلة النقود.»
قالت سيلفيا: «حسنا، الآن أنصتي إلى ما سأعرضه عليك، أعتقد أنه لا ينبغي أن تذهبي إلى أي نزل، بل عليك استقلال الحافلة إلى تورونتو لتقيمي عند واحدة من صديقاتي وهي تدعى روث ستايلس. إنها تمتلك منزلا كبيرا تقيم فيه بمفردها، وأعتقد أنها لن تمانع في أن يشاركها أحد الإقامة فيه، وبمقدورك أن تمكثي هناك حتى تجدي عملا مناسبا، وسأساعدك ببعض النقود، ولا بد أن هناك الكثير والكثير من إسطبلات الخيل في تورونتو.» «هناك الكثير بالفعل.» «ما رأيك إذن، هل تريدين مني أن أتصل هاتفيا لأعرف موعد تحرك الحافلة؟»
وافقت كارلا، وكانت ترتعد من الخوف، وأخذت تمرر يدها على فخذيها، وتحرك رأسها بعصبية من جانب إلى آخر.
قالت: «لا أصدق هذا، سأسدد لك المبلغ، أعني أشكرك بشدة، سأرد لك كل هذا. لا أدري ماذا أقول في الواقع.»
وكانت سيلفيا بالفعل تدير قرص الهاتف، وتطلب محطة الحافلات.
قالت: «اهدئي، إنني أحاول معرفة المواعيد.» وأخذت تنصت، ثم أغلقت سماعة الهاتف، وأردفت: «أعلم أنك ستفعلين. هل اتفقنا بشأن روث؟ سأخبرها بالأمر، ولكن ثمة مشكلة واحدة.» نظرت سيلفيا لقميص كارلا وسروالها القصير على نحو انتقادي وقالت: «لا يمكنك أن تذهبي بتلك الملابس.»
قالت كارلا في فزع: «لا يمكنني الذهاب إلى المنزل لإحضار أي شيء، سأكون على ما يرام.» «ولكن الحافلة مكيفة الهواء، وستتجمدين من البرودة، لا بد أن أعطيك شيئا من عندي لترتديه، ألسنا بنفس الطول تقريبا.» «إنك أنحف بنحو عشر مرات.» «لم أكن كذلك.»
واستقر الأمر في نهاية المطاف على سترة بنية اللون مصنوعة من الكتان، نادرا ما كانت ترتديها سيلفيا - كانت تعتبر أن شراءها كان خطأ؛ فالتصميم كان غريبا بعض الشيء - وسروال بني اللون ناسبها تماما، وقميص حريري بلون القشدة. وكان لا بد أن يتناسب حذاء كارلا الرياضي مع هذه الملابس؛ لأن مقاس قدميها كان أكبر بدرجتين عن مقاس سيلفيا.
ذهبت كارلا لتأخذ حماما - وهو الشيء الذي لم تهتم به عندما كانت في تلك الحالة المزاجية السيئة هذا الصباح - بينما حادثت سيلفيا روث هاتفيا ووجدت أنها ستكون في اجتماع ذاك المساء، ولكنها ستترك المفتاح عند بعض المستأجرين بالطابق الأعلى، وكل ما على كارلا فعله هو قرع جرس منزلهم فقط.
قالت روث: «ولكن عليها أن تستقل سيارة أجرة من موقف الحافلات، فهل هي في حالة جيدة تمكنها من ذلك؟»
ضحكت سيلفيا وقالت: «إنها ليست عرجاء، لا تقلقي، إنها مجرد شخص في موقف سيئ، كما يحدث في الكثير من الحالات.» «حسنا، هذا جيد، أعني أنه لأمر جيد أن تستطيع تخطي ذلك.» «إنها قطعا ليست عرجاء.» قالت تلك العبارة وهي تفكر في كارلا التي تقيس السروال والسترة المصنوعة من الكتان. كم شفيت الفتاة الصغيرة سريعا من نوبة اليأس التي كانت تعتريها، وكم تبدو جميلة في تلك الملابس الجديدة.
ستتوقف الحافلة في المدينة في الساعة الثانية وعشرين دقيقة. وقررت سيلفيا أن تعد البيض المقلي لطعام الغداء، وأن تفرش المائدة بالمفرش ذي اللون الأزرق الداكن، وأن تضع الأكواب المصنوعة من الكريستال، وتقدم لها زجاجة من النبيذ.
قالت سيلفيا عندما أطلت كارلا وكانت تبدو نظيفة ومشرقة في ملابسها التي استعارتها: «آمل أن تكوني جائعة لتتناولي قدرا من الطعام.»
توردت بشرتها المليئة بالنمش من أثر الاستحمام، وكان شعرها الداكن مبللا بالمياه، وقد تحرر من ضفيرته، وانسدلت الخصلات التي لم تعد مجعدة على نحو جميل على رأسها، وقالت إنها بالفعل جائعة، ولكن عندما همت لتتناول قطعة من البيض المقلي، جعلت يداها المرتعشتان ذلك الأمر مستحيلا. «لا أدري لم أرتعد من الخوف هكذا، فمن المفترض أن أشعر بالإثارة، فلم أتوقع أن يكون الأمر بهذه السهولة .»
قالت سيلفيا: «جاء الأمر بصورة مفاجئة تماما، ربما لا يبدو وكأنه أصبح أمرا واقعا الآن.» «رغم كل شيء يبدو أنه بالفعل أمر حقيقي الآن، أما قبل ذلك فقد كنت في ذهول.» «ربما عندما تقررين فعل شيء، عندما تقررينه حقا، يكون الأمر على هذا النحو، أو هكذا يجب أن يكون.»
قالت كارلا بابتسامة واثقة، وقد احمر وجهها: «هذا إن كان للمرء صديق حقيقي بمعنى الكلمة، أعني صديقا مثلك.» ثم وضعت الشوكة والسكين، ورفعت كأس النبيذ بكلتا يديها بصعوبة، وقالت بصوت قلق: «نخب صديقتي الحقيقية. من المفترض ألا أتناول أي رشفة من النبيذ، ولكني سأفعل.»
قالت سيلفيا وهي تتظاهر بالسعادة: «وأنا أيضا.» ولكنها سرعان ما أفسدت اللحظة حين قالت: «ألن تتصلي به هاتفيا؟ أم ماذا ستفعلين؟ يجب أن يعرف، على الأقل يجب أن يعرف مكانك في الوقت الذي ينتظر فيه عودتك إلى المنزل.»
قالت كارلا بانزعاج: «لا، ليس من خلال الهاتف، لا أستطيع ذلك، ربما يمكنك أنت أن ...»
قالت سيلفيا: «لا، لا.» «لا، هذا ضرب من الغباء، ما كان ينبغي أن أقول ذلك، لكن من الصعب التفكير بصورة سليمة الآن؛ فما ينبغي أن أفعله هو ترك ورقة صغيرة في صندوق البريد، لكني لا أريد أن يراها سريعا. لا أريد حتى أن نمر من هناك ونحن في طريقنا للمدينة، أريد أن نسلك الطريق الخلفي، فإذا ما كتبتها ... إذا ما كتبتها، فهل يمكنك أن تضعيها في صندوق البريد وأنت عائدة؟»
وافقت سيلفيا على ذلك؛ حيث إنها لم تر بديلا أفضل.
أحضرت قلما وورقة، ثم صبت قليلا من النبيذ.
جلست كارلا تفكر، ثم شرعت في كتابة بعض الكلمات القليلة. ••• «لقد رحلت. سأكون على ما يرام.»
كانت هذه هي الكلمات التي قرأتها سيلفيا عندما فضت الورقة وهي في طريق عودتها من موقف الحافلات، وكانت واثقة من أن كارلا تعرف جيدا كيف تكتب؛ إذ إنها أخطأت في تهجية الكلمة، إلا أنها كانت في حالة من الارتباك الشديد، ربما كانت مرتبكة بصورة أكثر مما تتخيلها سيلفيا. ولقد جعلها النبيذ تخرج ما بداخلها من كلام، ولكنه كلام لا يشوبه أي نوع من الحزن أو الكآبة. راحت تتحدث عن إسطبل الخيل الذي عملت به ورأت فيه كلارك لأول مرة، وكانت وقتها في الثامنة عشرة من عمرها وقد أنهت لتوها دراستها في المدرسة الثانوية. رغب والداها في أن تلتحق بالجامعة، ووافقت ما دام يمكنها أن تصبح طبيبة بيطرية وتعيش في الريف. لقد كانت من ذلك النوع من الفتيات الساذجات غير المسايرات للتطور، من الفتيات اللاتي يتندر الآخرون عليهن في المدرسة الثانوية، لكنها لم تكن تبالي بذلك.
كان كلارك من أفضل مدربي الفروسية لديهم، وكانت تلاحقه عشرات النساء؛ فقد كن يأخذن دروسا في ركوب الخيل لمجرد أن يتقربن منه، وعمدت كارلا إلى أن تثير غيظه وتتندر على صديقاته، وكان يروق له ذلك في بادئ الأمر، ثم أصبح الأمر يثير ضيقه، فاعتذرت له كارلا، ثم حاولت أن تصلح الأمور بأن جعلته يتحدث عن حلمه - أو بالأحرى عن خطته - وكان في الواقع هو أن يمتلك مدرسة للتدريب على ركوب الخيل؛ أو إسطبلا للخيل، في مكان ما في الريف. وفي يوم من الأيام دخلت الإسطبل ورأته وهو ينشر سرج الخيل، فأدركت أنها قد وقعت في حبه.
وأدركت الآن أن الأمر كان مجرد جاذبية جنسية، ربما كان جاذبية جنسية فحسب. •••
وعندما حل فصل الخريف، وكان عليها أن تترك العمل لتلتحق بالجامعة في جيلف، رفضت أن تذهب، وقالت إنها ترغب في أن تؤجل ذلك للعام التالي.
كان كلارك يتميز بالذكاء، لكنه لم ينتظر حتى ينهي دراسته في المدرسة الثانوية، وانقطعت علاقته مع عائلته. لقد كان يعتقد أن العائلات بمثابة السم الذي يسري في الدم. وعمل مساعدا في إحدى المصحات النفسية، ومشغل أسطوانات في إحدى محطات الإذاعة بليثبريدج بألبرتا، وأحد أفراد فرق صيانة الطرق السريعة بالقرب من ثاندر باي، وحلاقا تحت التمرين، ومندوب مبيعات في متجر آرمي سيربلس؛ وكانت هذه هي الوظائف التي أخبرها بها فقط.
كانت كارلا تناديه «الجوال الغجري»، كما في إحدى الأغنيات القديمة التي كانت أمها تشدو بها في بعض الأوقات، وقد راحت ترددها طوال الوقت في جميع أركان المنزل، وشعرت أمها بأن هناك شيئا ما وراءها.
وكانت كلمات الأغنية تقول:
نامت بالأمس في فراشها الوثير من الريش
تلتحف غطاءها الحريري
أما اليوم فستفترش الأرض الباردة الصلبة
في أحضان حبيبها الغجري.
قالت لها أمها: «إنه سيكسر قلبك في يوم ما، وهذا أمر مؤكد.» أما زوج أمها، الذي كان يعمل مهندسا، فلم ير أن لكلارك أي أهمية أو شأن، وقال عنه: «إنه فاشل، واحد من أولئك الهائمين على وجوههم.» كما لو أن كلارك مجرد حشرة يستطيع أن يزيحها عن ملابسه.
ردت كارلا قائلة: «هل يستطيع الهائم على وجهه أن يدخر النقود الكافية التي تمكنه من شراء مزرعة؟ وهو الأمر الذي فعله بالمناسبة.» فكان رده فقط: «لن أدخل في جدال معك.» وأضاف بأنها ليست ابنته على أي حال، كما لو أن تلك هي النقطة الحاسمة.
لذا كان من الطبيعي أن تهرب كارلا مع كلارك؛ فالطريقة التي تعامل بها والداها مع الأمر ضمنت ذلك بالفعل.
قالت سيلفيا: «هل ستحاولين الاتصال بوالديك عندما يستقر بك المقام في تورونتو؟»
رفعت كارلا حاجبيها، ومطت شفتيها وهي تقول: «كلا.»
لقد كانت بالقطع ثملة بعض الشيء. •••
وعند عودتها إلى المنزل، وبعدما تركت الرسالة في صندوق البريد، غسلت سيلفيا الأطباق التي كانت لا تزال على المائدة، وغسلت المقلاة وجففتها، وألقت غطاء المائدة والمفارش الصغيرة ذات اللون الأزرق في سلة الغسيل، وفتحت النوافذ، وقد فعلت ذلك بشعور متضارب من الندم والقلق. كانت قد وضعت للفتاة قطعة صابون جديدة للاستحمام برائحة التفاح فعلقت رائحته في أرجاء المنزل، كما انتشرت رائحته بالسيارة أيضا.
توقفت الأمطار شيئا فشيئا، ولم تستطع أن تجلس ساكنة، فخرجت لتتريض قليلا عبر الممر الذي كان ليون قد نظفه وجعله ممهدا، وقد تلاشت كميات الحصى التي فرشها في أماكن المستنقعات. اعتادا أن يذهبا للتريض كل ربيع بحثا عن زهور الأوركيد البرية، وكانت تعلمه اسم كل زهرة من الزهور البرية، وكان ينسى أسماءها جميعا، فيما عدا زهرة الثالوث البرية. اعتاد أن ينادي سيلفيا باسم الشاعرة الشهيرة دوروثي وردزورث.
وفي الربيع الماضي، ذهبت للخارج واقتطفت من أجله مجموعة من زهور الزنبق البنفسجي، لكنه نظر إلى الزهور - كما كان ينظر إليها في بعض الأحيان - بنظرات تحمل شيئا من الوهن والإنكار.
أخذت تراقب كارلا وهي تصعد إلى الحافلة. لقد كان تعبيرها عن الامتنان صادقا، وغير رسمي، وقد لوحت لها بمرح، كانت كارلا قد اعتادت على فكرة خلاصها.
عندما عادت سيلفيا إلى المنزل في نحو السادسة، أجرت مكالمة لتورونتو، حيث حادثت روث، وهي تعلم أن كارلا لم تصل بعد، ولكن سمعت آلة الرد الآلي.
قالت سيلفيا: «روث، أنا سيلفيا. بخصوص الفتاة التي أرسلتها إليك، آمل ألا تكون مصدر إزعاج لك، وأتمنى أن تسير الأمور على ما يرام. قد تجدينها معتزة بنفسها بعض الشيء، ولكنها فورة الشباب كما تعرفين، فقط أخبريني عندما تصل.»
وهاتفتها مرة أخرى قبل أن تأوي إلى الفراش، وسمعت ماكينة الرد الآلي مرة أخرى، فقالت: «سيلفيا مرة أخرى، أردت فقط الاطمئنان.» ثم وضعت السماعة. كان الوقت ما بين التاسعة والعاشرة، ولم يكن الظلام حالكا بعد، ولا بد أن روث ما زالت بالخارج، والفتاة لن تلتقط سماعة الهاتف بالقطع في منزل غريب. حاولت أن تتذكر أسماء جيران روث المستأجرين بالطابق الأعلى؛ فهم بالطبع لم يأووا للفراش بعد، لكنها لم تستطع تذكر أسماء أي منهم، وكذلك فإن محاولة الاتصال تعني إثارة المزيد من الجلبة، وإبداء الكثير من القلق، وتحميل الأمر أكثر مما يستحق.
أوت إلى الفراش، ولكن كان من المستحيل البقاء في غرفة النوم طويلا، فأخذت غطاء خفيفا واتجهت صوب غرفة المعيشة واستلقت فوق الأريكة، حيث اعتادت النوم خلال الثلاثة أشهر الأخيرة من حياة ليون. ولم تكن تعتقد أنها ستخلد إلى النوم على الأريكة كذلك، ولم يكن هناك ستائر على حافة النافذة فاستطاعت أن تتبين من خلال منظر السماء أن القمر يضيئها بالرغم من أنها لا تراه.
كان الشيء التالي الذي رأته هو أنها في إحدى الحافلات في مكان ما - ربما تكون اليونان؟ - وبصحبتها أناس كثيرون لا تعرفهم، وكان المحرك يصدر أصواتا مزعجة، فاستيقظت لتدرك أن تلك الأصوات ما هي إلا قرع على باب المنزل الأمامي. «كارلا؟» •••
ظلت كارلا تحني رأسها حتى غابت الحافلة عن المدينة، ورغم أن زجاج النوافذ ملون ولا يستطيع أحد من الخارج أن يرى ما بداخلها، إلا أنه كان عليها أن تتخذ حذرها خشية أن يلمحها أحد، أو أن يظهر كلارك فجأة؛ فربما يكون خارجا لتوه من أحد المتاجر، أو يعبر الشارع، وهو لا يدري تماما بأنها في طريقها للرحيل، معتقدا أنها فترة من فترات ما بعد الظهيرة التي تمر كالمعتاد، بل يعتقد أنها في طريقها لوضع مخططهما - أو مخططه بالأحرى - موضع التنفيذ، ويتوق لأن يعرف ما الذي آلت إليه الأمور.
بمجرد أن جاوزت الحافلة المناطق الداخلية وخرجت إلى الريف، رفعت رأسها وتنفست الصعداء، ورأت الحقول التي ازدانت بزهور البنفسج من خلال النوافذ. لقد أحاطها وجود السيدة جاميسون بنوع من الطمأنينة والسكينة الشديدتين، وجعل هروبها أكثر الأمور التي يمكن تخيلها تعقلا، بل ربما الشيء الوحيد الذي ينم عن احترام الذات يمكن لأي شخص في موقف كارلا أن يفعله. شعرت كارلا بقدرتها على أن تبدي ثقة غير معتادة في النفس، بل وحتى روح دعابة متعقلة، وهي تكشف عن حياتها بأسلوب لا بد وأن يجذب التعاطف، وفي الوقت نفسه ساخر وصادق، وحاولت أن ترقى، بقدر ما أمكن، إلى مستوى توقعات السيدة جاميسون. ساورها شعور بأنه ثمة احتمال بأن تخذل السيدة جاميسون، التي فاجأتها بأنها شخصية تتسم بالحساسية والحزم في ذات الوقت، ولكنها اعتقدت أنها بالتأكيد لن تفعل ذلك.
إن لم تكن مضطرة إلى أن تبقى بجانبها لفترة طويلة.
كانت الشمس مشرقة، كما كان الحال منذ فترة، فعندما جلستا لتناول طعام الغداء، كانت تلقي بأشعتها على أكواب النبيذ فتزيدها تلألؤا، ولم تسقط أي أمطار منذ الصباح الباكر، وقد هبت بعض الرياح وكانت كافية لإزاحة الأعشاب المنتشرة عبر الطريق، وتلك الحشائش الضارة المزهرة بعيدا عن مجموعات الأشجار الغارقة بمياه الأمطار. وكانت سحب الصيف، وليست تلك المشبعة بالأمطار، تنتشر وتتحرك بسرعة عبر السماء. كان الريف بأسره في حالة تغير، في حالة تحرر، نحو إشراقة يوم من أيام يوليو، ولم تستطع أن تلمح مع ازدياد سرعة الحافلة كل ما خلفه الماضي القريب من آثار، ولم يكن هناك الكثير من البرك وسط الحقول التي تظهر أماكن البذور التي جرفتها الأمطار، ولم تلمح سيقان الذرة الضعيفة، أو أيا من الحبوب على أرضها.
جال بخاطرها أنه يجب عليها إخبار كلارك بذلك؛ أنهما ربما قد اختارا - لسبب غريب - ذلك الجانب الموحش المبتل من الريف، في حين أن هناك أماكن أخرى كان يمكن أن يحققا نجاحا بها.
أو ربما لا يزال بإمكانهما تحقيق النجاح فيها.
ثم تذكرت أنها بالطبع لن تقول أي شيء من هذا القبيل لكلارك، لن تقوله ثانية مطلقا؛ فهي لن تهتم بعد الآن بما يمكن أن يحدث له، أو لجريس، أو مايك، أو جونيبر، أو بلاك بيري، أو ليزي بوردن. وإن حدث وعادت فلورا فلن تعرف بالأمر.
كانت تلك هي المرة الثانية التي تترك وراءها كل شيء؛ كانت المرة الأولى تشبه في أحداثها أغنية فرقة «البيتلز» القديمة؛ حيث تركت رسالة فوق المنضدة، وغادرت المنزل في الخامسة صباحا، وقابلت كلارك في ساحة انتظار السيارات بالكنيسة عند نهاية الشارع، وكانت تتمتم بتلك الأغنية وهما يثرثران ويذهبان بعيدا: «إنها تغادر المنزل، وداعا وداعا.» وقد استرجعت الآن منظر الشمس وهي تطل من خلفهما، وكيف كانت تنظر إلى يدي كلارك وهو يمسك بعجلة القيادة، وتلمح الشعر الأسود الذي يكسو ساعديه القوييين، وكانت تشم رائحة الشاحنة من الداخل؛ حيث رائحة الزيوت والمعادن، ورائحة الأدوات وإسطبلات الخيل. وقد كان النسيم البارد في صباح هذا اليوم من أيام الخريف يتسلل داخل الفواصل المعدنية بالشاحنة التي يعلوها الصدأ، وكانت من ذلك النوع من الشاحنات التي لم يحدث أن استقلها أحد من أفراد عائلتها، أو حدث وأن رأتها تمر من الشارع الذي كانت تقطن به.
وقد أثارها وأسعدها في ذلك الصباح انشغال كلارك بالطريق (فقد بلغا الطريق السريع 401)، واهتمامه بالشاحنة، وإجاباته المقتضبة، وعيونه الضيقة، بل وحتى بعض الضيق الذي أظهره إزاء سعادتها الطائشة. وأثارها أيضا اضطراب حياته الماضية؛ شعوره بالوحدة التي أعلنها لها، والأسلوب اللطيف الناعم الذي يعامل به الخيل، ويعاملها به. لقد كانت تراه مهندس حياتهما القادمة، وكانت ترى نفسها أسيرة له، وتعتبر خضوعها وإذعانها شيئا منطقيا ورائعا.
كتبت أمها تقول في الخطاب الوحيد الذي أرسلته لها، ولم ترد هي عليه: «إنك لا تعرفين قيمة ما تركتيه.» ولكنها في تلك اللحظات الباردة المضطربة من رحلة الصباح الباكر كانت تعرف جيدا ماذا تركت وراءها، حتى وإن لم يكن لديها سوى فكرة مبهمة عما ستذهب إليه. لقد كرهت والديها، ومنزلها، والفناء الخلفي، ومجلدات صورهم، وعطلاتهم، ومستلزمات المطبخ ماركة كويزين آرت، و«دورة المياه الخاصة بالضيوف»، وغرفة الملابس، ونظام رش المرج بالمياه المدفون تحت الأرض، وفي الرسالة المختصرة التي تركتها لوالديها استخدمت كلمة «حقيقي».
لطالما كنت أشعر دوما بالحاجة إلى أن أحيا حياة حقيقية صادقة، ولا أتوقع منكم أن تدركوا ما أعنيه.
توقفت الحافلة الآن عند أول بلدة على الطريق، وكانت نقطة الوقوف هي إحدى محطات الوقود. كانت محطة الوقود التي اعتادت هي وكلارك أن يذهبا إليها بالسيارة، في أولى أيام حياتهما معا، للتزود بوقود زهيد الثمن. وفي تلك الأيام، ضم عالمهما العديد من البلدات التي تحيط بالريف، وكانا يتصرفان كالسائحين؛ يتذوقان بعضا من عينات الطعام الذي تقدمه حانات الفنادق الزهيدة مثل أقدام الخنزير، أو الكرنب المخلل المخمر، أو فطائر البطاطس، أو الجعة، ثم يشدوان بالأغاني في طريق عودتهما للمنزل مثل الحمقى.
ولكنهما بعد فترة اعتبرا تلك النزهات مضيعة للوقت والنقود، كانا يفعلان كما يفعل الناس قبل أن يدركوا حقيقة حياتهم.
كانت تبكي الآن؛ اغرورقت عيناها بالدموع من دون أن تدري، وأخذت تفكر في تورونتو، وأولى خطواتها القادمة هناك؛ سيارة الأجرة، المنزل الذي لم تره من قبل، الفراش الغريب الذي ستنام عليه بمفردها، وغدا سوف تنظر في دليل الهاتف بحثا عن عناوين الإسطبلات التي تدرب من يريد على ركوب الخيل، ثم تذهب إلى عناوينها بحثا عن وظيفة لها هناك.
لم تستطع تخيل نفسها هناك، وهي تركب قطار الأنفاق، أو الترام، أو وهي تعتني بخيول جديدة، تتحدث إلى أشخاص جدد، تحيا على نحو يومي وسط حشود من البشر ليس من بينهم كلارك.
إنها حياة ومكان اختارتهما لهذا السبب بالتحديد؛ أن تكون حياة ليس فيها كلارك.
والشيء الغريب والمفزع الذي ظهر جليا أمامها بشأن ذلك العالم المستقبلي، كما تتخيله الآن، هو أنها لن تكون موجودة فيه؛ فقط ستتجول هنا وهناك، ستفتح فمها وتتحدث، ستفعل هذا وذاك، ولكنها لن تكون جزءا منه في حقيقة الأمر؛ لن تنتمي إليه. والغريب والمتناقض في ذلك هو أنها تفعل كل هذا، وتستقل تلك الحافلة على أمل استعادة نفسها. وكما تقول السيدة جاميسون - وكما كانت تقول هي ذاتها بنوع من الرضا - «تتولى مسئولية حياتها» من دون أن يكون هناك أحد يصب جام غضبه عليها، أو يسبب لها مزاجه المتقلب الكثير من التعاسة.
ولكن ما الذي ستهتم بشأنه؟ ما الذي سيشعرها أنها تحيا؟
وبينما كانت تهرب مبتعدة عنه - الآن - لا يزال كلارك يحتفظ بمكانه في حياتها، ولكن بعد أن تنجح في الهروب، وتستمر في حياتها، ما الذي ستضعه في مكانه؟ ما عساه - أو من عساه - يرقى لذلك التحدي ويحل محله؟
استطاعت أن تتوقف عن البكاء، ولكن سرت في جسدها رعدة. كانت في حالة سيئة، ولكن كان عليها أن تكون أكثر قوة، كان عليها أن تتماسك. كان كلارك يقول لها في بعض الأحيان وهو يدلف إلى إحدى الغرف التي انكمشت بداخلها محاولة كبت دموعها: «عليك أن تتماسكي.» وهو الشيء الذي عليها أن تفعله حقا الآن.
توقفت الحافلة في بلدة أخرى. كانت البلدة الثالثة التي بلغوها منذ استقلت الحافلة، مما يعني أنهم مروا ببلدة أخرى دون أن تلاحظ هي ذلك؛ فلا بد وأن الحافلة قد توقفت، وأن السائق قد ردد اسم البلدة، ولكنها لم تسمع أو ترى شيئا في خضم موجة الخوف التي اعترتها. وسرعان ما سيصلون إلى الطريق السريع الرئيسي، وسيهرعون مباشرة نحو تورونتو.
وستضيع هي.
ستضيع بالفعل. ما الغاية من استقلالها إحدى سيارات الأجرة وإعطاء سائقها العنوان الجديد؟ وما جدوى أن تستيقظ في الصباح الباكر وتنظف أسنانها وتلتقي بالعالم من حولها؟ لم تريد أن تحصل على وظيفة؟ لم تضع الطعام في فمها؟ لم تستقل المواصلات العامة من مكان لمكان؟
انتابها شعور بأن قدميها تبعد عن جسمها بمسافة هائلة، وأن ساقيها، في ذلك السروال الجديد والنظيف غير المعتاد، تثقلهما أغلال حديدية. لقد كانت تغوص في الأرض كحصان مصاب لن يقوى على النهوض مرة أخرى.
امتلأت الحافلة ببعض الركاب الآخرين، وبالطرود التي كانت تنتظر في تلك البلدة. وها هي سيدة وطفلها في عربته يلوحان مودعين شخصا ما، بينما يتحرك المبنى من خلفهما والمقهى الذي كان بمثابة محطة انتظار الحافلة. شعرت بأن هناك موجة تسللت عبر قوالب الطوب بالبناية ونوافذها، وكأنها على وشك أن تذيب كل شيء. ومع شعورها بأن حياتها في خطر، أخذت كارلا تدفع بكل من جسمها الضخم، وأطرافها التي كانت كالحديد الثقيل إلى الأمام. وراحت تتعثر في خطاها وهي تنادي بأعلى صوتها: «أنزلني هنا.»
جذب السائق مكابح السيارة وقال في حدة: «اعتقدت أنك ذاهبة إلى تورونتو؟» رمقها الركاب بنظرات مليئة بالفضول، ولم يكن لأحد أن يدري بكم الألم الهائل بداخلها. «يجب أن أنزل هنا.» «هناك دورة مياه في الخلف.» «لا، لا، علي أن أنزل هنا.» «لن أنتظر، أتفهمين؟ هل معك أمتعة بالأسفل؟» «لا، نعم. لا.» «ليس لديك أمتعة؟»
قال أحد الركاب: «إنه رهاب الأماكن المغلقة. هذا كل ما في الأمر.»
قال السائق: «هل أنت مريضة؟» «لا، لا، أريد أن أنزل فحسب.» «حسنا، لا بأس.»
تعال خذني، تعال خذني أرجوك.
سأفعل.
كانت سيلفيا قد نسيت أن تحكم غلق الباب، وأدركت أنه ينبغي لها أن تفعل ذلك الآن، لا أن تفتحه، ولكن كانت تلك الفكرة متأخرة، فقد فتحته بالفعل.
لكن ما من أحد بالباب.
لكنها كانت على يقين من أن صوت قرع الباب كان حقيقيا.
وأغلقت الباب، ولكنها أحكمت الغلق هذه المرة.
ترامى إلى مسامعها صوت غريب، نقرات عالية تصدر من جوانب النافذة. أضاءت الأنوار، لكنها لم تر شيئا، فأطفأتها مرة أخرى. قد يكون صوت أحد الحيوانات - ربما يكون سنجابا - ولم تكن الأبواب الفرنسية التي تفتح بين النوافذ وتؤدي إلى الفناء محكمة الغلق أيضا، فلم تكن مغلقة تماما، بل كانت مفتوحة بنحو بوصة أو ما شابه للتهوية. وشرعت في غلقها عندما سمعت صوت شخص يضحك بالقرب منها، وكأنه بجوارها في الغرفة.
قال الرجل: «إنه أنا، هل أفزعتك؟»
لقد كان ملاصقا للزجاج، بجوارها تماما.
قال: «إنه أنا كلارك، كلارك الذي يقطن نهاية الشارع.»
لم تكن لتطلب منه أن يدخل، لكنها لن تغلق الباب في وجهه؛ فمن الممكن أن يجذب الأبواب قبل أن تفعل ذلك. ولم تكن ترغب في إضاءة الأنوار أيضا؛ فقد كانت ترتدي قميصا قصيرا، كان ينبغي لها أن تجذب الغطاء من فوق الأريكة وتلفه حولها، ولكن كان الوقت قد فات لفعل ذلك.
قال: «أكنت ترغبين في تغيير ملابسك؟ إن ما أحمله هنا هو ما تحتاجينه تماما الآن.»
كان يحمل حقيبة تسوق في يده، دفع بها إليها ولكنه لم يحاول أن يقترب.
قالت في صوت قلق: «ما هذا؟»
قال: «انظري بنفسك لتري ما بداخلها، إنها ليست قنبلة، ها هي أمسكي بها.»
تحسست ما في داخل الحقيبة دون أن تنظر إليها، لقد كان بها شيء طري، ثم تبينت فيما بعد أزرار السترة، والقماش الحريري المصنوع منه القميص، والحزام في السروال.
قال: «اعتقدت أنه من الأفضل أن تستعيديها، إنها ملكك، أليس كذلك؟»
أطبقت على فكيها حتى لا تصطك أسنانها بعضها ببعض؛ حيث انتاب فمها وحلقها حالة من الجفاف المخيف.
قال بصوت هادئ: «عرفت أن تلك الأشياء تخصك.»
تحرك لسانها ككتلة من الصوف، وبالكاد استطاعت أن تقول: «أين كارلا؟» «تقصدين زوجتي كارلا؟»
أصبحت ترى وجهه بوضوح أكثر الآن، واستطاعت أن تراه وهو يزهو بنفسه. «زوجتي كارلا في المنزل، نائمة في فراشها، حيث يجب أن تكون.»
كان رجلا وسيما، ولكنه ذو مظهر سخيف في نفس الوقت، وكان طويلا، ونحيفا، وقوي البنية، ولكن مع انحناءة تبدو مصطنعة. وقد بدا متكلفا في محاولاته للتهديد المشوب بالزهو، وتدلت خصلة من خصلات شعره الأسود فوق جبهته، له شارب خفيف للغاية، عينان تمتلئان بالأمل والسخرية، وله ابتسامة صبيانية، ودائما ما تكون على حافة التجهم والعبوس.
كانت دوما تكره رؤيته، وقد أخبرت ليون بمدى كرهها له، فقال لها إن الرجل لا يثق بنفسه، وإنه ودود ربما على نحو زائد عن الحد.
وحقيقة أنه لا يثق بذاته لن تجعلها تشعر بالأمان الآن.
قال: «إنها منهكة بعض الشيء بعد مغامرتها الصغيرة. كان ينبغي أن تري وجهك ... أن تشاهدي النظرة التي ارتسمت على وجهك عندما تعرفت على تلك الملابس. ما الذي جال بخاطرك؟ هل اعتقدت أنني قتلتها؟»
قالت سيلفيا: «لقد اندهشت.» «أراهن أنك فعلت، بعد مساعدتك الهائلة لها لكي تهرب.»
قالت سيلفيا بجهد كبير: «لقد ساعدتها ... ساعدتها لأنها بدت لي في ضائقة.»
قال كما لو أنه يدرس الكلمة بعناية: «ضائقة ...» ثم أردف قائلا: «أعتقد أنها كانت كذلك بالفعل؛ لقد كانت في ضائقة شديدة عندما قفزت خارجة من تلك الحافلة، وهاتفتني كي أذهب وآخذها إلى المنزل. لقد كانت تبكي بشدة لدرجة أنني لم أفهم ما الذي كانت تقوله.» «هل كانت ترغب في العودة؟» «نعم، أتشكين أنها كانت ترغب في العودة؟ لقد كانت في حالة هستيرية وترغب بشدة في الرجوع. إنها فتاة ذات مشاعر متقلبة إلى أقصى حد، ولكني أعتقد أنك لا تعرفينها جيدا مثلما أعرفها أنا.» «ولكنها كانت شديدة السعادة برحيلها.» «هل كانت كذلك حقا؟ حسنا، سأصدقك، فأنا لم آت إلى هنا لأجادلك.»
لم تتفوه سيلفيا بحرف واحد. «لقد أتيت إلى هنا لكي أقول لك إنني لا أقدر تدخلك في حياتي أنا وزوجتي.»
قالت سيلفيا وهي توقن جيدا أنه من الأفضل لو صمتت: «إنها بشر بجانب كونها زوجتك.» «يا إلهي، هل هي كذلك بالفعل؟ زوجتي من البشر؟ حقا؟ أشكرك على تلك المعلومة الثمينة. لا تحاولي أن تستغلي ذكاءك معي يا سيلفيا.» «لا أستغل ذكائي.» «حسنا، أنا سعيد أنك لم تفعلي، فأنا لا أريد أن أنفجر غضبا، لكن لدي أمران أود أن أقولهما لك؛ الأمر الأول هو أنني لا أريد أن تدسي أنفك في أي مكان، ولا في أي وقت في حياتي أو حياة زوجتي، والأمر الثاني أنني لن أدعها تأتي إلى هنا بعد الآن، وهي نفسها لن ترغب في المجيء، إنني على ثقة من ذلك، فهي تحمل فكرة سيئة عنك الآن. حان الوقت لتتعلمي كيف تنظفين منزلك بنفسك.»
قال: «والآن، هل هذا مفهوم؟» «تماما.» «أوه، آمل ذلك، أتمنى أن يكون الأمر كذلك.»
قالت سيلفيا: «نعم.» «أوتدرين ما الذي أفكر به الآن؟» «ماذا؟» «أعتقد أنك مدينة لي بشيء.» «ما هو؟» «أعتقد أنك مدينة لي - ربما - باعتذار.»
قالت سيلفيا: «حسنا، إن كنت تعتقد ذلك، أنا آسفة.»
تحرك كلارك من مكانه، ربما ليذهب، ولكن مع حركة جسمه أطلقت صرخة عالية.
فراح يضحك، ثم وضع يده على إطار الباب ليتأكد أنها لم تغلقه.
قالت: «ما هذا؟»
فرد عليها: «ماذا؟» كما لو كانت تجرب خدعة ما ولكنها لم تنجح، ولكنه لمح شيئا انعكست صورته على الزجاج، فاستدار بسرعة ليرى ما الأمر.
كانت هناك على مسافة ليست ببعيدة من المنزل قطعة واسعة من الأرض الضحلة، وكانت عادة ما تمتلئ بالضباب ليلا في هذا الوقت من العام، وقد كساها الضباب في تلك الليلة، وطوال تلك الفترة، ولكن فجأة تغير ذلك الآن، فلقد تكاثف الضباب، واتخذ شكلا منفصلا، وحول نفسه إلى شيء متوهج وله رأس حادة. في البداية اتخذ شكل كرة من الهندباء، تتقدم للأمام متعثرة، ثم سرعان ما انكمشت تلك الكرة لتتخذ شكل حيوان غريب لونه أبيض ناصع، أشبه بوحيد قرن عملاق يهرع في اتجاههما مندفعا.
قال كلارك بهدوء وجدية: «يا إلهي!» ثم قبض على كتف سيلفيا. ولم يفزعها ذلك على الإطلاق؛ فلقد تقبلت ذلك وهي مدركة تماما أنه قد فعل هذا لكي يحميها أو ليطمئن نفسه.
ثم اتضحت الرؤية؛ فمن بين الضباب الكثيف، ومن بين ضوء عمل على تكبير الصورة - وهو ضوء اتضح أنه لسيارة كانت تمر عبر الطريق الخلفي، ربما بحثا عن مكان لكي تقف فيه - من بين ذلك كله ظهرت نعجة بيضاء صغيرة تتهادى لا يكاد حجمها يزيد عن حجم كلب راع.
ترك كلارك كتفها، ثم قال: «من أين أتيت بحق السماء؟»
قالت سيلفيا: «إنها نعجتكم، أليست هي؟»
قال: «فلورا، إنها فلورا.»
توقفت النعجة على بعد أقل من متر، وقد بدا عليها الخجل وهي تحني رأسها.
قال كلارك: «من أين أتيت يا فلورا؟ لقد أفزعتنا.»
اقتربت فلورا، ولكنها لم تقو على رفع رأسها، وأخذت تتمسح في أرجل كلارك.
قال كلارك مرتجفا: «يا لك من حيوان غبي، من أين أتيت؟»
قالت سيلفيا: «لقد كانت مفقودة.» «نعم بالفعل، اعتقدنا في حقيقة الأمر أننا لن نراها ثانية.»
رفعت فلورا رأسها، وقد انعكس بريق ضوء القمر في عينيها.
قال لها كلارك: «لقد أفزعتنا. أذهبت للبحث عن صديق؟ أفزعتنا حقا، أليس كذلك؟ لقد خيل إلينا أنك شبح.»
قالت سيلفيا: «إنه تأثير الضباب.» وقد خرجت من الباب ووقفت في الفناء الآن بعد أن شعرت بالأمان. «نعم.» «ثم جاء ضوء تلك السيارة.»
قال وقد استعاد رباطة جأشه: «بدت مثل شبح.» وقد أسعده أنه فكر في هذا الوصف. «نعم.»
قال وهو يربت على فلورا: «نعجة من الفضاء الخارجي، هكذا أنت؛ نعجة لعينة من الفضاء الخارجي.» ولكن عندما مدت سيلفيا يدها الخالية لكي تفعل مثله - فقد كانت يدها الأخرى ما زالت ممسكة بحقيبة الملابس التي كانت ترتديها كارلا - خفضت فلورا رأسها كما لو كانت تتأهب لتنطحها.
قال كلارك: «إن ردود أفعال النعاج غير متوقعة؛ فقد يبدو أنها مستأنسة، لكنها ليست كذلك بعد أن تكبر.»
قالت سيلفيا: «وهل كبرت؟ إنها تبدو صغيرة للغاية.» «لقد كبرت، ولن تتجاوز ذلك.»
وقف كلاهما ينظران إلى النعجة كما لو كانا يتوقعان أنها ستوفر لهما مساحة أكبر من الحديث، ولكن كان من الواضح أن ذلك لن يحدث؛ فمنذ تلك اللحظة لم يكن باستطاعتهما المضي قدما واستئناف الحديث أو التراجع عما بدر منهما، اعتقدت سيلفيا أنها ربما لمحت مسحة من الندم فوق وجهه بسبب ذلك.
وقد أقر هو قائلا: «لقد تأخر الوقت.»
قالت سيلفيا وكأنها زيارة عادية: «أعتقد هذا.» «حسنا، هيا بنا يا فلورا، لقد حان الوقت للعودة إلى المنزل.» «سأقوم ببعض الترتيبات الأخرى لطلب المساعدة إذا ما احتجتها، وعموما، فإنني لن أحتاجها الآن.» ثم أضافت ضاحكة: «وسأتوقف عن إزعاجك ومضايقتك.»
قال: «بالقطع، من الأفضل أن تدخلي الآن حتى لا تصابي بالبرد.» «كان الناس في الماضي يعتقدون أن تكاثف الضباب بالليل يمثل خطورة.» «هذا شيء جديد بالنسبة لي.»
قالت: «إذن طابت ليلتك، طابت ليلتك يا فلورا.»
ثم دق جرس الهاتف. «أستأذنك.» وقد رفع يده واستدار وهو يقول: «طابت ليلتك.»
لقد كانت روث على الهاتف.
قالت سيلفيا: «أوه، لقد تغيرت الخطة.» •••
لم تنم؛ فقد كانت تفكر في تلك النعجة الصغيرة، التي بدا ظهورها من بين الضباب وكأنه شيء مليء بالسحر، وتساءلت لو مر ليون بشيء كهذا كيف كان يمكن أن يتناوله؟ لو كانت شاعرة لكتبت قصيدة عما مرت به، ولكنها من خلال تجربتها كانت تدرك أن الموضوعات التي اعتقدت أنه يمكن للشاعر أن يعبر عنها لم تكن تروق لليون على الإطلاق. •••
لم تسمع كارلا صوت كلارك وهو يغادر المنزل، ولكنها شعرت به عندما عاد.
أخبرها أنه خرج لتوه كي يتفقد الأمور حول الإسطبل. «مرت سيارة عبر الطريق منذ فترة، وتساءلت عما يمكن أن يفعله أصحابها هنا، ولم أستطع النوم حتى خرجت لأطمئن بأن كل شيء على ما يرام.» «وهل كان الأمر كذلك؟» «على قدر ما رأيت.»
قال: «وبينما كنت بالخارج، أدركت أنني لا بد أن أقوم بزيارة لأول الطريق، لقد قمت بإعادة الملابس.»
اعتدلت كارلا وجلست في فراشها. «هل أيقظتها؟» «لقد كانت مستيقظة، لقد سارت الأمور على ما يرام، لقد تبادلنا حديثا قصيرا.» «أوه.» «سارت الأمور على ما يرام.» «لم تذكر لها شيئا عن ذلك الأمر، أليس كذلك؟» «بلى، لم أذكر لها شيئا عن ذلك.» «لقد كان الأمر كله مختلقا، لقد كان كذلك بالفعل، يجب أن تصدقني، لقد كانت كذبة.» «لا عليك، حسنا.» «يجب أن تصدقني.» «أنا أصدقك.» «لقد اختلقت كل هذا.» «حسنا.»
وصعد إلى الفراش.
قالت: «ساقاك باردتان كما لو أنهما قد ابتلتا.» «إنه الندى الكثيف.»
قال: «اقتربي هنا، عندما قرأت رسالتك شعرت داخلي بالخواء. هذا صحيح. لو كنت تركتني، لكنت شعرت بأنه لم يتبق لي شيء في حياتي.» •••
استمر الجو صحوا، وراح الناس يحيي بعضهم بعضا، في الشوارع، والمتاجر، وفي مكتب البريد، مشيرين إلى أن فصل الصيف قد وصل أخيرا، وراحت الحشائش في المراعي، وحتى المحاصيل المنكمشة، ترفع رأسها معلنة تحيتها لقدوم الصيف. وجفت البرك والمستنقعات، وتحول الطين إلى تراب، وهبت بعض الرياح الخفيفة الدافئة، وشعر كل فرد بقدرته على ممارسة مهامه مرة أخرى بهمة ونشاط. ولم يتوقف رنين الهاتف، وانهالت التساؤلات عن مواعيد سباقات الخيل، وعن أوقات التدريب، وأبدى القائمون على مخيمات الصيف اهتمامهم الآن، بعد أن ألغوا الرحلات المتجهة إلى المتاحف. واقتربت المركبات الصغيرة محملة بالأطفال الصغار دائمي الحركة، وراحت الخيول تقفز عبر السياج، وقد تحررت من أغطيتها.
نجح كلارك في العثور على تسقيفة كبيرة بما يكفي بسعر معقول، وقد أمضى طوال اليوم الأول الذي أعقب «يوم الهروب» (وهو الاسم الذي أطلقوه على رحلة كارلا بالحافلة) في إصلاح سقف حلقة التدريب.
وظلا طوال يومين يلوح أحدهما لآخر، وهما يؤديان أعمالهما اليومية المعتادة. وإذا ما تصادف ومرت كارلا بجواره ولم يكن هناك أحد يراهما، فإنها كانت تطبع قبلة على كتفه من فوق قماش قميصه الصيفي الخفيف.
قال لها: «إن حاولت مرة أخرى أن تهربي بعيدا، فسأضربك.» فردت قائلة: «أحقا ستفعل؟» «ماذا؟» «تضربني؟» «تماما، هو ذاك.» كانت روحه المعنوية مرتفعة بشدة، وكانت جاذبيته لا تقاوم مثلما رأته أول مرة.
وكانت الطيور تنتشر في كل مكان، وقد امتلأت السماء بالطيور السوداء ذات الأجنحة الحمراء، وبعصافير أبي الحناء، وكان هناك زوج من اليمام راح يغرد منذ أن طلع الصباح، وظهرت الكثير من الغربان والنوارس التي انطلقت من فوق البحيرة في مهمات استطلاعية، بينما حطت طيور البغاث الضخمة فوق أحد أشجار السنديان الذابلة التي تقع على مسافة نصف ميل عند أطراف الغابة. وقد جلست في البداية لتجفف أجنحتها الكثيفة، وكانت ترفعها بين الحين والآخر في محاولة للتحليق؛ فقد كانت ترفرف وتطير في دورة حول المكان، ثم تجتمع وتنظم نفسها لكي تسمح للشمس والهواء الدافئ بأن يؤديا مهامهما في تجفيف أجنحتها. وفي غضون يوم أو نحو ذلك استردت الطيور قوتها، وحلقت عاليا، ثم راحت تدور وتقترب من الأرض، وتختفي حينا بين الغابات وتعاود مرة أخرى لتستقر فوق شجرتها الجرداء التي اعتادت عليها.
وظهرت جوي تاكر - مالكة ليزي - مرة أخرى وقد اكتسبت بشرتها بعض السمرة، ولكنها بدت ودودة هذه المرة. كانت قد سئمت من الأمطار وذهبت لتمضي إجازتها في تسلق جبال روكي، وها هي قد عادت الآن.
قال كلارك: «جئت في الوقت المناسب؛ أعني من حيث الطقس.» وراح هو وجوي تاكر يمزحان كما لو أنه لم يحدث بينهما شيء من قبل.
قالت: «تبدو ليزي في حالة جيدة، ولكن أين هي صديقتها الصغيرة؟ ما اسمها؟ ... فلورا؟»
فقال كلارك: «رحلت، ربما ذهبت إلى جبال روكي.» «ثمة الكثير من النعاج البرية هناك، نعاج ذات قرون رائعة.» «لقد سمعت ذلك من قبل.» •••
لنحو ثلاثة أو أربعة أيام انشغل كل من كلارك وكارلا في ممارسة أعمالهما بدرجة لم تمكنهما من الخروج وإلقاء نظرة على صندوق البريد، وعندما فتحته كارلا فيما بعد، وجدت به فاتورة الهاتف، وإعلانا بجائزة قدرها مليون دولار إذا ما اشتركا في إحدى المجلات، وخطابا من السيدة جاميسون.
عزيزتي كارلا
كنت أفكر في الأحداث التي وقعت في الأيام القليلة الماضية (ربما أقول الدرامية بعض الشيء)، وقد وجدت أنني كنت أتحدث إلى نفسي، غير أني في الواقع كنت أتحدث إليك، وقد حدث ذلك كثيرا؛ لذا وجدت أنه من الأفضل أن أتحدث معك بالفعل حتى لو كان ذلك من خلال رسالة - وهي أفضل وسيلة في الوقت الحالي - ولا تقلقي، فليس عليك أن ترسلي أي رد.
واسترسلت السيدة جاميسون قائلة إنها كانت تخشى أن تكون قد بالغت في التدخل في حياة كارلا، وإنها ربما ارتكبت خطأ حين اعتقدت بأن سعادة كارلا وحريتها شيء واحد، ولكن كل ما كان يهمها هو سعادة كارلا فحسب، وأنها ترى أنه ينبغي لها - أي كارلا - أن تلتمس تلك السعادة في زواجها. وكل ما تأمله الآن أن تكون رحلة كارلا وأحاسيسها المضطربة قد ساعدتها على إخراج مشاعرها الحقيقية إلى السطح، وربما ساعدت زوجها أيضا على أن يدرك مشاعره هو الآخر تجاهها.
وقالت إنها ستتفهم جيدا إذا ما رغبت كارلا في تجنب الذهاب إليها في المستقبل، وإنها ستظل ممتنة لكارلا دوما لحضورها ووقوفها بجانبها في مثل ذلك الوقت العصيب من حياتها.
ولكن كان الشيء الأغرب والأعجب بالنسبة لي في خضم كل تلك الأحداث هو ظهور فلورا مرة أخرى، بل إنه قد بدا لي أمرا أشبه بالمعجزة. أين كانت طوال كل ذلك الوقت؟ ولم اختارت ذلك التوقيت بالذات للظهور؟ إنني على ثقة من أن زوجك قد وصف لك ما حدث. لقد كنا نتحدث عند باب الفناء، وكنت أنا أول من رأى ذلك الشيء الأبيض الذي ظهر لنا فجأة من وسط الظلام حيث كنت أنا في مواجهه باب الفناء. أعلم جيدا بالطبع أن ذلك كان من تأثير الضباب، لكنه كان شيئا مرعبا بحق. أعتقد أنني أطلقت صيحة عالية حينها، وأظن أنني لم أمر من قبل بمثل هذا الوجل بمعناه الحقيقي، بل إنني أعتقد أنه يجب أن أكون صادقة وأقول إنه إحساس بالفزع والخوف. وهكذا كنا رغم أننا شخصان راشدان إلا أننا تسمرنا في مكاننا من شدة الخوف وإذا بفلورا الصغيرة المفقودة تظهر من وسط الضباب.
كان هناك شيء غريب ومميز في هذا الأمر. أعلم جيدا أن فلورا ما هي إلا مجرد حيوان عادي صغير، وأنها قد ذهبت بعيدا بحثا عن شريك للتزاوج لكي تنجب نعاجا صغيرة. وبشكل أو بآخر فإن عودتها لا تتعلق على الإطلاق بحياتنا كبشر، إلا أنه برغم ذلك، فظهورها في تلك اللحظة كان له تأثير عميق على زوجك وعلي في آن واحد؛ فعندما ينتاب اثنين من البشر فرقهما العداء شعور بالحيرة - لا بالفزع - في الوقت نفسه لرؤيتهما شبحا ما فإنه يتولد في تلك اللحظة رباط ما، ويجدان نفسيهما وقد اتحدا بطريقة غير متوقعة. اتحدا في الإنسانية؛ فهذا هو الوصف الوحيد الذي يمكن أن أطلقه. لقد تفرقنا تقريبا كأصدقاء؛ لذا فإن فلورا وجدت مكانها في حياتي كملاك جميل، وأعتقد أنها كانت كذلك في حياة زوجك وحياتك.
مع خالص تحياتي: سيلفيا جاميسون
بمجرد أن انتهت كارلا من قراءة الرسالة، طوتها، ثم أحرقتها في الحوض، وقد ارتفعت ألسنة اللهب ارتفاعا مزعجا، وراحت كارلا تفتح ماء الصنوبر، وتلتقط البقايا المتفحمة المثيرة للاشمئزاز وألقت بها في المرحاض، وهو الأمر الذي كان ينبغي أن تفعله في بادئ الأمر.
ثم انشغلت كارلا في عملها لبقية اليوم، وفي اليوم التالي، وما تلاه. وخلال ذلك الوقت، كان عليها أن تأخذ فريقين في نزهة بالخارج فوق الخيول، وأن تعطي دروسا لبعض الأطفال سواء أكانوا منفردين أو في مجموعات. وفي المساء، عندما كان يطوقها كلارك بذراعيه - فرغم كونه منشغلا كما هو الآن، لم يكن يشعر قط بالتعب أو بالغضب للدرجة التي تمنعه من احتضانها - فإنها لم تكن تجد صعوبة في أن تكون متعاونة معه.
لقد كان الأمر يبدو كما لو أن إبرة قاتلة تخترق صدرها، وعليها أن تلتقط أنفاسها بهدوء وحذر؛ حتى تتجنب الشعور بها، ولكن كان عليها بين الحين والآخر أن تأخذ نفسا عميقا فتشعر أنها لا تزال موجودة في نفس المكان. •••
أخذت سيلفيا شقة في المدينة الجامعية حيث تدرس، ولم تعرض منزلها للبيع، أو على الأقل لم تكن هناك لافتة أمامه تشير إلى ذلك. وذكرت الصحف أن ليون جاميسون حصل على إحدى الجوائز بعد وفاته، ولم يرد ذكر أي نقود هذه المرة تتعلق بالجائزة. •••
وبحلول أيام الخريف الذهبية الجافة - وهو من الفصول المثمرة التي تدر عليهم الربح - وجدت كارلا نفسها وقد اعتادت على التفكير الحاد الذي استقر بداخلها، ولكنه لم يعد حادا الآن، بل إنه لم يعد يثير دهشتها، ولكن ما أصبح مستقرا بداخلها هو بعض الأفكار المغرية؛ إغواء مستتر مستقر في ذاتها.
وكان كل ما عليها هو أن ترفع عينيها، أن تنظر فقط في اتجاه واحد، لتعرف إلى أين يمكن أن تتجه. تتريض في المساء عندما تنتهي من أعمالها المنزلية المعتادة، وتذهب إلى أطراف الغابة، حيث الشجرة الجرداء، وحيث تعقد الصقور الجارحة حفلاتها.
ثم ترى هناك تلك العظام الصغيرة القذرة ملقاة فوق الحشائش. والهيكل العظمي ما زال يتشبث به بعض الجلد الممزق الملطخ بالدماء؛ هيكل عظمي تستطيع أن تحمله ككوب الشاي بيد واحدة. تحمل المعرفة في يد واحدة.
أو ربما لا، لا يوجد شيء هناك.
ربما تكون قد حدثت أشياء أخرى، ربما يكون قد طارد فلورا حتى أبعدها، أو أوثقها في ظهر الشاحنة، وذهب بها إلى مسافة بعيدة ثم أطلق سراحها، قد يكون أعادها إلى المكان الذي أحضرها منه؛ لكي لا تكون موجودة أمامهما لتذكرهما دائما بما حدث.
قد تكون حرة.
مرت الأيام ولم تقترب كارلا من المكان، لقد قاومت ذلك الإغواء.
صدفة
في منتصف شهر يونيو من عام 1965، كان الفصل الدراسي قد انتهى في تورانس هاوس، ولم تعرض على جولييت وظيفة دائمة - فالمدرس الذي كانت تحل محله تماثل للشفاء - وبمقدورها الآن أن تعود إلى منزلها. بيد أنها قررت قبل عودتها أن تعرج على صديقتها التي تعيش بالقرب من الشاطئ.
منذ شهر تقريبا، كانت قد ذهبت مع مدرسة أخرى - تدعى خوانيتا، وهي الوحيدة من ضمن فريق العمل التي تقاربها في العمر، وهي أيضا صديقتها الوحيدة - لمشاهدة معالجة جديدة لفيلم قديم وهو فيلم «هيروشيما مون أمور»، وقد اعترفت خوانيتا فيما بعد أنها كانت - مثلها مثل المرأة التي في الفيلم - تحب رجلا متزوجا؛ وهو والد أحد الطلاب. ثم قالت جولييت إنها وجدت نفسها في مثل هذا الموقف أيضا إلى حد ما، لكنها لم تسمح للأمور أن تتطور؛ وذلك بسبب داء زوجته المأساوي. لقد كانت زوجته ميئوسا من شفائها وعلى شفا الموت الدماغي. فعلقت خوانيتا أنها كانت تتمنى أن تكون زوجة حبيبها في مثل هذه الحالة من الموت الدماغي، ولكنها لم تكن كذلك، بل كانت مفعمة بالحيوية والقوة، وكان من الممكن أن تتسبب في فصل خوانيتا من عملها.
وبعد ذلك بفترة قصيرة وصل خطاب ما، كما لو كانت استحضرته تلك الأكاذيب غير اللائقة أو أنصاف الحقائق. وقد بدا الظرف متسخا بعض الشيء كما لو أنه مكث في جيب حامله فترة طويلة، وكان موجها إلى «جولييت (المدرسة)، تورانس هاوس، 1482، شارع مارك، فانكوفر بريتيش كولومبيا»، وأعطته مديرة المدرسة لجولييت قائلة: «أعتقد أن هذا الخطاب لك، لكن من العجيب أنه لا يحمل اسم العائلة، ولكن العنوان صحيح، بمقدورهم تحري ذلك.» كان هذا هو نص الخطاب:
عزيزتي جولييت
كنت قد نسيت اسم المدرسة التي تعملين بها، لكنني، فجأة تذكرتها من دون سبب، فتراءى لي الأمر وكأنه إشارة لكي أكتب لك. آمل أن تكوني ما زلت في المدرسة؛ فإنه من الصعب أن تتركي الوظيفة قبل انتهاء الفصل الدراسي، وعلى أي حال لا أظن أنك شخصية انهزامية.
ما رأيك في طقس الساحل الغربي لدينا؟ إن كنت تعتقدين بأن الأمطار تهطل بغزارة في فانكوفر، فعليك أن تتوقعي إذن ضعف ما تتخيلين، وهذا هو الحال لدينا هنا.
دائما ما أتخيلك وأنت جالسة تتطلعين إلى التخوم، النجوم. أرأيت لقد كتبت تخوم، إنه وقت متأخر من الليل، وهو الوقت الذي اعتدت فيه الدخول إلى الفراش.
ما زالت آن كما هي. عندما عدت من رحلتي اعتقدت أنها قد أخفقت إخفاقا كبيرا، ولكن ذلك راجع بدرجة كبيرة لأنني رأيت التدهور الذي حدث لها في السنتين أو الثلاث الأخيرة مرة واحدة. ولكني لم أكن ألحظ تدهورها عندما كنت أراها كل يوم.
أظن أنني لم أخبرك بتوقفي في ريجينا لرؤية ابني الذي أصبح يبلغ من العمر الآن أحد عشر عاما. إنه يعيش مع أمه. لقد لاحظت تغيرا كبيرا طرأ عليه هو الآخر.
أنا سعيد الآن لأنني تذكرت اسم المدرسة، لكني أخشى أني ما زلت لا أذكر الاسم الأخير لك، ولكني سأضع طابع البريد وأرسل الخطاب هكذا على أي حال، وآمل أن يصلني الاسم.
أفكر فيك دائما.
أفكر فيك دائما.
أفكر فيك داااااااااااائما.
استقلت جولييت الحافلة من قلب مدينة فانكوفر إلى هورس شو باي، ثم استقلت إحدى العبارات، ومرت بعد ذلك من شبه الجزيرة بالبر الرئيسي، ثم عبارة أخرى ثم إلى اليابسة ثانية، وهكذا حتى بلغت المدينة التي يقطن بها الرجل الذي أرسل الخطاب، وهي مدينة ويل باي. ويا لها من سرعة كبيرة تلك التي ينتقل بها المرء من المدينة إلى البرية، حتى قبل بلوغ هورس شو باي! وكانت جولييت طوال فترة الفصل الدراسي تعيش وسط المروج والحدائق بكيريسديل بما فيها من جبال الشاطئ الشمالي، التي تبدو أشبه بستارة المسرح عندما تنقشع عنها الغيوم، ويصبح الطقس صافيا. لقد كانت ملاعب المدرسة محمية، وحضارية تحيط بها الأشجار والزهور اليانعة طوال العام، وتحتضنها الجدران الحجرية، وكانت أراضي البيوت المحيطة تشبه ملاعب المدرسة. وقد تمثلت تلك الوفرة والجمال في زهور: الوردية، البهشية، والغار والحلوة. ولكن قبل أن تتوغل بعيدا لتصل هورس شو باي، تقترب الغابات من الرائي، وهي غابات حقيقية وليست حدائق الغابات، وانطلاقا من هذه المنطقة وعلى امتداد البصر لا توجد سوى مناظر المياه والصخور، والأشجار الداكنة، والطحالب المعلقة. وبين الحين والآخر، تجد آثار الدخان متصاعدة من بعض المنازل الصغيرة المتهدمة والرطبة والتي تحيط بها أفنية مليئة بالحطب، وألواح الخشب، والسيارات، وبعض أجزاء من السيارات، والدراجات المستعملة أو المكسورة، وبعض اللعب، وسائر الأشياء الأخرى التي يضعها الأشخاص بالخارج عندما يفتقرون إلى وجود مرأب أو قبو بالمنزل.
ولم تكن المدن التي توقفت بها الحافلة بالمدن المنظمة على الإطلاق. وفي بعض الأماكن، شيدت بعض البيوت المتجاورة المتشابهة - التابعة لشركة ما - وعلى مقربة شديدة بعضها من بعض، غير أن معظم تلك البيوت كانت مشابهة للبيوت التي تقع في الغابات؛ حيث تجد كل منزل يحيط به فناؤه الذي تتراكم فيه أشياء متناثرة، كما لو أن هذه البيوت بني كل منها على مرأى من الآخر من قبيل المصادفة فقط . لم تكن هناك طرق ممهدة، فيما عدا الطريق السريع الذي يمتد بينها، ولا أرصفة جانبية، ولم توجد مبان ضخمة متراصة لتضم «مكاتب البريد»، أو «مكاتب البلدية»، ولم تحتو هذه المدن أيضا على أي أبنية بها متاجر مزينة ومنمقة، ولا يوجد بها أثر لتماثيل تخلد ذكرى الحروب، أو أي نافورة للشرب، أو حتى متنزه صغير تكسوه الزهور. قد ترى في ناحية ما أحد الفنادق، ولكنه عادة ما كان يشبه الحانة الصغيرة، أو تجد مدرسة حديثة أو مستشفى ... قد يتسم أي منهما بالوقار والاحترام، لكنه بسيط ومتواضع كالحظيرة.
وقد شعرت في لحظة ما - وخاصة عند العبارة الثانية - ببعض الشكوك التي قلبت لها معدتها حول الأمر برمته. «أفكر فيك دائما.» «دائما ما أفكر فيك.»
هذه هي دوما الأشياء التي يعمد بعض الناس لقولها لإراحة الآخرين، أو بدافع رغبة قوية لإحكام السيطرة على شخص ما.
ولكن لا بد وأن هناك فندقا ما، أو كبائن للسائحين على الأقل، في ويل باي. ستذهب إلى هناك. كانت قد تركت حقيبتها الضخمة في المدرسة، على أن تعود لإحضارها لاحقا؛ فهي لا تحمل سوى حقيبة ترحال صغيرة تضعها على كتفها، حتى لا تكون لافتة للنظر. ستمضي ليلة واحدة فقط. ربما تهاتفه.
وماذا تقول؟
تصادف أنها مرت من ذلك الطريق لزيارة صديقة لها؛ وهي خوانيتا صديقتها من المدرسة؛ حيث تمتلك مكانا هنا لتمضي به الصيف ... أين؟ لدى خوانيتا كوخ في الغابة؛ فهي من ذلك النوع من النساء اللواتي يتسمن بالجرأة ويفضلن الانطلاق (على خلاف خوانيتا الحقيقية التي نادرا ما تتخلى عن حذائها ذي الكعب العالي). واتضح أن الكوخ لا يبعد عن جنوب ويل باي. وحالما أنهت زيارتها إلى الكوخ وإلى خوانيتا، أخذت جولييت تفكر ... لقد كانت تفكر - بما أنها كانت هناك بالفعل - أنه ربما بمقدورها أيضا أن ... •••
الصخور، والأشجار، والمياه، والثلوج؛ كانت هذه الأشياء، التي يتغير ترتيبها ومكانها باستمرار، هي ما تزين المشهد منذ ستة أشهر مضت وهي تطل من نافذة أحد القطارات في صباح أحد الأيام ما بين أعياد الميلاد والسنة الجديدة. كانت الصخور ضخمة، ذات بروز في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى ناعمة مثل الجلمود، وقد يتباين لونها ما بين الرمادي الداكن، أو الأسود. أما الأشجار فكانت دائمة الخضرة في أغلبها؛ سواء أشجار الصنوبر، أو الراتينج، أو الأرز. وكانت أشجار الراتينج - وخاصة السوداء منها - تحتوي على ما يشبه الأشجار الصغيرة الزائدة؛ أي شجيرات صغيرة منفصلة قائمة في الجزء العلوي منها. أما الأشجار التي لم تكن دائمة الخضرة فكانت ضعيفة وعارية؛ مثل أشجار الحور، أو الطمراق، أو جار الماء. وكان لهذه الأشجار بعض الجذوع المبقعة. وقد استقرت الثلوج بكثافة فوق قمم الصخور، والتصقت على جانبي الأشجار ناحية اتجاه الرياح، أو كونت غطاء رقيقا وناعما فوق أسطح العديد من البحيرات المتجمدة سواء الصغيرة أو الكبيرة. ولا تتحرر المياه من الثلوج إلا قليلا في الجداول الضيقة المظلمة التي تنساب بسرعة شديدة.
وضعت جولييت كتابا مفتوحا على ركبتها، ولكنها لم تكن تقرأ، فلم ترفع عينيها عما مرت به من مناظر طبيعية. جلست وحيدة على مقعد مزدوج، وفي مواجهتها مقعد آخر كان شاغرا، وكان هذا هو المكان الذي يتحول فيه مقعدها لفراش في المساء. وبدا الحمال في تلك اللحظة منهمكا في إعداد عربة النوم، وإجراء بعض الترتيبات من أجل المساء. وفي بعض الأماكن من العربة كانت الأغطية الخضراء الداكنة ذات السحابات لا تزال تلامس الأرض، وكانت تنبعث رائحة من أقمشتها، التي تشبه قماش المخيمات، وقد انبعثت أيضا بعض روائح ملابس النوم ودورات المياه. وكلما فتح الباب في أي من طرفي العربة هبت لفحة من هواء الشتاء البارد. وقد ذهبت الدفعة الأخيرة من الناس إلى تناول طعام الإفطار، في حين عاد آخرون.
كان هناك آثار أقدام وسط الثلوج؛ آثار أقدام حيوانات صغيرة، وكأنها أعقاد مكونة من حبات صغيرة تتحلق ثم تغيب عن الأنظار.
كانت جولييت في الحادية والعشرين من عمرها، وقد حصلت بالفعل على درجة الليسانس والماجستير في الكلاسيكيات، وتعكف في الوقت الحالي على تحضير رسالة الدكتوراه، ولكنها اقتطعت بعضا من وقتها من أجل تدريس اللغة اللاتينية في مدرسة خاصة للبنات في فانكوفر. ولم تتلق جولييت أي دورات تدريبية في التدريس، إلا أن ما جعل المدرسة تقدم على تعيينها هو خلو الوظيفة في منتصف الفصل الدراسي بصورة مفاجئة، وربما بسبب عدم تقدم أحد للإعلان المنشور، وكان المرتب أقل بكثير مما يتقاضاه أي مدرس مؤهل، ولكن جولييت كانت راضية بحصولها على أي نقود، بعدما أمضت سنوات كثيرة في المنح الدراسية الشحيحة.
كانت فتاة طويلة القامة، ذات بشرة بيضاء، ومظهر جميل، وشعر بني فاتح اللون لا ينتفش إذا ما طاله رذاذ الماء. كانت تشبه طالبات المدرسة النشيطات النابهات، رأسها دوما مرفوع عاليا، ولها ذقن دقيق مستدير، وفم عريض ذو شفاه رفيعة، وأنف أفطس، وعينان لامعتان، وجبهة تتوهج غالبا من فرط المجهود أو التقدير. وكان معلموها سعداء بها؛ فهم ممتنون لأي شخص يدرس اللغات القديمة هذه الأيام، وبخاصة إن كان هذا الشخص يتمتع بموهبة كبيرة، لكنهم كانوا يشعرون نحوها بالقلق في الوقت نفسه. وتكمن مشكلتها في كونها فتاة؛ فإذا ما حدث وتزوجت - وهو شيء قد يحدث بالطبع؛ حيث إنها لم تكن ذات مظهر سيئ بالنسبة لطالبة دراسات عليا - فإن كل مجهوداتها ومجهوداتهم ستضيع سدى، وإذا لم تتزوج فقد تصبح بائسة ومنعزلة ووحيدة وتفقد جاذبيتها لدى الرجال (الذين هم أيضا بحاجة إليهن؛ حيث إنه عليهم الإنفاق على عائلاتهم عكس النساء)، ولن تستطيع أن تدافع عن اختيارها الغريب لدراسة الكلاسيكيات، وأن تتقبل ما يراه الناس شيئا عديم الفائدة وكئيبا، ولن تنجح في التخلص من تلك الآراء مثلما يفعل الرجال؛ فالخيارات الغريبة تعد أسهل بالنسبة للرجال؛ حيث يجد معظمهم الكثير من النساء اللواتي يسعدن بالارتباط بهم، ولكن العكس ليس صحيحا بالنسبة للنساء.
وعندما عرضت عليها فرصة التدريس، حثها الكثيرون على الإقدام عليها قائلين إنه لشيء جيد بالنسبة لها أن تخرج للعالم، وتتعرف على الحياة الحقيقية.
وكانت جولييت معتادة على ذلك النوع من النصائح، ولكن الأمر المحبط بالنسبة لها هو أن تصدر تلك النصيحة من أولئك الرجال الذين لا يبدو عليهم أي أثر أنهم قد جابوا العالم الخارجي بشغف وإثارة. وفي المدينة التي نشأت بها، كان ذكاؤها يصنف وكأنه نوع من العرج أو كإبهام زائد لديها، وعلى الفور كان الناس يشيرون إلى العيوب والنواقص المتوقعة التي قد تصاحب هذا النوع من الذكاء - كعدم قدرتها على تشغيل آلة الحياكة، أو ربط طرد على نحو أنيق، أو ملاحظة أن ملابسها الداخلية قد تتكشف في بعض الأحيان. كانت المسألة تتعلق بما سيحل بها مستقبلا.
وقد حدث ذلك حتى لأبيها وأمها اللذين كانا يفخران بها. أرادتها أمها أن تكون شخصية مشهورة، ولتحقيق ذلك شجعتها على أن تتعلم رياضة التزلج والعزف على البيانو، ولكنها لم تفعل أيا منهما برغبتها ولم تتفوق فيهما. وكان كل ما يريده والدها هو أن تنسجم وتتكيف مع الوسط المحيط.
وكان يقول لها دوما: يجب أن تتكيفي مع من حولك، وإلا سيجعل الناس من حياتك جحيما (وهو بهذا يغفل حقيقة أنه هو ذاته ووالدة جولييت لا ينسجمان مع من حولهما تماما، ومع هذا فهما ليسا بتعيسين. ربما ساوره الشك في أن جولييت قد تكون محظوظة مثلهما).
بمجرد أن التحقت بكليتها قالت جولييت إنها تشعر بالفعل بالتوافق والانسجام، وإنها تشعر بالتوافق والانتماء مع من حولها في قسم الكلاسيكيات، وهي على ما يرام تماما.
ومن هذا القسم جاءتها نفس الرسالة، من أساتذتها، الذين كانوا يقدرون موهبتها، ومبهورين بها؛ فسعادتهم بها لم تخف قلقهم؛ فقد نصحوها بالخروج للعالم، يقولون ذلك كما لو أنها لم تكن تعيش في العالم حتى الآن، وكأنها كانت في اللامكان.
ومع هذا فقد كانت تشعر بالسعادة وهي في القطار.
إنها غابة «التايجا»، هكذا حدثت نفسها. لم تكن تعلم إن كانت هذه هي الكلمة الصحيحة التي تطلق على ما تتطلع إليه الآن. ربما واتتها - على صعيد ما - فكرة تخيل نفسها سيدة شابة في رواية روسية، تخرج إلى أرض غير مألوفة، مثيرة، باعثة على الرعب؛ حيث تعوي الذئاب في ظلمة الليل، وحيث تتقابل وقدرها، ولا تبالي إن كان من المرجح أن ينتهي المقام بذلك القدر - في الرواية الروسية - ليكون كئيبا أو مأساويا أو كليهما معا.
وعلى أي حال، فالأقدار الفردية ليست هي النقطة الأهم؛ إذ إن ما كان يجذبها - بل ويفتنها في الواقع - هو تلك اللامبالاة، والتكرار، وعدم الاهتمام، والازدراء للتناغم الذي تجده في أسطح صخور الدرع الكندية في حقبة ما قبل الكامبري.
وفجأة لمحت بجانب عينها خيالا لشخص ما، ثم ساقين داخل سروال تدخلان إلى مكانهما. «هل هذا المقعد مشغول؟»
بالطبع لا. ماذا عساها أن تقول؟
كان يرتدي حذاء أنيقا ذا شرابة، وسروالا بني اللون، وسترة بمربعات تجمع بين اللونين البني والأصفر ذات خطوط رفيعة كستنائية اللون، وقميصا أزرق داكنا، وربطة عنق كستنائية مرقطة باللون الذهبي والأزرق. كان كل ما يرتديه من ملابس جديدا، وبدت جميعها - فيما عدا الحذاء - واسعة كما لو أن الجسد الذي بداخلها قد تقلص وانكمش بعد شرائها.
كان رجلا في الخمسينيات من عمره على الأرجح، ذا شعر بني ذي خصلات ذهبية لامعة تملأ فروة رأسه (لا يمكن أن يكون ذلك الشعر مصبوغا، أليس كذلك؟ من عساه يصبغ تلك الخصلات القليلة من الشعر؟) وكان ذا حواجب داكنة، مائلة إلى الاحمرار، مستدقة الطرف وكثيفة، وكانت بشرة وجهه مليئة بالنتوءات وسميكة مثل سطح اللبن الرائب.
هل كان قبيحا؟ نعم، بالقطع. لقد كان قبيحا، ولكنها كانت تعتقد أن مثله مثل العديد من الرجال ممن هم في مثل عمره، لكنها لم تكن لتقول، فيما بعد، إنه كان قبيحا بصورة ملحوظة.
رفع حاجبيه، واتسعت عيناه اللامعتان ذات اللون الفاتح كما لو أنه يرسم الود والاجتماعية، ثم جلس في مواجهتها وقال: «ليس هناك الكثير ليشاهده المرء من هنا.»
قالت وهي تخفض عينيها لتطالع الكتاب: «لا.»
قال كما لو أن الأمور تسير بسلاسة: «آه، أرى ذلك، وإلى أين تتجهين؟» «فانكوفر.» «وأنا أيضا. لا بد وأن نمر بطول الطريق عبر الريف، وسوف ترين ذلك وأنت هناك، أليس كذلك؟» «مممم.»
ولكنه أصر على الاستمرار في الحديث. «هل ذهبت إلى تورونتو من قبل؟» «نعم.» «إنها مدينتي، تورونتو. لقد أمضيت بها حياتي كلها، هل هي موطنك أنت أيضا؟»
قالت جولييت: «لا.» ثم نظرت مرة أخرى إلى الكتاب وهي تحاول جاهدة أن تطيل فترة الصمت، ولكن كان هناك شيء قوي - ربما نشأتها، شعورها بالإحراج، ربما رقتها - هو ما دفعها لكي تنطق باسم مدينتها، ثم تخبره بموقعها من خلال المسافة التي تبعدها عن بعض المدن الكبرى، ومكانها بالنسبة لبحيرة هورون وجورجيان باي. «لدي ابنة عم في كولينجوود، إنها مدينة جميلة هناك، لقد ذهبت لزيارتها هي وعائلتها مرتين. هل تسافرين بمفردك؟ مثلي؟»
وأخذ يلوح بيديه ويضرب برفق كفا بكف. «نعم.» وظنت في نفسها أنه يكفي ذلك، كفى عند هذا الحد. «هذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها في رحلة طويلة لأي مكان. إنها رحلة طويلة بمفردك.»
ولم تنبس جولييت ببنت شفة. «لقد رأيتك وأنت تقرئين بمفردك، وحدثت نفسي قائلا بأنها ربما تسافر بمفردها، وعليها أن تقطع مسافة طويلة أيضا، فلم لا نتجاذب أطراف الحديث معا كأصدقاء؟»
سرت موجة من الاضطراب والارتباك بداخل جولييت عندما تفوه بتلك الكلمات: «التحدث كأصدقاء.»
ففهمت أنه لا يحاول أن يقيم معها علاقة؛ فمن بين الأشياء اللاأخلاقية التي قد تواجهها في بعض الأحيان هي التلميح الصريح من جانب بعض الرجال لإقامة علاقة معها، مشيرين إلى أنها بالقطع في نفس موقفهم وتواجه نفس ظروفهم؛ حيث دائما ما يكون هؤلاء الرجال غريبي الأطوار، يشعرون بالوحدة، ويفتقرون إلى أي نوع من أنواع الجاذبية. لكنه لم يفعل ذلك، لقد كان يريد رفيق درب لا صديقة.
وكانت جولييت تدرك ذلك؛ فهي تعلم أنها قد تبدو بالنسبة لكثيرين شخصية غريبة الأطوار ومنعزلة - وهي، إلى حد ما، كانت كذلك بالفعل - ولكنها قد مرت - في جزء كبير من حياتها - بشعور أنها محاطة ببعض الأشخاص الذين كانوا يرغبون في الاستحواذ على انتباهها، ووقتها، ودواخلها، وكانت عادة ما تتركهم يفعلون ذلك.
كوني منفتحة، كوني ودودة (وخاصة إذا لم تكوني مشهورة)؛ فهذا ما تتعلمه الفتاة في مدينة صغيرة، أو في مدينة سكنية للفتيات. عليك أن تتعاوني مع أي شخص يرغب في أن يستنزف كل طاقتك، حتى لو لم يكن يعرف عنك شيئا.
نظرت في عيني الرجل مباشرة، لكنها لم تبتسم، ورأى عزمها وتصميمها على ألا تتحدث، وارتسمت بعض أمارات الانزعاج على وجهه. «أهو كتاب جيد الذي تقرئينه؟ ما الموضوع الذي يتناوله؟»
لن تخبره بأنه يتحدث عن اليونان القديمة، والارتباط الهائل الذي أبداه اليونانيون للامنطق. إنها لن تدرس اللغة اليونانية، ولكنها ستحاضر في مادة تسمى الفكر اليوناني؛ لذا فقد كانت تقرأ كتاب دودز مرة أخرى لكي تعرف ما الذي ستختاره. قالت: «إنني أرغب حقا في القراءة، سأذهب إلى عربة المشاهدة.»
ونهضت بالفعل وسارت مبتعدة وهي تفكر بأنه ما كان ينبغي لها أن تخبره بوجهتها؛ فمن الجائز أن ينهض، ويتبعها، ويعتذر لها، ويواصل حججه للحديث. علاوة على ذلك، سيكون الطقس باردا في عربة المشاهدة، وتمنت لو أنها تذكرت إحضار سترتها، ولكن من المستحيل أن تعود مرة أخرى لإحضارها.
لم يحظ المنظر المحيط الذي أطلت عليه من عربة المشاهدة، في خلفية القطار، برضاها واستمتاعها مثل المنظر الذي كانت تطل عليه من خلال نافذة عربة النوم؛ حيث يقحم هيكل القطار نفسه أمامك.
وربما كانت المشكلة في شعورها بالبرد، مثلما توقعت بعد أن غادرت العربة. وأيضا كانت تشعر بالانزعاج، لكنها لا تشعر بالأسف. دقيقة أخرى وكانت يده الرطبة ستمتد - واعتقدت أنها يمكن أن تكون رطبة ولزجة أو جافة وخشنة - وربما كانا يتبادلان الأسماء مما سيحبسها هناك. وكان هذا أول انتصار من نوعه تحققه، ولكنه كان ضد أكثر الخصوم حزنا وإثارة للشفقة. بمقدورها الآن أن تسمعه وهو يلوك تلك الكلمات: «التحدث معا كأصدقاء.» الاعتذار والوقاحة. ربما الاعتذار عادته، أما الوقاحة فهي نتاج أمله وتصميمه على كسر حاجز عزلته، وحالته الجائعة المتشوقة.
لقد كان ما حدث ضروريا، لكنه لم يكن بالشيء الهين على الإطلاق. لقد كان أكثر من مجرد انتصار، بالقطع، أن تقف متحدية شخصا في تلك الحالة. كان انتصارا أكبر من أن تتحدى شخصا ماكرا أو معتدا بذاته، ولكنها للحظة من اللحظات كانت ستشعر بالتعاسة.
كان هناك شخصان فقط يجلسان في عربة المشاهدة؛ سيدتان متقدمتان في العمر، وكل واحدة تجلس بمفردها. وعندما شاهدت جولييت ذئبا كبيرا يعبر السطح الثلجي الأملس للبحيرة الصغيرة اعتقدت أن السيدتين رأتاه أيضا، ولكن أيا منهما لم تكسر حاجز الصمت، وكان ذلك شيئا سارا بالنسبة لها. ولم يلمح الذئب القطار؛ فهو لم يقف مترددا أو يجري مهرولا. وكان فراؤه طويلا بلون الفضة التي تميل للأبيض، فهل اعتقد أن ذلك اللون يجعله مختفيا عن الأنظار؟
وبينما كانت تشاهد الذئب، دلف راكب آخر، وكان رجلا، وقد اتخذ المقعد المواجه للممر أمامها.
كان هو الآخر يحمل كتابا، وتبعه إلى العربة زوجان طاعنان في السن، وكانت السيدة صغيرة الحجم ونشيطة، أما الرجل فكان ضخما ولا يتسم بالرشاقة، وكان يتنفس بصوت عال غير مبال بمن حوله.
قال عندما استقرا بمقعديهما: «إن الطقس بارد هنا.» «أتود أن أحضر لك سترتك؟» «لا أريد مضايقتك.» «ليس ثمة مضايقة.» «سأكون على ما يرام.»
وقالت المرأة خلال دقيقة: «إنك ترى المنظر من هنا جيدا.» لكنه لم يجبها، فحاولت مرة أخرى قائلة: «بإمكانك رؤية كل شيء من هنا.» «وما الذي يمكن رؤيته؟» «انتظر حتى نتوغل في الجبال؛ حينها سيكون هناك ما يستأهل رؤيته. هل استمتعت بطعام الإفطار؟» «لقد كان البيض مائعا.»
قالت المرأة بأسى: «أعلم هذا، لقد كنت أفكر أنه لو كان بإمكاني أن أهرع إلى المطبخ وأقوم بإعداده بنفسي.» «غرفة الطهي، يطلقون عليها غرفة الطهي.» «أعتقد أن ذلك الاسم يطلقونه على مطبخ السفينة.»
رفعت جولييت عينيها عن كتابها في نفس اللحظة التي فعل فيها الرجل الجالس عبر الممر نفس الشيء، وتلاقت نظراتهما بهدوء ولم يكن بها أي تعبيرات. وفي تلك اللحظة أو التي تلتها أبطأ القطار من سرعته، ثم توقف، وحول كل منهما نظره إلى موضع آخر.
كانا قد وصلا إلى مستوطنة صغيرة في الغابات، وعلى أحد الجانبين ظهرت المحطة، وقد طليت باللون الأحمر الداكن، وعلى الجانب الآخر، انتصبت بعض البيوت التي ظهرت باللون الأحمر نفسه. كانت بيوتا أو منازل إيواء لعمال القطارات. وارتفع صوت يعلن أن هناك استراحة لمدة عشر دقائق.
نظفت أرصفة المحطة من الثلوج، وأطلت جولييت برأسها ورأت بعض الأشخاص الذين غادروا القطار، وراحوا يأخذون جولة حوله. لقد كانت تريد أن تفعل مثلهم، ولكن ليس دون معطفها.
نهض الرجل الذي كان يجلس عبر الممر وهبط الدرج دون أن يلتفت حوله. وقد فتحت الأبواب في مكان ما بالأسفل، وجلبت تيارا من الهواء البارد. وتساءل الزوج العجوز عن سبب توقفهم هنا، وعن اسم المكان. على أي حال، ذهبت زوجته إلى مقدمة القطار لتحاول أن تعرف اسم المكان، لكنها لم تنجح في ذلك.
كانت جولييت تقرأ عن طقوس الميناد، يقول دودز إن الطقوس كانت تمارس في المساء، في منتصف فصل الشتاء، وكانت النسوة يصعدن إلى قمة جبل بارناسوس، وعندما تستوقفهن في وقت من الأوقات عاصفة ثلجية، يرسل فريق إنقاذ لهن، ويتم إنزال نساء الميناد بملابسهن التي كانت تبدو صلبة كألواح خشبية؛ حيث يتقبلن إنقاذهن وهن وسط طقوسهم الصاخبة. وكان ذلك بالنسبة لجولييت سلوكا معاصرا، فهو يلقي الضوء على بعض جوانب تصرفات كهنة القداس. هل سيرى الطلبة الأمر على هذا النحو؟ لا ليس من المرجح؛ إنهم من المحتمل أن يرفضوا أي نوع من التسلية، أو الانهماك في أي نشاط، كشأن الطلبة، وأما الذين لا يرفضونه، فإنهم لن يبدوا ذلك.
انطلق نداء للعودة إلى داخل القطار، وتوقف انسياب الهواء النقي، ثم حول القطار مسار القضبان ببطء. رفعت جولييت عينيها لتشاهد ما يجري، ورأت، على بعد مسافة أمامها، القاطرة وهي تختفي عند أحد المنعطفات.
ثم كان هناك تمايل أو ارتجاج؛ ارتجاج عبر القطار بأسره، ثم شعور باهتزاز العربة بشدة، وبعدها توقف القطار فجأة.
جلس الجميع في انتظار أن يتحرك القطار ثانية، ولم يتفوه أحد بكلمة، حتى الزوج الذي كان كثير الشكوى لم يتحدث بشيء. ومرت الدقائق، والأبواب تفتح وتغلق، وتعالت أصوات الرجال، وانتشر شعور بالذعر والقلق، وارتفع صوت يوحي بأنه ذو سلطة من عربة الاستراحة التي كانت أسفلهم تماما، قد يكون صوت محصل القطار، ولكن كان من الصعب سماع ما يقوله.
نهضت جولييت، وذهبت إلى مقدمة العربة وهي تنظر أعلى العربات التي أمامها، وقد رأت بعض الأشخاص يجرون وسط الثلوج.
نهضت إحدى السيدتين اللتين جلستا بمفردهما، ووقفت بجانبها.
قالت السيدة: «كان لدي شعور بأن شيئا ما سيحدث، لقد شعرت بذلك عندما كنا بالخلف حينما توقف القطار. لم أكن أرغب في أن نستأنف هكذا ثانية، لقد شعرت بأن هناك شيئا ما سيقع.»
جاءت السيدة الأخرى التي كانت تجلس بمفردها أيضا، ووقفت خلفهما.
وقالت: «لن يكون شيئا كبيرا، ربما فرع شجرة هو ما أعاق الطريق.»
ردت السيدة الأولى قائلة: «لكنهم لديهم ذلك الشيء الذي يضعونه أمام القطار، وهو يعمل على أن يزيح هذه الأشياء كفروع الأشجار التي تعيق الطريق أو ما شابه.» «ربما سقط لتوه.»
كانت السيدتان تتحدثان بنفس اللكنة؛ لكنة أهل شمال إنجلترا، ودون اللياقة التي تستخدم عادة مع الغرباء أو المعارف الجدد. وهنا أمعنت جولييت النظر إليهما، فخمنت أنهما قد تكونان أختين، رغم أن واحدة منهما كان لها وجه أعرض وأصغر. إذن فهما تسافران معا ولكنهما جلستا بمعزل إحداهما عن الأخرى، أو ربما دب نزاع ما بينهما.
كان محصل التذاكر يصعد الدرج إلى عربة المشاهدة، ثم استدار في منتصف المسافة ليتحدث. «ليس ثمة شيء خطير يبعث على القلق، أيها السادة، يبدو أننا قد ارتطمنا بشيء أعاق المسار. نحن نأسف لهذا التأخير، وسوف نستأنف المسير بأسرع ما يكون، لكننا سنمكث هنا لفترة قصيرة.» وقد أخبرني النادل بأنه سيتم تقديم بعض القهوة مجانا في غضون دقائق.
تبعته جولييت وهو يهبط الدرج؛ حيث أدركت بمجرد أن نهضت من مكانها أنها هي ذاتها تواجه مشكلة جعلت من الضروري أن تعود إلى مقعدها وحقيبة سفرها، سواء أكان الرجل الذي عاملته بازدراء موجودا أم لا. وبينما كانت تقطع طريقها عبر العربات، رأت الكثير من الأشخاص الذين يتحركون هنا وهناك؛ فقد كان منهم من يتزاحم ويتجمع عند النوافذ على أحد جانبي القطار، بينما توقف آخرون بين العربات كما لو أنهم يتوقعون أن يفتح القطار أبوابه، ولم يكن هناك وقت أمام جولييت لكي تطرح أي أسئلة، ولكن ترامى إلى مسامعها وهي تمر أنه قد يكون ما أعاق الطريق دب أو ظبي، أو بقرة. وتساءل الناس عما يمكن أن تفعله بقرة هنا في تلك الأدغال، أو عن سبب استيقاظ الدببة حتى الآن، أم تراه شخص ثمل قد غلبه النوم فوق القضبان؟
في غرفة الطعام التف الناس حول المناضد التي أزيحت عنها الشراشف البيضاء، وقد جلسوا يحتسون القهوة المجانية.
لم يكن هناك أحد يشغل مقعد جولييت، أو المقعد المقابل، فأخذت حقيبتها وهرعت إلى دورة مياه السيدات. لقد كانت الدورة الشهرية مصدر أذى لها طوال حياتها، لقد كانت تضايقها، في بعض الأحيان، أثناء امتحانات هامة تستغرق مدتها ثلاث ساعات، ولا تستطيع حينها مغادرة غرفة الامتحان لتغيير فوطتها الصحية.
جلست على المرحاض وهي تشعر ببعض الألم، وقد احمر وجهها، وانتابها القليل من الإعياء والدوار، ونزعت الفوطة الصحية الغارقة، ولفتها في ورق التواليت، ووضعتها في سلة المهملات، وعندما نهضت أخرجت الفوطة الجديدة من حقيبتها. وقد رأت أن الماء والبول في المرحاض قد اختلطا بالدماء. رفعت يدها لتضغط على زر صندوق طرد الفضلات، لكنها لاحظت بأن هناك تحذيرا يشير إلى عدم الضغط على الزر عندما يكون القطار متوقفا؛ وهذا ينطبق بالطبع في حالة توقف القطار بالقرب من المحطة، ويكون هناك عملية تفريغ، فيمكن للناس أن يروا الفضلات، وهذا شيء كريه، إلا أنها هنا يمكن أن تغامر وتضغط على الزر.
غير أنها سمعت أصواتا قريبة عندما كانت على وشك الضغط على الزر، ولكنها لم تكن صادرة من القطار ذاته، وإنما من خارج نافذة دورة المياه ذات الزجاج الخشن. ربما هم عمال القطار يسيرون خارجه ويتفقدون الطريق.
بإمكانها أن تنتظر حتى يتحرك القطار، ولكن كم من الوقت سيستغرقه ليستأنف الرحلة؟ وماذا لو كان أحد في حاجة ماسة للدخول؟ لذا قررت أن تغلق غطاء المرحاض وتغادر.
عادت إلى مقعدها، وجلس على الجانب الآخر منها طفل صغير في الرابعة أو الخامسة من عمره ، وكان يلهو بأقلام التلوين في صفحات أحد كتب التلوين، وتحدثت أمه مع جولييت بشأن القهوة المجانية.
قالت: «هي مجانية بالفعل، ولكن على المرء أن يحضرها بنفسه، هل تمانعين في مراقبته حتى أحضر القهوة؟»
قال الطفل دون أن يرفع بصره: «لا أرغب في المكوث معها.»
قالت جولييت: «سأذهب أنا لإحضارها.» ولكن في تلك اللحظة دلف النادل وهو يدفع عربة القهوة أمامه.
قالت الأم: «ها هي القهوة، ما كان ينبغي أن أتذمر بسرعة، هل سمعت بأنها كانت جثة شخص ما؟»
هزت جولييت رأسها بالنفي. «إنه لم يكن حتى يرتدي معطفا. لقد رآه أحدهم وهو ينزل من القطار، ويستأنف السير للأمام، ولكنهم لم يدركوا ما الذي كان يفعله، ويبدو أنه دار حول المنعطف ولم يره المهندس حيث كان قد قضي الأمر وفات الأوان.»
وعلى بعد عدة مقاعد أمامهم، على نفس صف الأم من الممر، انطلق أحد الأشخاص قائلا: «ها هم قد عادوا.» نهض بعض الأشخاص بجانب جولييت، وأحنوا رءوسهم ليشاهدوا، ونهض الطفل الصغير أيضا من مكانه، وضغط بوجهه على الزجاج، وطلبت منه أمه أن يجلس مكانه. «استأنف التلوين، انظر إلى الفوضى التي صنعتها عبر السطور.»
ثم قالت لجولييت: «لا أستطيع النظر، ليس بمقدوري رؤية شيء كهذا.»
نهضت جولييت من مكانها لكي تشاهد ما يجري، ورأت مجموعة من الرجال يهرولون عائدين إلى المحطة، وخلع بعضهم معاطفهم التي تكومت فوق النقالة التي حملها اثنان منهم.
قال رجل يقف خلف جولييت لإحدى السيدات التي لم تنهض لتشاهد: «لا يمكن رؤية أي شيء، لقد غطوا جسده بالكامل.»
لم يكن كل الرجال الذين عادوا مطأطئي رءوسهم من موظفي السكك الحديدية؛ إذ تعرفت جولييت من بينهم على الرجل الذي كان يجلس بجوارها في عربة المشاهدة.
وبعد مرور عشر أو خمس عشرة دقيقة تحرك القطار، ولم يكن هناك أي آثار للدماء يمكن رؤيتها على جانبي القطار حول المنعطف، ولكن كانت هناك منطقة عليها آثار وطء أقدام تجمعت على جانبها كومة من الثلوج. ونهض الرجل الذي يجلس خلفها مرة أخرى وقال : «أعتقد أن الحادثة وقعت هنا.» وأخذ يتطلع برهة ليرى إن كان هناك شيء آخر، ثم التف وجلس مكانه مرة أخرى.
وبدلا من أن يسرع القطار لكي يعوض الوقت الذي ضاع، سار بمعدل أبطأ عن ذي قبل. ربما كان ذلك نابعا من الاحترام، أو من تخوف مما قد يقابلهم في المنعطف التالي. ومر رئيس الندل بعربات القطار لكي يعلن عن أول موعد لتناول طعام الغداء، وعلى الفور نهضت الأم وطفلها وتبعاه، وبدأ الناس يصطفون، وسمعت جولييت إحدى السيدات تقول وهي تمر بجانبها: «أحقا؟»
وأجابتها السيدة الأخرى التي تتحدث معها بهدوء قائلة: «هذا ما قالته. كان ملطخا بالدماء؛ فلا بد وأنه قد تناثر عندما مر فوقه القطار.» «لا تقولي ذلك.» •••
بعد فترة وجيزة، وعندما انتهى اصطفاف الجموع المبكرة، وجلسوا لتناول الطعام، دلف رجل إلى العربة؛ وهو ذلك الرجل الذي كان يجلس في عربة المشاهدة ورأته وهو يسير خارج القطار وسط الثلوج.
نهضت جولييت من مكانها وتبعته على الفور. وأثناء وجوده في المساحة المظلمة الباردة التي تقع بين العربات حيث كان يدفع الباب الثقيل الذي أمامه بصعوبة، قالت: «من فضلك، أود أن أطرح عليك سؤالا.»
وامتلأ المكان فجأة بضوضاء شديدة؛ فقد كانت قعقعة عجلات القطار الثقيلة. «ما الخطب؟» «هل أنت طبيب؟ هل رأيت ذاك الرجل الذي ...» «أنا لست بطبيب، ولا يوجد طبيب في القطار، كل ما في الأمر أنني لدي بعض الخبرات الطبية.» «كم كان عمره؟»
نظر إليها الرجل وقد حاول أن يواصل صبره وعلى وجهه بعض علامات الاستياء. «من الصعب أن أعرف، لكنه لم يكن صغير السن.» «هل كان يرتدي قميصا أزرق؟ هل كان شعره بنيا أشقر؟»
هز رأسه رافضا الإجابة واستنكر السؤال برمته.
قال: «هل كنت تعرفين ذلك الشخص؟ عليك بإخبار محصل التذاكر إن كان الأمر كذلك.» «لم أكن أعرفه.» «إذن، اسمحي لي بالذهاب.» ودفع الباب ليفتحه وتركها وذهب.
لقد اعتقد بالطبع أنه يتملكها الفضول الشديد الذي ينتاب الكثير من الناس.
ملطخ بالدماء. لقد كان ذلك شيئا مثيرا للاشمئزاز إذا جاز التعبير.
لن تستطيع أن تخبر أحدا قط عن الخطأ الذي ارتكب، والمزحة الفظيعة عما حدث. سيعتقد الناس إن تكلمت عنها أنها فظة وعديمة الرحمة إلى حد كبير، وسيبدو سوء التفاهم في جانب منه - وهو الجسد الذي سحق جراء الانتحار - أثناء روايتها، أكثر شرا وقذارة من دم الدورة الشهرية الذي ينزف منها.
لن تخبر أحدا بذلك (في الواقع لقد فعلت وروت ما حدث، بعد مرور عدة سنوات، لسيدة تدعى كريستا، وهي سيدة لم تكن جولييت تعرف اسمها بعد).
لكنها كانت ترغب بشدة في أن تقص ما حدث لشخص ما. أخرجت مفكرتها وعلى إحدى صفحاتها راحت تخط رسالة لوالديها:
لم نصل بعد لحدود مانيتوبا، ومعظم الناس يشتكون من كآبة المناظر، لكنهم لا يستطيعون القول بأن الرحلة ينقصها الحدث الدرامي. لقد توقفنا في هذا الصباح عند إحدى المستوطنات الصغيرة البائسة والمهجورة في الغابات الشمالية، وكانت مطلية بأكملها «بلون السكك الحديدية الأحمر الموحش». كنت أجلس في خلفية القطار في عربة المشاهدة، وكدت أتجمد من شدة البرد؛ لأنهم يبخلون بالتدفئة هناك (ولا بد وأن السبب وراء ذلك هو أن روعة المشاهد الخلابة ستنسيك أي شعور بعدم الراحة)، وكنت أشعر بكسل شديد منعني من العودة إلى العربة وإحضار المعطف، لقد مكثنا هناك نحو عشر أو خمس عشرة دقيقة ثم استأنفنا المسير بعدها، ورأيت أن المحرك يدور عند أحد المنعطفات ثم وقع فجأة ارتطام عنيف.
لقد كان شغلها الشاغل دوما هي ووالدها وأمها جلب القصص المسلية إلى المنزل، وكان ذلك الأمر يتطلب تعديلا بسيطا ليس فقط للحقائق بل ولمكانة المرء في هذا العالم، أو هذا ما وجدته جولييت عندما كانت المدرسة هي كل عالمها؛ لذا فقد جعلت من نفسها مراقبا فوق العادة ولا يستهان به، والآن وهي بعيدة عن منزلها كل الوقت، أصبح ذلك الأمر شيئا معتادا، بل إنه أضحى واجبا.
ولكن بمجرد أن كتبت كلمة «ارتطام عنيف»، وجدت نفسها غير قادرة على الاستمرار في الكتابة، غير قادرة على الاستمرار بلغتها المعتادة.
حاولت أن تتطلع خارج النافذة ، ولكن المشهد، الذي يتضمن نفس العناصر، قد تغير. وعلى مسافة تقل عن مائة ميل قطعوها، بدا وكأن الطقس قد أصبح أكثر دفئا؛ فكانت الثلوج تملأ بعض البحيرات بدلا من أن تغطيها تماما، وقد أضفت المياه الداكنة والصخور الداكنة، اللتان تظللهما السحب الشتوية، بعض الظلمة على الجو المحيط. ثم سئمت من المشاهدة، فأمسكت بكتاب دودز، وكانت تفتحه على أي صفحة؛ وذلك لأنها قد قرأته بأكمله من قبل. وكل بضع صفحات كانت تضع خطوطا كثيرة تحت الأسطر؛ حيث تجذبها أفكار بعض القطع، ولكنها بعد أن قرأتهم وجدت أن ما استوعبته تماما في وقت ما بدا غامضا ومشوشا الآن. ... ما قد يبدو من وجهة نظر الأحياء القاصرة أنه من أعمال الشيطان، يراه الأموات من منظور أكبر مظهرا من مظاهر العدالة الكونية ...
سقط الكتاب من يدها، وأغمضت عينيها، ورأت نفسها الآن وهي تسير بصحبة بعض الأطفال (ربما مجموعة من الطلبة) على سطح إحدى البحيرات. وفي أي مكان يخطو فيه كل منهم يظهر صدع يأخذ شكلا خماسيا متساوي الأضلاع على نحو جمالي، حتى بدا الثلج وكأنه أرض مكسوة بالبلاط. وسألها الأطفال عن اسم ذلك البلاط الثلجي، فأجابت بكل ثقة «الشعر خماسي التفعيلة»، فراح الأطفال يضحكون، ومع ارتفاع ضحكات الأطفال ازدادت التصدعات اتساعا. عندئذ أدركت خطأها، وأيقنت أن الكلمة الصحيحة هي التي ستنقذ الموقف، لكنها لم تتمكن من إدراكها ومعرفتها.
استيقظت ورأت نفس الرجل، وهو الرجل الذي تتبعته بين العربات وأزعجته بسؤالها، وكان يجلس مقابلا لها. «لقد كنت نائمة.» وارتسمت على وجهه شبه ابتسامة على ما قاله، وتحدث قائلا: «هذا واضح.»
لقد راحت في النوم وسقطت رأسها للأمام، وكأنها امرأة طاعنة في السن، وقد سال بعض اللعاب على جانبي فمها. أدركت أيضا أنه عليها أن تذهب لدورة مياه السيدات على الفور، وهي تأمل ألا يكون هناك شيء قد طبع على تنورتها. قالت: «معذرة، اسمح لي بالذهاب.» (تماما كما قال لها)، وحملت حقيبتها وسارت مبتعدة وهي تحاول أن تخفي عجلتها التي شابها الخجل.
عندما عادت أدراجها، وقد اغتسلت وهندمت من ثيابها ووضعت بعض التعزيزات، كان الرجل لا يزال جالسا في مكانه هناك.
وتحدث على الفور بمجرد أن رآها، وقال إنه أراد أن يعتذر. «لقد خطر بذهني أنني كنت أجيب بوقاحة عندما سألتني عن ...»
ردت قائلة: «نعم.»
قال: «لقد أصبت عندما كنت تصفينه.»
لم يبد كلامه كعرض لتبادل الحديث من جانبه، وإنما نوع من المعاملة المباشرة والضرورية؛ فلو لم تهتم بالحديث، فقد ينهض ويمضي مبتعدا دون أي شعور بخيبة الأمل بالضرورة، بما أنه قد فعل ما جاء من أجله.
وعلى نحو مخز، ترقرقت الدموع في عيني جولييت، وكان أمرا غير متوقع، حتى إنه لم يكن لديها الوقت لتشيح بوجهها بعيدا.
قال: «لا عليك، سيكون كل شيء على ما يرام.»
أومأت برأسها سريعا عدة مرات، وراحت تستنشق الهواء بشدة، ثم راحت تخرج ما في أنفها في منديل عثرت عليه أخيرا في حقيبتها.
قالت: «لا بأس.» ثم راحت تقص عليه بصورة مباشرة كل ما حدث؛ كيف انحنى الرجل نحوها، وسألها إن كان أحد يشغل المقعد، وكيف جلس أمامها، وأنها راحت تتطلع إلى النافذة، ولم يكن بمقدورها أن تفعل ذلك طويلا؛ لذا حاولت أو تظاهرت بقراءة كتابها، وكيف سألها عن المكان الذي استقلت منه القطار، وعرف أين تقطن، وأنه استمر في محاولته لإطالة الحديث حتى نهضت هي وغادرت المكان.
ولكن الشيء الوحيد الذي لم تفصح عنه هو ما قاله بخصوص «أن نتجاذب أطراف الحديث كأصدقاء»؛ فقد اعتقدت أنها لو تفوهت بذلك فستنفجر في البكاء مرة أخرى. «الناس عادة ما يقطعون خلوة النساء؛ فهذا أيسر من مقاطعة الرجال.» «نعم، صحيح هم يفعلون ذلك.» «هم يعتقدون أن النساء يجب أن يكونوا أكثر لطفا.»
قالت وهي تغير الجهة التي تدافع عنها قليلا: «ولكنه كان يريد شخصا ليتحدث معه فقط. كان يريد الحديث أكثر مما كنت أريد الصمت. لقد أدركت ذلك الآن، وأنا لا أبدو وضيعة، ولا قاسية، لكني كنت كذلك بالفعل.»
سادت فترة من الصمت، إلا أنها هذه المرة لم تستنشق الهواء بشدة، واستطاعت التحكم في عينيها المغرورقتين بالدموع. «هل انتابتك الرغبة من قبل في أن تفعلي هذا مع أي شخص؟» «نعم، ولكني لم أفعل ذلك مطلقا، لم أبالغ في ردة فعلي هكذا من قبل، ولكن لماذا فعلت ذلك هذه المرة؟ ربما لأنه كان شخصا متواضعا للغاية؛ لقد كان يرتدي ملابس جديدة ربما ابتاعها من أجل الرحلة، ربما كان يشعر بالاكتئاب وفكر في الذهاب في رحلة ربما يستطيع من خلالها التعرف على أناس جدد وتكوين صداقات.
ربما لو كان سيقطع طريقا أقصر لكنت ... لكنه قال إنه سيذهب إلى فانكوفر، وكنت سأبقى مرتبطة به لعدة أيام.» «نعم.» «ربما كنت سأرتبط به بالفعل.» «نعم.» «لذا ...»
قال وقد ارتسمت على وجهه شبه ابتسامة: «إنه لحظ سيئ، فالمرة الأولى التي تستجمعين فيها شجاعتك وتعاملين شخصا بطريقة فظة يلقي بنفسه تحت عجلات القطار.»
قالت وهي تتخذ موقفا دفاعيا بعض الشيء: «قد يكون ما حدث كالقشة التي قصمت ظهر البعير، قد يكون الأمر كذلك.» «أعتقد بأنه عليك أن تأخذي حذرك في المستقبل.»
رفعت جولييت ذقنها ونظرت إليه بثبات: «هل تعني أنني أبالغ؟»
وفجأة حدث شيء مفاجئ وغير مطلوب كدموعها، وبدأ فمها يرتعش، وارتسمت ابتسامة شريرة على وجهها. «أعتقد أن هناك قليلا من المبالغة.»
قال: «قليلا.» «هل تعتقد أنني أضخم الأمر؟» «هذا طبيعي.»
قالت وهي لا تزال تتحكم في ضحكتها: «لكنك تعتقد أنه مجرد خطأ، وأن الشعور بالذنب ما هو إلا نوع من المبالغة والتضخيم.»
قال: «ما أعتقده هو ... أعتقد أن ما حدث شيء بسيط وثانوي، فستحدث أشياء في حياتك ... أعني قد تحدث أشياء في حياتك، تجعلك ترين ما حدث شيئا ثانويا؛ فهناك أشياء أخرى ستشعرين نحوها بالذنب عن جد.» «ألا يقول الناس ذلك أيضا إلى شخص أقل في العمر؟ فهم يقولون: أوه، في يوم من الأيام ستفكر بطريقة مختلفة، عليك أن تنتظر وترى. كما لو أنه ليس لديك الحق في أن تنتابك أي مشاعر جادة وحقيقة، كأنك لست قادرا على هذا.»
قال: «مشاعر؟ إنني أتحدث عن الخبرة.» «لكن كأنك تقول إنه لا طائل من الشعور بالذنب، والناس يقولون ذلك. هل هذا صحيح؟» «فلتخبريني أنت.»
واستمرا يتناولان هذا الأمر لفترة من الوقت، وبصوت خفيض، ولكن بحدة لدرجة أصابت من كان يمر بجانبهم بالدهشة، بل وحتى بالضيق، كما هو الأمر في العادة عندما يسمع الناس بعض المناقشات التي تبدو مجرد أفكار نظرية مجردة ليس لها داع. أدركت جولييت بعد فترة أنه برغم أنها كانت تتناقش بصورة جيدة في اعتقادها - ونظرا لضرورة وجود بعض الشعور بالذنب في الحياة الخاصة والعامة - فإنها قد توقفت عن الشعور بذلك في تلك اللحظة. ويمكن القول بأنها كانت تستمتع بوقتها.
اقترح عليها أن يذهبا إلى عربة الجلوس حيث يمكنهم احتساء بعض من القهوة. وبمجرد أن دلفت جولييت إلى العربة شعرت بالجوع الشديد، بالرغم من أن ساعات الغذاء كانت قد انتهت منذ وقت طويل، وكل ما كان يمكن تقديمه آنذاك هو المقرمشات المملحة، والفول السوداني، وراحت هي تزدردها بطريقة جعلت من الصعب استرجاع المناقشة العميقة التي غلبت عليها بعض التنافسية؛ لذا راحا يتحدثان عن نفسيهما بدلا من ذلك، وكان اسمه إيريك بورتيوس، ويعيش في مكان يطلق عليه ويل باي، ويقع في مكان ما شمال فانوكوفر على الساحل الغربي، لكنه لن يذهب إلى هناك على الفور، بل سيقطع الرحلة ليذهب إلى ريجينا ليزور بعض الأشخاص الذين لم يرهم منذ فترة طويلة. كان صيادا، يصطاد القريدس. سألته عن الخبرة الطبية التي أشار إليها فقال: «أوه، إنها ليست بخبرة كبيرة؛ فلقد قمت ببعض الدراسات الطبية؛ فعندما تكونين وحدك بالغابة أو على متن مركب، فمن الجائز أن يقع أي شيء للأشخاص الذين يعملون معك، أو ربما لك.»
كان متزوجا، وزوجته تدعى آن.
قال إن آن أصيبت في حادث سيارة منذ ثماني سنوات مضت، وظلت في غيبوبة لعدة أسابيع، وبعدها أفاقت من غيبوبتها، لكنها أصيبت بشلل، ولم تستطع السير أو حتى إطعام نفسها، وكانت تعرفه بالكاد، وتعرف المرأة التي تعتني بها - وبمساعدة تلك المرأة استطاع أن يبقيها في المنزل - ولكن محاولاتها الحديث، أو فهم ما يدور حولها، سرعان ما تضاءلت.
كانا قد ذهبا إلى إحدى الحفلات، ولم تكن لديها الرغبة في الذهاب ولكنه كان يريد ذلك، ثم قررت أن تعود إلى المنزل بمفردها سيرا على الأقدام؛ حيث لم يكن يروقها ما يحدث في الحفل.
وكان هناك مجموعة من الأشخاص الثملين العائدين من حفلة أخرى، يسيرون بسرعة كبيرة عبر الطريق وصدموها. كانوا مجموعة من المراهقين.
ولحسن الحظ لم يكن لديه هو وآن أطفال. نعم، لحسن الحظ. «ما إن تخبري الناس بذلك حتى تجديهم يشعرون بضرورة المواساة بأقوال من قبيل: يا لبشاعة الأمر! أو إنها لمأساة! وغيرها من العبارات.»
قالت جولييت: «هل تلومهم على ذلك؟» وقد كانت هي نفسها على وشك أن تتفوه بما هو مشابه لتلك العبارات.
أجاب بالرفض، ولكن الأمر برمته أكثر تعقيدا من مجرد تلك الكلمات. هل شعرت آن بأنها مأساة؟ ربما لا. هل شعر هو بذلك؟ إنه شيء يعتاد المرء عليه، لقد كان كنوع جديد من الحياة. هذا كل ما في الأمر. •••
كانت كل تجارب جولييت الممتعة عن الرجال نابعة من الخيال؛ بطل سينمائي أو اثنان، ذوا صوت رخيم - وليس البطل الذكوري القوي البنيان المتحجر القلب - كما كانت تسمعه في التسجيلات القديمة لأوبرا دون جيوفاني. وهناك أيضا «هنري الخامس» كما قرأت عنه في مسرحية شكسبير، وكما أدى دوره لورانس أوليفييه في الفيلم السينمائي.
كان هذا باعثا على السخرية والشفقة، ولكن من عساه أن يعرف؟ أما في الحياة الواقعية، فلم يكن هناك سوى الخزي وخيبة الأمل، وهما ما حاولت بقدر المستطاع أن تطردهما من ذهنها بأسرع ما يمكن.
في المدرسة، عايشت تجربة أن تكون على رأس قائمة الفتيات غير المرغوب فيهن في حفلات الرقص بالمدرسة، ولكن في الكلية كانت تشعر بالملل. بيد أنها كانت تحاول باستماتة أن تكون مفعمة بالمرح والحيوية عندما تواعد بعض الفتيان الذين لم يروقوا لها كثيرا، ولم ترق لهم هي الأخرى. واعدت ابن أخت المشرف على رسالتها أثناء زيارته في العام الماضي، وقد حدثت بينهما معاشرة كاملة على الأرض ليلا في متنزه ويليس بارك، ولا تستطيع أن تطلق على ما حدث أنه اغتصاب؛ لأنها هي أيضا كانت عازمة على أن يحدث هذا.
وفي طريق عودتهما للمنزل أخذ يوضح لها بأنها ليست من نوع النساء الذي يفضله. وقد شعرت بمهانة شديدة منعتها من أن ترد بحزم - أو حتى من أن تدرك حينها - بأنه هو الآخر ليس من النوع الذي يروق لها.
ولم يكن لها أي تصورات عن رجال بعينهم في الواقع، وبخاصة مدرسيها؛ فقد كان الرجال المتقدمون في العمر بالنسبة لها - في الواقع - كشيء كريه.
أما هذا الرجل، فيا ترى كم يبلغ عمره؟ إنه متزوج منذ ثماني سنوات على الأقل، أو ربما أكثر من هذا بسنتين أو ثلاث؛ لذا فمن المحتمل أن يكون في الخامسة أو السادسة والثلاثين من العمر. كان شعره أسود داكنا ومجعدا، وبه بعض الخصلات الرمادية على الجانبين، كان ذا جبهة عريضة بها بعض التجاعيد، عريض الكتفين، به بعض الانحناء البسيط، يكاد يقاربها في الطول، كانت عيناه واسعتين، داكنتين، تلمعان بالحماس وتعكسان بعض الحرص والحذر في الوقت نفسه، ذا ذقن مستدير، مزين بطابع حسن يشي بطبع عنيف.
أخبرته عن وظيفتها، واسم المدرسة؛ وهي تورانس هاوس. أخبرته أنها ليست مدرسة بالأساس، لكنهم كانوا على استعداد لقبول أي شخص تخصص في اللغة اليونانية واللاتينية بالكلية، ونادرا ما يتخصص أحد في ذلك الفرع. «ولم تخصصت أنت فيه؟» «لكي أكون متميزة في اعتقادي.»
ثم أخبرته أنها كانت تدرك أنه عليها ألا تخبر رجلا أو صبيا بذلك؛ حتى لا يفقد اهتمامه بها على الفور. «ولأنني أحب ذلك الفرع، فقد أحببت كل ما يتعلق به، بالفعل.»
تناولا طعام العشاء معا، واحتسى كل منهما كأسا من النبيذ، ثم ذهبا إلى عربة المشاهدة حيث جلسا في الظلام بمفردهما، وقد أحضرت جولييت معطفها هذه المرة.
قال لها: «يعتقد الناس أنه لا يوجد شيء يستحق المشاهدة في الليل، لكن تطلعي للنجوم التي يمكن رؤيتها في ليلة صافية كهذه.»
لقد كانت السماء صافية بالفعل، والقمر مختفيا، أو على الأقل لم يظهر بعد، وظهرت النجوم في تجمعات كثيفة، وكانت منها الخافتة واللامعة. وشأنه كشأن أي شخص عمل فوق ظهر مركب، فقد كان على دراية بخريطة السماء، أما هي فلم تستطع أن تحدد سوى مجموعة الدب الأكبر.
قال: «ابدئي من هنا، تتبعي هذين النجمين على جانبي مجموعة الدب الأكبر في الجهة المقابلة للمقبض. هل رأيتهما؟ هذان هما المؤشران، تتبعيهما جيدا وسترين النجم القطبي.» وهكذا.
ثم عثر لها على كوكبة الجوزاء (أوريون باليونانية)، والتي قال عنها إنها من الكوكبات الأساسية في نصف الكرة الشمالي في الشتاء. أما الشعرى اليمانية فهو من أكثر النجوم لمعانا في السماء الشمالية بأسرها في مثل هذا الوقت من العام.
كانت جولييت سعيدة وهي تتلقى الدرس، ولكنها شعرت أيضا بسعادة عندما جاء دورها لتلقي الدرس هذه المرة. كان يعرف الأسماء اليونانية، لكنه لم يكن يعرف تاريخها.
أخبرته أن إينوبيون أفقد أوريون بصره، لكنه استرده مرة أخرى عندما نظر باتجاه الشمس. «أصيب بالعمى لأنه كان شديد الجمال، غير أن هيفستوس أنقذه، لكنه قتل على أي حال على يد أرتيميس، وتحول إلى كوكبة. غالبا ما يتحول أي أحد ذي شأن ويقع في مشكلة كبيرة إلى كوكبة. أين كوكبة ذات الكرسي؟»
أشار لها إلى حرف الدبليو باللغة الإنجليزية، لكنه لم يكن واضحا. «من المفترض أنها تتخذ شكل امرأة جالسة.»
قالت: «كان هذا بسبب الجمال أيضا.» «هل كان الجمال شيئا خطيرا؟» «بالطبع. لقد كانت متزوجة من ملك إثيوبيا، وكانت أم أندروميدا، وكانت تتفاخر بجمالها، وعقابا لها على ذلك نفيت إلى السماء. أليس هنا في السماء أندروميدا أيضا؟» «إنها مجرة، وبمقدورك أن تشاهديها الليلة، إنها أبعد الأشياء التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة.»
لم يمسها على الإطلاق حتى عندما كان يرشدها ويخبرها عن الوجهة التي يجب أن تتطلع إليها في السماء. بالقطع لم يفعل هذا، فهو رجل متزوج.
سألها: «من هي أندروميدا؟» «لقد كبلت إلى إحدى الصخور، لكن بيرسيوس أنقذها.» •••
ويل باي.
رصيف ميناء ممتد، أعداد كبيرة من السفن، ومحطة وقود ومتجر موضوعة عليهما لافتة تشير إلى أنهما يضمان أيضا محطة انتظار حافلات، ومكتب بريد.
وقفت سيارة بجانب المتجر حملت على النافذة لافتة فقيرة الصنع تشير إلى أنها سيارة أجرة. وكانت جولييت لا تزال تقف في المكان الذي غادرت فيه الحافلة. وقد شقت الحافلة طريقها مبتعدة، وانطلق صوت بوق سيارة الأجرة، وغادرها سائقها متجها نحوها.
قال: «أأنت بمفردك؟ ما وجهتك؟»
سألته إن كان هناك مكان يمكن للسائحين أن يقيموا به؛ فقد كان من الواضح أنه لا يوجد أي فنادق بالبلدة. «لا أدري إن كان هناك من يؤجر بعض الغرف هذا العام أم لا. بإمكاني أن أسأل داخل المتجر. ألا تعرفين أحدا هنا؟»
لم يكن أمامها ما تفعله سوى أن تنطق باسم إيريك.
قال وقد بدت على وجهه علامات الارتياح: «أوه، بالطبع، تفضلي بالركوب، وسأوصلك في أسرع وقت، ولكن هذا سيئ، لقد فاتتك ليلة الوداع.»
في البداية اعتقدت أنها لم تسمع جيدا ولم تفهمه.
قال السائق وقد جلس وراء عجلة القيادة: «لقد كانت أوقاتا حزينة، ولكنها لم تكن تتحسن إلى الأفضل.»
ليلة الوداع، وداع آن زوجة إيريك.
قال: «لا عليك، أعتقد أن هناك العديد من المعزين ممن لا يزالون في البلدة. لقد فاتتك مراسم الجنازة أمس بالطبع، كانت كبيرة للغاية. ألم تتمكني من الوصول؟»
قالت: «لا.» «ما كان ينبغي أن أقول إنها ليلة الوداع، أليس كذلك؟ إن ليلة الوداع تتضمن مراسم ما قبل الدفن، أليس كذلك؟ لا أعرف ما الذي تطلقونه على طقوس ما بعد الدفن؟ بالطبع لن نقول عليها حفلة، أليس كذلك؟ سأوصلك سريعا، وأجعلك ترين كل الزهور وما يحيط بالمكان من إجلال وتقدير. هل هذا مناسب لك؟»
وفي داخل المدينة، وبعيدا عن الطريق السريع، على مسافة ربع ميل أو نحو ذلك عبر طرقات وعرة مليئة بالقاذورات، كانت تقع مقابر اتحاد ويل باي. وبالقرب من السياج، كانت توجد هضبة صغيرة مغطاة بأكملها بالزهور، وقد تنوعت ما بين مجموعة من الزهور الطبيعية الذابلة، ومجموعة أخرى صناعية ذات ألوان براقة، ووضع فوقها صليب خشبي صغير يحمل الاسم والتاريخ. وامتدت بعض الشرائط الملفوفة والمزينة لتفرش حشائش المقبرة بأسرها. ولفت السائق انتباهها إلى الخطوط المتعرجة والأخاديد والفوضى التي أحدثتها إطارات العديد من السيارات بالأمس. «نصف من قدموا لم يروها، لكنهم يعرفونه جيدا؛ لذا أرادوا المجيء على أي حال؛ فالجميع يعرفون إيريك.»
انعطفا بالسيارة، ثم عادا أدراجهما مرة أخرى، ولكن ليس باتجاه العودة إلى الطريق السريع. أرادت أن تخبر السائق أنها غيرت رأيها، وأنها لا ترغب بزيارة أحد، تريد فقط أن تنتظر عند المتجر لتستقل الحافلة التي ستأخذ طريق العودة، بإمكانها أن تقول إنها حقا جاءت في اليوم الخطأ، وهي الآن تشعر بالخجل لأنها لم تحضر الجنازة؛ لذا فهي لا تود أن تظهر على الإطلاق.
لكنها لا تستطيع أن تشرع في قول هذا، وربما يخبر السائق الآخرين بشأنها مهما كان الأمر.
سارا في طرق ضيقة، كثيرة الالتواءات، ومرا بالقليل من المنازل، وفي كل مرة يصلان لطريق خاص دون الانعطاف باتجاهه، ينتابها شعور بالرغبة في تأجيل هذه الزيارة.
قال السائق وهما ينعطفان أخيرا بالسيارة: «وها هي مفاجأة، ولكن أين ذهب الجميع؟ كانت ثمة نصف دستة من السيارات عندما مررت من هنا منذ ساعة، حتى شاحنته غير موجودة. انتهت الحفلة. آسف ما كان ينبغي أن أقول هذا.»
قالت جولييت بشغف: «إذا لم يكن ثمة أحد هنا، فبإمكاني أن أعود أدراجي.» «لا تقلقي، فهناك شخص هنا، لا تقلقي بشأن هذا، فإلو موجودة، وها هي دراجتها. هل التقيت بها من قبل؟ أتدرين أنها الوحيدة التي تعتني بكل شيء؟» ثم خرج من السيارة وفتح لها الباب.
بمجرد أن خطت جولييت خارج السيارة، ظهرت كلبة صفراء وراحت تثب وتنبح في اتجاههما، وراحت سيدة تناديها من شرفة المنزل.
قال السائق وهو يضع الأجرة في جيبه ويعود مسرعا إلى سيارته: «أوه! اذهبي إلى الداخل يا بت.»
صاحت السيدة في الكلبة: «اصمتي، اصمتي يا بت، اهدئي.» ثم وجهت كلامها إلى جولييت: «لا تقلقي، لن تؤذيك، إنها مجرد جرو.»
أخذت جولييت تحدث نفسها بأن كونها مجرد جرو لا يعني أنها لن تستطيع أن تهاجمها. والآن وصلت كلبة أخرى ذات لون بني مائل للاحمرار وانضمت لتشارك في حالة الفوضى والهياج. وهنا هبطت السيدة الدرج وهي تصرخ قائلة: «بت، كوركي، تصرفا بأدب. إذا ما شعرتا أنك خائفة فستهاجمانك بشراسة.»
كانت تنطق حرف السين كحرف الثاء.
قالت جولييت وهي تثب للوراء عندما كادت الكلبة ذات اللون الأصفر تمسح أنفها في ذراعها: «لست خائفة.» «إذن تفضلي بالدخول. واصمتا أنتما الاثنان وإلا قطعت رأسيكما. هل اختلط عليك الأمر بشأن يوم الجنازة؟»
هزت جولييت رأسها وكأنها تعبر عن اعتذارها وأسفها، ثم قدمت نفسها. «إنه لأمر سيئ، أنا إلو.» وصافحت إحداهما الأخرى.
كانت إلو امرأة طويلة القامة، عريضة الكتفين، ذات جسم مكتنز ولكنه ليس مترهلا، وشعر أشقر يميل إلى الأبيض ومنسدل على كتفيها. كان صوتها قويا يوحي بالعزم والإصرار، وكانت حنجرتها تصدر أصواتا كثيرة؛ أكانت لكنتها ألمانية، أم هولندية، أم تراها إسكندنافية؟ «من الأفضل أن تجلسي هنا في المطبخ؛ فالفوضى تسود كل شيء بالداخل. سأعد لك بعضا من القهوة.»
كان المطبخ مضيئا، وبه نافذة تتوسط سقفه العالي المنحدر، وتراكمت الصحون والأكواب، والأواني في كل مكان، وتبعت بت وكوركي إلو بخنوع إلى المطبخ، وراحتا تلعقان ما تخلف من بقايا الطعام في وعاء الشوي الذي وضعته على الأرضية.
وكان يوجد خلف المطبخ - على ارتفاع درجتين عاليتين - غرفة معيشة واسعة ذات إضاءة خافتة، وافترشت أرضيتها بعض الوسائد الضخمة.
جذبت إلو أحد المقاعد نحو المنضدة وقالت: «والآن تفضلي بالجلوس، اجلسي هنا وتناولي بعضا من الطعام والقهوة.»
قالت جولييت: «لا عليك، لست بحاجة لذلك.» «لا، فها هي القهوة التي أعددتها لتوي، وسأحتسي قهوتي أثناء عملي، وقد تبقى الكثير من الطعام.»
وضعت أمام جولييت - بجانب القهوة - قطعة من الفطير؛ ذات لون أخضر فاتح ومغطاة بقطع صغيرة من المارينج.
قالت وهي تعبر عن عدم رضاها: «أوه، إنه جيلي الليمون، لكن قد يكون مذاقه جيدا، أم تفضلين بعضا من الفطير بالرواند؟»
قالت جولييت: «لا بأس، فهذا جيد.» «إن الفوضى تعم المكان، قمت بالتنظيف بعد انتهاء مراسم ليلة الوداع، ورتبت كل شيء، ثم جاءت مراسم الجنازة، والآن وبعد أن انتهت الجنازة، علي ترتيب كل شيء مجددا.»
كان صوتها ينم عن التظلم الشديد، حتى إن جولييت شعرت أنه عليها أن تقول: «عندما أنتهي من هذا يمكنني مساعدتك.»
قالت: «لا، لا أعتقد هذا، إنني أعرف مكان كل شيء.» كانت تتحرك في أرجاء المكان دون سرعة كبيرة إنما بفاعلية وتصميم من يعرف هدفه جيدا (مثل هؤلاء السيدات لا يحتجن معاونتك، يمكنهن معرفة شخصية من أمامهن). استمرت في تنظيف الزجاج والصحون، وأدوات المائدة، وكانت تضع ما جففته في الخزانة أو في الأدراج، ثم أخذت تكشط بقايا الطعام من الأواني والأوعية - بما فيها الوعاء الذي استردته من الكلبتين - وغمرتها في المياه المشبعة بالصابون، وراحت تنظف المائدة والنضد، وتلوي قماش تجفيف الأطباق وكأنه أعناق دجاج، وكانت تتحدث إلى جولييت، ويتخلل حديثها بعض فترات الصمت. «هل أنت صديقة لآن، هل تعرفينها من قبل؟» «لا.» «كلا، لا أعتقد هذا؛ فإنك صغيرة في العمر. إذن لم أردت حضور الجنازة؟»
قالت جولييت: «لم أكن أعلم، لقد أتيت إلى هنا من أجل الزيارة.»
كانت تحاول أن تبدو كما لو أن الأمر جاء مصادفة، وأن لديها العديد من الأصدقاء، وهي فقط تتجول وتقوم بزيارات عارضة.
وبمزيد من الطاقة والعزم راحت إلو تلمع أحد الأوعية وقد اختارت ألا ترد على هذا الكلام، وجعلت جولييت تنتظر ولم تتحدث إلا بعد أن انتهت من تنظيف عدة أوان. «لقد أتيت لزيارة إيريك. إنك عثرت على المنزل الصحيح؛ فإيريك يعيش هنا.»
قالت جولييت في محاولة لتغيير دفة الحوار: «إنك لا تقيمين هنا، أليس كذلك؟» «بلى، إنني لا أقيم هنا، بل أعيش أسفل التل مع زوجي.» كان لكلمة زوجي ثقلها، وحملت بعض الفخر والتوبيخ.
صبت إلو بعض القهوة في قدح جولييت دون أن يطلب منها ذلك، ثم ملأت قدحها بعد ذلك، وأحضرت فطيرة لنفسها، وكانت مغطاة بطبقة وردية أسفلها، وعلتها طبقة من الكريمة المخفوقة. «فطيرة الراوند بالكريمة، يجب تناولها وإلا ستفسد، لا أحتاجها، ولكني أتناولها على أي حال. هل أحضر لك قطعة منها؟» «لا، أشكرك.» «لقد رحل إيريك الآن، وهو لن يعاود الليلة، لا أعتقد هذا؛ لقد ذهب إلى منزل كريستا. هل تعرفين كريستا؟»
هزت جولييت رأسها بالنفي بشدة. «نحن نعيش هنا ويعرف كل منا ظروف الآخر، نعرفها جيدا. لا أدري كيف يسير الأمر حيث تعيشين. في فانكوفر، أليس كذلك؟» أومأت جولييت رأسها بالإيجاب، ثم استأنفت إلو حديثها: «ولكني أعتقد أن الأمر ليس على هذا النحو في المدينة. وبالنسبة لإيريك، فكان يحتاج للمساعدة حتى يتمكن من العناية بزوجته جيدا. أتفهمين ذلك؟ وكنت أنا من ساعدته.»
قالت جولييت قولا خاليا من الحكمة: «لكن ألا تتقاضين مرتبا مقابل ذلك؟» «بالطبع أتقاضى مرتبا، لكن الأمر أكثر من مجرد كونه وظيفة، بالإضافة إلى أن إيريك يحتاج إلى نوع آخر من المساعدة ... مساعدة امرأة. هل تفهمين ما أعنيه؟ لا أقصد امرأة وزوجها، أنا لا أومن بذلك، إنه ليس بالأمر اللطيف، فهو السبيل إلى وقوع خلافات. في البداية كان إيريك يصادق ساندرا، ثم رحلت، بعدها تعرف إلى كريستا، وكانت هناك فترة قصيرة جمع خلالها الاثنتين، ولكنهما كانتا صديقتين، ومضى الأمر على ما يرام، ولكن ساندرا لها أطفال، وكانت ترغب في الرحيل لتلحق أولادها بمدارس أكبر. أما كريستا فهي فنانة؛ فهي تصنع أشياء من الخشب؛ من النوع الذي تجدينه على الشاطئ. ماذا نسمي ذلك النوع من الخشب؟»
قالت جولييت على مضض، وقد شلتها مشاعر الخيبة ومشاعر الخزي والخجل: «الأخشاب الطافية.» «آه هي ذي. كانت تأخذ ما تصنعه إلى بعض المحال حيث يمكن بيعها. تصنع أشياء كبيرة؛ حيوانات أو طيورا، ولكنها ليست واقعة، ليست واقعة؟» «أتعنين ليست واقعية؟» «نعم، نعم. وهي ليس لديها أطفال، ولا أعتقد أنها ستفكر في الرحيل. هل أخبرك إيريك بذلك؟ أترغبين في مزيد من القهوة؟ لا يزال بعض منها في القدر.» «لا لا، أشكرك. إنه لم يخبرني بشيء.» «إذن فها قد أخبرتك. إن كنت انتهيت من تناول القهوة فسآخذ القدح لأغسله.»
استدارت لتكز بحذائها الكلبة الصفراء التي ترقد على الجانب الآخر من الثلاجة. «هيا استيقظي أيتها الكلبة الكسولة، سنعود لمنزلنا بعد قليل.»
ثم قالت وهي منهمكة في حوض الغسيل وظهرها للحجرة: «هناك حافلة عائدة إلى فانكوفر حوالي الثامنة وعشر دقائق، فبإمكانك العودة معي إلى منزلي، وعندما يحين موعد قيام الحافلة، سيوصلك زوجي. تفضلي بتناول طعامك معنا. إنني أستقل دراجتي، وسأقودها على مهل حتى تتمكني من السير بجانبي. المنزل ليس ببعيد.»
وهكذا تحدد المستقبل القريب بالنسبة لجولييت، حتى إنها لم تستغرق وقتا في التفكير فيه، وراحت تبحث عن حقيبتها، ثم جلست ثانية، لكن على مقعد آخر هذه المرة، وكأنما رؤية المطبخ من زاوية جديدة قد جعلتها تتخذ قرارا آخر.
قالت: «أعتقد أنني سأبقى هنا.» «هنا؟» «ليس لدي أي أمتعة لحملها؛ لذا فسأسير على قدمي حتى مكان الحافلة.» «وأنى لك أن تعرفي الطريق؟ إنها مسافة ميل.»
قالت جولييت: «لا ليست بمسافة بعيدة.» وقد تساءلت في نفسها إذا ما كانت تعرف الطريق، ولكنها فكرت بأنه عليها أن تسير لأسفل التل فحسب.
قالت إلو: «لكنك تعرفين أنه لن يعود، لن يعود الليلة.» «لا يهم.»
هزت إلو كتفيها بلامبالاة، بل ربما بازدراء شديد.
استدارت لها وقالت: «هيا يا بت انهضي. كوركي ستظل هنا، هل تريدينها هنا بالداخل، أم بالخارج؟» «أعتقد بالخارج.» «سأقوم بتقييدها حتى لا تتبعني؛ فهي ربما لا ترغب في البقاء مع غريب على أي حال.»
لم تتفوه جولييت بكلمة. «الباب يغلق عندما نغادر. أرأيت؟ فإذا خرجت وأردت الدخول مرة أخرى، فعليك بالضغط على هذا، ولكن إذا ما غادرت المنزل فلا تضغطي على شيء، سيغلق من تلقاء نفسه. أفهمت؟» «نعم.» «لم نعتد الاهتمام بإحكام غلق الأبواب، ولكن هناك الكثير من الغرباء هذه الأيام.» •••
بعدما تطلعا للنجوم، توقف القطار لفترة في وينيبيج، فهبطا منه، وسارا وسط رياح كانت شديدة البرودة لدرجة تعذر معها التنفس بسهولة، ناهيك عن الحديث. وعندما صعدا إلى القطار مرة أخرى، جلسا في عربة الاستراحة، وطلب لهما كأسين من البراندي.
قال: «سيشعرنا بالدفء ويساعدك على النوم.»
ولكنه لم يرد أن يخلد للنوم، فسيظل مستيقظا حتى ينزل في ريجينا التي سيبلغها قرب الساعات الأولى من الصباح.
عندما سار معها حتى عربتها كانت معظم الأسرة قد أعدت للنوم، وكانت الستائر ذات اللون الأخضر الداكن تضيق المسافة عبر الممر. كانت العربات تحمل أسماء، وكان اسم عربتها ميراميتشي.
همست بصوت خفيض وهما يقفان في المسافة التي تفصل بين العربات: «ها هي العربة.» وكانت يده تدفع الباب من أجلها. «فلتودعيني هنا إذن.» ثم سحب يده وحاولا الوقوف بتوازن وسط اهتزاز القطار كي يتمكن من تقبيلها. وعندما انتهى من هذا، لم يتركها، بل ضمها وأخذ يمسح على ظهرها، ويقبل وجهها كله.
لكنها ابتعدت وقالت سريعا: «إنني عذراء.»
ضحك قائلا: «نعم، نعم.» وقبل عنقها، ثم أطلق سراحها ودفع الباب الذي أمامها. سارا معا عبر الممر حتى وصلت إلى مكان نومها، وأسندت جسمها على الستارة المنسدلة. استدارت وهي تتوقع أن يقبلها مرة أخرى أو أن يلمسها. بيد أنه انسل بهدوء كما لو أنهما قد اقترب أحدهما من الآخر مصادفة. •••
يا للغباء! يا للصدمة! خائفة بالطبع من أن تمتد يده لأبعد من هذا، وتبلغ العقدة التي صنعتها لتأمين الفوطة الصحية وربطها بالحزام الذي ترتديه. لو كانت من هذا النوع من الفتيات اللاتي يعتمدن على استخدام السدادة القطنية لما ظهرت الحاجة لذلك.
ولم قالت إنها عذراء؟ ألم تستمر فيما حدث في متنزه ويليس بارك حتى وصلت إلى تلك المرحلة الكريهة وقد فعلت هذا لتضمن أن تلك الحالة لن تكون عائقا أمام فعل أي شيء؟ لا بد وأنها كانت تفكر فيما ستقوله له - فهي بالقطع لن تستطيع أن تخبره بأنها في فترة حيضها - وذلك إن أراد أن تتطور الأمور لأكثر من هذا. ولكن كيف له أن ينوي فعل هذا على أي حال؟ كيف؟ وأين؟ في فراشها الصغير هذا؟ في هذه المساحة الضيقة ومع احتمالية أن يكون من حولهما من الركاب لا يزالون مستيقظين؟ أم تراه سيكتفي بالوقوف والتحرك للأمام والخلف، والالتصاق بالباب الذي يمكن لأي شخص أن يأتي ويفتحه ، في تلك المساحة غير المستقرة بين العربات؟
والآن يمكنه أن يخبر أي شخص أنه كان ينصت طوال الليل لفتاة حمقاء تتفاخر طوال الليل بمعلوماتها عن الأساطير اليونانية، وفي نهاية المطاف - وعندما أراد تقبيلها قبلة الوداع في المساء ليتخلص منها - راحت تصرخ بأنها عذراء.
ولكنه لم يبد من ذلك النوع من الرجال الذين يقدمون على فعل هذا، أو يتحدثون بهذا الأسلوب، لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها على أي حال من تخيل ذلك.
ظلت مستيقظة طوال الليل، إلا أنها راحت في النوم عندما توقف القطار في ريجينا. •••
عندما أصبحت بمفردها، كان باستطاعتها أن تستكشف جوانب المنزل، لكنها لم تفعل ذلك الشيء. لقد استغرقت عشرين دقيقة - على الأقل - حتى تتمكن من التخلص من وجود إلو. لم تكن خائفة من أن تعود إلو مرة أخرى لكي تطمئن على ما يمكن أن تفعله، أو لكي تأخذ شيئا نسيته. لم تكن إلو من ذلك النوع الذي يمكن أن ينسى شيئا، حتى لو كان هذا في نهاية يوم شاق. ولو كانت اعتقدت أن جولييت يمكن أن تسرق شيئا، لطردتها على الفور بكل بساطة.
ومع هذا، كانت من ذلك النوع من النساء اللواتي يفرضن سطوتهن على المكان، وخاصة هنا في المطبخ. وقد نضح كل شيء رأته جولييت بحوذة إلو؛ بدءا من أصص الزرع (أهي أعشاب؟) على عتبات النوافذ، مرورا بلوح تقطيع الطعام، حتى مشمع الأرضيات اللامع.
وعندما نجحت في إبعاد إلو، ليس خارج الغرفة، وإنما للوراء قليلا بجوار الثلاجة ذات الطراز القديم، راحت جولييت تفكر في كريستا. إيريك لديه امرأة. بالطبع هو على علاقة بامرأة ... كريستا. ورأت جولييت أمامها إلو أخرى، ولكن أصغر سنا وأكثر إثارة؛ فخذان عريضتان، ذراعان قويتان، شعر طويل منسدل - أشقر لا يحوي أي شعيرات بيضاء - صدر بارز للأمام بوضوح أسفل قميص واسع. نفس عدوانية إلو غير أنها بصورة أكثر إثارة في كريستا، نفس أسلوب الاستمتاع في لوك الكلمات قبل التلفظ بها.
طافت بذهنها صورة امرأتين أخريين؛ وهما بريسيس وكرايسيس، وهما رفيقتا آخيل وأجاممنون ، وكانتا توصفان كلاهما بأنهما ذواتا «خدود جميلة». وعندما كان المدرس يقرأ هذه الكلمة (التي لا تتذكرها الآن)، كانت تصطبغ جبهته باللون الوردي، ويبدو وكأنه يكتم ضحكته. ومنذ هذه اللحظة، أصبحت جولييت تحتقره.
فماذا لو كانت كريستا أكثر حدة واتصافا بسمات أهل الشمال من بريسيس وكرايسيس؟ هل ستبدأ جولييت في ازدراء إيريك أيضا؟
ولكن أنى لها أن تعرف إن سارت باتجاه الطريق الرئيسي واستقلت الحافلة؟
في الواقع إنها لم تكن تنتوي على الإطلاق أن تستقل تلك الحافلة. هذا ما يبدو. وفي ظل ابتعاد إلو عن طريقها وتفكيرها كان من السهل أن تكتشف نواياها وطريقة تفكيرها. نهضت أخيرا، وصنعت المزيد من القهوة، وصبتها في كوب كبير ذي يد، وليس في قدح من الأقداح التي وضعتها إلو.
كانت شديدة القلق والتوتر بدرجة منعتها من الشعور بالجوع، لكنها راحت تتفحص الزجاجات الموضوعة على النضد، التي لا بد وأن أحضرها الآخرون من أجل ليلة الوداع. وجدت براندي الكرز، شراب الخوخ المسكر، مشروب تيا ماريا، شراب فيرموت المحلى. فتحت هذه الزجاجات لكن من الواضح أنها لم تنل إعجاب الزائرين؛ فالمشروبات التي أقبل الناس عليها بحق كانت في الزجاجات الفارغة التي صفتها إلو بجوار الباب؛ حيث وجدت زجاجات فارغة لمشروبات الجين، والويسكي، والجعة، والنبيذ.
صبت من شراب تيا ماريا فوق القهوة، وأخذت الزجاجة معها وهي تصعد الدرج الذي يؤدي إلى غرفة المعيشة الواسعة.
كان هذا واحدا من أطول أيام العام، ولكن الأشجار المحيطة - أشجارا ضخمة دائمة الخضرة ذات أغصان ملتفة، وشجرة القطلب ذات الأطراف الحمراء - كانت تحجب ضوء الشمس المائلة إلى المغيب، بينما ألقت نافذة السقف بعض الضوء على المطبخ فجعلته ساطعا، أما النوافذ في غرفة المعيشة فلم تكن سوى فتحات طولية في الحائط، وقد بدأ الظلام يحل عليها بالفعل. لم تكن أرضية الغرفة مفروشة بالكامل؛ إذ غطت الأرضية ألواح الخشب الرقائقي وكستها الأبسطة الرثة، وكانت الغرفة مؤثثة بطريقة عشوائية وغريبة؛ حيث ضمت في معظمها الوسائد الملقاة على الأرض، وزوجا من الوسائد المغطاة بالجلد المتشقق. وثمة مقعد ضخم من الجلد؛ من ذلك النوع الذي يميل للوراء، وله مسند للقدمين. بينما غطى الأريكة لحاف أصلي ذو قماش من قطع ملونة مختلفة لكنه رث، وبالحجرة أيضا جهاز تليفزيون قديم، ورف للكتب مصنوع من الألواح الخشبية والطوب، بينما لا توجد فوقه أي أنواع من الكتب، ما عدا كومة من مجلات ناشونال جيوجرافيك، مع أعداد قليلة من مجلات عن الإبحار، وإصدارات من مجلة بوبيولر ميكانكس.
كان من الواضح أن إلو لم تأت لتنظيف هذه الغرفة؛ فالأرض ملطخة بالرماد حيث منافض السجائر ملقاة على الأبسطة، وبقايا الطعام متناثرة في كل مكان. وخطر على ذهن جولييت أن تبحث عن المكنسة - إن كانت هناك واحدة - لكنها عادت وفكرت أنه حتى لو أدارتها فمن المحتمل أن تقع بعض الحوادث؛ فربما شفطت المكنسة الأبسطة الخفيفة؛ لذا جلست فحسب على المقعد المصنوع من الجلد، وأضافت المزيد من مشروب تيا ماريا حيث انخفض منسوب القهوة في الكوب.
لم ترق لها أشياء كثيرة في هذا الساحل؛ فقد كانت الأشجار شديدة الضخامة، ومتكاثفة بعضها بجانب بعض، وليس لها أي سمات متفردة بها؛ فهي ببساطة تكون غابة من الغابات، وكانت الجبال ضخمة بصورة يصعب تصديقها، أما الجزر التي تطفو فوق مضيق جورجيا فكانت أشبه بصورة مصطنعة. وهذا المنزل - بمساحته الكبيرة وسقفه المائل، وأخشابه غير المكتملة - قد بدا فظا وغير مريح.
كانت الكلبة تنبح من آن لآخر، ولكن ليس بصورة سريعة ومتلاحقة، ربما كانت تريد أن تدلف إلى المنزل من أجل بعض الرفقة. ولكن جولييت لم تقتن كلبا من قبل مطلقا؛ فالكلب في المنزل يكون شاهدا، وليس رفيقا، وسيجعلها تشعر بعدم الارتياح.
ربما كانت الكلبة تنبح لاكتشافها غزالا، أو دبا، أو أسد الجبال. لقد تناولت الصحف في فانكوفر خبرا عن أحد أسود الجبال الذي هاجم طفلا وأصابه، وهي تعتقد بوجوده في هذا الساحل.
من ذا الذي يرغب في العيش في مكان تشاركه كل جزء خارجه الحيوانات العدوانية المفترسة؟ «كاليباريوس» أو ذات الخدود الجميلة. ها قد تذكرتها الآن. لقد لمعت الكلمة التي قالها هوميروس وعلقت بذهنها. والأكثر من هذا، أنها تذكرت فجأة كل كلماتها اليونانية، كل شيء بدا أنها وضعته في خزانة لما يقرب من ستة أشهر حتى الآن. ولأنها لم تكن تدرس اللغة اليونانية في تلك الفترة، فقد وضعتها بعيدا.
هذا ما يحدث؛ إنك تضع شيئا جانبا لفترة ما، وبين كل فترة وأخرى تلقي نظرة على ما في الخزانة بحثا عن شيء آخر، وتتذكره على الفور، أو هكذا تظن. ثم يتحول بعدها هذا الشيء إلى مجرد شيء موجود في الخزانة فحسب وتتراكم فوقه وبجانبه بعض الأشياء الأخرى، وفي نهاية المطاف تجد نفسك لا تفكر في ذلك الشيء على الإطلاق.
هذا الشيء الذي كان كنزك الثمين اللامع، لم تعد تفكر به، إنها خسارة لا تتأملها مرة واحدة في حينها، وتصبح الآن شيئا تتذكره بالكاد.
هذا ما يحدث.
لكن هل يحدث هذا حتى لو لم تضعه جانبا، حتى لو كنت تكسب من ورائه قوت يومك، كل يوم؟ راحت جولييت تفكر في مدرسيها الأكبر سنا بالمدرسة؛ حيث كان معظمهم لا يولي سوى القليل من الاهتمام لما يدرسونه. فلنأخذ خوانيتا مثالا على هذا؛ فهي التي اختارت اللغة الإسبانية لأنها تتماشى مع اسمها المسيحي (هي من أصل أيرلندي)، وأرادت أن تتقن التحدث بالإسبانية جيدا لتستخدمها في رحلاتها؛ ولا يمكنك الجزم بأن الإسبانية كنزها الثمين.
القليل من الناس، بل القليل جدا، هم من يحوزون ثروة ثمينة، وإذا ما حدث وأصبحت تمتلك واحدة، فعليك بالتمسك بها، يجب ألا تعرض نفسك لأي هجوم، حتى لا يسلبها منك أي أحد.
أحدث شراب تيا ماريا مع القهوة أثره بطريقة ما؛ مما جعلها تشعر باللامبالاة وعدم الاهتمام، ولكن بالقوة في الوقت نفسه؛ فجعلها تعتقد أن إيريك - في نهاية الأمر - ليس على هذا القدر من الأهمية. إنه شخص بمقدورها أن تتسكع معه فحسب. نعم التسكع هي الكلمة الصحيحة، وذلك كما فعلت أفروديت مع أنكيسيس، وفي صباح أحد الأيام ستفلت من يده وتذهب بعيدا.
نهضت من مكانها، ووجدت طريقها إلى دورة المياه، ثم عادت واستلقت على الأريكة متدثرة باللحاف، ومن شدة النعاس، لم تلحظ شعر كوركي أو رائحتها فوقه.
عندما استيقظت كان الصبح قد أشرق، برغم أنها لا تزال السادسة وعشرين دقيقة في ساعة المطبخ.
كانت تشعر بصداع، ووجدت قنينة من أقراص الأسبرين في دورة المياه، فتناولت قرصين واغتسلت، ومشطت شعرها، وأخرجت فرشاة الأسنان من حقيبتها وغسلت أسنانها، ثم أعدت قدرا من القهوة، وتناولت شريحة من الخبز المعد في المنزل ولم تعبأ بتسخينه أو وضع الزبد فوقه. جلست قبالة مائدة المطبخ، وقد تسلل ضوء الشمس من خلال الأشجار، وألقى بظلال نحاسية على جذوع شجرة القطلب الملساء. شرعت كوركي في النباح، وأخذت تنبح لفترة طويلة قبل أن تنعطف إحدى الشاحنات وتدخل الفناء مما جعلها تتوقف عن النباح.
سمعت جولييت صوت باب الشاحنة وهو يغلق، وسمعته يتحدث إلى الكلبة، وعندئذ تملكها الخوف، وأرادت أن تختبئ في أي مكان (قالت فيما بعد: «كان بإمكاني أن أزحف تحت المائدة»، لكنها لم تفكر بالقطع أن تفعل شيئا في مثل هذه السذاجة). ذكرها هذا الموقف بتلك اللحظة في المدرسة قبل إعلان الفائز بالجائزة، لكن هذا الموقف كان أسوأ؛ لأنه ليس لديها أي أمل منطقي للفوز، ولن تكون هناك فرصة أخرى على هذا القدر من الأهمية في حياتها.
عندما فتح الباب لم تستطع أن ترفع بصرها، وتشابكت أصابع يديها وهي تقبضهما وتضعهما على ركبتيها.
قال: «إنك هنا.» كان يضحك في ابتهاج وشعور بالنصر والإعجاب كما لو أنه أمام أكثر المشاهد جرأة وشجاعة. وعندما فتح ذراعيه، بدا وكأن هناك رياحا هبت في الغرفة وجعلتها ترفع بصرها.
منذ ستة أشهر لم تكن تعرف أن هذا الرجل موجود على قيد الحياة. منذ ستة أشهر كان الرجل الذي صرعته عجلات القطار لا يزال على قيد الحياة، وربما ينتقي بعض الملابس من أجل القيام برحلته. «إنك هنا.»
استطاعت أن تستشف من صوته أنه يناديها، فنهضت، وهي لا تقوى على الحراك، ولاحظت أنه أكبر، وأضخم، وأكثر تهورا مما تتذكر. اقترب منها وشعرت بأنه يتفحصها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، وغمرها ذلك الشعور بالارتياح، واجتاحتها السعادة. كم هو مدهش هذا الذي يحدث، كم هو قريب إلى الحيرة والخوف. •••
اتضح فيما بعد أن إيريك لم يكن مندهشا كما تظاهر بذلك؛ إذ هاتفته إلو الليلة الماضية؛ لكي تحذره بشأن الفتاة الغريبة - جولييت - وعرضت عليه أن تتحقق وتعرف إن كانت الفتاة قد استقلت الحافلة بالفعل أم لا. واعتقد هو أنه من الصواب أن يغتنم هذه الفرصة بأنها ستفعل ذلك - ربما ليختبر القدر - ولكن عندما هاتفته إلو لتخبره بأن الفتاة لم ترحل، أصابته الدهشة من شعوره بالفرح الذي اعتراه. ومع ذلك، لم يرجع إلى المنزل على الفور، ولم يخبر كريستا، بالرغم من أنه يدرك أنه عليه إخبارها في القريب العاجل.
استوعبت جولييت كل تلك الأحداث شيئا فشيئا في الأسابيع والأشهر التالية؛ فبعض المعلومات جاءتها عن طريق الصدفة، والبعض الآخر جاء نتيجة لطريقة استقصائها التي اتسمت بالتهور.
واعتبر مصارحتها عن عدم عذريتها شيئا ثانويا.
لم تكن كريستا تشبه إلو؛ فليس لديها فخذان عريضتان أو شعر أشقر؛ فهي امرأة ذات شعر داكن، نحيفة، لماحة وذكية، وفي بعض الأحيان متجهمة، وهي التي ستصبح صديقة جولييت الرائعة وسندها خلال السنوات التالية، بالرغم من أنها لم تتخل تماما عن عادتها في إغاظتها بمكر، وعن اللمحات الساخرة للمنافسة الدفينة بينهما.
في القريب العاجل
وجهان جانبيان يواجه أحدهما الآخر؛ أحدهما لبقرة صغيرة بيضاء اللون يحمل تعبيرا هادئا ولطيفا، والآخر لرجل أخضر الوجه، ليس بصغير أو متقدم في العمر، يبدو عليه أنه موظف صغير، ربما ساعي بريد أو شيء من هذا القبيل؛ فقد كان يرتدي ذلك النوع من القبعات التي يرتديها سعاة البريد. كانت شفتاه باهتتين، ويطل من عينيه بريق لامع، وكانت هناك يد - تقريبا يده - تمتد لتقدم - من الهامش الأسفل للوحة - شجرة صغيرة أو فرعا ضخما مثمرا بالمجوهرات الثمينة.
وفي الهامش الأعلى من اللوحة، ظهرت السحب الداكنة، تظلل تحتها بعض البيوت الصغيرة المائلة، وبجوارها لعبة على هيئة كنيسة تحمل صليبا صغيرا وقد استقرت على السطح المنحني للأرض، وبداخل ذلك الانحناء بدا رجل ضئيل (غير أنه مرسوم بمقياس أكبر من المباني) يسير بثبات وعزم حاملا منجلا فوق كتفه، وبجانبه سيدة رسمت بنفس المقياس، وكان يبدو أنها تنتظره، لكنها كانت معلقة على نحو مقلوب.
كانت اللوحة تتضمن أشياء أخرى؛ فعلى سبيل المثال كانت توجد فتاة تحلب بقرة بجوار البقرة الصغيرة.
قررت جولييت على الفور أن تبتاع تلك اللوحة لوالديها كهدية في عيد الميلاد.
قالت لكريستا، صديقتها التي جاءت معها من ويل باي للقيام ببعض التسوق: «إنها تذكرني بوالدي.» كانا في متجر الهدايا بمعرض فانكوفر للفنون.
ضحكت كريستا قائلة: «الرجل الأخضر والبقرة؟ سيشعران بالإطراء والثناء.»
كانت كريستا لا تأخذ أي أمر من الأمور في البداية على محمل الجد؛ إذ كان لا بد وأن تسخر منها بطريقة ما، ولم تشعر جولييت بالضيق من ذلك، وكانت في شهرها الثالث من الحمل وقد وضعت طفلة بعد ذلك أسمتها بينيلوبي. تخلصت فجأة من الشعور بالغثيان؛ ولهذا السبب - أو لسبب آخر - انتابتها نوبات من المرح الزائد. كانت تفكر في الطعام طوال الوقت، لدرجة أنها لم تكن ترغب في الدخول إلى متجر الهدايا؛ لأنها لمحت أحد المطاعم.
راق لها كل شيء في اللوحة، وبخاصة الشخصيات الصغيرة والأبنية المائلة للسقوط فوقها، والرجل ذي المنجل، والمرأة المتدلية بالمقلوب.
نظرت إلى عنوان اللوحة «أنا والقرية».
كان عنوانا منطقيا بامتياز.
قالت كريستا: «شاجال، إنني أهوى شاجال؛ فبيكاسو كان وغدا.»
كانت جولييت تشعر بسعادة شديدة لما وجدته جعلتها بالكاد تنتبه لما يقال.
قالت لها كريستا: «أتعرفين ما كان يفترض أنه يقول؟ شاجال من أجل بائعات المتاجر.» فردت جولييت: «وما العيب في بائعات المتاجر؟ كان ينبغي لشاجال أن يقول إن لوحات بيكاسو هي من أجل الأشخاص ذوي الوجوه المضحكة.»
قالت جولييت: «أعني أن اللوحة جعلتني أفكر في حياتهم، لا أدري لم، لكنها كذلك.»
كانت جولييت قد قصت لكريستا بالفعل بعض الأشياء التي تتعلق بوالديها؛ كيف أنهما يعيشان في عزلة غريبة، لكنها في الوقت نفسه تفيض بالسعادة؛ عزلة برغم أن والدها كان مدرسا محبوبا. كان جزء من تلك العزلة راجعا إلى مشاكل القلب التي تعاني منها سارة، ولكن كان السبب أيضا يرجع إلى اشتراكهما في بعض المجلات التي لم يكن أحد بالجوار يقرؤها، أو سماعهما لبرامج في الإذاعة المحلية لا ينصت إليها أحد من المحيطين بهما، أو لأن سارة كانت تصنع ملابسها بنفسها - حتى وإن لم تكن ملائمة - من خلال نماذج التفصيل الخاصة بمجلة فوج، بدلا من نماذج بيتريك. أو ربما بسبب احتفاظهما بطابع الشباب بدلا من الحركة بكسل وتباطؤ مثل آباء زملاء جولييت في المدرسة. وصفت جولييت سام بأنه يشبهها - ذو عنق طويل، به بعض النتوءات الخفيفة عند الذقن، وشعر بني خفيف مسترسل. أما سارة فكانت شقراء نحيفة وشاحبة، وذات جمال ناعم غير مهندم. •••
عندما بلغت بينيلوبي شهرها الثالث عشر، اصطحبتها جولييت وطارت إلى تورونتو، ثم استقلت القطار بعد ذلك، وكان هذا عام 1969، ونزلت في إحدى المدن التي تبعد نحو عشرين ميلا عن المدينة التي نشأت بها، وحيث لا يزال سام وسارة يعيشان. من الواضح أن القطار لم يعد يتوقف هناك.
شعرت باستياء لنزولها في تلك المحطة الغريبة، ولم تتراءى لها، كما اعتادت دوما، تلك الأشجار، والأرصفة، والمنازل التي ما زالت تذكرها، التي يتبعها على الفور منزلها؛ منزل سام وسارة، الرحب رغم بساطته، بطلائه الأبيض المتقادم خلف شجرة القيقب اليانعة.
وها هما سام وسارة في تلك المدينة التي لم ترهما بها من قبل، تكسو وجهيهما ابتسامة مشوبة بالقلق، وقد تضاءل حجمهما بعض الشيء.
أطلقت سارة صيحة غريبة قصيرة، كما لو أن شيئا قرصها، واستدار شخصان بالمحطة ينظران نحوها.
كان من الواضح أنها صيحة نابعة من فرط إثارتها.
قالت: «برغم أن إحدانا قصيرة والأخرى طويلة فإنه ما زال هناك توافق وانسجام.»
لم تفهم جولييت في البداية ما تعنيه سارة، ثم سرعان ما أدركت مقصدها؛ كانت سارة ترتدي تنورة من الكتان الأسود تتدلى حتى منتصف ساقيها، وسترة تلائمها. وكانت ياقة السترة وأطراف أكمامها مصنوعة من قماش أخضر بلون الليمون ومرقط بالأسود. وقد اعتمرت قبعة من نفس القماش الأخضر. لا بد أنها صنعت تلك الملابس بنفسها، أو جعلت إحدى الخياطات تحيكها لها. ولم تكن الألوان تتماشى مع بشرتها، التي بدت وكأن هناك بعضا من غبار الطبشور الناعم قد استقر عليها.
كانت جولييت ترتدي فستانا أسود قصيرا.
قالت سارة: «كنت أتساءل عما سيكون رأيك عني، وأنا متشحة بالسواد في فصل الصيف، وكأني في حداد، وها أنت وقد ارتديت نفس اللون ليكون هناك توافق بيننا، تبدين أنيقة، تعجبني بشدة تلك الفساتين القصيرة.»
قال سام: «ولها شعر أسود طويل وكأنها من الهيبيز.» ثم انحنى ليتطلع إلى وجه الرضيعة وقال: «أهلا بينيلوبي.»
قالت سارة: «يا لها من دمية جميلة!»
ومدت يديها نحو بينيلوبي لتحملها؛ بالرغم من أن الذراعين اللتين انزلقتا من كميها بدتا شديدتي الوهن بدرجة يصعب معها حمل أي شيء. ولم تكن بحاجة إلى ذلك؛ لأن بينيلوبي التي توترت عند سماعها لصوت جدتها لأول مرة، راحت تصرخ وتبعد نفسها، وتدس وجهها في عنق جولييت.
ضحكت سارة قائلة: «هل أنا مخيفة إلى هذا الحد؟» مرة أخرى لا تستطيع سارة التحكم في صوتها جيدا؛ فكان يعلو في نبرات حادة ثم يتهدج وينخفض، مما يلفت الأنظار إليها. لم يكن هذا بالأمر الجديد تماما. كانت جولييت تدرك أن الناس ربما كانوا يتطلعون دائما إلى طريقة أمها عندما تضحك أو تتحدث، ولكن قديما، كان الأمر يبدو أنه مرح فجائي، كان شيئا محببا وينطوي على الأنوثة والجاذبية (بالرغم من أن ذلك لم يكن يروق للجميع؛ فبعضهم كان يقول إنها تحاول أن تلفت الانتباه فحسب).
قالت جولييت: «إنها متعبة للغاية.»
قدم لها سام السيدة الشابة التي كانت تقف وراءهم، وتبعد عنهم بمسافة كما لو أنها تحرص على ألا يعرفها الآخرون كجزء من مجموعتهم، وفي الواقع، لم يدر بخلد جولييت أنها يمكن أن تكون كذلك بالفعل. «جولييت، هذه آيرين إيفري.»
مدت جولييت يدها قدر المستطاع بينما كانت تحمل بينيلوبي، وحقيبة الحفاضات، وعندما رأت أن آيرين لن تمد يدها بالمصافحة - أو ربما لم تلحظ نية جولييت على فعل ذلك - اكتفت بالابتسام. ولكن آيرين لم ترد لها الابتسامة بأخرى. كانت تقف ساكنة في مكانها مخلفة الانطباع بأنها تريد أن تفر هاربة.
قالت جولييت: «مرحبا.»
ردت آيرين بصوت مسموع بما يكفي، ولكنه خال من أي تعبيرات: «سعيدة لرؤيتك.»
قالت سارة: «آيرين، ملاكنا الطيب.» وتغير وجه آيرين قليلا، فقطبت جبينها وظهر عليها بعض الإحراج.
لم تكن طويلة القامة كجولييت، ولكنها كانت ذات كتفين وفخذين أعرض منها، وذراعين قويتين، وذقن حاد. كان شعرها أسود اللون، يتسم بالكثافة والنعومة، وقد عقصته من الخلف على هيئة ذيل حصان قصير وثقيل، حواجبها سوداء اللون كثيفة تبدو عدوانية، وبشرتها من ذلك النوع الذي يكتسب سمرة بسهولة. وكانت عيناها خضراوين أو زرقاوين لونهما فاتح يثير الدهشة لمخالفته لون بشرتها، يصعب التطلع إليهما طويلا لفرط ما بهما من عمق شديد، ولأنها كانت تحني رأسها قليلا وتدير وجهها جانبا. بدا حرصها شديدا ومتعمدا.
قال سام بابتسامته العريضة المتعمدة: «إنها تقوم بالكثير من الأعمال التي تفوق قدرة الملاك، سأخبر العالم كله أنها تفعل ذلك.»
تذكرت جولييت بالطبع الآن أن الخطابات كان يرد بها ذكر امرأة كانت تأتي للمساعدة بسبب التدهور الشديد في صحة سارة، لكنها اعتقدت أنها أكبر سنا، بالقطع لم تكن آيرين أكبر من جولييت نفسها.
استقلا نفس السيارة البونتياك التي اشتراها سام مستعملة ربما منذ عشر سنوات، وظهرت آثار لونها الأزرق الأصلي في صورة مسحات هنا وهناك، ولكن معظم اللون كان قد بهت، وتحول إلى الرمادي، وكان من السهل رؤية تأثيرات الأملاح المستخدمة في الطريق أثناء الشتاء من خلال بعض الصدأ الذي كسا دواخلها.
قالت سارة وقد تقطعت أنفاسها بعد المسافة القصيرة التي قطعتها سيرا من رصيف المحطة: «الفرس الرمادية العجوز.»
قالت جولييت: «إنها لا تستسلم أبدا.» بدا الإعجاب من حديثها كما هو متوقع. كانت قد نسيت أن هذا هو ما أطلقوه على السيارة من قبل، بالرغم من أن ذلك الاسم كانت هي من فكرت به واختارته.
قالت سارة بعد أن استقرت في المقعد الخلفي بمساعدة آيرين: «أوه، إنها لا تستسلم أبدا، ونحن لن نتخلى عنها أبدا.»
جلست جولييت في المقعد الأمامي - وهي تلاعب بينيلوبي - التي راحت بدورها تتذمر مرة أخرى. كانت الحرارة داخل السيارة صادمة، بالرغم من أنها كانت واقفة ونوافذها مفتوحة تحت الظلال المتفرقة لأشجار الحور بالمحطة.
قال سام وهو متردد بعض الشيء: «إنني أفكر حقيقة في أن أستبدلها بشاحنة.»
صاحت سارة قائلة: «لا، إنه لا يعني ذلك.»
لكن سام استطرد قائلا: «من أجل مصلحة العمل، سيكون هذا أكثر نفعا، وسنحصل على نوع من الدعاية في كل مرة أقود بها الشاحنة عبر الطرقات، فقط من خلال الملصقات الموضوعة على بابها.»
قالت سارة: «إنه يتعمد إغاظتي، كيف لي أن أقود سيارة مكتوبا عليها «خضراوات طازجة»؟ هل من المفترض أن أكون أنا إذن ثمرة القرع أم تراني أنا الكرنب؟»
قال: «من الأفضل أن تهدئي الآن يا سيدتي، وإلا لن تتمكني حتى من التقاط أنفاسك عندما نصل إلى المنزل.»
بعد قرابة نحو ثلاثين عاما من التدريس في المدارس العامة التي تنتشر في المدينة - منها عشر سنوات في آخر مدرسة التحق بها - قرر سام فجأة أن يعتزل مهنة التدريس، ويتجه إلى نشاط بيع الخضراوات لدوام كامل. كان دوما يزرع الكثير من الخضراوات في الحديقة، ويزرع التوت البري في قطعة الأرض الخالية بجوار المنزل، وكانا يبيعان الفائض لقليل من الأشخاص بالجوار، لكن تغير هذا الآن ليصبح بيع الخضراوات إحدى سبل كسب العيش وذلك من خلال البيع لمتاجر البقالة، أو ربما فيما بعد ينصب كشكا صغيرا لعرض السلع قبالة البوابة الأمامية.
قالت جولييت بهدوء: «أأنت جاد بهذا الشأن؟» «إنني جاد تماما.» «لكن ألن تشعر أنك تفتقد التدريس؟» «لا سأتركه تماما. لقد سئمت. لقد سئمت حتى النخاع.»
إنه حقا بعد كل تلك السنوات لم يعرض عليه في أي مدرسة شغل منصب المدير، كانت جولييت تعتقد أن هذا هو مصدر استيائه. لقد كان مدرسا مميزا، وكل فرد يتذكر جيدا كيف كانت تصرفاته مرحة ويشع طاقة؛ فالصف السادس لم يكن كشأن أي صف دراسي يمكن أن يمر به الطلبة في حياتهم. وبرغم ذلك كان هناك من يتخطاه ويشغل المنصب - مرات ومرات - وربما كان هذا هو السبب؛ فالكثيرون ينظرون إلى طريقته على أنها تضعف من السلطات وتجعلها تبدو أقل فاعلية؛ لذا فمن السهل تخيل أن رؤساءه يرون أنه ليس بالرجل الذي يمكن أن يوضع في منصب المسئولية، وربما يكون ضرره في موقعه أقل بكثير من أي موقع إداري.
كان يحب العمل والأنشطة الخارجية، كان بارعا في التحدث مع الآخرين، وربما كان ماهرا في بيع الخضراوات.
لكن سارة كانت تكره ذلك.
ولم تكن جولييت تحب ذلك أيضا، لكن لو كان عليها أن تختار، لاختارت الانحياز لجانبه. لم تكن لتعتبر نفسها من الشخصيات المتكبرة.
والسبب الحقيقي وراء ذلك يكمن في أنها ترى نفسها - ترى نفسها هي وسام وسارة، وهي وسام بوجه خاص - أسمى وأكثر تميزا في طريقتهم من أي فرد حولهم؛ لذا ماذا يضير في التجول بالخضراوات؟
تحدث سام بصوت أهدأ: «ما اسمها؟»
كان يقصد الرضيعة. «بينيلوبي. لن نناديها أبدا ببيني. بينيلوبي فقط.» «لا، أعني ... أعني اسمها الأخير.» «أوه، إنه هندرسون بورتيوس على ما أظن، أو بورتيوس هندرسون، لكني أعتقد أنه سيكون صعبا في النطق؛ وخاصة أننا قد أسميناها بينيلوبي بالفعل. نحن نعرف أن الاسم كبير، لكننا أردنا اسم بينيلوبي. علينا أن نتعامل مع هذا بطريقة ما.»
قال سام: «إذن أعطاها اسمه، حسنا، هذا شيء جيد.»
اعترت جولييت الدهشة للحظة، ثم سرعان ما زالت.
قالت وهي تحاول التظاهر بالتحير والدهشة: «بالقطع أعطاها اسمه، إنها ابنته.» «أوه، نعم، لكن بالنظر إلى الظروف ...»
قالت جولييت: «نسيت أمر هذه الظروف، إن كنت تعني حقيقة أننا لسنا متزوجين، فهذا شيء قلما نضعه في اعتبارنا؛ ففي المكان الذي نحيا به، وبين الأشخاص الذين نعرفهم، هو أمر لا يفكر به أحد على الإطلاق.»
قال سام: «لنفترض ذلك، ولكن هل كان متزوجا رسميا ممن سبقتك؟»
كانت جولييت قد حكت لهما عن زوجة إيريك التي كان يعتني بها خلال الثماني سنوات التي عاشتها بعد الحادث الذي وقع لها. «آن؟ لا أعرف حقيقة، لكن نعم، أعتقد أنه كان متزوجا بها.»
قالت سارة لمن يجلسان بالمقعد الأمامي: «ألن يكون من اللطيف أن نتوقف لتناول بعض من المثلجات؟»
رد عليها سام قائلا: «لدينا الكثير منها في المبرد بالمنزل.» وأردف بصوت منخفض موجها كلامه إلى جولييت على نحو صدمها: «اصطحبيها إلى أي مكان لتناول الحلوى وستقدم استعراضا.»
كانت نوافذ السيارة لا تزال مفتوحة، وهبت الرياح الدافئة إلى داخل السيارة. كان الجو صيفيا تماما؛ وهو موسم لا يأتي - حسبما رأت جولييت - إلى الساحل الغربي على الإطلاق. انحنت الأشجار الصلبة بفروعها عند أطراف الحقول البعيدة، راسمة كهوفا من الظلال باللون الأزرق الداكن، وظهرت المروج والمحاصيل أمامها بلونيها الأصفر والأخضر اللامعين يحتضنها شعاع الشمس القوي. أما أعواد القمح والشعير والذرة والفول الفتية النشطة، فراحت تتمايل بسرعة وتعكس بريقها في العيون.
قالت سارة: «ماذا يدور في المؤتمر المنعقد في المقعد الأمامي؟ ليس باستطاعتنا أن نسمع بسبب الرياح.»
قال سام: «ليس ثمة ما يهم، كنت أسأل جولييت إن كان رفيقها لا يزال يمارس الصيد؟»
كان إيريك يكسب قوت يومه من صيد القريدس، وكان يفعل ذلك منذ فترة طويلة. في يوم من الأيام كان يدرس الطب، ولكن انتهى ذلك الأمر؛ لأنه أجرى عملية إجهاض لإحدى صديقاته (وليست معشوقته). انتهت العملية بسلام، لكن كانت القصة قد عرفت. كان هذا شيئا أرادت جولييت أن تفصح عنه لوالديها ذوي العقول المنفتحة. ربما أرادت بذلك أن تقدمه كرجل متعلم، وليس مجرد صياد، ولكن ماذا يهم في ذلك؛ وبخاصة أن سام أصبح يبيع الخضراوات؟ بالإضافة إلى أن سعة أفقهما لم تعد شيئا يعول عليه كما كانت تعتقد. •••
كانت توجد أشياء أخرى للبيع أكثر من الخضراوات الطازجة والتوت البري، فتبين أن المطبخ يحتوي على المربى، وزجاجات العصير، والمشهيات، وفي أول صباح أعقب زيارة جولييت كانت مربى التوت تعد، وكانت آيرين هي المسئولة عن ذلك، كانت كنزتها مبتلة إما نتيجة البخار أو العرق، والتصقت بجسمها ما بين لوحي الكتف. وبين الحين والآخر كانت آيرين تلقي نظرة سريعة على جهاز التليفزيون الذي نقل من الحجرة الخلفية إلى مدخل المطبخ، وقد أصبح لزاما أن تقحم نفسك بصعوبة وتلتف من حوله حتى تدلف إلى الحجرة. وكان يعرض على شاشة التليفزيون أحد برامج الأطفال الصباحية التي تقدم حلقة «بول وينكل» الكرتونية، وكانت آيرين تطلق ضحكة عالية بين الحين والآخر على حركات الشخصيات الكرتونية المضحكة، وكانت جولييت تضحك قليلا كي تبدو ودودة، ولكن لم تلحظ آيرين ذلك.
كان لا بد من تنظيف سطح النضد حتى تتمكن جولييت من سلق بيضة وهرسها لتتناولها بينيلوبي في الإفطار، ولكي تصنع بعض القهوة والخبز أيضا من أجلها. سألتها آيرين بصوت متردد: «هل هذه المساحة الكافية؟» كما لو أن جولييت كانت دخيلة ومن الطبيعي ألا تتوقع احتياجاتها.
وبالاقتراب من آيرين يمكن رؤية بعض الشعر الأسود الناعم الذي نما على ساعديها، وهناك أيضا بعض الشعر على وجنتيها أمام أذنيها مباشرة.
واستطاعت وهي تقف جانبا أن تراقب كل ما تفعله جولييت؛ فرأتها وهي تعبث بمقابض الموقد (حيث لم تتذكر في البداية ما الشعلة التي يتحكم بها كل مقبض)، وراحت تتطلع لها وهي تنتشل البيضة من القدر الصغيرة، وتنزع القشرة (التي التصقت هذه المرة، وخرجت على شكل فتات صغيرة، بدلا من أن تخرج بسهولة على شكل قطع كبيرة)، ثم راقبتها وهي تختار أحد الأطباق كي تهرسها فيه. «أنت لا تريدينها أن تسقط ذلك الطبق على الأرض؟» كان هذا إشارة إلى الطبق الصيني الذي اختارته جولييت. ثم استأنفت متسائلة: «ألم تحضري معك طبقا بلاستيكيا؟»
قالت جولييت: «سأراقبها.»
واتضح أن آيرين كانت أما هي الأخرى؛ فلديها صبي يبلغ من العمر ثلاث سنوات، وابنة لم تبلغ عامين، وكان اسماهما تريفور وتريسي. لقي والدهما مصرعه الصيف الماضي في حادث بمزرعة للدواجن حيث يعمل. وهي نفسها كانت تصغر جولييت بثلاثة أعوام؛ فكانت تبلغ الثانية والعشرين من العمر. جاءت المعلومات بشأن الأطفال والزوج كإجابة على تساؤلات جولييت، واستطاعت أن تعرف عمرها من خلال ما قالته لاحقا.
قالت جولييت: «إنني جد آسفة.» كانت تتحدث عن الحادثة، وشعورها بأنها كانت فظة بتطفلها، وأنه نوع من الرياء أن تحاول مواساتها الآن. فقالت آيرين: «لا بأس. وقع الحادث في عيد ميلادي الحادي والعشرين، كما لو أن المصائب تجتمع كما تتجمع الأحجار في القلادة.»
بعد أن تناولت بينيلوبي كل البيض الذي تقبلته، حملتها جولييت ساندة إياها على عظام وركها وصعدت بها إلى الطابق العلوي.
وتنبهت في منتصف المسافة إلى أنها لم تغسل الطبق.
لم يكن هناك مكان تترك فيه الطفلة التي لم تمش بعد، لكنها كانت تزحف بسرعة كبيرة، ولم يكن من الممكن بالطبع أن تتركها في المطبخ حتى ولو لمدة خمس دقائق وسط المياه التي تغلي في المعقم، والمربى الساخنة، والسكاكين الحادة، وسيكون عبئا إضافيا على آيرين لو طلبت منها أن تراقبها. وكان أول شيء فعلته بينيلوبي هذا الصباح هو رفض صداقة سارة؛ لذا حملتها جولييت وصعدت بها السلم الذي يؤدي إلى الغرفة العلوية أسفل السقف مباشرة - وأغلقت الباب وراءها - ووضعتها على الدرج لتلهو، بينما راحت هي تبحث عن بيت اللعب القديم، ولحسن الحظ كانت بينيلوبي خبيرة في اللعب على الدرج.
كان المنزل على ارتفاع طابقين، وكانت الغرفه ذات سقف عال ولكنها كانت مربعة، أو هكذا تبدو لجولييت الآن، وكان السقف مائلا بشدة، فيكون بإمكانك أن تتجول في منتصف الغرفة العلوية. وقد اعتادت جولييت أن تفعل هذا عندما كانت طفلة صغيرة؛ فكانت تتجول بالغرفة وهي تقص لنفسها بعض الحكايات التي قرأتها، مع بعض الإضافات أو التعديلات، وكانت ترقص أيضا أمام جمهور خيالي. وكان الجمهور الحقيقي يتكون من قطع الأثاث المكسورة أو المهملة؛ حقائب قديمة، معطف ثقيل وضخم من فراء الجاموس الأبيض، بيت خشبي لطائر السنونو الأرجواني (وكان هدية من أحد طلاب سام منذ فترة طويلة، والذي فشل في اجتذاب أي من طيور السنونو)، خوذة ألمانية من المفترض أن جد سام أحضرها من الحرب العالمية الأولى، لوحة كوميدية على نحو غير مقصود لهاو تعبر عن غرق سفينة «إمبراطورة أيرلندا» في خليج سانت لورانس، بينما تقفز منها شخصيات صغيرة الحجم في كل اتجاه.
وهناك كانت لوحة «أنا والقرية» موضوعة أمام الحائط، ووجهها للأمام؛ لم يكن هناك أي محاولة لإخفائها، ولم تكن تعلوها ذرات الغبار؛ مما يعني أنها لم توضع هنا منذ فترة طويلة.
عثرت على صندوق اللعب بعد دقائق من البحث. لقد كان عبارة عن قطعة ثقيلة من الأثاث، له أرضية من الخشب، وجوانبه على هيئة أعمدة ملتفة. ثم وجدت عربة الأطفال. احتفظ والداها بكل شيء؛ لأنهما كانا يتطلعان لإنجاب طفل آخر، غير أن أمها عانت من إجهاض حملها لمرة أو أكثر. وكانت الضحكات التي تملأ فراشهما في صباح أيام الآحاد، تشعر جولييت كما لو أن المنزل قد احتله نوع من الإزعاج الخفي، بل والمخزي الذي لا يروق لها على الإطلاق.
كانت عربة الأطفال من ذلك النوع الذي يمكن طيه وفرده، كان هذا شيئا نسيته جولييت أو ربما لم تكن تعرف بوجوده. وعليها الآن بعد أن تصبب منها العرق وعلاها الغبار أن تعمل لكي تتمكن من فردها. لم تكن هذه المهمة هينة بالنسبة لها، ولم تكن تجيد فهم طريقة تركيب الأشياء معا على نحو سريع، كان بإمكانها أن تقوم بجرها لأسفل، وتذهب إلى الحديقة، وتطلب مساعدة سام، لولا أنها فكرت في آيرين؛ آيرين وعينيها الباهتتين المختلجتين، ونظراتها الحادة غير المباشرة، ويديها الماهرتين، ومراقبتها التي شابها شيء لم تستطع القول بأنه قد ينطوي على الازدراء. لم تعرف جولييت ما الذي يمكن أن يوصف به ذلك؛ إنه سلوك ينم عن اللامبالاة، وينطوي في الوقت نفسه على التصلب والعناد كأسلوب القط تماما.
استطاعت جولييت أخيرا أن تقوم بفرد عربة الأطفال. كانت ثقيلة الوزن، وتكاد تكون أكبر من حجم العربة التي اعتادت عليها بمرة ونصف، وكانت متسخة بالطبع. وبينما هي تجلس بمفردها الآن، وبينيلوبي تحبو على الدرج، وإلى جوار يد الطفلة كان هناك شيء لم تلاحظه جولييت، كان هناك مسمار؛ فهو من بين تلك الأشياء التي لا تلاحظها حتى يكون عندك طفل في مرحلة التقاط الأشياء ووضعها في الفم، ويكون عليك أن تراقبه طوال الوقت.
لكنها لم تكن تراقبها؛ فكل شيء كان يشتت انتباهها؛ الحرارة، وآيرين، وتلك الأشياء المألوفة والأخرى غير المألوفة و... «أنا والقرية». •••
قالت سارة: «كنت آمل ألا تلاحظي. لا تأخذي الأمر على محمل الجد.»
أصبحت الغرفة المشمسة الآن هي غرفة نوم سارة، وكانت الستائر المصنوعة من الخيزران المعلقة على كل النوافذ تلقي على الغرفة الصغيرة - التي كانت يوما جزءا من الشرفة - ضوءا أصفر داكنا، وحرارة معتدلة. وبرغم هذا، كانت سارة ترتدي منامة من الصوف وردية اللون، وقد بدت لجولييت بالأمس في المحطة بحاجبيها الرفيعين المحددين بالقلم، وأحمر شفاهها المائل إلى الحمرة، وبقبعتها وحلتها وكأنها امرأة فرنسية عجوز (بالرغم من أن جولييت لم تر الكثير من النساء الفرنسيات المتقدمات في العمر)، لكنها تبدو الآن بشعرها الرمادي المسترسلة خصلاته، وعينيها اللامعتين اللاهثتين تحت حواجب تكاد تكون مختفية، وكأنها طفلة عجوز غريبة الشكل. كانت تسند ظهرها إلى الوسائد والألحفة تغطيها حتى وسطها، وعندما صحبتها جولييت إلى دورة المياه قبلها بفترة اكتشفت أن سارة ترتدي جوارب قصيرة وخفا وهي في فراشها بالرغم من أن الطقس كان حارا.
بجوار فراشها وضع مقعد مستقيم الظهر؛ حيث كان من الأيسر لها أن تصل يدها إلى قاعدته بدلا من المائدة، وقد وضعت عليه أقراص وزجاجات من الدواء، وبودرة تلك، وسائل مرطب، وقدح من الشاي بالحليب الذي شرب نصفه فقط، وكوب به بعض من بقايا أحد المقويات داكنة اللون، ربما كان الحديد. وأعلى الفراش مجموعة من المجلات؛ نسخ قديمة من مجلة فوج، وليديز هوم جورنال.
قالت جولييت: «أنا لا آخذه على محمل الجد.» «لقد قمنا بتعليقها بالفعل، وكانت موضوعة في البهو الخلفي بجوار باب غرفة المعيشة، ثم أنزلها أبوك.» «لم؟» «لم يقل لي شيئا بشأنها، لم يخبرني بأنه سيفعل ذلك، وذات يوم لم أجدها في مكانها.» «ولم أنزلها من على الجدار؟» «أوه، ربما لديه أفكار ما بشأنها.» «أي نوع من الأفكار هذه؟» «أوه، أعتقد أنه شيء له علاقة بآيرين؛ فربما تسبب بعض الإزعاج لآيرين.» «إنها لا تحوي أي رسومات عارية؛ فهي ليست كلوحات بوتيتشيلي.»
بالفعل كانت توجد لوحة له تحمل عنوان مولد فينوس، معلقة في غرفة المعيشة الخاصة بسام وسارة، وكانت مثار التندر في المناسبات التي يدعون فيها بعض المدرسين إلى العشاء. «لا، ولكنها «حديثة»، وأعتقد أنها لا تشعر أباك بالراحة، أو ربما ينظر إليها من وجهة نظر آيرين، وهو الأمر الذي جعله يشعر بالانزعاج، أو لعله خشي أن تشعرها بنوع من الازدراء تجاهنا؛ بمعنى أن تشعر بأننا قد نكون غريبي الأطوار، وهو لا يحب أن تعتقد آيرين ذلك.»
قالت لها جولييت: «تقصدين نوع الأشخاص الذين يضعون هذا النوع من اللوحات؟ تعنين أنه يهتم إلى هذه الدرجة بما تعتقده آيرين في لوحاتنا؟» «أنت تعرفين أباك.» «إنه لا يخشى الاختلاف مع الأشخاص. ألم تكن تلك هي المشكلة التي يواجهها دوما في عمله؟»
قالت سارة: «ماذا؟ نعم بإمكانه الاختلاف مع الآخرين، لكنه يتحلى بالحرص في بعض الأحيان. وبالنسبة لآيرين، فهو حريص معها؛ إنها تمثل قيمة كبيرة بالنسبة لنا.» «هل دار بخلده أنه يمكن أن تترك آيرين العمل بسبب وجود لوحة غريبة لدينا.» «كنت لأتركها في مكانها يا عزيزتي. إنني أقدر أي شيء تحضرينه لنا. لكن أباك ...»
لم تتفوه جولييت بشيء؛ فمنذ أن كانت في التاسعة أو العاشرة من عمرها حتى الرابعة عشرة، أصبح لديها هي وسارة تفهما مشتركا بشأن سام، يتلخص في «أنت تعرفين أباك.»
كان هذا هو الوقت الذي تعاملتا فيه معا كامرأتين ناضجتين؛ فكانت سارة تضع مواد تمويج الشعر على شعر جولييت الناعم العنيد، أما جلسات الحياكة فكانت تنتج عنها ملابس لا يرتدي مثيلها أحد. وعن العشاء في الأمسيات التي كان سيمكث فيها سام لوقت متأخر بالخارج لحضوره أحد الاجتماعات بالمدرسة، فكان عبارة عن شطائر زبدة الفول السوداني مع الطماطم والمايونيز، وقصص ترويها سارة لجولييت، وتعيد روايتها عن أصدقائها وصديقاتها القدامى، والنكات التي كانوا يلقونها، والأوقات الممتعة التي أمضوها في الأيام التي عملت فيها سارة كمدرسة أيضا قبل أن تعاني من مشاكل في القلب، بل وقصص تحكيها عن أوقات سبقت ذلك؛ تلك الأوقات التي كانت تستلقي في فراشها وهي تعاني من الحمى الروماتيزمية، وتتخيل وجود صديقين متخيلين هما رولو وماكسين اللذان كان باستطاعتهما حل كل الألغاز، بل وجرائم القتل، مثلهما مثل بعض الشخصيات في كتب الأطفال. لمحات سريعة عن مغازلات سام وحبه المتهور، والكوارث التي أحدثها بالسيارة المستعارة، والوقت الذي كان يظهر فيه أمام منزلها وهو متنكر في زي أحد المتشردين.
كانت سارة وجولييت تصنعان الحلوى معا، والشرائط المزينة لزخرفة أثوابهما الداخلية. لقد ارتبطت كل منهما بالأخرى ارتباطا شديدا. وفجأة، لم تعد جولييت كسابق عهدها؛ فقد أرادت بدلا من ذلك أن تتجاذب الحديث مع سام في وقت متأخر من الليل في المطبخ؛ لتسأله عن الثقوب السوداء في الفضاء، والعصر الجليدي، والرب. لقد كانت تبغض أسلوب سارة في التقليل من أهمية حديثهما بتساؤلاتها الساذجة التي تتسع لها عيناها، وهو الأسلوب الذي حاولت من خلاله إدارة دفة الحديث نحوها؛ ولهذا كانت الحوارات تتم في وقت متأخر من الليل، وكان لا بد من وجود نوع من التفاهم لم يتحدث عنه كلاهما أمام سارة. «انتظري حتى نتخلص من سارة.» وكان هذا لبعض الوقت بالطبع.
لكن كانت هناك تذكرة لها بأحد الأمور أثناء ذلك: «عليك أن تكوني أكثر لطفا مع سارة؛ إنها خاطرت بحياتها لتحظى بك، هذا أولى أن تضعيه نصب عينيك.»
قالت سارة وهي تأخذ نفسا عميقا: «أبوك لا يعبأ بالخلاف مع من هم يفوقونه في المستوى، لكنك تعرفين كيف يكون تعامله مع من هم أدنى منه، فإنه يفعل أي شيء ليتأكد من أنهم لا ينتابهم الشعور بأنه يفوقهم بأي صورة، فهو يحاول أن يقترب من مستواهم ...»
كانت جولييت تدرك ذلك جيدا بالطبع؛ فهي تعرف كيف كان يتحدث إلى الصبي الذي يقف في محطة ضخ الوقود، وأسلوب مزاحه في متجر الأدوات المنزلية، لكنها لم تقل شيئا.
قالت سارة وقد تغيرت لهجتها فجأة، وأطلقت ضحكة مكتومة تنطوي على بعض من خبث: «كان عليه في بعض الأحيان أن ينافقهم لاقتناص قلوبهم.» •••
نظفت جولييت عربة الأطفال ، ثم اغتسلت هي وبينيلوبي أيضا، ثم شرعت في التجول حول المدينة، وكانت حجتها أنها تحتاج ماركة بعينها من الصابون المطهر الذي تغسل به حفاضات ابنتها؛ لأنها إن استعملت الصابون العادي فربما تصاب الطفلة بطفح جلدي.
لكن في حقيقة الأمر كانت لديها أسباب أخرى؛ أسباب مخجلة، لكنها لا تقاوم.
كان هذا هو الطريق الذي ظلت تقطعه لسنوات عند ذهابها للمدرسة، وحتى عندما التحقت بالجامعة، وكانت تأتي للمنزل في زيارات، ظلت كما هي؛ فتاة تذهب للمدرسة. سأل أحدهم سام ذات مرة عند فوزها بجائزة الترجمة اللاتينية التي تجرى بين الكليات قائلا: «ألن تنهي ذهابها للمدرسة؟» ورد هو قائلا: «أخشى ألا تفعل.» كان يقص تلك القصة عن نفسه، وكان لا يرغب أبدا في أن يقص أمر تلك الجوائز على أحد، كان يترك سارة تفعل ذلك، بالرغم من أن سارة كانت تنسى السبب الذي منحت الجائزة من أجله.
وها هي الآن قد تحررت؛ تدفع برضيعتها أمامها كأي امرأة أخرى، تهتم بأمر صابون الحفاضات؛ فهي ليست رضيعتها فحسب، بل ثمرة عشقهما غير المكلل بالزواج. كانت في بعض الأحيان تتحدث بهذا الأسلوب عن بينيلوبي مع إيريك فحسب. كان يأخذ كلامها على أنه مزحة، كانت هي ذاتها تقوله كمزحة؛ لأنهما بالطبع يعيشان معا، وقد عاشا معا لبعض الوقت، ويعتزمان أن يظلا معا. وحقيقة أنهما غير متزوجين لم تكن تعني له الكثير، على حد علمها هي، بل إنها هي ذاتها كانت تغفلها في بعض الأحيان، ولكن بين الحين والآخر؛ وخاصة الآن وهي في بلدتها، فإن حقيقة عدم زواجها تمنحها بعض الشعور بالاستقلالية؛ نفحة قليلة من السعادة لا تفهم كنهها. •••
قال سام: «إذن، لقد خرجت إلى الشارع اليوم؟» (هل كان دوما يقول الشارع؟ جولييت وسارة تقولان المدينة!) ثم تساءل: «أرأيت أحدا تعرفينه؟»
قالت جولييت: «كان علي الذهاب إلى الصيدلية؛ لذا تحدثت إلى تشارلي ليتل.»
دار هذا الحوار بينهما في المطبخ، بعد أن تجاوزت الساعة الحادية عشرة ليلا، وقد قررت جولييت أن هذا هو أفضل وقت لإعداد زجاجات رضاعة بينيلوبي لليوم التالي.
قال سام: «تشارلي الصغير»، وكان لا يزال متمسكا بتلك العادة التي لم تكن تذكرها، وهي مناداة الأشخاص بأسماء التدليل التي أطلقت عليهم أيام الدراسة، وأردف قائلا: «هل أعجبته ابنتك؟» «بالطبع.» «ربما كثيرا.»
كان سام يجلس قبالة المائدة، يحتسي بعضا من الويسكي، ويدخن سيجارة، وكان تناوله للويسكي شيئا جديدا. كان والد سارة مدمنا للخمر - غير أنه لم يكن مدمنا بلا مصدر للرزق؛ لأنه استمر يمارس عمله كطبيب بيطري، لكنه كان يتسبب في إحداث الذعر بالمنزل بصورة جعلت ابنته تفزع من تناول الخمر - لذا فإن سام لم يعتد على احتساء الكثير حتى من الجعة أو على الأقل في المنزل على حد علم جولييت.
كانت جولييت قد ذهبت إلى الصيدلية؛ لأنها المكان الوحيد الذي يمكن ابتياع صابون الحفاضات منه. لم تكن تتوقع أن ترى تشارلي هناك بالرغم من أنه متجر عائلته، وآخر ما سمعته عنه، هو أنه سيصبح مهندسا. وذكرت له ذلك عندما رأته اليوم، ربما بأسلوب خال من الكياسة، لكنه كان سلسا ولطيفا عندما أخبرها بأن الأمر لم ينجح. كان قد اكتسب بعض الوزن عند منطقة الوسط، وقلت كثافة شعره، وفقد بعضا من تموجه ولمعانه. حيا جولييت بحرارة، مبديا بعض الإطراء والتملق لها وللطفلة؛ مما أربكها لدرجة أنها شعرت ببعض الحرارة التي انبعثت من وجهها ورقبتها، وسال منها بعض العرق طيلة الوقت الذي تحدث فيه إليها. في المدرسة الثانوية، لم يكن لديه وقت من أجلها؛ فيما عدا أنه كان يحييها تحية مهذبة؛ حيث إن أسلوبه كان دوما لطيفا محبوبا. كان يرافق أكثر الفتيات جاذبية في المدرسة، وهو الآن متزوج من واحدة منهن، وذلك كما أخبرها؛ وهي جيني بييل، ولديهما طفلان؛ أحدهما في عمر بينيلوبي، والآخر يكبرها. كان هذا هو السبب - كما قال لها بصراحة بدت أنها نابعة من موقف جولييت المشابه - الذي جعله لم يستكمل دراسته ليصبح مهندسا.
والآن استطاع أن يحصل على ابتسامة، ثم ضحكة عالية من بينيلوبي، ثم تحدث مع جولييت كأب مثلها؛ شخص في نفس مستواها. انتابها شعور أبله بالسرور وبإشباع غرورها، لكن ثمة أمرا آخر جذب انتباهها أكثر من هذا؛ وهو نظرته الخاطفة إلى يدها اليسرى التي لا يزينها أي خاتم، وتندره بشأن زواجه. وكان هناك شيء آخر، لقد أطرى عليها ومدحها، بأسلوب خفي؛ ربما لأنه يراها الآن امرأة مكتملة الأنوثة ولا تخجل من ثمرة ارتباطها غير الشرعي. جولييت التي كانت من بين كل الأشخاص الطالبة الخرقاء.
سأل عندما انحنى يتطلع إلى بينيلوبي: «هل تشبهك؟»
قالت جولييت بتلقائية، ولكن بفيض من الفخر والكبرياء، وقد التمعت حبات العرق على شفتها العليا: «إنها تشبه أباها أكثر.»
قال تشارلي وقد انتصب واقفا، وراح يتحدث كمن يقول سرا: «أحقا؟ سأخبرك شيئا، أعتقد أنه من المخجل أن ...» •••
قالت جولييت لسام: «لقد قال لي إنه من المخجل ما حدث لك.» «أقال هذا حقا؟ وبماذا أجبت على ذلك؟» «لم أكن أعرف بماذا أجيب، لم أكن أعرف ما يقصده، لكني لم أكن أرغب في أن يفهم أني لا أعرف.» «بالطبع لا.»
جلست إلى الطاولة وقالت: «أرغب في بعض الشراب، لكني لا أحب الويسكي.» «إذن فأنت تشربين الآن أيضا.» «أحتسي النبيذ فقط، ونحن نصنع النبيذ بأنفسنا، وهكذا يفعل الجميع في ويل باي.»
ثم راح يقص عليها مزحة، وهي من النوع الذي لم يكن يخبرها به من قبل، عن اثنين ذهبا إلى أحد الفنادق الصغيرة، ختمها بقوله: «لذا، الأمر مثلما أخبر دوما طالباتي في دروس تعليم المسيحية يوم الأحد، ليس بتناول الشراب وتدخين السجائر يكون قضاء الأوقات الطيبة.»
ضحكت، ولكنها شعرت بحرارة في وجهها مثلما حدث مع تشارلي.
قالت: «لماذا تركت عملك، هل تركته بسببي؟»
ضحك سام وقال: «أوه، مهلا، لا تعتقدي أنك على ذلك القدر من الأهمية. لم يستغن عني، ولم أفصل.» «حسنا، فأنت من تركت الوظيفة.» «نعم، تركت العمل.» «هل لهذا علاقة بي؟» «لقد تركت العمل لأنني سئمت من أن يظل ذلك الحبل الملعون ملفوفا حول عنقي دائما. ظللت لسنوات على شفا ترك العمل.» «ألهذا علاقة بي؟»
قال سام: «حسنا، دخلت في جدال، وهنالك أشياء قيلت.» «أي أشياء هذه؟» «ليس من الضروري أن تعرفي.»
ثم قال بعد لحظة توقف: «ولا تقلقي، فهم لم يفصلوني، لم يكن باستطاعتهم الإقدام على فعل ذلك؛ فهناك قوانين تحكم هذه الأمور، وكما أخبرتك من قبل، لقد كنت على استعداد لترك الوظيفة على أي حال.»
قالت جولييت: «لكنك لا تدرك، إنك لا تدرك كم الحماقة والغباء في ذلك، ويا له من مكان مقزز ذلك الذي تعيشون فيه! حيث يتحدث الناس عن مثل تلك الأمور والموضوعات، وكيف يكون الأمر إن أخبرتهم بأنني أعلم ذلك، لن يصدقوا بالطبع، سيكون الأمر حينها أشبه بالمزحة.» «حسنا، لسوء الحظ أنني وأمك لا نعيش حيث تعيشين أنت. إننا نعيش هنا. هل يعتقد رفيقك أن الأمر أشبه بالمزحة أيضا؟ لا أريد أن أتحدث بشأن هذا الأمر ثانية الليلة. سآوي إلى فراشي، سأذهب أولا لألقي نظرة على والدتك ثم آوي إلى الفراش.»
قالت جولييت بطاقة متواصلة، وقد غلب عليها بعض الازدراء: «إن قطار المسافرين لا يزال يمر من هنا، أليس كذلك؟ لم تكن تريدني أن أتوقف وأنزل هنا، أليس هذا هو الأمر؟»
لم يجبها أبوها بشيء وهو في طريقه لمغادرة الحجرة. •••
تسلل آخر ضوء في المدينة من الشارع إلى فراش جولييت الآن. كانت شجرة القيقب الناعمة الضخمة قد قطعت، وحل محلها بعض من أعشاب الراوند الخاصة بسام. وفي البارحة، كانت قد أسدلت الستائر لتظلل الفراش، لكنها شعرت الليلة بأنها ترغب في استنشاق بعض من الهواء المنعش؛ لذا كان عليها أن تغير من وضع الوسائد وتضعها على الناحية الأخرى من الفراش على الطرف الآخر من الفراش، وكذا فعلت مع بينيلوبي التي كانت تغط في النوم كالملاك، وغطى وجهها كله الضوء المنبعث من الخارج.
تمنت لو أنها ارتشفت بعضا من الويسكي؛ إذ كانت متصلبة في فراشها من الغضب والإحباط، تسطر في ذهنها كلمات خطابها لإيريك. «لا أدري ماذا أفعل هنا. ما كان ينبغي لي أن آتي من الأساس. لا أطيق انتظارا حتى أعود للمنزل.»
المنزل. •••
عند بزوغ ضوء الصباح الخافت ، استيقظت جولييت على صوت المكنسة الكهربائية، ثم صوت - صوت سام - ينبعث ويقطع تلك الضوضاء، ثم لا بد وأنها واصلت نومها مرة أخرى؛ حيث ظنت عندما استيقظت بعد ذلك بفترة، أنه كان من المؤكد حلما، وإلا لكانت بينيلوبي استيقظت، لكنها لم تفعل.
كان المطبخ أكثر برودة هذا الصباح، ولم يعد ممتلئا برائحة الفاكهة المطبوخة. كانت آيرين تقوم بتثبيت بعض الأغطية الصغيرة المصنوعة من القماش القطني ذي المربعات، والملصقات على برطمانات المربى.
قالت جولييت وهي تتصنع البهجة: «هيئ لي أني سمعتك تنظفين بالمكنسة، لا بد وأني كنت أحلم، كان هذا في حوالي الخامسة صباحا.»
ظلت آيرين صامتة للحظة؛ حيث كانت تقوم بالكتابة على أحد الملصقات. كانت تكتب بتركيز شديد، وهي تعض على شفتها بأسنانها.
قالت عندما انتهت: «لقد كانت هي، أيقظت أباك وكان عليه أن يذهب إليها ويجعلها تتوقف عن ذلك.»
بدا أنه من غير المحتمل أن تفعل ذلك؛ إذ لم تغادر سارة فراشها البارحة إلا لكي تذهب إلى دورة المياه.
قالت آيرين: «أخبرني بأنها تستيقظ في منتصف الليل وتعتقد أنه عليها أن تفعل شيئا، ثم يضطر للاستيقاظ وجعلها تتوقف عما تفعله.»
قالت جولييت: «لا بد وأنها تنتابها دفقة من الطاقة حينها.»
قالت آيرين وهي تواصل الكتابة على ملصق آخر: «نعم.» وعندما انتهت استدارت بوجهها نحو جولييت. «إنها تريد أن توقظ أباك وتجذب انتباهه، هذا كل ما في الأمر، ويكون هو في شدة التعب، لكنه يضطر للنهوض والذهاب إليها.»
سارت جولييت مبتعدة قليلا. لم تكن تريد أن تنزل بينيلوبي - وكأن الطفلة لن تكون بأمان في المطبخ - فحملتها ساندة إياها على جنبها بيد بينما كانت تنتشل البيضة بملعقة، ثم تقوم بتقشيرها وهرسها باليد الأخرى.
وبينما كانت تطعم بينيلوبي خشيت أن تتحدث حتى لا تنزعج الرضيعة من طبقة صوتها وتشرع في النحيب والصراخ. ومع ذلك، ثمة شيء أرادت أن تقوله لآيرين، فقالت بصوت خافت لكنه ينطوي على بعض التحدي: «هذا هو ما يئولون إليه؛ فعندما يمرضون بهذا الشكل، لا يكون باستطاعتهم كبح جماح أنفسهم ، ولا يكون بإمكانهم التفكير في أحد سوى ذاتهم فقط.» •••
كانت عينا سارة مغلقتين، لكنها فتحتهما على الفور وقالت وكأنها تضحك على نفسها: «أوه، أحبائي الأعزاء، جولييت، بينيلوبي.»
بدا وكأن بينيلوبي قد اعتادت عليها؛ فهي على الأقل لم تشرع في البكاء هذا الصباح أو تشيح بوجهها بعيدا.
قالت سارة وهي تمد يدها نحو إحدى المجلات: «أنزليها هنا، ودعيها تعبث بهذه.»
بدت بينيلوبي متشككة للحظات، ثم جذبت صفحة ومزقتها بتحمس ونشاط.
قالت سارة: «ها قد بدأت، كل الأطفال يهوون تمزيق المجلات. أتذكر هذا جيدا.»
على المقعد الموضوع بجوار الفراش وضع صحن من كريمة القمح، بالكاد مسته وتناولت منه شيئا.
قالت جولييت: «إنك لم تتناولي فطورك، أليس هذا ما رغبت بتناوله؟»
نظرت سارة باتجاه الصحن كما لو أنها تستحضر شيئا هاما، لكنها لم تستطع أن تتذكره.
قالت: «لا أتذكر، أعتقد أنني لم أكن أريده.» وانتابتها نوبة من الضحك واللهاث: «من يدري؟ جال بذهني أنها ربما دست لي السم.»
قالت عندما استعادت هدوءها: «إنني أمزح فقط. لكن آيرين عنيفة، لا ينبغي أن نقلل من قدر تلك المرأة. أرأيت الشعر الذي يملأ ذراعيها؟»
قالت جولييت: «إنه مثل شعر القطط.» «مثل حيوان الظربان.» «علينا أن نأمل ألا يتساقط أي منه في المربى.» «لا تجعليني ... أنفجر في الضحك ثانية.»
انهمكت بينيلوبي انهماكا شديدا في تمزيق المجلات، لدرجة أنه كان بمقدور جولييت بعد فترة أن تتركها في غرفة سارة لتحمل صحن كريمة القمح وتذهب به إلى المطبخ. ودون أن تقول شيئا، شرعت في إعداد مخفوق البيض بالحليب المحلى. وكانت آيرين تغدو جيئة وذهابا حاملة صناديق المربى من المطبخ إلى السيارة. وعند السلالم الخلفية، راح سام يروي الأرض التي تحتضن حبات البطاطس المزروعة حديثا، وشرع يغني، ولكن بصوت خفيض في البداية يصعب معه تبين كلماته، ثم عندما صعدت آيرين الدرج علا صوته قائلا:
ليلة سعيدة آيرين
ليلة سعيدة آيرين
طابت ليلتك آيرين، طابت ليلتك آيرين
سأراك في أحلامي آيرين.
استدارت آيرين نحوه وهي لا تزال في المطبخ وراحت تصرخ قائلة: «لا تردد هذه الأغنية التي تتحدث عني.»
قال سام بدهشة مصطنعة: «أي أغنية تلك التي تتحدث عنك؟ من الذي يتغنى بأغنية عنك؟» «أنت، كنت تغني لتوك أغنية عني.» «أوه، تلك الأغنية عن آيرين؟ الصبية التي في الأغنية؟ أوه، يا للعجب! لقد نسيت أن هذا اسمك أيضا.»
ثم شرع في الغناء ثانية، لكن بهمهمة وخلسة هذه المرة. وقفت آيرين تسترق السمع، واندفع الدم في وجنتيها، وراح صدرها يعلو وينخفض، على وشك الانقضاض إن سمعت كلمة واحدة. «لا تردد أغنية عني. إن ذكر اسمي بها، فإذن هي عني.»
وفجأة انفجر سام يغني بكامل قوته:
تزوجت يوم السبت الماضي،
سيستقر بي المقام أنا وزوجتي.
صرخت آيرين واتسعت حدقتا عينيها، واستشاطت غضبا وقالت: «توقف عن ذلك، إن لم تتوقف سآتي إليك وأسلط خرطوم المياه عليك.» •••
كان سام يسلم المربى بعد الظهيرة لمتاجر بقالة عدة، والقليل من محال الهدايا التي كانت قد طلبت بعضا منها، ودعا جولييت لكي تصحبه. وكان سام قد ذهب إلى متجر الأدوات المنزلية وابتاع مقعد سيارة جديدا للأطفال من أجل بينيلوبي.
قال: «هذا هو الشيء الوحيد الذي لم يكن لدينا في الغرفة العلوية؛ فعندما كنت صغيرة، لم أكن أدري إن كان لديهم مقاعد سيارة للأطفال أم لا، على أي حال لم يكن ذلك يهم كثيرا، فلم يكن لدينا سيارة.»
قالت جولييت: «إنه أنيق للغاية، أتمنى ألا يكون كلفك نقودا كثيرة.»
قال سام وهو يدخلها السيارة: «إنه شيء تافه.»
كانت آيرين في الحقل تلتقط بعض التوت، وقد اعتزمت أن تخصصها لصنع الفطائر. أطلق سام بوق السيارة مرتين ولوح بيديه وهما ينطلقان، وقررت آيرين أن تظهر استجابتها هذه المرة، فرفعت ذراعها تلوح كما لو أنها تهش ذبابة.
قال سام: «إنها شديدة الاعتداد بذاتها، لا أدري كيف كنا سنعيش بدونها، ولكني أتصور أنك ترينها فظة معك.» «إنني بالكاد أعرفها.» «لا، إنها تخافك بشدة.» «بالقطع لا.» وفي محاولة للتفكير في سبب للمديح، أو على الأقل شيء محايد تقوله عنها، راحت تسأل عن الكيفية التي قتل بها زوجها في مزرعة الدواجن. «لست أدري إن كان من النوع الإجرامي أم أنه كان طائشا فحسب. على أي حال فقد دخل إلى المزرعة مع بعض الحمقى الذين كانوا يخططون بدورهم لسرقة بعض الدجاج، وبالطبع دق جرس الإنذار وخرج المزارع وفي يده بندقيته، وسواء أكان ينوي قتله أم لا، فقد فعل ...» «يا إلهي!» «وهكذا، ذهبت آيرين وأصهارها إلى المحكمة، ولكن الرجل أخلي سبيله. بالطبع كان ذلك سيحدث. ومن المؤكد أن الأمر كان قاسيا بالنسبة لها، حتى لو بدا أن الرجل لم يكن بالمكسب الكبير.»
قالت جولييت بالطبع كان الأمر كذلك، وسألته إن كانت آيرين ممن درس لهم في المدرسة. «لا، لا. إنها بالكاد التحقت بالمدرسة، بقدر ما فهمت.»
قال إن عائلتها تعيش في الشمال، في مكان ما بالقرب من هانتسفيل، نعم في مكان ما بالقرب من هناك. وفي يوم من الأيام ذهبوا جميعا إلى المدينة؛ الأب، والأم، والأطفال. أخبرهم الأب أن لديه بعض الأشياء التي عليه أن يتمها، وسيقابلهم بعد فترة وجيزة، وحدد لهم المكان والزمان الذي سيتقابلون فيه. وهكذا راحوا يتجولون وليس معهم أي نقود ينفقونها حتى حان الوقت الذي سيلتقون به، وحينها لم يظهر ثانية. «لم يكن ينوي الظهور. أراد أن يتخلص منهم. فاضطروا للذهاب إلى الشئون الاجتماعية للحصول على المساعدات، وعاشوا في أحد الأكواخ في الريف حيث الحياة زهيدة هناك. وتوفيت أخت آيرين الكبرى، إثر انفجار الزائدة الدودية على ما أذكر، وكانت لهم بمثابة الدعم والسند أكثر من الأم ذاتها. لم يكن هناك من سبيل لنقلها إلى المدينة؛ حيث هبت حينها العواصف الثلجية، ولم يكن لديهم هاتف بالجوار. لم ترغب آيرين في الذهاب إلى المدرسة بعد ذلك؛ لأن أختها كانت تحميها من الطريقة السيئة التي كان يتعامل بها الأطفال الآخرين معها. قد تبدو الآن أنها لا تتأثر بسهولة، لكني أعتقد أنها لم تكن دوما هكذا، وربما لديها المقدرة الآن على إخفاء مشاعرها.
وتعتني أم آيرين الآن بالولد والبنت الصغيرين، لكن تخيلي بعد مرور كل تلك السنوات ظهور الأب، وهو يحاول أن يجعل الأم تعود إليه مرة أخرى، وإذا ما حدث ذلك فآيرين لا تعرف ماذا ستفعل؛ حيث إنها لا تريد لأولادها أن ينشئوا بالقرب منه.
أطفالها لطفاء أيضا، وتعاني البنت الصغيرة من مشكلة الحنك المشقوق، وقد أجرت عملية بالفعل، لكنها بحاجة إلى عملية أخرى فيما بعد. ستكون على ما يرام، لكنه عبء إضافي.»
عبء إضافي!
ما الذي ألم بجولييت؟ إنها لا تشعر بأي تعاطف نحوها، إنها تشعر في أعماقها بالثورة تجاه كل تلك الأحداث المملة التي لا جدوى منها. وعندما ظهر موضوع الحنك المشقوق في القصة كان كل ما تريده حقا هو أن تتذمر وتشتكي. «لقد زاد الأمر عن الحد.»
كانت تعلم أنها مخطئة، لكن ليس بمقدور المرء تغيير المشاعر، كانت تخشى أن تقول شيئا إضافيا؛ حتى لا تفضح كلماتها ما يكنه قلبها القاسي. كانت تخشى أن تقول لسام: «ما الرائع في كل هذا الشقاء؟ هل يجعل هذا منها قديسة؟» أو ربما تقول بأسلوب لا يغتفر: «أتمنى ألا يكون مقصدك هو أن تجعلنا نختلط بأناس مثل هؤلاء.»
قال سام: «في الوقت الذي قدمت فيه لمساعدتنا كنت أنا على وشك أن أفقد صوابي؛ ففي الخريف الماضي كانت أمك تمثل كارثة حقيقية، وليس ذلك لأنها تركت كل شيء وأهملته، يا ليتها تركت كل شيء، بل يا حبذا لو أنها لم تفعل شيئا. ولكن ما حدث أنها كانت تشرع في مهمة ما، ثم لا تستطيع أن تكملها. وكان هذا يحدث مرارا وتكرارا، ولم يكن بالشيء الجديد على الإطلاق. أعني أنه كان علي دوما أن أستأنف العمل وراءها، وأعتني بها وأساعدها في أداء الأعمال المنزلية. كلانا - أنا وأنت - كنا نفعل ذلك، أتتذكرين؟ كانت دوما تلك الفتاة الرقيقة الجميلة التي تعاني مشاكل في القلب واعتادت أن يساعدها الجميع. وخلال كل تلك السنوات كان يهيأ لي بين الحين والآخر أنها ربما كان عليها أن تحاول أكثر وتبذل أقصى ما في استطاعتها.»
ثم واصل حديثه قائلا: «لكن الأمر ازداد سوءا؛ ازداد سوءا لدرجة أني كنت أعود إلى المنزل وأجد المغسلة في وسط المطبخ والملابس المبتلة تملأ المكان كله، أو أجد الكثير من الفوضى التي خلفتها محاولة كانت بدأتها لخبز بعض الفطائر وعدلت عنها، وقد تفحم ما بداخل الفرن عن آخره. كنت أخشى أن تحرق نفسها، أو تشعل النيران في المنزل. كنت أطلب منها دائما أن تمكث في الفراش، ولكنها لم تكن تفعل، وكانت تقف وسط الفوضى التي تحدثها وهي تبكي. جئت بفتاتين من قبل لكن لم يكن باستطاعتهما التعامل معها، ثم بعد ذلك جاءت آيرين.»
قال وهو يزفر بشدة: «آيرين، إنني أبارك ذلك اليوم، أصدقك القول إنني أبارك ذلك اليوم.»
لكن شأنها شأن كل الأشياء الجميلة، لا بد لها من نهاية، فستتزوج آيرين من أرمل يبلغ الأربعين أو الخمسين من العمر، يعمل مزارعا. ومن المفترض أنه يمتلك بعض النقود، وتمنى سام من أجلها أن يكون هذا صحيحا؛ لأن الرجل ليس لديه شيء آخر يزكيه. «بحق السماء ليس لديه شيء، وبقدر رؤيتي ليس لديه سوى سنة واحدة في فمه، وهذا في رأيي مؤشر سيئ؛ فإما أن يكون فخورا بنفسه هكذا أو أنه بخيل للغاية لا يود تركيب طقم أسنان. فكري في الأمر، فتاة ذات مظهر رائع مثلها.» «ومتى سيكون ذلك؟» «في الخريف، في وقت ما من الخريف.» •••
كانت بينيلوبي نائمة طوال كل هذا الوقت؛ فقد غطت في النوم في مقعدها بمجرد أن شرعوا في التحرك. كانت النوافذ الأمامية مفتوحة، واستطاعت جولييت أن تشم رائحة القش، كان قد قطع لتوه وضم إلى حزم معا؛ فلم يعد هناك أحد الآن يصنع لفائف القش. وكانت لا تزال تقف هناك بعض أشجار الدردار، وبدت رائعة الآن في عزلتها تلك.
توقفا عند قرية شيدت بطول الطريق في واد ضيق، وبرزت صخور القاعدة على جدار الوادي، وهو المكان الوحيد بعد عدة أميال قطعوها حيث يمكن رؤية مثل هذه الصخور الضخمة. تذكرت جولييت أنها كانت تأتي إلى هنا عندما كان هناك متنزه يتطلب دخوله دفع بعض الرسوم. وكان بالمتنزه نافورة، ومكان لاحتساء الشاي؛ حيث تقدم فطيرة الفراولة، والآيس كريم، وبالقطع أشياء أخرى لا تتذكرها. أما الكهوف الموجودة في الصخور فكانت مسماة على اسم كل واحد من الأقزام السبعة. وذات مرة جلس كل من سام وسارة على الأرض بجوار النافورة يتناولان الآيس كريم، بينما كانت تهرع هي لاكتشاف تلك الكهوف (التي لم تحو الكثير، ولم تكن غائرة للغاية). كانت تريدهما أن يصاحباها، لكن سام كان يقول لها: «تعلمين أن أمك لا تستطيع التسلق.»
وكانت سارة تقول: «اركضي أنت، ثم عودي لتحكي لنا عنه.» كانت متأنقة، ترتدي تنورة سوداء مصنوعة من قماش التفتة، وتفترش الحشائش في دائرة حولها. وكانت تلك التنورات تسمى تنورات لاعبات الباليه.
لا بد وأنه كان يوما مميزا.
سألت جولييت سام عن ذلك المكان عندما خرج من المتجر، لم يستطع أن يتذكر في البداية، لكنه تذكر بعد ذلك، فقال إنه كان مكانا يقدم خدمات بأسعار عالية، ولم يعرف متى اختفى.
ولم تستطع جولييت أن تلمح أي أثر للنافورة أو لمكان احتساء الشاي عبر الطريق.
قال سام: «لقد جلبت الهدوء والنظام.» استغرق منها الأمر دقيقة لكي تدرك أنه كان لا يزال يتحدث عن آيرين. «إنها تعاون في أي شيء؛ قطع الحشائش، وعزق الحديقة، وتبذل قصارى جهدها في أي شيء تفعله، وتتصرف كما لو أنها تحظى بشرف وامتياز من وراء عملها، وهو ما يجعلني لا أتوقف عن دهشتي.»
ماذا عساها كانت تلك المناسبة المبهجة؟ عيد ميلاد؟ عيد زواج؟
تحدث سام بإصرار، وبأسلوب جاد، وسط الضوضاء التي تحدثها السيارة وهي تصعد فوق التل بصعوبة. «لقد أعادت ثقتي في النساء.» •••
كان سام يهرع نحو كل متجر بعد أن يخبر جولييت أنه لن يستغرق سوى دقيقة واحدة، ويعود إلى السيارة بعد فترة موضحا لها أنه لم يكن باستطاعته أن يتملص منهم؛ فبعض الناس كان يريد التحدث معه، والبعض الآخر كان يدخر النكات ليلقيها على مسامعه، واتبعه القليل إلى الخارج لرؤية ابنته وطفلتها الرضيعة.
قالت إحدى السيدات: «إذن هذه هي الفتاة التي تتحدث اللاتينية.»
قال سام : «لقد علاها الصدأ هذه الأيام؛ فيداها مشغولتان في الوقت الحاضر.»
قالت السيدة وهي تمد رقبتها لتلقي نظرة على بينيلوبي: «أراهن على ذلك، لكن أليسا هبة من الله؟ وتلك الصغيرة.»
فكرت جولييت أنه بمقدورها أن تتحدث مع سام عن الرسالة الدراسية التي تنوي استئنافها، بالرغم من أنها تدرك أن هذا الأمر يعد مجرد حلم الآن. كان من المعتاد أن تثار تلك الموضوعات بينهما بصورة تلقائية، ولكن الأمر ليس كذلك مع سارة؛ فسارة كانت تقول: «والآن عليك أن تخبريني بما تفعلينه في دراستك.» وتشرع جولييت في إيجاز بعض الأشياء لها، وربما تسألها سارة عن كيفية حفظ كل تلك الأسماء اليونانية. أما سام فكان يعي جيدا ما تتحدث عنه، وكانت تذكر لهم في الجامعة كيف أن والدها شرح لها معنى الثاوماتورجي (أي صناعة المعجزات)؛ وذلك عندما قابلت تلك الكلمة وهي لا تزال في الثانية أو الثالثة عشرة من عمرها، وسألها من حولها إن كان والدها من المدرسين.
كانت تقول: «بالطبع، إنه يدرس للصف السادس.»
اعتراها شعور بأنه ربما يحاول بمهارة أن يقلل من مكانتها. أو ربما ليس بمهارة؛ فقد يستخدم كلمة «غير عملي»، وربما يدعي أنه نسي أشياء لا تستطيع أن تصدق أنه نسيها.
لكن ربما يكون نسيها حقا؛ فحجرات عقله أغلقت، ونوافذها أظلمت؛ فما كان في الداخل كان يحكم هو عليه بأنه غير ذي فائدة، وأنه مخز ومعيب بدرجة لا يستحق معها أن يخرجه إلى النور.
تحدثت جولييت بصورة أكثر حدة مما أرادت. «هل تريد آيرين الزواج؟»
أدهش سام هذا السؤال؛ خاصة بعد أن خرج بتلك اللهجة وبعد فترة كبيرة من الصمت.
قال: «لا أدري.»
وأردف بعد دقيقة: «لا أدري كيف يمكنها أن تفعل.»
قالت جولييت: «اسألها، من المؤكد أنك ترغب في ذلك، أرى ذلك من خلال ما تشعر به حيالها.»
قطعا مسافة ميل أو ميلين تقريبا قبل أن يتحدث. كان من الواضح أنها أساءت إليه.
قال: «لا أدري ما الذي تتحدثين عنه.» •••
قالت سارة: «سعيد، غاضب، متبلد، ناعس، كثير العطاس.»
قالت جولييت: «طبيب.» «طبيب، طبيب، سعيد، كثير العطاس، طبيب، غاضب، خجول، كثير العطاس، لا، كثير العطاس، خجول، طبيب، غاضب، ناعس، سعيد، طبيب، خجول.»
قالت سارة وهي تعد الصفات على يديها: «أليست ثمانيا؟»
قالت: «ذهبنا إلى هناك أكثر من مرة، لقد اعتدنا أن نطلق عليها مقام كعك الفراولة. أوه، كم أود أن أذهب إلى هناك ثانية.»
قالت جولييت: «حسنا، لا يوجد شيء هناك، لم أستطع حتى أن أتبين أين كان مكانه.» «أنا واثقة بأنه كان بإمكاني ذلك. لماذا لم أذهب معكما؟ إنها جولة صيفية بالسيارة. ما القوة التي تتطلبها نزهة بالسيارة؟ يقول أبوك دائما إنني ليس لدي أي نوع من القوة.» «لقد أتيت لاستقبالي.»
قالت سارة: «نعم، لكنه لم يكن يرغب في أن آتي، كان علي أن أظهر له غضبي.»
مدت يدها لتجذب الوسائد الموضوعة خلف رأسها وتصحح وضعها، لكنها لم تتمكن من هذا، فقامت جولييت بذلك.
قالت سارة: «يا إلهي! أي سلعة عديمة النفع صرت أنا؟! وبرغم هذا بمقدوري أن آخذ حماما بنفسي. ماذا لو جاءنا زوار؟»
سألتها جولييت إن كانت تنتظر أحدا. «لا، لكن ماذا لو قدم أحدهم؟»
لذا اصطحبتها جولييت إلى دورة المياه، وراحت بينيلوبي تزحف خلفهما، ثم عندما أصبح الماء معدا، واستلقت فيه الجدة، رأت بينيلوبي أنه ينبغي أن يكون الحمام من أجلهما هما الاثنتان. فجردتها جولييت من ملابسها، وهكذا اغتسلت الرضيعة والمرأة العجوز معا. ولم تبد سارة وهي عارية كامرأة عجوز بقدر ما كانت تبدو كفتاة كبيرة؛ فتاة يمكن القول بأنها تعاني من مرض غريب، أضعفها وسلبها قوتها.
تقبلت بينيلوبي وجودها دون أي إزعاج، لكنها تشبثت بصابونتها الصفراء على شكل بطة.
وفي حوض الاستحمام استطاعت سارة أخيرا أن تسأل عن إيريك، وكان ذلك بحذر.
قالت: «إنني على ثقة أنه رجل لطيف.»
قالت جولييت بتلقائية: «أحيانا.» «لقد كان طيبا مع زوجته الأولى.»
قالت جولييت مصححة: «إنها زوجته الوحيدة، حتى الآن.» «لكني على ثقة أنك سعيدة، بما أن لديك الآن هذه الطفلة؛ أعني، أنا واثقة أنك سعيدة.»
قالت وقد فاجأت أمها عندما أخذت منشفة تقطر ماء وعصرتها على رأس أمها المليء بالصابون: «سعيدة بقدر ما يسمح لي شعوري بالعيش في الخطيئة.»
قالت سارة بعد أن تفادت قطرات المياه وخبأت وجهها وهي تطلق صيحة تنم عن السعادة: «هذا ما أعنيه.» ثم أردفت قائلة: «جولييت.» «ماذا؟» «تعلمين أنني لا أقصد شيئا سيئا عندما أتفوه بأشياء كريهة عن والدك؛ فأنا أعلم أنه يحبني، لكن كل ما في الأمر أنه غير سعيد.» •••
حلمت جولييت بأنها عادت طفلة من جديد في هذا المنزل، بالرغم من أن ترتيب الغرف كان مختلفا بعض الشيء. نظرت عبر نافذة إحدى الغرف التي بدت غير مألوفة، فرأت قوسا من المياه يتلألأ في الهواء، وكانت المياه مندفعة من خرطوم الري، ووقف أبوها يروي الحديقة، جاعلا ظهره في مواجهتها. تحرك شخص ما وسط حقول التوت، وبعد وهلة اتضح بعد ذلك أنها آيرين، ولكنها كانت أكثر طفولة، وقد بدت أكثر رشاقة وليونة في حركتها وتشع مرحا. كانت تحاول تفادي المياه المتناثرة من الخرطوم، تختبئ حينا ثم تعاود الظهور حينا آخر، تنجح محاولاتها في الابتعاد، ولكن تطولها المياه ثانية للحظات قبل أن تجري مبتعدة. كان من المفترض أن تكون هذه اللعبة مرحة، إلا أن جولييت كانت تراقبها ببعض الازدراء والاشمئزاز من خلف النافذة. كان أبوها يدير ظهره لها دائما، لكنها اعتقدت أنها «رأته» على نحو ما وكأنه يصوب الخرطوم لأسفل أمام جسمه، وأنها لم تكن سوى فوهة الخرطوم التي كان يحركها للأمام والخلف.
كان الحلم يغلب عليه الرعب الكريه؛ فلم يكن ذلك الرعب الذي يترك أثره عليك من الخارج، إنما من ذلك النوع الذي يمر ويتسرب عبر كل نقطة من دمائك.
عندما استيقظت كانت لا تزال تستشعر آثاره، ووجدت أن الحلم كان باعثا على الخجل، وبدا وكأنه يتسم بالتفاهة والابتذال، ولم يكن سوى انعكاس للأفكار السيئة بداخلها. •••
في منتصف فترة ما بعد الظهيرة، كان هناك طرق على الباب الأمامي، لم يكن هناك أحد يستخدم الباب الأمامي، وقد وجدت جولييت أنه لا يفتح بسهولة .
كان الرجل الواقف هناك يرتدي قميصا أصفر مفرودا بعناية، ذا أكمام قصيرة، وسروالا بني اللون، وربما كان يكبرها ببضع سنوات، كان طويلا ولكنه يبدو ضعيف البنية، صدره غائر بعض الشيء، وكان يحييها بحرارة والابتسامة لا تفارق شفتيه.
قال الرجل: «جئت لمقابلة سيدة المنزل.»
تركته جولييت واقفا في مكانه وذهبت إلى الحجرة المشمسة.
فقالت: «هناك رجل بالباب، ربما كان يعرض أشياء للبيع، هل أصرفه؟»
دفعت سارة بنفسها وهي تحاول النهوض وقالت بأنفاس لاهثة: «لا، لا، هلا ساعدتني على أن أهندم مظهري؟ لقد سمعت صوته، هذا دون، إنه صديقي دون.»
كان دون قد دلف بالفعل إلى المنزل وبدا صوته مسموعا من خارج الغرفة قائلا: «ما من داع للقلق والضجيج يا سارة، إنه أنا فقط، هل أنت محتشمة؟»
وبنظرة ملأتها السعادة والكثير من المشاعر والانفعالات مدت سارة يدها نحو فرشاة الشعر التي لم تستطع الوصول إليها، فعدلت عن ذلك ومررت أصابعها بين خصلات شعرها وقالت وقد علا صوتها وامتلأ مرحا: «أخشى أنني محتشمة وأنيقة بأقصى قدر ممكن بالنسبة لي. تفضل بالدخول.»
ظهر الرجل وتوجه مسرعا إليها فرفعت ذراعيها نحوه قائلة: «رائحتك مثل رائحة الصيف، ما هذا؟» وتحسست قميصه قائلة: «قميصك تم كيه بعناية، إنه من القطن، إنه جميل.»
قال لها: «لقد كويته بنفسي، إن سالي بالكنيسة، تعبث ببعض الزهور، ليس سيئا، أليس كذلك؟»
قالت سارة: «بل رائع، كدت ألا تتمكن من الدخول إلى المنزل، ظنتك جولييت أحد البائعين. جولييت هي ابنتي، ابنتي العزيزة، لقد أخبرتك عنها، أليس كذلك؟ أخبرتك أنها قادمة. ودون كاهن يا جولييت، إنه صديقي وكاهن.»
اعتدل دون في وقفته وأمسك بيد جولييت قائلا: «جميل أنك هنا، سعيد بلقائك، وأنت لم تخطئي كثيرا في الواقع؛ فأنا نوع ما من البائعين.»
ابتسمت جولييت برقة على دعابة الكاهن، ثم سألته قائلة: «أنت كاهن بأي كنيسة؟»
أضحك السؤال سارة، وقالت: «يا عزيزتي، هذا يفصح عن الكثير من الأسرار، أليس كذلك؟»
فأجابها دون بابتسامة غير منزعجة: «أنا من كنيسة ترينيتي، وبالنسبة للإفصاح عن الأسرار، إنه ليس بجديد علي أن سام وسارة لا يذهبان لأي كنيسة من الكنائس في المجتمع المحيط، إنني فقط آتي للزيارة على أي حال؛ لأن أمك امرأة شديدة الجاذبية.»
لم تتمكن جولييت من تذكر ما إذا كانت هي الكنيسة الإنجيلية أم الكنيسة المتحدة تلك التي تتبعها كنيسة ترينيتي.
فقالت لها سارة: «عزيزتي، هلا تحضرين مقعدا مناسبا لدون حتى يجلس؟ فهو هنا يقف منحنيا فوقي كطائر اللقلق. أتود أن تشرب شيئا منعشا يا دون؟ ما رأيك في مخفوق البيض؟ فجولييت تعد لي أشهى مخفوق بيض. ولكن لا، لا، ربما يكون دسما جدا على الأغلب؛ فلقد أتيت من طقس شديد الحرارة بالخارج، ما رأيك ببعض من الشاي؟ هذا أيضا شراب ساخن، أم جعة الزنجبيل؟ أو ما رأيك في بعض العصير؟ ماذا لدينا من عصائر يا جولييت؟»
فقال دون: «أنا لا أحتاج أي شيء سوى كوب ماء، سيكون هذا جيدا.»
قالت سارة بأنفاس لاهثة: «ألا تريد قدحا من الشاي؟ حقا؟ ولكنني أظن أني أريد القليل منه، تستطيع أن تشرب نصف قدح بالتأكيد، أتسمحين يا جولييت؟» •••
وقفت جولييت بمفردها في المطبخ - وكان يمكنها رؤية آيرين وهي تعزق الأرض حول حبوب الفاصوليا - وتساءلت إن كان الشاي ما هو إلا حيلة لإخراجها من الغرفة كي تتبادل معه بعض الكلمات على انفراد. بعض الكلمات على انفراد، أم تراها بعض الصلوات؟ لقد أصابتها الفكرة بالاشمئزاز.
لم ينتم سام وسارة لأي كنيسة طيلة حياتهما، برغم أن سام قد أخبر أحدهم في بادئ حياتهم هنا أنهم ينتمون لطائفة الدرويد. وهكذا تناثرت الأقاويل بأنهم ينتمون إلى كنيسة لا توجد في المدينة، وأدت هذه المعلومة إلى الاعتقاد بأنهم لا ينتمون لأي دين على الإطلاق. وظلت جولييت لفترة تذهب أيام الآحاد إلى الكنيسة الإنجيلية؛ وذلك في الغالب لأنها كان لها صديقة تنتمي للطائفة الإنجيلية. ولم يعترض سام قط على قراءة الكتاب المقدس في المدرسة، أو أن يتلو الصلوات كل صباح، تماما مثلما لم يعترض على النشيد الوطني «فليحفظ الله الملكة».
وكان سام يقول: «هناك أوقات للمجازفة وأخرى لا تستطيع فيها ذلك؛ فأنت ترضيهم بهذه الطريقة. ربما أمكنك في بعض الأحيان أن تحكي للأطفال بعض الحقائق عن نظرية التطور والإفلات بذلك دون أن يلحظ أحد.»
ولفترة من الفترات، كانت سارة مهتمة بالديانة البهائية، ولكن جولييت اعتقدت أن هذا الاهتمام قد تلاشى.
صنعت من الشاي ما يكفي لثلاثتهم، ووجدت بعضا من البسكويت المهضم في الخزانة، وعثرت أيضا على صينية التقديم النحاسية التي كانت سارة عادة ما تخرجها في المناسبات الهامة فقط.
لم يعترض دون على قدح الشاي، وتجرع الماء المثلج الذي تذكرت أن تحضره له، إلا أنه هز رأسه رافضا تناول البسكويت. «لا، لا أريد أيا منه.»
وبدا وكأنه يؤكد على رفضه بشدة، وكأن إيمانه بالله منعه من ذلك.
ثم سأل جولييت عن محل إقامتها، وعن طبيعة المناخ في الساحل الغربي، وعن العمل الذي يقوم به زوجها.
فأجابته جولييت بعذوبة: «هو صياد جمبري، ولكنه في الحقيقة ليس بزوجي.»
أومأ دون برأسه إيجابا. آه، نعم.
ثم أضاف: «هل الأمواج عالية هناك؟» «أحيانا.» «ويل باي، لم أسمع بهذا المكان من قبل، ولكنني سأتذكره الآن. إلى أي كنيسة تذهبين في ويل باي؟» «لا نذهب، نحن لا نذهب إلى الكنيسة.» «أليس هناك كنيسة قريبة تتبع طائفتكم؟»
هزت جولييت رأسها مبتسمة وقالت: «ليس هناك كنيسة لطائفتنا، نحن لا نؤمن بوجود الله.»
أحدث فنجان دون بعض الجلبة وهو يعيده إلى صحنه، ثم قال إنه آسف لسماع هذا. «أنا حقا آسف لسماع هذا، منذ متى وأنت على هذا الرأي؟» «لا أعلم، ربما منذ أن أعملت عقلي في هذا الأمر.» «أخبرتني والدتك أن لديك طفلا، لديك ابنة، أليس كذلك؟»
قالت جولييت إن لديها ابنة بالفعل. «ولم تعمد حتى الآن؟ هل تريدينها أن تنشأ وثنية؟»
قالت جولييت إنها تتوقع أن تتخذ بينيلوبي قرارها في هذا الشأن يوما ما بنفسها. «أجل، نحن نريدها أن تنشأ دون أن تتقيد بأي دين أو معتقدات.»
قال دون بهدوء: «هذا شيء يبعث على الحزن، إني آسف لك ولرفيقك - أيا كان ما تعتبرينه - فلقد قررتما أن ترفضا نعمة الله. حسنا؛ فأنتما ناضجان، ولكن أن تنكراها على ابنتكما، فهذا كحرمانها من التغذية السليمة.»
شعرت جولييت بأنها تفقد رباطة جأشها، قالت: «ولكننا لسنا مؤمنين، نحن لا نؤمن بنعمة الله، وهذا لا يشبه حرمانها من التغذية السليمة، إننا نرفض أن تنشأ على الأكاذيب.» «أكاذيب؟ ما يؤمن به ملايين من البشر حول العالم تسمينه أكاذيب؟ ألا تعتقدين أنه من الغطرسة أن تدعي بأن الله كذبة؟»
قالت جولييت وقد شاب صوتها بعض الحدة: «الملايين من الناس لا يؤمنون به، هم فقط يذهبون إلى الكنيسة، هم لا يفكرون. إن كان هناك إله، فهذا الإله قد أعطاني عقلا، ألم يقصد أن أستخدمه؟» «وأيضا ...» استطردت في محاولة لكي تبقى ثابتة: «وأيضا، يؤمن ملايين الناس بشيء مختلف؛ فهم يؤمنون ببوذا على سبيل المثال؛ فهل إيمان الملايين بشيء يجعله حقيقة؟»
قال دون بلا تردد: «المسيح حي، بوذا ليس كذلك.» «هذا مجرد كلام يتردد، ماذا يعني؟ أنا لا أرى أي دليل على حياة أي منهما على حد علمي.» «أنت لا ترين، ولكن الآخرين يرون الحقيقة. أتعلمين أن هنري فورد، هنري فورد الثاني الذي كان لديه كل شيء يمكن أن يتمناه المرء في الحياة، ومع ذلك، كان يجثو كل ليلة على ركبتيه ويصلي لله؟»
صاحت جولييت: «هنري فورد؟ ... هنري فورد؟ وماذا يعنيني أي شيء بشأن هنري فورد؟»
اتخذ النقاش ذلك المسار الذي تتخذه مثل هذه النقاشات، واكتسى صوت الكاهن - الذي كان قد بدأ بنبرة الأسى أكثر منه الغضب، بالرغم من أن صوته ينم دائما عن اقتناع في صلابة الحديد - برنة الإدانة والاستنكار ولهجة حادة تنم عن التوبيخ، بينما شعرت جولييت الآن - التي اعتقدت في البداية أنها كانت تقاوم آراءه وتتمرد على مفاهيمه بهدوء، ومهارة، وأدب جم - بقدر من الغضب اللاذع، وكلاهما ينقب عن الحجج والأفكار التي تسبب الإهانة وليس تلك التي تقنع الآخر.
وأثناء ذلك النقاش، كانت سارة تمد يدها لتتذوق القليل من البسكويت وهي لا ترفع بصرها نحوهما، وكانت تقشعر بين الحين والآخر ، كما لو كانت تصدمها كلماتهما، ولكنهما لم يلاحظا هذا.
وما أنهى ذلك العرض هو صراخ بينيلوبي العالي، التي استيقظت من نومها مبللة، وتذمرت على نحو هادئ للحظة، ثم عبرت عن تذمرها بصورة أقوى وبصوت أعلى، وأخيرا أطلقت العنان لغضبها. سمعتها سارة أولا وحاولت أن تلفت انتباههما.
فقالت بوهن: «بينيلوبي!» ثم بذلت جهدا أكبر: «جولييت، إنها بينيلوبي.» فنظر إليها كل من جولييت والكاهن بشرود، ثم قال الكاهن وقد هدأت حدة صوته: «طفلتك.»
أسرعت جولييت خارج الحجرة. كانت ترتجف وهي ترفع بينيلوبي، وكادت أن تؤذيها بالمشبك وهي تشبك حفاضها الجاف، فتوقفت بينيلوبي عن البكاء؛ ليس لأنها شعرت بالارتياح، بل لأنها انزعجت من ذلك الاهتمام الحاد المفاجئ. وقد نجحت عيناها الواسعتان المبللتان بالدموع، ونظرات الدهشة التي اعتلت وجهها، في أن تخرج جولييت من حالة الشرود والانشغال التي مرت بها. حاولت أن تهدئ من نفسها متحدثة برفق قدر ما استطاعت ثم حملت طفلتها إلى الردهة بالطابق العلوي وراحت تذرع المكان جيئة وذهابا بها. لم تطمئن بينيلوبي على الفور، ولكن زال التوتر منها بعد مرور بضع دقائق.
شعرت جولييت بنفس الشيء يحدث معها، وعندما اطمأنت إلى أن كليهما قد استعادا بعضا من الهدوء والسيطرة، حملت بينيلوبي وهبطت بها إلى أسفل.
خرج الكاهن من غرفة سارة وكان ينتظرها، فقال في صوت يشوبه بعض الندم وإن بدا منزعجا في حقيقة الأمر: «يا لها من طفلة لطيفة!»
قالت جولييت: «أشكرك.»
ظنت أنه يمكن لكل منهما توديع الآخر على نحو مناسب الآن، ولكن كان هناك شيء يمنعه من ذلك، فظل ينظر إليها دون أن يتحرك، فمد يده وكأنه سيضعها على كتفها، لكنه أنزلها. «أتدرين إن كان عندك ...» قالها ثم هز رأسه برفق، فقد تلعثم في قوله كلمة «عندك.» «بعض من العصير.» قال هذا ثم ربت بيده على حلقه، ثم أشار في اتجاه المطبخ.
ظنت جولييت في بادئ الأمر أنه لا بد وأن يكون ثملا، كانت رأسه تهتز قليلا للأمام والخلف، وبدت عيناه وكأنهما مغطاتين بغشاء رقيق. هل أتى إلى هنا وهو ثمل أم أنه أحضر معه شرابا في جيبه؟ ثم تذكرت إحدى الفتيات التي كانت طالبة في المدرسة التي عملت بها لنحو نصف عام. كانت تنتاب هذه الفتاة - المصابة بداء السكري - بعض النوبات المرضية، فتشعر بثقل في لسانها، وببعض الدوار لو ظلت بلا طعام لمدة طويلة.
حملت بينيلوبي ساندة إياها على أحد جانبيها وأمسكت بذراعه وقادته نحو المطبخ. إنه العصير، هذا ما كانوا يمنحونه للفتاة، هذا ما كان يتحدث عنه هو.
فقالت له: «دقيقة، دقيقة واحدة. ستكون على ما يرام.» حاول أن يتماسك ويستقيم في وقفته، واتكأ بيديه على الطاولة وأخفض رأسه.
لم يكن هناك عصير برتقال، تذكرت أنها قد أعطت ما تبقى منه لابنتها هذا الصباح، وفكرت في أنها يجب أن تبتاع منه، غير أنه كانت هناك زجاجة من المياه الغازية بنكهة العنب، الذي يحب سام وآيرين تناوله عندما يدلفان بعد الانتهاء من العمل في الحديقة. «تفضل.» قالتها بعد أن نجحت في أن تصب له كوبا منها بيد واحدة، كما اعتادت أن تفعل دائما، وأردفت وهو يحتسي الشراب: «أنا آسفة، ليس لدينا عصير، لكن المهم هو تناول السكر، أليس كذلك، ينبغي أن تتناول بعضا من السكريات في تلك الحالة.»
احتسى الشراب وهو يقول: «أجل، السكر، أشكرك.» وبدأ صوته في التعافي بالفعل. لقد تذكرت هذا أيضا بشأن الفتاة التي كانت في المدرسة، وكيف أنها كانت تتعافى بسرعة وبطريقة عجيبة. لكن قبل أن يتعافى أو يهدأ، عندما كان لا يزال يمسك برأسه التي كانت تتمايل، التقت عيناه بعينيها، وقد بدا أنها مصادفة وليست عن عمد، ولم تكن تلك النظرة تعبر عن الامتنان، أو التسامح؛ لم تكن نظرة لشخص، بل بدت لحيوان مشدوه زائغ النظرات، يريد أن يتشبث بأي شيء يراه أمامه.
وفي غضون لحظات، تحولت عيناه ووجهه إلى وجه ذلك الإنسان، الكاهن، الذي وضع كوب المياه الغازية على المنضدة، وبدون أن يتفوه بكلمة غادر المنزل. •••
عندما ذهبت جولييت لكي تأخذ صينية الشاي كانت سارة إما تغط في النوم، أو تتظاهر بذلك، وقد تحولت تماما طريقة نومها، وغفوتها، حتى حالتها عندما تستيقظ، فقد زال الفرق بين الحالتين بحيث يصعب فيها تبين حالتها. وأيا كانت حالتها، فقد تحدثت بصوت يكاد يقترب من الهمس وقالت: «جولييت.»
توقفت جولييت عند عتبة الباب.
قالت سارة: «لا بد وأنك اعتقدت أن دون ربما يكون أحمق، لكنه ليس على ما يرام. إنه مريض بداء السكري. إن حالته جد خطيرة.»
قالت جولييت: «نعم.» «إنه يحتاج إلى إيمانه.»
قالت جولييت بهدوء: «لقد كان جدالا عقيما.» لكن يبدو أن سارة لم تسمعها؛ إذ إنها استمرت في حديثها.
قالت سارة بصوت مرتعش (وقد بدا لجولييت في هذه اللحظة أنه يبعث على كثير من الشفقة والتعاطف): «إن ما أومن به ليس شيئا بسيطا يمكن شرحه، ولا أستطيع وصفه، لكن كل ما يمكن قوله إنه شيء ما؛ شيء رائع. عندما تبدو الأمور سيئة بالنسبة لي، وعندما تزداد سوءا، أتدرين ما يدور بخلدي حينها؟ أعتقد أن كل شيء سيكون على ما يرام. أعتقد ... حسنا أعتقد أنني سأرى جولييت قريبا.»
عزيزي إيريك
من أين أبدأ؟ إنني بخير وكذلك بينيلوبي. إجمالا؛ فهي تسير الآن بكل ثقة حول فراش سارة، ولكنها لا تزال حذرة عندما تحاول الاعتماد على نفسها والوقوف دون مساعدة. طقس الصيف هنا في غاية الروعة مقارنة بالساحل الغربي، حتى عند سقوط الأمطار. وأمر جيد أن تسقط الأمطار؛ لأن سام يركز جل اهتمامه الآن على مشروع تجاري لتسويق منتجات الحديقة، وقد صاحبته منذ بضعة أيام في الشاحنة القديمة لتوصيل بعض طلبات التوت البري ومربى التوت (التي تصنعها شخصية تشبه إلسي كوخ (مجرمة نازية) وهي تحتل مطبخنا الآن)، وبعض من محصول البطاطس الجديد لهذا الموسم. ويغلب على سام الحماس الشديد. أما عن سارة، فهي تمضي أغلب الوقت في فراشها إما نائمة أو تطالع بعض مجلات الموضة القديمة. ولقد أتى أحد القساوسة لزيارتها، ودخلت أنا وهو في شجار أحمق بشأن وجود الله، وبعض الموضوعات الساخنة التي تدور في هذا الإطار. ومع هذا فالزيارة تسير على ما يرام ...
عثرت جولييت على هذا الخطاب بعد مرور سنوات. لا بد وأن إيريك احتفظ به مصادفة؛ فهو لا يمثل أي أهمية في حياتهما. •••
عادت إلى المنزل الذي شهد طفولتها مرة أخرى؛ وذلك لحضور جنازة سارة، بعد بضعة أشهر من كتابة هذا الخطاب. ولم تجد آيرين بالمنزل، ولم تتذكر جولييت إن كانت قد سألت عن مكانها أو أن أحدهم أخبرها به. من المرجح أنها تزوجت، تماما كما فعل سام، بعد مرور عامين؛ فقد تزوج من إحدى زميلاته في التدريس، وكانت امرأة لطيفة، حسنة المظهر، ذات مهارات كثيرة. وعاشا بمنزلها، وهدم سام المنزل الذي عاش فيه هو وسارة، وقام بتوسيع الحديقة. وعندما تقاعدت زوجته، اشترى عربة مقطورة كبيرة، وكانا يذهبان في رحلات طويلة في فصل الشتاء. وزارا جولييت مرتين في ويل باي، وقد اصطحبهما إيريك في نزهة بمركبه، وسارت الأمور بينه وبين سام على ما يرام؛ كما قال سام: إن كل شيء سار على نحو جيد بينهما سريعا.
جفلت جولييت عندما قرأت الخطاب كما يفعل أي شخص عندما يكتشف تلك الأصوات الخفية الباعثة على القلق التي تتولد من ذاته القديمة الزائفة، وتعجبت من التستر الشديد الذي يناقض تماما آلام ذكرياتها، ثم اعتقدت أنه لا بد وأن حدث تحول ما، في ذلك الوقت، وهو تحول لم تتذكره؛ تحول يتعلق بمكان وطنها، ليس وطنها في ويل باي حيث تعيش مع إيريك، ولكن هناك حيث كانت تعيش في الماضي؛ كل حياتها السابقة بأكملها.
لأن ما يحدث في وطنك هو ما تحاول حمايته، بكل ما أوتيت من جهد، ولأطول فترة ممكنة.
لكنها لم تقم بحماية سارة؛ فعندما قالت سارة: «حسنا، أعتقد أنني سأرى جولييت قريبا.» لم تعثر جولييت على إجابة مناسبة. ألم يكن من الممكن البحث على كلام مناسب؟ لم بدا الأمر صعبا؟ أن تقول فقط نعم. كان سيعني هذا الكثير بالنسبة لسارة، لكنه بالطبع لن يعني لها شيئا كبيرا. لكنها استدارت، وهي تحمل الصينية إلى المطبخ، وهناك راحت تغسل وتجفف الأقداح والكوب الذي كان يحتوي على المياه الغازية بنكهة العنب، ووضعت كل شيء في مكانه.
الصمت
أثناء الرحلة البحرية القصيرة بين خليج باكلي وجزيرة دينمان، نزلت جولييت من سيارتها ووقفت بمقدمة القارب، بينما يداعبها نسيم الصيف. تعرفت عليها امرأة تقف هناك، وشرعتا في التحدث؛ فقد اعتادت أن يحملق بها الناس قليلا ويتساءلون أين رأوها، قبل أن يتذكروا، في بعض الأحيان؛ فهي تظهر دوما على قناة بروفينشال تليفيجن؛ حيث تعقد مقابلات مع هؤلاء الذين حققوا إنجازات رائعة ومميزة في حياتهم، وتدير ببراعة نقاشات جماعية في برنامج يسمى قضايا العصر. كان شعرها قصيرا الآن، أقصر ما يمكن أن يكون، واصطبغ بلون بني مائل إلى الحمرة، يلائم لون إطار نظارتها. وهي عادة ما ترتدي سراويل سوداء - مثلما تفعل اليوم - وقميصا حريريا عاجيا، وفي بعض الأحيان سترة سوداء؛ فهي تطابق التشبيه الذي كانت والدتها تستخدمه: امرأة خاطفة للأبصار. «أستميحك عذرا. لا بد أن الناس يزعجونك دائما.»
قالت جولييت: «لا، مطلقا، إلا إذا كنت قد وصلت لتوي لعيادة طبيب الأسنان أو شيء من هذا القبيل.»
كانت السيدة في نفس عمر جولييت تقريبا؛ شعرها طويل وأسود يتخلله بعض الشعر الرمادي، ولا تضع مساحيق تجميل، وترتدي تنورة طويلة من قماش الدنيم القطني. كانت تعيش في دينمان؛ لذا سألتها جولييت عما تعرفه عن مركز الاتزان الروحي.
قالت جولييت للمرأة: «لأن ابنتي هناك. إنها معتكفة هناك أو تأخذ دورة دراسية، لا أعرف ماذا يسمون هذا. وهي هناك منذ ستة أشهر. إنها المرة الأولى التي أراها فيها منذ ستة أشهر.»
قالت السيدة: «هناك مكانان مثل هذا الذي تتحدثين عنه، وهما غير ثابتين. لا أقصد أن هناك أي شيء مريب بشأنهما؛ فكل ما في الأمر أنهما موجودان بالغابة، ومنفصلان عن المجتمع. حسنا، فكيف كان يصبح اعتكافا لو كان المكان متصلا بالمجتمع المحيط به؟»
قالت لها السيدة إنها لا بد أن تكون متشوقة لرؤية ابنتها مرة ثانية، ووافقتها جولييت الرأي بشدة.
قالت السيدة: «أنا مدللة للغاية. إن ابنتي في العشرين من عمرها - في الواقع عيد ميلادها الحادي والعشرين في هذا الشهر - ونحن لا نفترق كثيرا.»
قالت السيدة إن لديها ابنا في العشرين من عمره، وابنة في الثامنة عشرة، وواحدة أخرى في الخامسة عشرة، وتمر بأيام ترغب فيها أن تغريهم بالمال مقابل أن يذهبوا للاعتكاف فرادى أو معا.
ضحكت جولييت قائلة: «حسنا، ليس لدي سوى ابنة واحدة. بالطبع، لن أستطيع أن أمنع نفسي من بذل قصارى جهدي لإعادتها معي، في غضون بضعة أسابيع.»
كان هذا النوع من أحاديث الأمهات الحنون المزعج في نفس الوقت هو ما تجد جولييت من السهل الانخراط به (فكانت جولييت خبيرة في الإدلاء بالإجابات المطمئنة)، ولكن الحقيقة هي أن بينيلوبي لم تفعل شيئا تقريبا يجعلها تشكو منها، وإن أرادت أن تكون صادقة للغاية في هذه اللحظة فإنها ستقول إنها لا تتحمل قضاء يوم واحد دون الاتصال بابنتها، ناهيك عن ستة أشهر. كانت بينيلوبي تعمل في بانف، كإحدى فتيات خدمة الغرف خلال الصيف، وذهبت في رحلات بالأتوبيس إلى المكسيك، وسافرت متطفلة إلى نيوفاوندلاند من خلال استيقاف السيارات، ولكنها ظلت تعيش دوما مع جولييت، ولم يسبق أن انفصلا طيلة ستة أشهر. «كان بإمكان جولييت أن تقول عنها: إنها تمدني بالبهجة؛ وليس هذا لأنها من تلك الشخصيات التي تنضح مرحا وطربا وتنظر دوما للجانب المشرق من الأمور. فأتمنى أن أكون قد أنشأتها لتكون أفضل من هذا. إنها تتمتع باللباقة والعطف، وهي حكيمة كما لو كانت تعيش على هذا الكوكب منذ ثمانين عاما. وهي شخصية تأملية وليست مشتتة مثلي. إنها كتومة بعض الشيء مثل أبيها، وهي أيضا جميلة كالملائكة، إنها تشبه والدتي؛ فهي شقراء ولكنها ليست ضعيفة مثلها؛ إنها قوية ونبيلة. وهي منحوتة كتمثال المرأة الذي يقوم مقام عمود في مبنى. وعلى عكس المفاهيم الشائعة، أنا لا أشعر بالغيرة منها على الإطلاق؛ فطوال هذه الفترة التي قضيتها بعيدا عنها - ودون أن أعرف عنها شيئا؛ لأن الاتزان الروحي لا يسمح بإرسال خطابات أو إجراء مكالمات - أشعر وكأني في الصحراء، وعندما وصلتني رسالتها كنت مثل قطعة الأرض العطشى المشققة التي حصلت على جرعة ماء كاملة من المطر.» ••• «أتمنى أن أراك في عصر يوم الأحد. لقد حان الوقت.»
كانت جولييت تتمنى أن يكون معنى هذا هو أنه قد حان وقت العودة للمنزل، ولكنها بالطبع ستترك هذا القرار لبينيلوبي. •••
كانت بينيلوبي قد رسمت لها خريطة أولية، وسرعان ما أوقفت جولييت سيارتها أمام كنيسة قديمة. وقد كانت كنيسة أنشئت منذ خمسة وسبعين أو ثمانين عاما، ومغطاة بجص الزخرفة، لم تكن في قدم أو إبهار الكنائس التي كانت موجودة في هذا الجزء من كندا الذي نشأت فيه جولييت. وخلفها كان يوجد مبنى أحدث، ذو سقف منحدر ونوافذ تملأ الجزء الأمامي، وكانت مرفقة به أيضا منصة بسيطة ومقاعد خشبية للجلوس وما بدا أنه ملعب كرة طائرة يحتوي على شبكة متراخية. كان كل شيء رثا، وهذه الرقعة من الأرض التي كانت فيما سبق بلا حشائش وأشجار استعادتها أشجار الصنوبر والحور.
كان هناك شخصان - لم تستطع أن تميز ما إذا كانا رجلين أو امرأتين - يقومان ببعض أعمال النجارة فوق المنصة، وجلس آخرون على المقاعد الخشبية في مجموعات صغيرة منفصلة. كانوا جميعا يرتدون ملابس عادية، وليس معاطف صفراء أو أي شيء من هذا القبيل. طوال بضع دقائق لم يلحظ أحد سيارة جولييت، ثم نهض شخص من الجالسين على المقاعد الخشبية وتوجه دون عجلة نحوها. كان رجلا قصيرا متوسط العمر يرتدي نظارة.
خرجت من سيارتها وحيته وسألت عن بينيلوبي. لم يتحدث - ربما كانت هناك قاعدة تلزمه بالصمت - ولكنه أومأ واستدار ودخل الكنيسة، وسرعان ما استطاعت أن ترى من مكانها، ليس بينيلوبي، ولكن سيدة بدينة تتحرك ببطء ذات شعر أبيض، ترتدي سروالا من الجينز ومعطفا فضفاضا.
قالت: «شرفت بمقابلتك. تفضلي إلى الداخل. لقد طلبت من دوني إعداد بعض الشاي لنا.»
كان لها وجه عريض نضر، وابتسامة مرحة وحانية في الوقت ذاته، وما افترضت جولييت أنها لا بد وأن تكون عينين براقتين. قالت: «اسمي جوان.» كانت جولييت تتوقع اسما مستعارا مثل سيرينيتي (التي تعني سكينة بالإنجليزية)، أو اسما ذا طابع شرقي، وليس اسما بسيطا ومألوفا مثل جوان. ولاحقا، بالطبع، تذكرت اسم البابا جوان.
قالت بنبرة لطيفة: «لقد جئت إلى المكان الصحيح، أليس كذلك؟ أنا غريبة عن دينمان. تعلمين أني جئت لمقابلة بينيلوبي؟» «بالطبع، بينيلوبي.» أطالت جوان في نطق الاسم، مع تخلل صوتها نبرة احتفالية.
كان الجزء الداخلي من الكنيسة معتما بسبب القماش الأرجواني الذي غطى النوافذ العالية، وقد رفعت المقاعد الخشبية الطويلة وأي أثاث آخر كان بالكنيسة، وكانت الستائر البيضاء البسيطة تتدلى لتشكل حجيرات خاصة، فيما يشبه أقسام المستشفيات. لكن الحجيرة التي دلت جولييت إليها لم يكن بها فراش؛ فقط طاولة صغيرة ومقعدان من البلاستيك، وبعض الأرفف المفتوحة المكدس بها في غير نظام ورق مبعثر.
قالت جوان: «أخشى أننا ما زلنا نجري بعض الإصلاحات هنا يا جولييت. هل يمكنني أن أناديك جولييت؟» «نعم بالطبع.» «أنا لست معتادة على التحدث مع شخص مشهور.» عقدت جوان يديها أسفل ذقنها في وضعية تشبه وضعية الصلاة. «لا أعرف إذا ما كان ينبغي لي التعامل معك بطريقة رسمية أم لا.» «لست شهيرة تماما.» «بل أنت شهيرة. الآن لا تقولي أشياء كهذه. وسوف أعترف لك على الفور إلى أي مدى أنا معجبة بأعمالك؛ إنها بمثابة الشعاع في الظلام. إن برنامجك هو البرنامج التليفزيوني الوحيد الذي يستحق المشاهدة.»
قالت جولييت: «شكرا. وصلتني رسالة من بينيلوبي ...» «أعرف، ولكني آسفة لأني مضطرة أن أخبرك يا جولييت، ولا أريد منك أن تصابي بالإحباط ... بينيلوبي ليست هنا.»
قالت السيدة هذه الكلمات - بينيلوبي ليست هنا - بأكبر قدر ممكن من الاستخفاف؛ فقد تظن أن غياب بينيلوبي يمكن أن يتحول إلى موضوع للتسلية؛ لإثارة بهجتهما في حوارهما المتبادل.
اضطرت جولييت أن تأخذ نفسا عميقا، ولم تستطع التحدث لدقيقة. تسرب الفزع إلى نفسها، إنه الحدس، ثم شرعت في جمع شتات نفسها للتفكير بطريقة عقلانية في هذه الحقيقة، وأخذت تفتش في حقيبتها. «قالت إنها تأمل ...»
قالت جوان: «أعرف، أعرف، كانت تنوي أن تكون هنا، ولكن الحقيقة أنها لم تتمكن ...» «أين هي؟ إلى أين ذهبت؟» «لا أستطيع أن أخبرك بهذا.» «لا تستطيعين أم أنك لا تريدين أن تخبريني؟» «لا أستطيع. لا أعرف، ولكني أستطيع أن أخبرك بشيء قد يريحك. أيا كان المكان الذي ذهبت إليه، ومهما كان القرار الذي اتخذته، فإنه الشيء الصحيح بالنسبة لها؛ سيكون الشيء الصحيح بالنسبة لروحانيتها ونموها.»
قررت جولييت ألا تعلق على ما سمعته. أوقفتها كلمة روحانية، والتي تبدو وكأنها تشمل - كما تقول عادة - كل شيء بدءا من عجلات الصلاة (في الحضارة الصينية القديمة) إلى القداس الاحتفالي. فلم تتخيل قط أن فتاة في ذكاء بينيلوبي قد تشارك في شيء كهذا.
قالت: «أعتقد أنني لا بد أن أعلم أين هي، في حال ما أرادت أن أرسل لها أيا من أشيائها.» «مقتنياتها؟» بدت جوان وكأنها عاجزة عن قمع ابتسامة عريضة، بالرغم من أنها عدلتها على الفور برسم تعبير حان على وجهها. «بينيلوبي لا تكترث الآن كثيرا بمقتنياتها.»
في بعض الأحيان كانت جولييت تشعر، في منتصف مقابلة ما، أن الشخص الذي تحاوره لديه مخزون من العدوانية لم يكن ظاهرا قبل تشغيل الكاميرا؛ شخص ما قد أبخسته جولييت حقه - بأن تعتقد أنه غبي مثلا - قد يمتلك قوة من هذا النوع؛ عدائية مازحة وإن كانت قاتلة. وما كان عليها فعله هو ألا تظهر أبدا أنها مندهشة أو مرتبكة، ولا تنتهج بدورها سلوكا عدائيا من أي نوع.
قالت جوان: «ما أعنيه بالنمو هو نمونا الداخلي بالطبع.»
قالت جولييت وهي تنظر في عينيها: «أتفهم هذا.» «لقد سنحت لبينيلوبي فرصة عظيمة في حياتها كي تقابل أشخاصا رائعين. يا إلهي، إنها لم تكن بحاجة لمقابلة أناس رائعين؛ فقد نشأت مع شخص رائع؛ والدتها. ولكن كما تعلمين، هناك دوما بعد مفقود؛ فالأولاد البالغون يشعرون دوما أن هناك شيئا مفقودا ...»
قالت جولييت: «آه، نعم. أعلم أن الأطفال بعد أن ينضجوا قد يشكون من كل شيء.»
قررت جوان أن تكون صريحة. «علي أن أصارحك؛ إنه البعد الروحي، ألم تكن حياة بينيلوبي تفتقر تماما إلى الروحانية؟ أعتقد أنها لم تنشأ في منزل يملؤه الإيمان.» «لم يكن الدين من الموضوعات المحظور مناقشتها. كان يمكننا التحدث بشأنه.»
أضافت في عطف: «لكن ربما كانت المشكلة في طريقة تحدثك عنه. طريقتك العقلانية؟ هذا إن كنت تدركين ما أعنيه. أنت ذكية للغاية.» «حسنا، هذا هو رأيك.»
أدركت جولييت أن أي سيطرة لديها على المقابلة، وعلى نفسها، بدأت في الترنح، وربما تكون قد فقدت تماما. «إنه ليس رأيي يا جولييت، إنه رأي بينيلوبي؛ فهي فتاة محببة إلى النفس وتتمتع بالفراسة، ولكنها أتت إلى هنا وهي تشعر بنهم بالغ؛ نهم للأشياء التي لم تكن متاحة لها في المنزل؛ فأنت كنت مشغولة بحياتك الرائعة الناجحة ... ولكنني يجب أن أخبرك يا جولييت أن ابنتك كانت تشعر بالوحدة. لقد عرفت طريقها إلى التعاسة.» «ألا يمر معظم الناس بهذه المشاعر في مرحلة ما من عمرهم؟ الوحدة والتعاسة؟» «لست الشخص الذي يمكنه معرفة ذلك. آه يا جولييت، أنت امرأة تملك بصيرة نافذة؛ فلطالما شاهدتك بالتليفزيون، وكنت أتساءل كيف يمكنك الوصول لجوهر الأمور بهذه الطريقة وتعاملين الناس في الوقت نفسه بكل هذا العطف والأدب؟ لم أظن قط أنني سأتحدث إليك يوما وجها لوجه. والأكثر من هذا، أنني سأكون في وضع يمكنني من مساعدتك.» «أعتقد أنك ربما تكونين مخطئة بهذا الشأن.» «أنت تشعرين أنك مجروحة. من الطبيعي أن تشعري بالجرح.» «هذا شأني وحدي أيضا.» «آه حسنا. ربما ستهاتفك بالرغم من كل شيء.» •••
وقد هاتفت بينيلوبي جولييت بالفعل، بعد بضعة أسابيع؛ فقد تسلمت بطاقة تهنئة في يوم ميلاد بينيلوبي، التاسع عشر من يونيو، كان عيد ميلادها الحادي والعشرين، كانت من نوعية البطاقات التي ترسلها لأحد معارفك ممن لا تعرف أذواقهم؛ فهي لم تكن بطاقة بسيطة مازحة، ولا بطاقة تعكس فطنة وذكاء، ولا عاطفية. ففي الجهة الأمامية منها كان هناك صورة لباقة من زهور الثالوث مربوطة بشريط أرجواني والذي يشكل ذيله عبارة عيد ميلاد سعيد. وكانت هذه الكلمات مكررة بالداخل مسبوقة بعبارة أتمنى لك.
ولم يكن هناك توقيع. ظنت جولييت في البداية أن شخصا ما أرسل هذه البطاقة لبينيلوبي، ونسي أن يوقعها، وأنها - جولييت - فتحتها على سبيل الخطأ. شخص لديه اسم بينيلوبي وتاريخ ميلادها في ملف ما. ربما يكون طبيب أسنانها أو معلم القيادة. ولكنها عندما فحصت الكتابة على الظرف، رأت أنه لم يكن هناك خطأ ... فاسمها كان منسوخا بخط يد بينيلوبي نفسها.
وأختام البريد لم تعد تدلك على أي شيء؛ فجميعها يقول بريد كندا. تراءى لجولييت أنه لا بد وأن هناك طرقا لمعرفة من أي مقاطعة ورد الخطاب على الأقل، ولكن كي تفعل هذا، عليك سؤال موظفي مكتب البريد، الذهاب إلى هناك ومعك الخطاب، وعلى الأرجح سوف يسألونك بجدية عن سبب الاستفسار؛ مدى أحقيتك في معرفة هذه المعلومات، وسوف يتعرف عليها أحد لا محالة هناك. •••
ذهبت لرؤية صديقتها القديمة كريستا، والتي كانت تعيش في ويل باي، عندما كانت هي الأخرى تعيش هناك، حتى قبل مولد بينيلوبي. كانت كريستا في كيتسيلانو، في دار رعاية المعاقين؛ فكانت تعاني من تصلب الشرايين المتعدد. كانت غرفتها بالطابق السفلي، وملحق بها فناء خاص صغير، وقد جلست جولييت معها هناك، وأخذت تنظر إلى المرج الصغير المشمس، ونبات الحلوة اليانع الذي يغطي السور والذي حجب صفائح القمامة.
قصت جولييت على مسامع كريستا قصة الرحلة إلى جزيرة دينمان كاملة، ولم تخبرها لأحد آخر، وتمنت لو أنها لم تضطر أن تخبر بها أحدا. في كل يوم في طريق عودتها للمنزل من العمل كانت تتساءل ما إذا كانت بينيلوبي تنتظرها في الشقة، أو يكون قد وردها على الأقل خطاب منها. وبعد ذلك لم تجد سوى هذه البطاقة غير الحانية والتي فتحتها بسرعة بينما ترتعد يداها.
قالت كريستا: «إنه يعني شيئا ما، إنه يحيطك علما أنها على ما يرام، سوف يتبع ذلك حدوث شيء ما، سوف يحدث هذا، فقط تحلي بالصبر.»
تحدثت جولييت بمرارة عن الأم شيبتون. هكذا أطلقت عليها في النهاية، بعد أن كانت تسميها البابا جوان أصبحت غير راضية عن هذا الاسم بعد أن فكرت فيه جيدا. قالت، يا لها من امرأة مخادعة! فهي تخفي وراء واجهة دينية معسولة عديمة القيمة قدرا كبيرا من البغض والدناءة. من المستحيل تخيل أن بينيلوبي قد افتتنت بها.
اقترحت كريستا أن بينيلوبي ربما زارت المكان لأنها فكرت في كتابة شيء ما عنه؛ أحد أنواع الصحافة الاستقصائية، عمل ميداني، الزاوية الشخصية - ذلك العمل الشخصي طويل النفس الذي أصبح شائعا اليوم.
قالت جولييت: «تجري تحقيقات لمدة ستة أشهر؟ إن بإمكان بينيلوبي فهم شخصية الأم شيبتون في عشر دقائق.»
اعترفت كريستا: «إنه أمر غريب حقا.»
قالت جولييت: «أنت لا تعلمين سوى ما تفصحين به، أليس كذلك؟ أكره حتى أن أسأل هذا السؤال. أشعر بالارتباك، أشعر بالغباء. هذه المرأة قصدت أن تشعرني بالغباء، أشعر وكأنني في مسرحية كشخصية أفشت شيئا ويدير الجميع لها ظهورهم لأنهم يعرفون شيئا لا تعرفه.»
قالت كريستا: «مثل هذه الأنواع من المسرحيات لم يعد له وجود الآن. الآن ليس هناك من يعرف أي شيء، ولم تكن بينيلوبي لتأتمنني على شيء لم تأتمنك عليه؛ فلماذا تفعل وهي تعرف أنني سأخبرك بما أعرفه؟»
ظلت جولييت صامتة للحظات، ثم تمتمت في عبوس: «كانت هناك أمور لم تخبريني بها.»
قالت كريستا ولكن بدون إبداء أي عداء: «آه، يا إلهي! لا تفتحي هذا الموضوع مجددا.»
وافقتها جولييت: «حسنا، لن أفتح هذا الموضوع مجددا. أنا في حالة مزاجية سيئة، هذا هو كل ما في الأمر.» «فقط تماسكي. إن ذلك هو أحد اختبارات الأمومة. إنها لم تدعك تخوضين الكثير منها بالرغم من كل شيء. في خلال عام واحد ستكونين قد نسيت كل هذا.»
لم تخبرها جولييت أنها في النهاية لم تستطع أن ترحل بكرامة؛ فقد استدارت وصرخت في توسل وغضب. «ما الذي أخبرتك به؟»
وقد وقفت الأم شيبتون ترقبها، كما لو أنها توقعت هذا، وارتسمت ابتسامة شفقة كبيرة على شفتيها المغلقتين وهي تهز رأسها. •••
خلال العام التالي، كانت جولييت تتلقى مكالمات هاتفية، من حين لآخر، من معارف بينيلوبي، وإجابتها على استفساراتهم كانت واحدة دوما؛ وهي أن بينيلوبي قررت أن تأخذ إجازة لمدة عام، لقد سافرت، وجدول سفرها كان غير محدد على الإطلاق، ولم تكن لدى جولييت وسيلة للاتصال بها، وليس لديها عنوان يمكنها إعطاؤه لأحد.
ولم يتصل بها أحد من أصدقائها المقربين؛ مما قد يعني أن المقربين لبينيلوبي كانوا يعرفون جيدا أين هي، أو ربما هم أيضا سافروا في رحلات لبلاد أجنبية، ووجدوا وظائف في مقاطعات أخرى، وبدءوا حيوات جديدة محمومة أو محفوفة بالمخاطر للغاية في الوقت الحاضر لدرجة لا تجعلهم يسألون عن الأصدقاء القدامى. (والأصدقاء القدامى في هذه المرحلة من الحياة تعني شخصا لم تره منذ نصف عام.)
كلما دخلت جولييت المنزل، كان أول شيء تفعله هو تفقد الضوء الوامض على جهاز الرد الآلي - نفس الشيء الذي اعتادت تجنبه، معتقدة أنه سيكون هناك من يزعجها بشأن تصريحاتها العامة. كانت قد جربت العديد من الحيل السخيفة، ذات الصلة بعدد الخطوات التي سارتها نحو الهاتف، وكيف رفعت السماعة، وكيف التقطت أنفاسها، وهي تقول في نفسها: «ليتها تكون هي.»
لم يجد شيء نفعا، وبعد فترة بدا العالم خاليا ممن كانت بينيلوبي تعرفهم؛ الرفقاء الذين تركتهم وهؤلاء الذين تركوها، الفتيات اللاتي شاركتهن أحاديث النميمة وربما وثقت فيهن. كانت قد ارتادت مدرسة داخلية خاصة للبنات فقط تدعى تورانس هاوس، ولم تذهب إلى مدرسة ثانوية حكومية، مما يعني أن معظم أصدقاء عمرها - حتى هؤلاء الذين ظلوا أصدقاءها في الجامعة - أتوا من خارج المدينة؛ فبعضهم من ألاسكا أو برينس جورج أو بيرو.
ولم تتلق رسالة منها في الكريسماس، ولكن في يونيو، تسلمت بطاقة أخرى، تشبه كثيرا سابقتها، بدون كلمة واحدة بالداخل. ارتشفت جولييت كأسا من النبيذ قبل أن تفتحها، ثم ألقت بها بعيدا على الفور. كانت تداهمها بين الحين والآخر نوبات من البكاء مع الارتجاف لا تستطيع أن تتحكم بها، ولكنها كانت تخرج من هذه الحالة إلى نوبات سريعة من الغضب؛ حيث تسير حول المنزل وهي تضرب بقبضة يدها على راحة اليد الأخرى. كان غضبها موجها إلى الأم شيبتون، ولكن صورة هذه السيدة ذوت في مخيلتها، وكان على جولييت أن تدرك في النهاية أنها المشجب الذي علقت عليه غضبها .
كل صور بينيلوبي كانت قد نقلت إلى غرفة نومها، بالإضافة إلى حزم من رسوماتها ولوحاتها التي لونتها بأقلام الشمع والفحم، والتي كانت قد رسمتها قبل مغادرة ويل باي، وكتبها، وجهاز إعداد القهوة الأوروبي الذي يعد فنجانا واحدا والمزود بكباس، والذي كانت قد اشترته كهدية لجولييت من أول راتب تقاضته من وظيفتها الصيفية في ماكدونالدز. وهناك مثل هذه الهدايا الغريبة التي وضعتها بالشقة؛ مثل المروحة البلاستيكية الصغيرة التي تلصق على الثلاجة، والجرار اللعبة ذي الزنبرك، والستارة من الخرز الزجاجي والمعلقة على نافذة دورة المياه. وقد ظل باب غرفة النوم مغلقا، وبمرور الوقت أمكنها المرور من أمامه دون شعور بالانزعاج. •••
فكرت جولييت كثيرا في مسألة الرحيل من هذه الشقة؛ بحيث يعمل المحيط الجديد على تهدئة أعصابها، ولكنها قالت لكريستا إنه ليس في مقدورها القيام بهذا؛ لأنه هو العنوان الذي تعرفه بينيلوبي، ولا يمكن تحويل البريد إلا لثلاثة شهور فقط؛ لذا لن تستطيع ابنتها العثور عليها.
قالت كريستا: «يمكنها دوما الذهاب إليك في العمل.»
قالت جولييت: «من يدري كم من الوقت سأظل هناك؟ إنها على الأرجح تعيش مع مجموعة غير مسموح لها بالتواصل مع الآخرين، وهم لديهم على الأحرى معلم روحي يمارس الجنس مع كل النساء ويرسلهن إلى الشوارع كي يشحذن. لو كنت قد أرسلتها إلى فصول الآحاد الدينية وعلمتها كيف تتلو صلواتها، ما كان هذا ليحدث على الأرجح. كان يجب علي القيام بهذا، كان يجب علي. لربما كان هذا كاللقاح. لقد أهملت روحانيتها. الأم شيبتون هي من قالت هذا.» •••
عندما كانت بينيلوبي بالكاد في الثالثة عشرة من عمرها، ذهبت إلى معسكر تخييم في جبال كوتيناي في بريتيش كولومبيا، مع صديقة لها من تورانس هاوس وأسرة الصديقة. راق هذا الأمر لجولييت؛ فلم تكن بينيلوبي قد أمضت سوى عام واحد في تورانس هاوس (التي قبلت بها بتسهيلات مالية جيدة؛ لأن والدتها سبق لها التدريس هناك)، وقد سعدت جولييت بالرحلة؛ لأن بينيلوبي أنشأت بالفعل صداقة قوية مع صديقة وتقبلتها بسرعة أسرة صديقتها. كانت سعيدة أيضا لأن ابنتها كانت ذاهبة إلى معسكر - وهو الشيء الذي كان الأطفال العاديون يفعلونه، ولكنها، أي جولييت، لم تتح لها الفرصة لفعله وهي طفلة. وليس معنى ذلك أنها كانت ترغب في هذا؛ حيث إنها كانت مدفونة وسط كتبها - ولكنها رحبت بأمارات تحول بينيلوبي إلى فتاة طبيعية، بخلاف ما كانت هي عليه.
كان إيريك قلقا من الفكرة برمتها، فظن أن بينيلوبي كانت صغيرة على مثل هذه الرحلة. لم ترق له فكرة ذهاب بينيلوبي في رحلة مع أشخاص لا يعرف الكثير عنهم. وبما أنها تذهب إلى مدرسة داخلية فهما لا يرونها كثيرا؛ فما الداعي لتقليص الوقت الذي يمضيانه معها؟
كان لدى جولييت سبب آخر؛ فقد أرادت إبعاد بينيلوبي في أول أسبوعين من الإجازة الصيفية؛ لأن الأمور لم تكن مستتبة بينها وبين إيريك؛ فأرادات أن تحل المشكلات بينها بين إيريك، ولكن ذلك لم يحدث. لم ترغب أن تدعي أن كل شيء كان على ما يرام؛ وذلك لأجل خاطر الطفلة.
أما إيريك على الجانب الآخر، فلم يكن يريد شيئا سوى التلطيف من مشكلاتهما وإخفائها من الطريق. فوفقا لطريقة إيريك في التفكير، فإن التحضر بوسعه إعادة المشاعر الطيبة، وأن التظاهر بالحب سيكون كافيا للمضي قدما حتى يعاد اكتشاف الحب نفسه. وإن لم يكن هناك أي شيء سوى مجرد التظاهر ... حسنا، فذلك سيفي بالغرض. يمكن لإيريك التعايش مع هذا.
فكرت جولييت في قنوط؛ نعم كان باستطاعته هذا.
ووجود بينيلوبي في المنزل كان سببا يدفعهما لإحسان التصرف - يدفع جولييت لإحسان التصرف بما أنها هي من كانت، في رأيه، تستثير المشاحنات - كان هذا ليناسب إيريك تماما.
هكذا أخبرته جولييت، وخلقت مصدرا جديدا للمرارة واللوم؛ لأنه كان يفتقد بينيلوبي بشدة.
وكان السبب وراء شجارهما قديما وعاديا؛ ففي الربيع، ومن خلال تصريح تافه - والصراحة أو ربما تعمد الأذى من قبل إلو التي كانت تقطن بجوارهما منذ وقت طويل، والتي كانت تشعر بولاء تجاه زوجة إيريك المتوفاة ولديها بعض التحفظات إزاء جولييت - اكتشفت جولييت أن إيريك مارس علاقة مع كريستا. لطالما كانت كريستا صديقتها المقربة، ولكنها كانت قبل ذلك صديقة إيريك، وعشيقته (بالرغم من أن أيا منهم لم يعد يذكر هذا الأمر الآن)، وكان قد تركها عندما طلب من جولييت الانتقال لتعيش معه. كانت تعرف كل شيء عن كريستا في ذلك الحين، ولم يكن بوسعها الاعتراض على ما حدث في الوقت السابق لعلاقتها بإيريك. لم تفعل، لكن ما عارضته - وما ادعت أنه كسر فؤادها - هو ما حدث بعد ذلك (ولكنه حدث أيضا منذ فترة طويلة كما قال إيريك)؛ فعندما كانت بينيلوبي تبلغ من العمر عاما واحدا، وكانت جولييت قد أخذتها وعادت بها إلى أونتاريو لزيارة والديها؛ كي تزور - كما كانت تشير دوما الآن - والدتها التي كانت تحتضر، وعندما كانت بعيدة، وتشعر بالحب وبافتقاد إيريك من كل قلبها (فهي الآن تعتقد هذا)، عاود إيريك الانخراط في عاداته القديمة.
في البداية اعترف أنه فعل هذا مرة واحدة (لأنه كان ثملا)، ولكن من خلال مزيد من الضغط، وبشرب الخمر والإلحاح بالمصارحة في التو واللحظة، قال إنه ربما يكون قد فعل هذا أكثر من مرة.
ربما؟ ألا يستطيع التذكر؟ هل تكرر هذا الأمر كثيرا حتى إنه لا يتذكر عدد المرات؟
كان يستطيع التذكر. •••
أتت كريستا لزيارة جولييت كي تطمئنها أنه ليس ثمة شيء جاد بينهما (كانت تلك هي لازمة إيريك أيضا)، فطلبت منها جولييت الرحيل وعدم الحضور لزيارتها مجددا. قررت كريستا أن هذا هو الوقت المناسب للذهاب لزيارة شقيقها في كاليفورنيا.
وهذا الغضب الذي سلطته جولييت على كريستا كان في الواقع نوعا من أنواع التصرفات الشكلية؛ فكانت تتفهم أن بعض اللقاءات الجنسية العابرة الخالية من المشاعر مع صديقة قديمة (على حد وصف إيريك الكارثي، ضمن محاولته غير الحصيفة للتقليل من شأن الأمور) لا تعد ذات بال على الإطلاق، ولا تشكل تهديدا، كعناق دافئ لامرأة تعرفت عليها للتو. كذلك، كان غضبها من إيريك شرسا، ولم تستطع كبته، ولم يترك مجالا كبيرا لإلقاء اللوم على أي أحد آخر.
وتمثلت ذريعتها في أنه لا يحبها، ولم يحبها قط، وأنه استهزأ بها، مع كريستا، من وراء ظهرها؛ فقد جعل منها أضحوكة أمام أشخاص مثل إلو (التي طالما كرهتها). لقد عاملها بازدراء، ونظر لحبها له (عندما كانت تحبه) بازدراء، وعاش معها كذبة. فلم يكن الجنس يعني أي شيء له، أو لم يعن بأي شكل من الأشكال ما يعنيه (أو ما كان يعنيه) لها، وأنه كان على استعداد لممارسته مع أي امرأة متاحة.
فقط الزعم الأخير من هذه المزاعم هو ما كان ينطوي على ذرة من الحقيقة، وكانت هي تدرك ذلك في فترات هدوئها، ولكن حتى هذه الحقيقة الصغيرة كانت كافية لتدمير كل شيء حولها. ما كان ينبغي لها أن تتسبب في هذا، ولكن هذا هو ما فعلته. ولم يكن إيريك قادرا - بالفعل لم يكن قادرا - على رؤية السبب في هذا. لم يكن مندهشا من اعتراضها، وإثارتها للجلبة، بل وحتى بكائها (بالرغم من أن امرأة مثل كريستا لم تكن لتفعل هذا أبدا)، ولكنه اندهش من شعورها بأنها قد دمرت، ومن اعتقادها أنها حرمت من كل ما كانت تستند إليه، ومن غضبها من شيء حدث منذ اثني عشر عاما؛ فهذه الأمور لم يستطع فهمها.
في بعض الأحيان كان يعتقد أنها تتصنع كل هذا، أو أنها تبالغ وتستغل هذا الأمر، وفي أحيان أخرى يشعر بأسف حقيقي؛ لأنه جعلها تعاني بهذا الشكل. كان حزنهما يثيرهما، فكانا يستمتعان كثيرا بممارسة الجنس. وفي كل مرة يعتقد أن المشكلة انتهت، وأن تعاستهما ولت لحال سبيلها. وفي كل مرة يكون مخطئا.
في الفراش، كانت جولييت تضحك وتحكي له عن السيد والسيدة بيبس، اللذين كان يشتعل الحب بينهما في ظل ظروف مشابهة (منذ أن هجرت دراستها الكلاسيكية على نحو ما، كانت تقرأ بنهم، وفي هذه الأيام كان كل شيء تقرؤه يبدو أن له علاقة بالزنا). قال بيبس إن ممارستهما الجنس لم تكن قط بمثل هذه الكثرة وبكل هذه الحرارة، بالرغم من أنه ذكر أن زوجته فكرت في قتله وهو نائم. ضحكت جولييت من هذا الأمر، ولكن بعد نصف ساعة عندما أتى إريك لتوديعها قبل أن يذهب إلى قاربه ليتفقد شراك القريدس، بدت متجهمة وقبلته في خنوع، كما لو كان ذاهبا لمقابلة امرأة في منتصف الخليج وتحت السماء الممطرة. •••
وكان هناك أكثر من مجرد المطر. ورغم أن الأمواج لم تكن متلاطمة عندما خرج إيريك للبحر، ولكن لاحقا في فترة العصر هبت عاصفة فجائية من الناحية الجنوبية الشرقية وجعلت مياه ممر ديزوليشن ساوند المائي ومضيق مالاسبينا تموج. واستمرت حتى حلول الظلام تقريبا - والذي لم يحل حتى حوالى الساعة الحادية عشرة في هذا الأسبوع الأخير من يونيو. في ذلك الحين ثمة مركب شراعي من كامبل ريفر كان مفقودا، يحمل ثلاثة بالغين وطفلين على متنه، وقاربا صيد آخران مفقودان؛ أحدهما يحمل رجلين والآخر لا يحمل سوى رجل واحد هو إيريك.
كان صباح اليوم التالي هادئا ومشمسا؛ فالجبال والمياه والشواطئ كانت جميعا لامعة ومتلألئة.
وكان هناك احتمال بالطبع ألا يكون هؤلاء الأشخاص مفقودين، ربما قد وجدوا ملاذا يحتمون به وأمضوا الليلة على أي من الخلجان الصغيرة التي لا حصر لها. ويمكن أن يكون هذا هو ما حدث مع الصيادين، ولكن ليس مع الأسرة في المركب الشراعي؛ لأن أفرادها لم يكونوا من السكان المحليين، ولكن جاءوا من سياتل لقضاء إجازة. خرجت القوارب على الفور، في ذلك الصباح، للبحث في البر الرئيسي وشواطئ الجزيرة والمياه.
كان أول ما عثر عليه هما جثتي الطفلين اللذين ماتا غرقا، يرتديان سترات النجاة، وفي نهاية اليوم عثر على جثتي الوالدين أيضا، ولم يعثر على جثة الجد الذي كان بصحبتهما حتى اليوم التالي. ولم تظهر قط جثتا الرجلين اللذين كانا يصطادان معا، بالرغم من أن بقايا قاربهما ظهرت بالقرب من ريفيودج كوف.
بينما عثر على جثة إيريك في اليوم الثالث، غير أنه لم يسمح لجولييت برؤيتها؛ فقالوا إن حيوانا ما نهش جثته، بعد أن جرفتها المياه إلى الشاطئ.
وربما لهذا السبب - لأنه لم يكن بوسع أحد رؤية الجثة ولم تكن هناك حاجة لحانوتي - راودت فكرة حرق جثة إيريك على الشاطئ أذهان أصدقائه القدامى وزملائه من الصيادين. لم تعترض جولييت على هذا. كان لا بد من استخراج شهادة وفاة؛ لذا اتصل أحدهم بالطبيب الذي يأتي إلى ويل باي مرة في الأسبوع في عيادته في باول ريفر، وهو بدوره خول إلو، مساعدته الأسبوعية وممرضته المعتمدة، بفعل هذا.
ثمة الكثير من الأخشاب المجروفة إلى الشاطئ، والعديد من اللحاء المتشرب بملح البحر، والذي يمكن إضرام نار ضخمة فيه. وفي خلال بضع ساعات كان كل شيء جاهزا؛ فانتشرت الأخبار على نحو ما، وحتى دون أن يتاح لهن وقت كاف شرعت النساء بالقدوم وبحوزتهن الطعام. وكانت إلو هي من تتولى إدارة الأمور - فدماؤها الإسكندنافية، وقامتها المنتصبة، وشعرها الأبيض المنسدل، بدت جميعا وكأنها تتلاءم طبيعيا مع دور أرملة البحر. كان الأطفال يركضون على الأخشاب، وكانوا يبعدون عن الخشب المعد للمحرقة، وعن الكتلة النحيلة المكفنة التي كانت في أحد الأيام إيريك. قدمت النساء من إحدى الكنائس لهذا المرسم شبه الوثني القهوة، وتركت صناديق البيرة وزجاجات المشروبات من كل نوع بحرص، في الوقت الحالي، في صناديق السيارات وكبائن الشاحنات.
تساءل الحاضرون من سيلقي كلمة ومن سيشعل المحرقة. سألوا جولييت: هل ستقومين بهذا؟ قالت جولييت - المكسورة والمشغولة في توزيع أقداح القهوة - إنهم لا يستوعبون الأمر؛ حيث إنها، بوصفها الأرملة، لا بد وأن تلقي بنفسها في ألسنة اللهب. ضحكت في الواقع وهي تقول هذا، وهؤلاء الذين طرحوا عليها السؤال تراجعوا؛ خوفا من أن تصاب بحالة هستيرية. وافق الرجل الذي كان يصاحب إيريك في معظم رحلاته بالقارب أن يشعل النار، ولكنه قال إنه ليس خطيبا جيدا. خطر للبعض أنه لم يكن اختيارا جيدا بأي حال من الأحوال، بما أن زوجته كانت أنجليكانية إنجيلية، وربما شعر بضرورة قول أشياء كانت تثير استياء إيريك لو كان بإمكانه سماعها. ثم عرض زوج إلو أن يلقي الكلمة - وكان رجلا قصيرا شوه وجهه حريق اندلع في قارب منذ عدة سنوات، وهو اشتراكي كثير الشكوى وملحد - وفي أثناء خطبته انفلت منه خيط الحديث عن إيريك، فيما عدا أنه وصفه بالأخ في المعركة. ألقى خطبة طويلة على نحو أثار الدهشة، وفسر السبب وراء هذا بعد ذلك في حياة الكبت التي يعيشها في ظل تسلط إلو. ربما ظهر بعض التململ في الحشد قبل توقف سرده لشكاويه، شعور ما بأن الحدث لم يكن عظيما أو مهيبا أو مفجعا كما كان متوقعا، ولكن عندما أضرمت النيران، ذوى هذا الشعور، وحدق الجميع بها، حتى الأطفال - أو هم على وجه التحديد - إلى تلك اللحظة التي صاح فيها أحد الرجال: «أخرجوا الأطفال من هنا.» كان هذا عندما وصلت ألسنة اللهب للجثة، وأدرك الجميع، إدراكا متأخرا بعض الشيء، أن احتراق الدهون والقلب والكليتين والكبد قد ينتج عنه أصوات فرقعة أو أزيز تتأذى الأذن من سماعها؛ لذا أبعدت الأمهات الكثير من الأطفال، ومضى البعض بإرادته والبعض الآخر سيقوا على غير رغبتهم. وهكذا أصبح الجزء الأخير من عملية الإحراق طقسا ذكوريا، ومخزيا بعض الشيء، حتى إن كان في هذه الحالة قانونيا.
بقيت جولييت في مكانها وهي مذهولة من المشهد، تهتز في جلستها، بينما يواجه وجهها الحرارة. لم تكن حاضرة معهم بذهنها؛ فكانت تفكر في شخصية ما، أيا ترى هي شخصية الروائي إدوارد جون تريلوني الذي انتزع قلب شيلي من ألسنة اللهب؟ القلب، وما يحمله من معنى قديم. إنه لغريب حقا أنه حتى في هذا الوقت، ليس منذ فترة بعيدة للغاية، كان هذا العضو من الجسم يعد ثمينا للغاية، موضع الشجاعة والحب. لقد كان مجرد لحم يحترق. ليس هناك ما يربط كل ذلك بإيريك. •••
لم تعرف بينيلوبي شيئا مما كان يحدث. نشر فقط خبر قصير في صحيفة فانكوفر - ليس عن إحراق الجثة على الشاطئ بالطبع، وإنما فقط عن الغرق - ولكن لم تكن تصلها أي صحف أو محطات إذاعية في أعماق جبال كوتيناي. وعندما عادت إلى فانكوفر، اتصلت بالمنزل، من بيت صديقتها هيذر. ردت عليها كريستا - التي كانت قد وصلت إلى المراسم متأخرة للغاية ولكنها بقيت مع جولييت وحاولت تقديم المساعدة قدر استطاعتها. أخبرتها كريستا أن جولييت ليست بالمنزل - كانت تكذب - وطلبت التحدث إلى والدة هيذر. أخبرتها بما حدث، وقالت إنها ستصطحب جولييت إلى فانكوفر، وإنهما سترحلان على الفور، وسوف تحادث جولييت بينيلوبي بنفسها عندما تصلان إلى هناك.
أوصلت كريستا جولييت إلى المنزل الذي تقيم فيه بينيلوبي، ودخلت جولييت وحدها. تركتها والدة هيذر في الغرفة المشمسة حيث كانت بينيلوبي تنتظرها. تلقت بينيلوبي الخبر في فزع ثم شعرت - عندما طوقتها جولييت بذراعيها بطريقة رسمية بعض الشيء - بالإحراج. فربما لا يمكنها استيعاب مثل هذا الخبر الرهيب في منزل هيذر، في الحجرة المشمسة المطلية باللون الأبيض والأخضر والبرتقالي، أثناء ممارسة أشقاء هيذر كرة السلة في الفناء الخلفي. ولم تأت على ذكر عملية الحرق - فسيكون مثل هذا الأمر غير متحضر وغريب في هذا المنزل وفي هذا الحي. في هذا المنزل أيضا اتصف سلوك جولييت بالخفة والنشاط دون عمد - وكاد أن يكون سلوكا مرحا.
دخلت والدة هيذر بعد أن طرقت الباب طرقة صغيرة وهي تحمل أكوابا من الشاي المثلج. ارتشفت بينيلوبي مشروبها وذهبت لتنضم لهيذر التي كانت تنتظر في الردهة.
تحدثت والدة هيذر بعدها مع جولييت، اعتذرت لاضطرارها التدخل في أمور عملية، ولكنها قالت إن الوقت محدود؛ فهي ووالد هيذر سيسافران في غضون أيام قليلة شرقا لرؤية بعض الأقارب، وسيتغيبان لمدة شهر، وقد خططا لاصطحاب هيذر معهما (بينما سيذهب الفتيان إلى معسكر). ولكن هيذر قررت الآن أنها لا تريد الذهاب، وتوسلت لهما كي يتركاها في المنزل مع بينيلوبي. ولا ينبغي ترك فتاتين، إحداهما في الرابعة عشرة من عمرها والأخرى في الثالثة عشرة، وحدهما في المنزل، وقد خطر لها أن جولييت ربما تود قضاء بعض الوقت بعيدا عن منزلها؛ فترة استرخاء، بعد كل ما مرت به، وبعد فقدانها لزوجها وهذه المأساة التي عاشتها.
وهكذا وجدت جولييت نفسها تعيش لفترة وجيزة في عالم مختلف، في منزل ضخم لا عيب فيه، ومطلي بعناية وبألوان براقة، لديها كل ما يسمى بوسائل راحة - التي كانت وسائل ترف بالنسبة لها - في كل مكان. كان المنزل يقبع بشارع متعرج تصطف على جانبيه المنازل المتشابهة ، وتوجد أمامه شجيرات مشذبة وأحواض كثيرة لزهور رائعة. حتى الطقس، في هذا الشهر، كان جميلا - دافئا وعليلا ومشرقا. كانت هيذر وبينيلوبي تذهبان للسباحة، وتلعبان تنس الريشة في الفناء الخلفي، وتذهبان للسينما، وتخبزان الكعك، وتأكلان الطعام بنهم، وتتبعان حميات غذائية، وتكتسبان سمرة، وتملآن المنزل بموسيقى بدت كلماتها لجولييت حمقاء ومزعجة، وفي بعض الأحيان كانتا تدعوان صديقاتهما إلى المنزل، ولم تدعوا الفتيان، ولكنهما كانتا تخوضان محادثات طويلة تهكمية غير هادفة مع بعض الفتيان ممن يمرون بالمنزل أو يجتمعون في المنازل المجاورة. ومن قبيل المصادفة، سمعت جولييت بينيلوبي تقول لواحدة من صديقاتها التي كانت تزورها: «حسنا، لم أكن أعرفه جيدا في الواقع.»
كانت تتحدث عن أبيها.
يا له من أمر غريب!
وهي التي لم تخش قط الذهاب في رحلة بالقارب، كما كانت جولييت، عندما تكون الأمواج متلاطمة. كانت تضغط عليه كي يأخذها معه، وعادة ما كانت تلاقي محاولاتها النجاح. وعندما كانت تتبع إيريك، وهي ترتدي معطف النجاة البرتقالي الذي يشبه معاطف العمل، حاملة ما تستطيع حمله من أدوات، كانت ترسم على وجهها دوما تعبيرا بالجدية والتفاني. كانت تلاحظ بعناية أماكن الأشراك وصارت ماهرة وسريعة وجريئة في فصل رأس القريدس وتعبئته في أكياس. وفي مرحلة معينة من مراحل طفولتها - من الثامنة إلى الحادية عشرة تقريبا - كانت تقول طوال الوقت إنها ستذهب لصيد الأسماك عندما تكبر، وأخبرها إيريك أن هناك فتيات يفعلن هذا في أيامنا هذه. فكرت جولييت أن هذا ممكن، بما أن بينيلوبي كانت ذكية وليست مولعة بالكتب، بالإضافة إلى أنها تتمتع بلياقة جسدية وشجاعة. ولكن إيريك كان يقول، من وراء بينيلوبي، إنه يتمنى أن تنسى هذا الأمر بمضي الوقت؛ لأنه لا يتمنى مثل هذه الحياة لأحد؛ فكان يتحدث دوما عن صعوبات ومخاطر العمل الذي اختاره، ولكنه كان يفتخر، كما ظنت جولييت، بنفس هذه الأمور.
والآن نسيت بينيلوبي والدها الذي ملأ حياتها؛ فها هي قد طلت أظافر قدميها مؤخرا باللون الأرجواني، ورسمت وشما غير حقيقي على بطنها. لقد أخرجته تماما من حياتها.
ولكن جولييت شعرت وكأنها تفعل الشيء نفسه. بالطبع؛ فهي مشغولة في البحث عن وظيفة ومكان تسكن فيه. فقد عرضت بالفعل منزلهم في ويل باي للبيع - فلم تتخيل بقاءها هناك - وقد باعت الشاحنة وتبرعت بأدوات إيريك، والشراك التي استعيدت، وزورقه. وقد أتى ابن إيريك البالغ من ساسكاتشيوان وأخذ الكلب.
تقدمت لوظيفة بقسم المراجع في مكتبة الجامعة، ووظيفة في المكتبة العامة، وراودها شعور أنها ستحصل على إحداهما. بحثت عن شقة في كيتسيلانو أو دنبار أو بوينت جراي. وقد ظلت نظافة ونظام ومرونة المدينة تبهرها؛ ففي المدينة يعيش الناس دون أن يضطر الرجل للعمل في الأماكن المفتوحة، وحيث لا يضطر أن يقوم بالمهام العديدة المتعلقة بعمله داخل منزله، وحيث يكون الطقس عاملا يؤثر ربما على حالتك المزاجية ولكن ليس على حياتك بأكملها، وحيث لا تعد موضوعات رهيبة مثل العادات المتغيرة للقريدس والسلمون وتوافرهما من الموضوعات المثيرة، أو حتى من الموضوعات التي تثار على الإطلاق؛ فالحياة التي كانت تعيشها في ويل باي، منذ فترة ليست ببعيدة، بدت عشوائية وفوضوية ومرهقة مقارنة بالحياة في المدينة. وقد تخلصت هي أيضا من الحالة المزاجية التي لازمتها في الشهور الماضية؛ فكانت مفعمة بالحيوية وبدت أقوى وأكثر جمالا.
لا بد أن يراها إيريك الآن.
كانت تفكر في إيريك على هذا النحو طوال الوقت؛ لم يكن الأمر أنها فشلت في أن تدرك أنه مات، فهذا لم يحدث للحظة واحدة، ولكنها ظلت تشير إليه طوال الوقت في عقلها وكأنه لا يزال الشخص الذي يهمه وجودها أكثر من أي شخص آخر، كما لو أنه لا يزال الشخص الذي تمنت أن تلمع دوما في عينيه، وأيضا الشخص الذي تجادله وتقدم له المعلومات والمفاجآت. كانت تلك هي إحدى عاداتها التي كانت تحدث تلقائيا ... فحقيقة موته لم تبد وكأنها لها دخل في الأمر.
كما أن خلافهما الأخير لم يحل على نحو كامل؛ فهي لا تزال تلومه لخيانته. وعندما كانت تتباهى بنفسها الآن؛ فذلك لأنه فعل هذا بها.
العاصفة، العثور على الجثة، المحرقة على الشاطئ؛ كل هذه الأمور كانت شبيهة بالموكب الذي كانت مضطرة لمشاهدته وتصديقه، والذي لا يزال لا صلة له بها أو بإيريك. •••
حصلت على الوظيفة بقسم المراجع بالمكتبة، ووجدت شقة مكونة من حجرتين تستطيع دفع إيجارها، وعادت بينيلوبي إلى تورانس هاوس كطالبة نهارية. جميع شئونهما في ويل باي كانت متوترة، وقد انتهت حياتهما هناك. حتى كريستا كانت ستنتقل إلى مكان آخر، وسوف تأتي إلى فانكوفر في الربيع.
في يوم ما قبل هذا، في أحد أيام شهر فبراير، كانت جولييت تقف تحت المظلة في محطة الحرم الجامعي بعد انتهائها من عملها بعد الظهيرة. كان المطر قد توقف ذلك النهار، وكانت هناك رقعة من السماء الصافية ناحية الغرب، والتي كانت حمراء حيث غربت الشمس فوق مضيق جورجيا. وقد كان لهذه الإشارة على زيادة طول النهار، وأمارات تبدل الموسم، تأثير غير متوقع ومدمر عليها.
لقد أدركت أن إيريك قد مات.
طيلة تلك المدة عندما كانت في فانكوفر بدا الأمر كما لو أنه كان ينتظر في مكان ما؛ ينتظر ليرى ما إذا كانت ستواصل حياتها معه، كما لو أن البقاء معه كان خيارا لا يزال متاحا؛ فهي تعيش حياتها منذ أن أتت إلى هنا دون أن تسدل الستار على إيريك، دون أن تتفهم تماما أن إيريك لم يعد له وجود، لم يعد متبقيا منه شيء؛ فقد ذوت ذكراه في العالم اليومي والعادي.
إذن هذا هو الحزن. فشعرت كما لو أن جوالا من الأسمنت قد سكب فوقها وسرعان ما تحجر. استطاعت الحركة بالكاد. صعدت إلى الحافلة ثم هبطت منها، وقطعت مسافة قصيرة حتى منزلها (لماذا تقطن هنا؟) تشبه تسلق جرف. والآن لا بد وأن تخفي هذه المشاعر عن بينيلوبي.
وعلى طاولة العشاء بدأت ترتعد، ولكنها لم تستطع فتح أصابعها لإسقاط السكين والشوكة. استدارت بينيلوبي حول الطاولة وفتحت يديها بصعوبة. قالت: «إن لهذا علاقة بأبي، أليس كذلك؟»
قالت جولييت بعد ذلك لعدد قليل من الناس - مثل كريستا - إن تلك الكلمات كانت الأكثر تحريرا من شعورها بالذنب والأكثر عطفا، والتي سبق وأن سمعتها من أي شخص.
راحت بينيلوبي تدلك ذراعي جولييت من الداخل لأعلى وأسفل، واتصلت بالمكتبة في اليوم التالي وأخبرتهم أن والدتها مريضة، وظلت تعتني بها لبضعة أيام؛ حيث تغيبت عن المدرسة حتى تعافت جولييت، أو حتى انتهى، على الأقل، الجزء الأسوأ من الأمر.
وخلال هذه الأيام أخبرت جولييت بينيلوبي بكل شيء؛ أخبرتها عن كريستا، والشجار، والمحرقة على الشاطئ (وهو الأمر الذي استطاعت أن تخفيه عنها، بما يشبه المعجزة). أخبرتها بكل شيء. «ما كان يجب أن أثقل كاهلك بكل هذا.»
قالت بينيلوبي: «آه، حسنا، ربما لا.» ولكنها أضافت برباطة جأش: «أسامحك. أعتقد أنني لست طفلة.»
عادت جولييت إلى العالم، وتكررت ثانية هذه النوبة التي داهمتها في محطة الحافلة، ولكن ليس بمثل هذه القوة.
أثناء عملها البحثي في المكتبة، قابلت بعض العاملين في قناة بروفينشال تليفيجن، وقبلت بالوظيفة التي عرضوها عليها. ظلت تعمل هناك قرابة العام قبل أن تبدأ في عقد مقابلات؛ فكل هذه الكتب العشوائية التي قرأتها طوال سنوات (والتي لم تكن تحظى بإعجاب إلو في الأيام التي قضتها في ويل باي)، وكل هذه المعلومات التي اكتسبتها، وذوقها العشوائي واستيعابها السريع، باتت أمورا أسدتها كثيرا من النفع الآن. كذلك فإنها نمت لديها شعورا بالتواضع وأسلوبا استفزازيا بعض الشيء بدا أنه يساعدها في عملها. وأمام الكاميرا، لم يكن يقلقها أي شيء تقريبا. بالرغم من أنها عندما تعود للمنزل، فإنها تذرعه جيئة وذهابا، منفسة عن تشنجاتها أو سبابها عندما تتذكر خطأ أو ارتباكا ما أو ما هو أسوأ؛ خطأ في النطق. •••
وبعد خمس سنوات، لم تعد تتلقى بطاقات التهنئة بعيد الميلاد.
قالت كريستا: «إنها لم تكن تعني شيئا؛ إذ كان الغرض من كل البطاقات السابقة هو إخبارك بأنها على قيد الحياة في مكان ما، وهي تتصور الآن أنك فهمت المقصود، وتثق في أنك لن ترسلي أحدا للبحث عنها. هذا هو كل ما في الأمر.» «هل أثقلت كاهلها بالكثير؟» «يا إلهي يا جولييت.» «لا أقصد وفاة إيريك فحسب؛ أعني الرجال الآخرين الذين عرفتهم لاحقا . لقد جعلتها تشهد الكثير من التعاسة. تعاستي الحمقاء.»
كانت جولييت قد دخلت في علاقتين عاطفيتين خلال ست سنوات منذ أن كانت بينيلوبي في الرابعة عشرة من عمرها وحتى أصبحت في الحادية والعشرين، وقد استطاعت في كل منهما أن تقع في الحب بجنون، بالرغم من أنها كانت تشعر بالخزي بعد ذلك. أحد الرجلين كان يكبرها بسنوات عدة، وكان متزوجا وينعم بالاستقرار في زواجه، والآخر كان يصغرها كثيرا، وأفزعته مشاعرها المتأججة. وقد أدهشتها حقا هذه المشاعر التي راودتها عندما فكرت فيها لاحقا. قالت إنها لم تكن تكترث لأمره كثيرا.
قالت كريستا التي كانت متعبة: «لا أعتقد أنك اهتممت لأمره، لا أعرف في الواقع.» «يا إلهي، كم كنت حمقاء! لم تعد تراودني مثل تلك المشاعر إزاء الرجال، أليس كذلك؟»
لم تشر كريستا إلى أن ذلك ربما يكون بسبب عدم تودد الكثيرين لها. «بلى يا جولييت.»
قالت جولييت بعدما صارت أكثر ابتهاجا: «في الواقع لم أفعل شيئا سيئا للغاية. لماذا أنتحب طوال الوقت معتقدة أنه خطئي؟ إنها فتاة غامضة ملغزة، هذا هو كل ما في الأمر. لا بد أن أواجه هذه الحقيقة.»
ثم أضافت في تصميم: «غامضة وملغزة وباردة المشاعر.»
قالت كريستا: «لا.»
قالت جولييت: «لا، ليس صحيحا.»
وبعد أن مر شهر يونيو الثاني دون أن يردها شيء من ابنتها، قررت جولييت أن ترحل؛ فطوال الخمس سنوات الأولى ظلت تخبر كريستا أنها تنتظر مجيء شهر يونيو، متسائلة ما الذي قد يحدث في ذلك الحين؟ فكان عليها التفكير كل يوم بالنظر إلى ما آلت إليه الأمور الآن. ولا يتغير شعورها بالإحباط كل يوم.
انتقلت إلى مبنى متعدد الطوابق في ويست إند. أرادت أن تتخلص من محتويات غرفة بينيلوبي، ولكنها في النهاية جمعتها كلها في أكياس القمامة وأخذتها معها. لم يكن لديها سوى غرفة نوم واحدة الآن، ولكن كان هناك مكان للتخزين في القبو.
بدأت تمارس الركض في متنزه ستانلي. والآن لم تعد تأتي تقريبا على ذكر بينيلوبي، حتى لكريستا. وقد أصبح لديها صديق حميم - هكذا يسمونهم الآن - والذي لم يسبق له أن سمع شيئا قط عن ابنتها.
صارت كريستا أكثر نحافة ومتقلبة الحالة المزاجية؛ وفجأة، في يناير، ماتت. •••
لا يستمر الظهور على التليفزيون للأبد؛ فمهما راق وجهك للمشاهدين، يأتي وقت يفضلون فيه شخصا مختلفا. عرضت وظائف أخرى على جولييت؛ منها إجراء أبحاث، أو كتابة التعليق الصوتي للبرامج التي تهتم بالطبيعة، ولكنها رفضتها وهي مبتهجة، واصفة حالها بأنها في حاجة لتغيير جذري. عادت إلى دراستها الكلاسيكية، وقد تراجع حجم القسم عما كان عليه، ورغبت في كتابة رسالة الدكتوراه. ثم انتقلت من شقتها في المبنى متعدد الطوابق إلى شقة مكونة من غرفة واحدة لتوفير المال.
بينما حصل صديقها على وظيفة مدرس في الصين.
كانت شقتها تقع في قبو أحد المنازل، ولكن الأبواب المنزلقة في الخلف كانت تؤدي إلى الطابق الأرضي. وهناك كان لديها فناء ممهد بالحجارة، وتعريشة تضم البازلاء الحلوة وياسمين البر، وأعشاب وزهور في أصص. وللمرة الأولى في حياتها، وعلى نحو محدود للغاية، اهتمت بالبستنة كما فعل والدها.
في بعض الأحيان، يستوقفها الناس - في المتاجر أو في حافلة الحرم الجامعي - «عذرا ولكن وجهك مألوف.» أو «أولست السيدة التي كانت تظهر في التليفزيون؟» ولكن بعد عام تقريبا لم تعد تمر بهذه المواقف. أمضت كثيرا من الوقت في الجلوس والقراءة وشرب القهوة على طاولات المقاهي على جوانب الطرقات، ولم يكن أحد يلاحظها. تركت شعرها ينمو؛ فخلال السنوات التي ظلت تصبغه فيها باللون الأحمر فقد الحيوية التي كان يستمدها من لونه البني الطبيعي؛ كان بنيا مشوبا بالفضي الآن، جميلا ومتموجا. لقد ذكرها بوالدتها سارة. شعر سارة الناعم الجميل المتطاير والذي صار رماديا ثم أبيض.
لم تعد لديها مساحة كافية كي تدعو الناس للعشاء، وكذلك فقدت اهتمامها بوصفات الطبخ. كانت تتناول الوجبات المغذية بالقدر الذي يكفي ولكنها مملة. ودون أن تتعمد هذا، فقدت اتصالها بمعظم أصدقائها.
لم يكن هذا مستغربا؛ حيث إنها تعيش الآن حياة مختلفة تماما عن حياة المرأة الشهيرة كشخصية عامة مفعمة بالحيوية وتمتلئ بالمشاغل وعلى قدر عال من المعرفة والاطلاع. أصبحت تعيش بين الكتب، وتقرأ طوال معظم ساعات يقظتها، وأرغمت على تغيير أي فرضيات كانت تملكها قبل ذلك أو التعمق فيها. وعادة ما كانت تفوتها أخبار العالم لمدة أسبوع في المرة.
تخلت عن فكرة كتابة رسالة الدكتوراه، ووجهت اهتمامها للروائيين الإغريق، الذين كتبوا في وقت متأخر من تاريخ الأدب الإغريقي (بدءا من القرن الأول قبل الميلاد وحتى بداية العصور الوسطى)؛ أريستيدس، لونجس، هليودورس، أخيل تاتيوس. وقد فقدت معظم أعمالهم أو وجدت غير كاملة، وقد اتصفت بالفحش. ولكن هناك رواية رومانسية كتبها هليودورس وتسمى إثيوبيكا أو (الإثيوبية) كانت توجد في الأصل في مكتبة خاصة واستعيدت في حصار بوذا، وكانت قد عرفت في أوروبا منذ أن طبعت في بازل في 1534.
في هذه القصة أنجبت ملكة إثيوبيا طفلة بيضاء، وخشيت أن تتهم بالزنا؛ لذا وهبتها ليرعاها طائفة الفلاسفة العراه الذين كانوا نساكا وصوفيين. أخذت الفتاة التي كانت تدعى خاريكليا في النهاية إلى دلفي؛ حيث أصبحت واحدة من كاهنات أرتيمس. وهناك قابلت نبيلا من ثيساليا يدعى تياجنيس، والذي وقع في حبها، وبمساعدة رجل مصري ذكي تمكن من اختطافها. واتضح أن الملكة الإثيوبية لم تنس قط ابنتها، وكانت قد استعانت بهذا المصري كي يبحث عنها. وتواصلت الأحداث المأساوية والمغامرات حتى التقت كل الشخصيات الرئيسية في مروي (المدينة القديمة على الضفة الشرقية من نهر النيل)، وتنقذ خاريكليا - مرة ثانية - عندما كان أبوها على وشك التضحية بها.
كانت القصة حافلة بالأفكار المثيرة، وقد أبهرت جولييت حقا على نحو مستمر؛ وخاصة هذا الجزء الخاص بطائفة الفلاسفة العراة. حاولت أن تعرف أكبر قدر من المعلومات عن هؤلاء الأشخاص، الذين عرفوا باسم فلاسفة الهندوس. هل ساد اعتقاد وقتها بأن الهند قريبة من إثيوبيا؟ لا، لقد أتى هليودورس متأخرا كفاية ليعلم جغرافية عصره أفضل من هذا؛ فكان الفلاسفة العراة يهيمون على وجوههم في كل مكان، وينتشرون في مناطق بعيدة، جاذبين ومنفرين هؤلاء الذين كانوا يعيشون بينهم بتفانيهم الشديد لطهارة الحياة والفكر، وازدرائهم للمقتنيات، بل وحتى الملابس والطعام. ونشأة فتاة جميلة بينهم قد يخلف اشتياقا لاأخلاقيا إلى حياة الفجور الماجنة.
تعرفت جولييت على صديق جديد يدعى لاري. كان يدرس اليونانية، وسمح لجولييت بتخزين صناديقها في قبو منزله. كان يحب أن يتخيل كيف يمكن تحويل رواية إثيوبيكا إلى مسرحية غنائية، شاركته جولييت خياله هذا، لدرجة أنها ألفت الأغاني السخيفة للمسرحية ومؤثرات المسرح التي تبدو مستحيلة، ولكنها كانت تنزع سرا لوضع نهاية مختلفة، نهاية تنطوي على نكران للذات، وتنقيب في الماضي؛ حيث تحرص الفتاة على مقابلة بعض المحتالين والمشعوذين والدجالين ومحاكاة رثة لما كانت تبحث عنه حقا. إنها النهاية التي تنطوي على تصالح، في النهاية، مع ملكة إثيوبيا الآثمة والنادمة ذات القلب الكبير. •••
كانت جولييت شبه واثقة أنها رأت الأم شيبتون هنا في فانكوفر. كانت قد أخذت بعض الملابس التي لن ترتديها ثانية أبدا (فأصبحت خزانة ملابسها مليئة فقط بالملابس العملية) إلى متجر جماعة جيش الخلاص المسيحية، وبينما كانت تضع الحقيبة في غرفة الاستقبال، رأت امرأة بدينة عجوزا ترتدي ثوبا فضفاضا. كانت السيدة تتحدث مع العاملين الآخرين في المتجر. بدت وكأنها مشرفة عليهم؛ إذ كانت مرحة ولكنها متيقظة - أو ربما كانت تنتحل هذا الدور سواء أكانت تتقلده رسميا أم لا.
فإن كانت الأم شيبتون في الحقيقة فعلا، فقد ساءت أحوالها في الحياة، ولكن ليس كثيرا؛ فإن كانت هي، ألن يكون لديها مخزون كاف من الرضا عن الذات ومما ينقذها لتجعل مثل هذا الانحدار مستحيلا؟
ومخزون من النصائح، النصائح الخبيثة، أيضا.
تذكرت قولها: «ولكنها أتت إلى هنا وهي تشعر بنهم بالغ.» •••
أخبرت جولييت لاري عن بينيلوبي؛ فكان لا بد أن يكون هناك من يعرف عن الأمر في حياتها. قالت: «أكان ينبغي لي التحدث معها عن الحياة النبيلة؟ التضحية؟ تكريس حياتك لاحتياجات الآخرين؟ لم يسبق لي التفكير في هذا. لا بد وأنني تصرفت كما لو أنه كان ينبغي لها أن تصبح مثلي. هل أثار هذا سقمها؟» •••
كان لاري رجلا لا يرغب في أي شيء من جولييت سوى صداقتها وحسها المرح. كان ما اعتاد الناس أن يسموه العازب عتيق الطراز، لاجنسيا بقدر معرفتها (ولكنها على الأرجح لا يمكنها التأكد من هذا)، شديد الحساسية تجاه البوح بالأسرار الشخصية، ومسليا إلى أقصى حد.
ظهر في حياتها رجلان آخران كانا يريدانها رفيقة. قابلت أحدهما بينما كانت تجلس على طاولة المقهى التي اعتادت الجلوس عليها. كانت زوجته قد توفيت مؤخرا. راق لها، ولكن وحدته كانت فجة، وكان يطاردها في يأس حتى إنها انزعجت منه.
كان الرجل الآخر هو شقيق كريستا، الذي كانت قد قابلته عدة مرات في حياة كريستا. كانت تحب صحبته - فكان يشبه كريستا في مناح عديدة. انتهى زواجه قبل فترة طويلة، ولم يكن يائسا - فعلمت من كريستا أن ثمة سيدات كن يرغبن في الزواج منه، ولكنه كان يتجنبهن. بيد أنه كان متعقلا للغاية، واختياره لها دنا من أن يكون متعمدا ومدروسا، فكان ينطوي على شيء مخز.
ولكن لماذا يكون مخزيا؟ فهي لا تحبه أو شيء من هذا القبيل.
وفي حين كانت لا تزال تربطها علاقة بشقيق كريستا - كان اسمه جاري لامب - قابلت هيذر مصادفة، في أحد شوارع وسط المدينة في فانكوفر. كانت جولييت وجاري خارجين لتوهما من السينما بعد أن شاهدا فيلما عرض في حفلة المساء المبكرة، وكانا يتفقان حول المكان الذي سيذهبان إليه لتناول العشاء. كانت ليلة دافئة من ليالي الصيف، ولم يكن ضوء النهار قد ذوى تماما من السماء.
انفصلت سيدة عن مجموعة كانت تقف معها على الرصيف وتوجهت مباشرة صوب جولييت. كانت امرأة نحيفة، في أواخر الثلاثينيات تقريبا، ترتدي ملابس مسايرة للموضة ويتخلل شعرها الداكن خصلات ملونة. «سيدة بورتيوس. سيدة بورتيوس.»
تعرفت جولييت على الصوت، ولكنها لم تتعرف قط على الوجه. إنها هيذر.
قالت هيذر: «لا أصدق. أنا هنا لثلاثة أيام وسوف أغادر غدا، وزوجي في مؤتمر. كنت أظن أنني لم أعد أعرف أي أحد هنا ثم استدرت ورأيتك أمامي.»
سألتها جولييت أين تعيش الآن، وأخبرتها أنها تقطن في كونيتيكت. «ومنذ ثلاثة أسابيع فقط كنت أزور جوش - أتذكرين أخي جوش؟ - كنت أزور أخي جوش وأسرته في إدمنتون وقابلت بينيلوبي مصادفة، في الشارع تماما هكذا. لا ... في الواقع كان هذا في المركز التجاري؛ ذلك المركز التجاري الضخم لديهم هناك. كان معها أطفالها، فقد أخذتهم لشراء الزي الرسمي للمدرسة التي يذهبون إليها. الأولاد. كنا مذهولتين حقا. لم أعرفها على الفور ولكنها عرفتني. لقد انتقلت جنوبا لتعيش هناك بالطبع، بعد أن كانت في الشمال، ولكنها قالت إنه مكان راق للغاية في الواقع، وأخبرتني أنك ما زلت تعيشين هنا، ولكني بصحبة هؤلاء الأشخاص - إنهم أصدقاء زوجي - ولم يسنح لي وقت للاتصال بك.»
أشارت جولييت إلى أنه بالطبع لن يكون لديها متسع من الوقت، وأنها لم تكن تتوقع منها الاتصال.
سألت هيذر عن عدد أطفالها. «ثلاثة. إنهم جميعا وحوش. أتمنى لو يكبروا سريعا. ولكن حياتي هي مجرد نزهة مقارنة بحياة بينيلوبي؛ فلديها خمسة.» «نعم.» «علي الذهاب الآن، فنحن ذاهبون لمشاهدة فيلم لا أعرف شيئا عنه، ولا أحب حتى الأفلام الفرنسية، ولكني سعيدة للغاية لمقابلتك بهذه الطريقة. لقد انتقل أبي وأمي ليعيشا في وايت روك، وقد اعتادا مشاهدتك طوال الوقت على التليفزيون، وكانا يتفاخران أمام أصدقائهما أنك عشت في منزلنا. يقولان إنك لا تظهرين بعد الآن على التليفزيون، هل مللت من هذا العمل؟» «شيء من هذا القبيل.» «أنا آتية، أنا آتية.» عانقت جولييت وقبلتتها بالطريقة التي يتبعها الجميع الآن، وركضت للحاق برفاقها. •••
إذن، بينيلوبي لم تكن تعيش في إدمنتون، بل انتقلت من الشمال إلى إدمنتون. انتقلت من الشمال؛ وهذا يعني أنها كانت تعيش إما في وايت هورس أو يلو نايف. فأي مكان آخر يمكن وصفه بأنه راق للغاية؟ ربما كانت تستخدم أسلوبا ساخرا، قاصدة خداع هيذر قليلا بقولها هذا.
كان لديها خمسة أطفال، وكان اثنان منهم على الأقل صبيانا. كانت تبتاع لهم زي المدرسة؛ وهذا يعني أنهم في مدرسة خاصة، وهذا يعني أنها ميسورة الحال.
قالت هيذر إنها لم تعرفها في البداية. هل يعني هذا أن علامات التقدم في العمر ظهرت على وجهها؟ وأنها فقدت رشاقتها بعد إنجابها خمسة أطفال؟ وأنها لم تعد تهتم بمظهرها كما كان حال هيذر، وكما هو حال جولييت، إلى حد ما؟ أكانت واحدة من هؤلاء النساء اللاتي بدت لهن فكرة مثل هذه المعاناة سخيفة وأنها بمثابة اعتراف بالشعور بعدم الأمان؟ أو أنه مجرد شيء ليس لديها وقت له - بعيد كل البعد عن تفكيرها؟
ظنت جولييت أن بينيلوبي تعتنق الفلسفة الخارقة للطبيعة، أو صارت صوفية وتقضي حياتها في التأمل، أو أنها - وهو النقيض ولكنه ما زال أمرا بسيطا وشجاعا إلى حد متطرف - تكسب عيشها من خلال خوض حياة صعبة ومحفوفة بالمخاطر، ربما من خلال الصيد مع زوجها، وربما أيضا مع بعض الأطفال الصغار أقوياء البنية، في المياه الباردة في إنسايد باسيدج عند ساحل بريتيش كولومبيا.
ربما كل هذه مجرد أوهام. يحتمل أنها تعيش حياة عملية ومزدهرة كامرأة متزوجة؛ فربما تكون متزوجة من طبيب أو من أحد هؤلاء الموظفين المدنيين الذين يديرون الأجزاء الشمالية من البلاد خلال الوقت الذي يتم فيه نقل سلطاتهم، تدريجيا وبحذر، لأهل البلد دون أن يخلو الأمر من بعض الجلبة. إن قدر لها مقابلة بينيلوبي ثانية فسوف تضحكان من الأفكار الخاطئة التي راودت جولييت. وعندما تحكيان عن مقابلتهما لهيذر، ومدى غرابة هذا، فسوف تضحكان.
لا، لا. الحقيقة أنها ضحكت بالفعل على كثير من الأمور المتعلقة ببينيلوبي؛ فالعديد من الأشياء كانت مجرد مزحة، تماما كما كانت أشياء أخرى عديدة - أمور شخصية، حكايات عاطفية لا تعدو كونها مجرد نزوات - مجرد مآس. لقد كانت تفتقر إلى ضوابط الأمهات والكياسة وضبط النفس.
قالت بينيلوبي إنها - جولييت - ما زالت تعيش في فانكوفر. إنها لم تخبر هيذر أي شيء عن انقطاع علاقتهما. بالطبع لا؛ فإن أخبرتها بهذا، لما تحدثت معها هيذر بهذه السلاسة.
كيف عرفت بينيلوبي أنها لا تزال تقيم هنا، إلا إذا كانت قد تفقدت دليل الهاتف؟ وإن كانت قد فعلت، ما الذي يعنيه هذا؟
لا شيء. لا تجعليه يعني أي شيء.
سارت وهي تكبح زمام نفسها لتنضم إلى جاري، الذي ابتعد بلباقة عن مشهد لم الشمل .
وايت هورس، يلو نايف. كان مؤلما معرفة أسماء هذه الأماكن؛ فهي أماكن يمكنها السفر إليها؛ أماكن يمكنها التسكع في شوارعها، ووضع خطط لتلقي نظرات خاطفة على ابنتها.
ولكنها لم تكن معتوهة إلى هذا الحد. يجب ألا تكون معتوهة إلى هذا الحد.
وعلى العشاء، ظنت أن الخبر الذي استوعبته لتوها وضعها في موقف أفضل للزواج من جاري، أو الانتقال لتعيش معه - حسبما يريد. لم يكن هناك شيء تقلق بشأنه، أو تنتظره، فيما يتعلق ببينيلوبي؛ فلم تكن بينيلوبي شبحا، كانت آمنة، مثلها مثل أي شخص آخر، وسعيدة مثل أي شخص آخر. لقد فصلت نفسها عن جولييت، ويحتمل أيضا عن ذكراها، ولم يكن على جولييت سوى أن تفصل نفسها عنها هي الأخرى.
ولكنها أخبرت هيذر أن جولييت كانت تعيش في فانكوفر. هل قالت جولييت؟ أم أمي؟
أخبرت جولييت جاري أن هيذر كانت ابنة أصدقاء قدامى. لم يسبق لها التحدث معه قط عن بينيلوبي، ولم تكن ثمة إشارة تدل على معرفته بوجود بينيلوبي من الأساس. ربما تكون كريستا قد أخبرته، وظل هو صامتا معتبرا أن هذا ليس من شأنه، أو ربما تكون كريستا قد أخبرته، ونسي الأمر، أو أن كريستا لم تخبره بأي شيء عن بينيلوبي، ولا حتى اسمها.
إن انتقلت جولييت لتعيش معه، فلن تأتي على ذكر بينيلوبي أبدا، ولن يصبح لها وجود.
وبينيلوبي لم يكن لها وجود؛ فالابنة التي عرفتها جولييت رحلت، والمرأة التي رأتها هيذر في إدمنتون، الأم التي اصطحبت أطفالها لتشتري لهم زي المدرسة، والتي تغير وجهها وجسدها حتى إن هيذر لم تعرفها، لم تكن شخصا تعرفه جولييت.
هل تصدق جولييت هذا؟
إن كان جاري قد لاحظ أنها غاضبة فقد تظاهر بأنه لا يلاحظ شيئا، ولكن في هذه الليلة على الأرجح أدرك كلاهما أنهما لن يظلا معا؛ فلو كان هناك أمل في استمرار علاقتهما، لكانت أخبرته: «رحلت ابنتي دون أن تودعني، حقيقة هي لم تكن تعلم في الغالب حينئذ أنها راحلة. لم تعلم وقتها أنها كانت سترحل للأبد، وأعتقد أنها بدأت تدرك تدريجيا أنها تريد أن تظل بعيدة. إنها مجرد طريقة وجدتها لتتولى أمور حياتها.» «ربما لا تستطيع مواجهتي وتفسير الأمر لي، أو لم يكن لديها وقت لذلك. كما تعلم نحن عادة ما نعتقد أن هناك هذا السبب أو ذاك ولا نتوقف عن محاولة إيجاد أسباب، ويمكنني أن أخبرك الكثير عن الأخطاء التي ارتكبتها، ولكني أعتقد أن السبب ربما يكون شيئا من السهل معرفته. شيء من قبيل طبيعتها النقية. نعم؛ فهي تتمتع بالنقاء والصرامة والطهارة والصدق الشديد. اعتاد أبي أن يقول عن شخص يبغضه إنه لا يحتاجه ولا يحبه. ألا يمكن أن تعني هذه الكلمات ببساطة معناها الظاهري؟ نعم، بينيلوبي لا تحتاجني ولا تحبني، وربما لا تطيقني. هذا محتمل.» •••
كان لدى جولييت أصدقاء، ورغم أنها ليس لديها الكثير منهم الآن، ولكنهم يظلون أصدقاء. واصل لاري زيارتها والمزاح معها، وواصلت هي دراساتها. وكلمة دراسات لا تبدو أنها تصف بدقة ما تفعله؛ فاستقصاءات هي الكلمة الأفضل.
ولأنها كانت بحاجة للمال؛ فقد كانت تعمل بضع ساعات كل أسبوع في المقهى الذي اعتادت الجلوس على طاولته على جانب الشارع. وجدت أن هذا العمل يحقق توازنا جيدا مع انخراطها مع الإغريق القدماء - إلى حد كبير - حتى إنها اعتقدت أنها لن تتركه حتى لو تحسنت أوضاعها المالية.
ظلت تأمل أن تتصل بها بينيلوبي، ولكن ليس بأي جهد من جانبها؛ فهي تتمنى كما يتمنى الناس الأكثر حكمة أن ينالوا نعما لا يستحقونها، وغفرانا عفويا، وأشياء من هذا القبيل.
عاطفة
منذ فترة ليست ببعيدة، ذهبت جريس للبحث عن منزل آل ترافرس الصيفي بوادي أوتاوا. لم تأت لهذا الجزء من المدينة منذ عدة سنوات، وبالطبع كان هناك العديد من التغييرات؛ فأصبح الطريق السريع 7 الآن لا يمر من خلال العديد من المدن التي كان يمر من خلالها مباشرة، وأضحى يقطع مباشرة الأماكن التي تذكر أنها كانت عبارة عن منعطفات. ويحتوي هذا الجزء من الدرع الكندي على العديد من البحيرات الصغيرة التي لا يوجد لها مكان على الخريطة ليحددها. وحتى عندما استطاعت تحديد بحيرة ليتل سابوت - أو هكذا اعتقدت - بدا أن هناك العديد من الطرق التي تؤدي إليها من خلال طريق المقاطعة، ثم عندما اختارت أحد هذه الطرق، كان هناك العديد من الطرق الممهدة التي تقطعه، وكلها تحمل أسماء لا تستطيع تذكرها. في الواقع لم يكن هناك أي أسماء لشوارع عندما جاءت هنا منذ أربعين عاما، ولا أي طرق ممهدة أيضا. لم يكن هناك سوى طريق واحد غير ممهد يمتد باتجاه البحيرة، ثم طريق آخر غير ممهد يمر على نحو عشوائي على حافة البحيرة.
أما الآن فتوجد قرية، أو يمكن أن يطلق عليها ضاحية؛ لأنها لم تلمح أي مكتب للبريد بها، أو حتى أي متجر من المتاجر المتواضعة. وتقع المستوطنة على بعد أربعة أو خمسة شوارع للداخل بعيدا عن البحيرة؛ حيث تضم بعض المنازل الصغيرة التي يصطف بعضها بالقرب من بعض على قطع أرض صغيرة. كان بعضها بلا شك عبارة عن أماكن لقضاء فصل الصيف؛ فالنوافذ مغلقة ومغطاة بألواح خشبية، وهذا ما يفعله الناس في العادة قبل حلول فصل الشتاء. لكن ثمة العديد من المنازل الأخرى التي دل مظهرها على أن سكانها مقيمون بها طوال العام؛ حيث كان بعض الأشخاص يملئون أفنيتها بأجهزة الألعاب الرياضية البلاستيكية الملونة، وأدوات الشواء في الهواء الطلق، والدراجات الثابتة، والدراجات البخارية، وطاولات الرحلات التي جلس قبالتها البعض يتناولون الغداء أو يحتسون الجعة في هذا اليوم من أيام شهر سبتمبر حيث ما زال الطقس دافئا. وكان يقطنها أيضا أناس آخرون لا يراهم الناس كثيرا؛ علهم كانوا طلبة أو بعض الهيبيز الذين يعيشون بمفردهم، وقد وضعوا الأعلام أو رقائق القصدير لتحل محل الستائر. كانت هذه البيوت صغيرة، ذات مستوى لائق في أغلبها، زهيدة الثمن، وقد عولج بعضها لتحمل فصل الشتاء، بينما لم يعالج البعض الآخر.
كانت جريس ستقرر أن تعود أدراجها إن لم تجد المنزل ذا الثماني زوايا، المزين سقفه بالنقوش الشبكية، والذي يحتوي على أبواب في أربعة جدران، وهذا هو منزل آل وودز. كانت دوما ما تذكر أنه كان يحتوي على ثمانية أبواب، لكن يبدو أنها كانت أربعة فقط. في الواقع هي لم تدلف إلى داخل المنزل قط لترى كيف كان ذلك أو ما إذا كانت مساحته مقسمة إلى حجرات. إنها لا تعتقد أيضا بأن هناك أحدا من عائلة ترافرس قد دخل إلى هذا المنزل من قبل كذلك. وكان المنزل محاطا بكم كبير من الشجيرات التي تشكل سياجا - كانت كذلك فيما مضى - وبشجرة الحور الرائعة التي كانت تصدر حفيفا عندما تهزها الرياح وقت هبوبها بطول الشاطئ. كان السيد والسيدة وودز متقدمين في العمر - كما هو حالها الآن - ويبدو أنهما لم يكن يزورهما أي من الأصدقاء أو الأبناء، وقد بدا على منزلهم ذي الأصالة والطراز الغريب مظهر بائس كأنه مهجور؛ فكان الجيران يراكمون حول أحد جوانب المنزل المسجلات الموسيقية الضخمة، وفي بعض الأحيان أجزاء مفككة من عرباتهم وألعابهم، وغسيلهم.
أصبح هذا هو الحال الآن مع منزل ترافرس أيضا حينما عثرت عليه على مسافة ربع ميل أو نحو ذلك على طول هذا الطريق. أصبح الطريق يمر بجواره الآن، بعدما كان ينتهي عنده من قبل. أما المنازل التي تقع على جانبيه فتبعد أقداما قليلة عن الشرفة الواسعة الملتفة حول المنزل.
كان أول منزل تراه جريس مصمما بهذه الطريقة؛ فهو يرتفع لطابق واحد، يمتد سقفه دون انفصال فوق الشرفة المحيطة به على كافة الجوانب، لكنها رأت فيما بعد مثل هذا التصميم في أستراليا، وهو تصميم يجعلك تفكر في شدة حرارة فصول الصيف.
وكان من الممكن في السابق الانتقال من الشرفة عبر النهاية المغبرة لطريق السيارات، ثم عبر رقعة من الأرض الرملية المليئة بالأعشاب والتوت البري - وهي أيضا من ممتلكات آل ترافرس - ثم القفز - بل في الواقع الخوض - في البحيرة. أما الآن فيمكنك بالكاد رؤية البحيرة بسبب ذلك البيت الضخم؛ وهو واحد من بعض منازل الضواحي القليلة هنا، الذي يحوي مرأبا للسيارات يسع سيارتين، وقد تم بناؤه عبر ذلك الطريق.
لكن ما الذي كانت تبحث عنه جريس عندما قررت أن تقوم بتلك الرحلة الاستكشافية؟ ربما الشيء الأسوأ هو أن تحصل على ما اعتقدت أنها تبحث عنه وتريده. بيت ذو سقف جميل يظلله، ونوافذ ذات ستائر، والبحيرة ممتدة أمامه، وخلفه تقف أشجار القيقب، والأرز، وبلسان جلعاد. أن تظل آثار الماضي محمية جيدا، ويظل كما هو دون أن يمسه أحد بتغيير، بينما لا ينطبق ذلك عليها هي. أن تجد شيئا قد تضاءل بشدة، فرغم أنه موجود فإنه استبعد - كما هو الحال مع منزل ترافرس الآن، بنوافذه الإضافية الناتئة من السقف المائل، وطلائه الأزرق المفزع - أمر قد يقل إيلامه على المدى الطويل.
لكن ماذا لو اكتشفت أن كل شيء زال تماما؟ قد تحدث جلبة وضجيجا. وإذا ما أتى أحد وأنصت إليك، فستنوح باكيا على الخسارة، لكن ألن يجتاحك شعور بالراحة؛ لأن أسباب الارتباك القديمة وبعضا من جوانب الالتزام تلاشت؟ •••
كان السيد ترافرس قد شيد ذلك المنزل، أو بالأحرى أمر ببنائه كهدية زواجه من السيدة ترافرس، وجعله مفاجأة لها. وعندما رأته جريس لأول مرة، كان قد مر على بنائه نحو ثلاثين عاما. كان ثمة تباعد بين أبناء السيدة ترافرس في أعمارهم على نحو كبير؛ جريتشن تبلغ الثامنة والعشرين أو التاسعة والعشرين من عمرها، وهي الآن متزوجة وصارت أما، أما موري فيبلغ الحادية والعشرين، وهو يمضي آخر عام له بالجامعة. ثم هناك نيل وهو في منتصف الثلاثينيات، لكن نيل لا ينتمي لعائلة ترافرس. إنه يدعى نيل بورو؛ إذ كانت السيدة ترافرس متزوجة من قبل، وتوفي زوجها، فعملت كمدرسة للغة الإنجليزية المختصة بأغراض التجارة في أحد معاهد السكرتارية؛ لتكسب عيشها وتتمكن من الإنفاق على طفلها. وكان السيد ترافرس عندما يشير إلى تلك الفترة من حياتها قبل أن يلتقي بها يصفها بأنها فترة من الكد والتعب تشبه عقوبة الأشغال الشاقة، وهي فترة يصعب التعويض عنها بالعيش في دعة وراحة لبقية العمر، وهي الراحة التي وفرها لها عن رضا منه وسعادة.
لكن السيدة ترافرس ذاتها لم تتحدث عنها على هذا النحو على الإطلاق؛ فلقد عاشت مع نيل في منزل كبير مقسم إلى شقق صغيرة لا يبعد كثيرا عن خطوط السكك الحديدية في مدينة بمبروك. أما القصص التي كانت ترويها على العشاء، فكانت تتناول بعض المواقف والأحداث التي مرت بها هناك؛ سواء عن جيرانها من المستأجرين، أو المالك الكندي ذي الأصول الفرنسية التي كانت تقوم بتقليد لهجته الفرنسية الحادة المتداخلة مع لغته الإنجليزية. وقد تحمل هذه الأقاصيص بعض الأسماء؛ مثل قصص ثيربر التي قرأتها جريس في «مختارات من الفكاهة الأمريكية»، التي كانت موجودة دون سبب واضح على أحد أرفف المكتبة في نهاية فصلها بالصف العاشر (كان هناك أيضا على ذلك الرف رواية «آخر البارونات»، ورواية «العامان الأخيران قبل تنكيس العلم»). «الليلة التي خرجت فيها السيدة كرومارتي العجوز إلى سطح المنزل»، «كيف غازل ساعي البريد الآنسة فلاورز»، «والكلب الذي التهم السردين.»
أما السيد ترافرس فلم يكن يروي أي أقاصيص، ولم يكن لديه الكثير ليقوله على العشاء، لكن إن حدث وشاهدك على سبيل المثال وأنت تتطلع إلى المدفأة المصنوعة من الأحجار، فربما يقول لك: «هل أنت مهتم بالصخور؟» ثم يشرع في إخبارك عن المكان الذي أتت منه كل صخرة، وكيف أضناه البحث عن الجرانيت ذي اللون الوردي؛ لأن السيدة ترافرس قد تعجبت ذات مرة من صخرة تشبهها كانت لمحتها على جانب الطريق، أو قد يعرض عليك بعض السمات التي لا تعد غير اعتيادية والتي قام هو نفسه بإضافتها إلى تصميم المنزل؛ مثل أرفف الخزانة التي تتدلى للخارج في زاوية المطبخ، ومساحة التخزين التي أضافها أسفل المقاعد الموضوعة تحت النوافذ. كان السيد ترافرس رجلا طويل القامة، به بعض التحدب، ذا صوت هادئ، وشعر خفيف ينسدل بنعومة فوق فروة رأسه. كان يرتدي حذاء الاستحمام عندما كان يذهب للسباحة، وبالرغم من أنه لم يكن يبدو ممتلئا في ملابسه المعتادة، فكانت تظهر تراكمات من اللحم الأبيض متدلية أعلى سروال السباحة القصير. •••
عملت جريس هذا الصيف في النزل القابع في بيليز فولز شمال بحيرة ليتل سابوت. وكانت عائلة ترافرس قد ذهبت لتناول العشاء هناك ذات مرة في بداية فصل الصيف، لكنها لم تلحظ وجودهم؛ فلم يجلسوا على إحدى الطاولات التي تقع في نطاق خدمتها، وكانت تلك الليلة مزدحمة؛ فكانت تقوم بإعداد إحدى الموائد من أجل مجموعة جديدة عندما أدركت أن هناك شخصا يريد التحدث إليها.
وكان موري. قال: «أتساءل إن كنت تودين أن نخرج معا في وقت ما؟»
كانت جريس نادرا ما ترفع بصرها وهي تقوم بوضع أدوات المائدة الفضية على المائدة. قالت: «أذلك رهان؟» فقد كان صوته عاليا يشوبه بعض التوتر، وكان متسمرا في مكانه دون حراك، وبدا وكأنه يجاهد ليجبر نفسه على ذلك. وكان من المعروف أنه في بعض الأحيان قد تقوم مجموعة من الشباب الذين يقطنون في بعض الأكواخ المجاورة بالمراهنة فيما بينهم على التجرؤ على دعوة إحدى النادلات للخروج معهم. ولا يكون الأمر مجرد مزحة؛ فالشخص الذي طلب إليها الخروج يأتي عادة في الموعد إذا ما وافقت هي على ذلك، لكنه قد يقصد في بعض الأحيان الجلوس معها في السيارة قليلا، ولا يدعوها لمشاهدة أحد الأفلام أو حتى لتناول القهوة؛ لذا كان قبول هذه الدعوة أمرا مخزيا، بل وقاسيا، لأي فتاة.
قال بألم: «ماذا؟» توقفت جريس عما تفعله، ونظرت نحوه. بدا لها أنها كشفت شخصيته في تلك اللحظة؛ شخصية موري الحقيقية؛ خائف، عنيف، ساذج، ذو عزم وتصميم.
ردت بسرعة: «حسنا.» ربما كانت تعني حسنا، اهدأ، أعلم أنه ليس رهانا، أعلم أنك لا تفعل ذلك. أو ربما كانت حسنا، سأذهب معك. هي نفسها كانت بالكاد تعرف مقصدها، لكنه اعتبر الكلمة موافقة على اللقاء، وعلى الفور رتب معها - دون أن يخفض من صوته، أو يلمح نظرات الجالسين على الطاولات المحيطة بهما - بأنه سيمر لاصطحابها في اليوم التالي بعد انتهاء عملها.
وبالفعل، اصطحبها إلى السينما، وشاهدا فيلم «أبو العروسة». وقد كرهته جريس؛ كرهت الفتيات أمثال إليزابيث تيلور في ذلك الفيلم؛ فقد كانت تكره الفتيات الغنيات المدللات، اللاتي لا يطلب منهن شيء، لكنهن من يتدللن ويطلبن ما يشأن. فقال موري إنها فقط نوع من الكوميديا، فأجابته جريس إن ذلك ليس هو المقصد، لكنها لم توضح مقصدها. وقد يعتقد أي شخص أنها تقول ذلك لأنها تعمل نادلة، ولأنها فقيرة بدرجة منعتها من الالتحاق بالجامعة، وأنها إن أرادت أن تحظى بزفاف كهذا، فعليها أن تمضي سنوات تدخر النقود حتى تتمكن من إقامة واحد مثله وتسدد هي ثمنه (وقد كان هذا أيضا رأي موري، وغمره شعور بالاحترام تجاهها، بل ربما وصل شعوره إلى درجة التبجيل).
لم تستطع أن تشرح، أو تفهم تماما، أنه ليس الشعور بالغيرة الذي انتابها على الإطلاق، إنما هو الغضب الشديد. ولم يكن منبع ذلك الغضب عدم مقدرتها على التسوق بهذه الطريقة، أو أنها لا تستطيع أن ترتدي مثل ذلك، لكن لأن هذا ما يفترض الآخرون أن تكون عليه الفتيات؛ وهو ما يعتقد الرجال، والناس أجمعين، أنه ما ينبغي أن تكون عليه أي فتاة؛ جميلة، غنية، مدللة، محبة لذاتها، ولا تتسم بأي نوع من الذكاء. هذا ما يجب أن تتصف به الفتاة حتى تجد من يقع في حبها، ثم تصبح أما فيما بعد وتكرس كل مشاعرها لأطفالها؛ وحينها لا تتسم بالأنانية، إنما بالحماقة والغباء، إلى الأبد.
كانت تستشيط غضبا بسبب ذلك بينما تجلس بجانب صبي أحبها لأنه آمن، على الفور، بتكامل عقلها وروحها وتفردهما، ورأى أن فقرها أضاف لمحة من الرومانسية على ذلك (لقد أدرك أنها فتاة فقيرة ليس فقط بسبب عملها كنادلة، وإنما للهجة أهل وادي أوتاوا الواضحة التي تتحدث بها، والتي لم تنتبه إليها إلى الآن).
احترم مشاعرها تجاه الفيلم؛ والآن وبعد أن أصغى لمحاولاتها وهي غاضبة لتفسير وجهة نظرها، جاهد هو الآخر لأن يقول لها شيئا في المقابل. قال إنه يرى الآن أن ما تشعر به ليس شيئا بسيطا، شيئا أنثويا للغاية، كالغيرة. لقد رأى ذلك؛ رأى أنها ليست في موضع تنافس مع الأخريات، ولا ترضى بأن تكون مثلها مثل الأخريات. إنها مميزة.
ظلت جريس تذكر دوما ما كانت ترتديه في تلك الليلة؛ تنورة مثل تنورات لاعبات الباليه ذات لون أزرق داكن، كنزة بيضاء تستطيع أن تلمح الجزء العلوي من صدرها من خلال عروات الأزرار ذات الكشكشة، وحزاما مطاطيا عريضا وردي اللون. كان هناك، بلا شك، تناقض شديد بين الأسلوب الذي قدمت به نفسها وبين الأسلوب الذي تريد أن يحكم به الآخرون من خلاله عليها. ولم يك ثمة شيء جميل، أو لافت، أو مبهر بشأن طريقة ملبسها إذا ما قارناه بأسلوب ذلك الوقت؛ فكانت ملابسها المهترئة قليلا عند أطرافها في الواقع قد أصبغت عليها مظهر الغجر، وهو ما أكده ذلك السوار الفضي الزهيد، وشعرها البربري الداكن الطويل المجعد، الذي كانت تعقصه بمشبك عند خدمتها للطاولات أثناء عملها.
كانت مميزة.
حكى عنها لأمه التي قالت: «عليك أن تدعو هذه الفتاة جريس إلى العشاء.» •••
كان هذا الأمر جديدا عليها تماما، بل إنه أشعرها بالبهجة والسرور على الفور. إنها في حقيقة الأمر، قد وقعت في حب السيدة ترافرس كما وقع موري في حبها، ولم يكن من طبيعتها أن تبدي دهشتها وإعجابها وحبها بسهولة كما كان الحال معه. •••
تربت جريس على يد عمها وعمتها، بل في الواقع عم والدها وعمته؛ فلقد توفيت والدتها عندما كانت في الثالثة من عمرها، وانتقل والدها إلى ساسكاتشيوان؛ حيث أصبح لديه عائلة جديدة. كانت أسرتها البديلة تعطف عليها، بل وتفخر بها، رغم شعورهم ببعض الحيرة تجاهها، لكنهم لم يكونوا معتادين على التحاور. كان العم يصنع الكراسي من الخيزران ليكسب قوت يومه، وقد علم جريس كيف تقوم بذلك؛ حتى تساعده في عمله، وقد حلت محله في النهاية بعد أن ضعف بصره بشدة، لكنها حصلت بعد ذلك على عمل في بيليز فولز أثناء فصل الصيف. وبالرغم من أنه كان من الصعب عليه، وعلى عمتها أيضا، أن يدعاها تذهب، فإنهما اعتقدا أنها تحتاج لتذوق بعض من تجارب الحياة قبل أن يستقر بها المقام.
كانت تبلغ من العمر حينها عشرين عاما، وقد أنهت لتوها مدرستها الثانوية. كان من المفترض أن تنهي دراستها منذ عام مضى، لكنها اختارت شيئا غريبا؛ ففي المدينة الصغيرة جدا التي كانت تعيش فيها - وهي لا تبعد كثيرا عن بمبروك حيث تعيش عائلة ترافرس - كان هناك مدرسة ثانوية بها خمسة صفوف تؤهلك لاجتياز الاختبارات الحكومية وللشهادة التي كانت تسمى حينها الشهادة العليا لاجتياز مرحلة القبول بالجامعة. ولم يكن من الضروري دراسة كل المواد المتاحة بالمدرسة، وفي نهاية عامها الأول بالمدرسة - وهو من المفترض أنه عامها الأخير، وهو الصف الثالث عشر - اجتازت جريس اختبارات في مواد التاريخ وعلم النبات وعلم الحيوان، واللغات الإنجليزية واللاتينية والفرنسية، وحصلت على درجات عالية هي ليست بحاجة إليها. وعادت مرة أخرى إلى المدرسة في شهر سبتمبر لكي تدرس مواد الفيزياء والكيمياء وحساب المثلثات والجبر، برغم أن كل هذه المواد تعد شاقة وصعبة الفهم بالنسبة للفتيات. وعندما أنهت دراستها لهذا العام كان من المفترض أنها درست كل مواد الصف الثالث عشر فيما عدا اللغات اليونانية والإيطالية والإسبانية والألمانية، والتي لم يكن هناك أي مدرس في المدرسة يقوم بتدريسها. أبلت بلاء حسنا في كل فروع الرياضيات وفي المواد العلمية، لكن لم تكن درجاتها مبهرة مثل العام الذي قبله. وقد فكرت في أن تدرس هي بنفسها اللغات اليونانية والإسبانية والإيطالية والألمانية؛ وذلك حتى تجتاز اختبارات العام المقبل، لكن حدث أن تحدث معها مدير المدرسة، وأخبرها بأنها لن تجني شيئا من وراء ذلك طالما أنها لن تتمكن من الالتحاق بالجامعة، وعلى كل فإن أي دراسة جامعية لا تتطلب كل هذا الكم الهائل، فلم تكلف نفسها مشقة ذلك؟ هل لديها خطط معينة؟
أجابت جريس بالنفي، وأنها فقط تريد أن تتعلم كل شيء طالما أنه متاح ومجاني. وذلك قبل أن تبدأ حياتها المهنية في صنع الخيزران.
كان مدير المدرسة هو من يعرف مدير النزل، وقال إنه سيزكيها للعمل إن أرادت أن تجرب عمل الضيافة في الصيف. لقد ذكر هو الآخر مسألة تذوق خبرات الحياة.
لذا حتى الرجل المسئول عن شئون التعليم في هذا المكان لا يعتقد أن التعليم له علاقة بالحياة العملية، وكانت جريس عندما تخبر أي أحد عما اجتازته في المدرسة - حيث كانت تتحدث عن ذلك لشرح سبب تأخرها في ترك المدرسة الثانوية - تسمع عبارات من قبيل: لا بد وأنك كنت مجنونة.
كلهم قالوا ذلك فيما عدا السيدة ترافرس التي أرسلت إلى كلية الأعمال (التي تقتصر على دراسات السكرتارية والإدارة) بدلا من أن تذهب لكلية حقيقية؛ لأن من حولها أخبروها أن عليها أن تكون مفيدة، وهي التي تقول الآن إنها تتمنى لو كانت قد حشت ذهنها بدلا من هذا أو قبله بما ليس له فائدة على حد قولهم.
قالت: «ورغم ذلك كان يجب عليك بالفعل العمل لكسب قوت يومك. على العموم، فإن صنع مقاعد الخيزران يبدو أنه شيء مفيد على أي حال، وسنرى.»
نرى ماذا؟ لم تكن جريس ترغب في أن تفكر بالمستقبل على الإطلاق؛ كانت تريد أن تستمر الحياة كما هي عليه الآن، وقد استطاعت من خلال تبادل مناوبات العمل مع فتاة أخرى أن تحصل على إجازة أيام الآحاد بدءا من وقت الإفطار إلى نهاية اليوم، وكان هذا يعني أن عليها أن تعمل حتى وقت متأخر في أيام السبت. وفي حقيقة الأمر فإن هذا معناه أن تستبدل الوقت الذي تمضيه مع موري بالوقت الذي تقضيه بصحبة عائلة موري. لم يكن باستطاعتها هي وموري أن يشاهدا أي فيلم معا الآن، أو أن يتواعدا ويمضيا وقتا معا، لكنه كان يمر ليصحبها عندما ينتهي عملها في نحو الحادية عشرة مساء، ويتنزها بالسيارة، ويتوقفا لتناول الآيس كريم أو الهامبورجر؛ فقد كان موري حريصا على ألا يأخذها إلى أي من الحانات؛ لأنها لم تبلغ الحادية والعشرين بعد، ثم ينهيا رحلتهما بالتوقف بالسيارة في أي مكان.
وقد اتضح أن ذكرياتها عن الأوقات التي كانا يتوقفان فيها بالسيارة - والتي كانت تستمر حتى الواحدة أو الثانية صباحا - أكثر تشويشا من ذكرياتها عن الأوقات التي كانت تجلس فيها حول مائدة الطعام المستديرة في منزل عائلة ترافرس، أو عندما ينهض الجميع من أمام المائدة - حاملين في أيديهم أقداح القهوة أو العصائر الطازجة - ويجلسون على الأريكة المصنوعة من الجلد بلونها الداكن، أو الكراسي الهزازة ومقاعد الخيزران ذات الوسائد الوثيرة في طرف الغرفة (لم يكن هناك أي ضجة بشأن غسل الصحون أو تنظيف المطبخ؛ فهناك امرأة، تلقبها السيدة ترافرس «بصديقتي البارعة السيدة آبل»، تأتي في الصباح لتقوم بذلك).
وكان موري يجذب عادة بعض الوسائد ويضعها على السجادة ليجلس عليها، أما جريتشن - التي لم تكن ترتدي شيئا على العشاء سوى بنطالها الجينز أو سروال الجيش - فعادة ما كانت تجلس القرفصاء على أحد المقاعد العريضة. كانت هي وموري ذوي أكتاف عريضة، وقد ورثا بعضا من ملاحة أمهما؛ بشعرها المموج بلون الكراميل، وعينيها البنيتين اللتين يطل منهما الدفء. أما موري فاختص بغمازتين في وجنتيه، جعلته «وسيما» كما أطلقت عليه بعض النادلات الأخريات، وكن يطلقن صفيرا خافتا مبدين إعجابهن به. ورغم جمال السيدة ترافرس فإن طولها كان خمسة أقدام بالكاد، ولم تبد سمينة أسفل ردائها الطويل الفضفاض، وإنما ممتلئة الجسم مثل الطفل الصغير الذي لم يشب عن الطوق بعد. أما ذلك البريق ونظرات العزم والتصميم التي تطل من عينيها فلا يستطيع أحد أن يقلدها ولا يمكن توارثها، ولا حالة التفاؤل والبهجة التي تغمرها طوال الوقت. ولم يزين وجنتيها سوى ذلك الاحمرار الشديد الذي يشبه الالتهاب، والذي يحتمل أن يكون ناتجا عن خروجها مهما كانت حالة الطقس دون التفكير في حماية بشرتها. وكقوامها الممتلئ، وفستانها الفضفاض كانت بشرتها تعكس مدى شخصيتها المستقلة.
وفي بعض الأحيان يأتي بعض الضيوف، بجانب العائلة، في أمسيات الآحاد هذه. ربما يأتي زوجان، وربما شخص واحد، وفي الغالب يقاربون السيد والسيدة ترافرس في العمر وفي الشخصية؛ حيث تجد النساء تتسم بالذكاء والتحمس، بينما تجد الرجال أهدأ وأبطأ، وأكثر تسامحا. وكانوا يقصون حكايات مسلية؛ حيث كانوا يتندرون في الغالب على أنفسهم (أصبحت جريس تنهمك في الحديث لفترات طويلة الآن لدرجة أنها قد تسأم من ذاتها في بعض الأحيان، وأصبح من الصعب أن تتذكر كيف كانت تبدو تلك الحوارات على العشاء شيئا جديدا بالنسبة لها في أول الأمر. ومن حيث أتت من مدينتها الصغيرة، كانت معظم الحوارات المرحة التي تدور هناك أساسها النكات الخارجة، والتي لم يكن ليشترك فيها بالطبع عمها أو عمتها. وفي مناسبات نادرة، عندما يكون لديهم صحبة، كان الحوار يأخذ شكل إطراء على الطعام أو اعتذار عنه، أو مناقشة بشأن أحوال الطقس تصاحبها رغبة شديدة في أن تنتهي الوجبة بأسرع وقت ممكن).
وإذا ما كان الطقس باردا بعد انتهاء العشاء في منزل عائلة ترافرس، فإن السيد ترافرس يقوم بإشعال المدفأة، وكانوا يلعبون ما أسمته السيدة ترافرس «لعبة الكلمات البلهاء»، وينبغي أن يكون الأشخاص الذين يلعبونها على قدر من الذكاء، حتى لو كانوا يفكرون في تعريفات سخيفة. وأثناء اللعبة تجد الشخص الذي كان هادئا وقت العشاء وقد بدأ يشارك ويتألق، وتتولد وتبنى المناقشات الساخرة حول بعض المزاعم السخيفة اللامعقولة. كان وات زوج جريتشن يقوم بذلك، ثم أصبحت جريس تشارك أيضا، الأمر الذي أسعد السيدة ترافرس وموري (فيهتف موري مثيرا بهجة الجميع فيما عدا جريس: «أرأيتم؟ ألم أقل لكم إنها تتسم بالذكاء؟») وكانت السيدة ترافرس نفسها هي التي تقود اللعبة بتكوين الكلمات وتدافع عنها بشدة، مؤكدة على أنه لا ينبغي أن تتحول اللعبة إلى الجد، أو أن يشعر أي لاعب بالتوتر الزائد.
والمرة الوحيدة التي لم يسعد فيها أي شخص باللعبة كانت عند حضور ميفيس - زوجة نيل ابن السيدة ترافرس - لتناول العشاء. وكانت ميفيس وطفلاها لا يقطنون بعيدا؛ بل كانوا يقيمون في منزل والديها بالقرب من البحيرة. ولم يكن موجودا في تلك الليلة سوى العائلة وجريس، وكان من المتوقع أن يصطحب كل من ميفيس ونيل طفليهما الصغيرين معهما، لكن ميفيس أتت بمفردها؛ لأن نيل - الذي يعمل طبيبا - كان مشغولا في عمله في نهاية هذا الأسبوع في أوتاوا. وشعرت السيدة ترافرس بخيبة أمل، لكنها استعادت بهجتها وقالت في حيرة مرحة: «لكن الطفلين ليسا في أوتاوا بالتأكيد؟» «لا، للأسف، ولكنهما ليسا لطيفين، وأنا على ثقة من أنهما سيصيحان طوال العشاء؛ فقد أصيب الرضيع بحرارة شديدة، والله وحده يعلم ماذا ألم بمايكي.»
كانت امرأة نحيفة القوام أكسبتها الشمس لونا برونزيا، ترتدي فستانا أرجوانيا، وقد عقصت شعرها الأسود الداكن للخلف بشريط أرجواني يتناغم مع ردائها. كانت جميلة، لكن تعلو جوانب فمها علامات الضجر والاستياء. تركت معظم طعامها في الصحن، موضحة أنها مصابة بالحساسية ضد الكاري.
قالت السيدة ترافرس: «يا للأسف! أهذا شيء جديد؟» «أوه، لا، إنني مصابة به منذ سنوات، لكنني لم أكن أرفض الطعام أدبا، لكني سئمت من التقيؤ طوال الليل.» «لو أنك فقط أخبرتني بذلك، ماذا يمكنني أن أحضر لك؟» «لا تشغلي بالك، إنني على ما يرام، وليس لدي شهية للطعام على أي حال، يكفيني حرارة الأمومة ومتعتها.»
ثم أشعلت سيجارة.
وبعد فترة، وأثناء اللعبة، دخلت في نقاش مع وات بشأن أحد التعريفات التي استخدمها، وعندما أثبت المعجم أنها مقبولة قالت: «أوه، إنني جد آسفة، يبدو أنكم هزمتموني في اللعب.» وعندما حان الوقت لكي يقدم الجميع كلماتهم على قطعة من الورق للجولة القادمة، ابتسمت وهزت رأسها قائلة: «ليس لدي واحدة.»
قالت السيدة ترافرس: «أوه، ميفيس.» وقال السيد ترافرس: «هيا يا ميفيس، أي كلمة قديمة ستفي بالغرض.» «لكن ليس لدي أي كلمة قديمة، إنني آسفة، إنني أشعر بالغباء الليلة. يمكنكم أنتم اللعب وسوف أشاهدكم.»
كان هذا هو ما قاموا به بالفعل، وتظاهر الجميع أنه ليس ثمة مشكلة، بينما راحت ميفيس تنفث سيجارتها، واستمرت ترسم ابتسامتها التي تشي بإصرار عن عدم سعادتها وضيقها. وخلال فترة وجيزة، نهضت وقالت إنها تشعر بتعب شديد، وإنها لا يمكن أن تترك طفليها في رعاية أبويها لفترة أطول من ذلك، وإنها حظيت عن جد بزيارة هادفة ولطيفة وعليها أن تعود للمنزل الآن.
قالت وهي في طريقها للخروج ولا توجه حديثها لشخص بعينه وتضحك ضحكة لها رنة مرارة: «سأحضر لكم معجم أكسفورد هدية عيد الميلاد القادم.»
كان معجم عائلة ترافرس الذي استخدمه وات من المعاجم الأمريكية.
عندما غادرت المنزل، لم ينظر أي منهم إلى الآخر، وقالت السيدة ترافرس: «جريتشن، هل تستطيعين إعداد قدر من القهوة لنا جميعا؟» ذهبت جريتشن إلى المطبخ وهي تتمتم قائلة: «يا لها من تسلية! لقد بكى المسيح.»
قالت السيدة ترافرس: «إن حياتها مليئة بالمتاعب بسبب الصغيرين.» •••
وخلال الأسبوع، حصلت جريس ليوم واحد على فترة للراحة، ما بين انتهاء الفطار، والإعداد للعشاء، وعندما علمت السيدة ترافرس بذلك، استقلت سيارتها إلى بيليز فولز لكي تصحبها إلى البحيرة لهذه الساعات الثلاث، وحينها سيكون موري في عمله - حيث يعمل فترة الصيف في إصلاح الطريق السريع 7 مع بعض العاملين المكلفين بإصلاح الطرق - أما وات ففي مكتبه في أوتاوا، وجريتشن في البحيرة تسبح أو تجدف مع أطفالها هناك. عادة ما كانت السيدة ترافرس تخبر جريس بأنها ستذهب للتسوق، أو أنها ستقوم ببعض الترتيبات من أجل العشاء، أو أن عليها كتابة بعض الخطابات، وعندئذ تترك جريس بمفردها في غرفة المعيشة الكبيرة الباردة الظليلة، وأريكتها الجلدية المنبعجة دائما، وأرفف المكتبة المكتظة بالكتب.
قالت لها السيدة ترافرس: «يمكنك قراءة أي شيء تفضلينه، أو بمقدورك أن تستريحي وتأخذي قسطا من النوم إن كان هذا ما تريدين. إنها لوظيفة شاقة، ولا بد أنك متعبة، وسوف أنتبه إلى إعادتك في الوقت المناسب.»
لم تنم جريس قط، لكنها كانت تقرأ. كانت نادرا ما تتحرك، ومن أسفل سروالها القصير، كانت تظهر ساقاها العاريتان وقد كساهما العرق والتصقتا بالأريكة. ربما كان هذا بسبب متعة القراءة الشديدة. وكانت في العادة لا تلمح أي أثر للسيدة ترافرس حتى يحين موعد عودتها إلى عملها حيث تقوم بتوصيلها مرة أخرى.
لم تكن السيدة ترافرس لتبدأ أي نوع من المحادثة حتى يمر وقت كاف تتحرر خلاله جريس من أفكار الكتاب الذي كانت منهمكة في قراءته، ثم تذكر أنها هي نفسها قرأته من قبل، وتفصح عن رأيها فيه، لكن بأسلوب يحترم الرأي المخالف ويتسم بالمرح في الوقت نفسه؛ فقد قالت على سبيل المثال بشأن رواية «آنا كارنينا»: «لا أذكر عدد المرات التي قرأت فيها هذه الرواية، لكني في البداية تعاطفت مع كيتي، ثم مع آنا. أوه لقد كان الأمر فظيعا مع آنا، والآن أتدرين لقد وجدت نفسي في المرة الأخيرة أتعاطف طوال الوقت مع دوللي، عندما ذهبت إلى الريف بصحبة كل هؤلاء الأطفال، وكان عليها أن تعرف كيف تقوم بالتنظيف، وكانت ثمة مشكلة في أحواض الغسيل. أترين كيف تتغير درجات تعاطفك كلما تقدمت في العمر؟ فالعواطف قد تتوارى خلف أحواض الغسيل. لا تنتبهي إلى كلامي على أي حال. إنك لا تنصتين إلي، أليس كذلك؟» «لا أدري إن كنت أنصت لأحد على الإطلاق.» شعرت جريس بالدهشة من ردها، وتساءلت إن كانت بدت متغطرسة أم ساذجة، وأردفت قائلة: «لكني أحب الإنصات لحديثك.»
ضحكت السيدة ترافرس قائلة: «إنني أحب الإنصات لنفسي.» •••
في تلك الفترة بدأ موري يتحدث بطريقة ما عن زواجهما، وأنه لن يكون ذلك إلا بعد فترة؛ حتى يصبح مؤهلا تماما ويعمل مهندسا، ولكنه كان يتكلم عن ذلك الأمر وكأنه يتكلم عن شيء تأخذه هي أيضا - مثله - كأمر مسلم به. وعندما كان يقول «حينما نتزوج» كانت جريس تنصت إليه بفضول بدلا من التشكيك في ذلك أو معارضته.
بعد الزواج سيكون لهما منزل بالقرب من بحيرة ليتل سابوت، ولن يكون شديد القرب من منزل والديه، ولن يبعد عنه كثيرا في نفس الوقت، وسيكون بالطبع مكانا لقضاء فصل الصيف فقط. أما أغلب الوقت فسيعيشان في المكان الذي يتطلبه عمله كمهندس. وقد يكون هذا في أي مكان؛ في بيرو، أو العراق، أو الأقاليم الشمالية الغربية. وسعدت جريس بفكرة السفر هذه أكثر من سعادتها بالفكرة التي يتحدث عنها بفخر وهو يتحدث عن «منزلنا الخاص معا». لم يبد أي من هذا واقعيا بالنسبة لها، إلا أنها وجدت أيضا أن فكرة مساعدة عمها والعمل في صناعة كراسي من الخيزران في المدينة والمنزل الذي نشأت فيه لم تكن واقعية هي الأخرى.
ألح موري في سؤالها عما أخبرت به عمها وعمتها عنه، ومتى ستصحبه لمنزلها حتى يلتقي بهما. حتى استخدامه المبسط لتلك الكلمة «منزلها» بدا غريبا بعض الشيء بالنسبة لها، بالرغم من أنها هي نفسها كانت تستخدمها. بدا من الأنسب أن تقول بيت عمي وعمتي.
لم تذكر لهما شيئا بخصوصه في الواقع في رسائلها الأسبوعية المقتضبة ، فيما عدا أنها ذكرت أنها «تخرج مع شاب يعمل هنا في فترة الصيف.» ربما أعطتهم الانطباع بأنه يعمل في أحد الفنادق.
لا تكمن المسألة في أنها لا تفكر في الزواج مطلقا؛ إذ كانت تلك الاحتمالية، شبه المؤكدة، ترد إلى ذهنها دوما حينما تفكر في حياتها وهي تعمل في صناعة مقاعد الخيزران. وبالرغم من أن أحدا لم يحاول أن يخطب ودها، فإنها كانت تعتقد أن ذلك قد يحدث في يوم من الأيام وبهذه الطريقة تماما، ومع رجل يتخذ قراره على الفور - قد يأتي ربما لإصلاح أحد المقاعد - وبمجرد رؤيتها يقع في حبها على الفور. سيكون وسيما مثل موري، متأجج العواطف مثل موري، وسيعقب ذلك تلك اللقاءات الحميمية الجسدية الممتعة.
وكان هذا هو الشيء الذي لم يحدث بينهما. كانت هي راغبة في ذلك سواء في سيارة موري، أو بالخارج فوق الحشائش أسفل ضوء النجوم. وكان موري مستعدا، لكنه لم يكن راغبا؛ فقد كان يشعر أن من مسئوليته أن يحميها. وكذلك فإن السهولة التي عرضت بها نفسها عليه قد أفقدته توازنه. وربما شعر أن العرض جاء ببرود؛ عرضا متعمدا لم يستطع أن يفهمه، ولا يتناسب تماما مع أفكاره عنها. هي ذاتها لم تفهم كيف كانت تتسم بالبرود هكذا؛ فقد كانت تعتقد أن إظهار مدى شغفها لا بد أن يقودها إلى المتعة التي عرفتها في عزلتها وفي خيالها، وقد شعرت أنه دور موري أن يتولى زمام الأمور، لكنه لم يفعل.
وقد جعلهما هذا الحصار الفكري مشوشين، يشعران ببعض الغضب أو الخزي؛ لذا لم يتوقفا عن التقبيل، والعناق، واستخدام كلمات الغزل؛ ليعوض أحدهما الآخر عند وداعهما متمنيا كل منهما للآخر ليلة سعيدة. كان من المريح لجريس أن تكون وحيدة، وأن تأوي إلى فراشها في المهجع، وتطرد من ذهنها أفكارها عن آخر ساعتين أمضتهما. وقد اعتقدت أنه من المريح أيضا بالنسبة لموري أن يقطع الطريق السريع بمفرده، ويعيد ترتيب انطباعاته عن جريس التي يعرفها، حتى يظل غارقا في حبها بكل إخلاص وصدق. •••
غادرت معظم النادلات المكان بعد عيد العمال، وعدن إلى مدارسهن أو كلياتهن، إلا أن الفندق ظل مفتوحا حتى عيد الشكر، ولكن بفريق عمل أقل عددا؛ كانت جريس من بينه. وقد ترددت أقاويل - هذا العام - بأن الفندق سيفتح أبوابه ثانية في بداية ديسمبر من أجل موسم الشتاء - أو على الأقل خلال فترة أعياد الميلاد - إلا أن أحدا من عمال المطبخ أو فريق صالة الطعام لم يعرف إن كان هذا صحيحا أم لا. وقد كاتبت جريس عمها وعمتها بشأن هذا كما لو أن الأخبار بشأن فترة عيد الميلاد كانت أكيدة، بل في الواقع لم تذكر أي شيء عن إغلاق الفندق مطلقا، إلا أن يكون هناك احتمالية بعد بداية العام الجديد؛ لذا فعليهم إذن ألا يتوقعوا مجيئها في تلك الفترة.
لماذا فعلت ذلك؟ لم يكن الأمر وكأن لديها خططا أخرى. كانت قد أخبرت موري أنها تعتقد أن عليها أن تمضي هذا العام في مساعدة عمها، وربما تحاول أن تجد شخصا ليتعلم صناعة المقاعد ويأخذ مكانها، بينما يجتاز هو - موري - السنة النهائية بالكلية. وقد وعدته بأن ترتب لزيارته لهم أثناء فترة عيد الميلاد؛ حتى يمكنه مقابلة عائلتها. وأجابها بأن عيد الميلاد وقت مناسب لإعلان خطوبتهما رسميا. لقد كان يدخر راتب عمله الصيفي كي يشتري لها خاتما من الألماس.
وكانت هي الأخرى تدخر راتبها؛ وذلك حتى تتمكن من أن تستقل الحافلة إلى كنجستون لزيارته أثناء الفصل الدراسي.
كانت تتحدث عن ذلك، وتقطع وعودا هكذا ببساطة، لكن هل تعتقد، أو تتمنى، أن يحدث هذا؟
قالت السيدة ترافرس: «إن موري شخصية رائعة، تستطيعين أن تلمسي ذلك بنفسك. سيكون رجلا محبا لا يتسم بالتعقيد؛ فهو يشبه والده، لكنه ليس كأخيه؛ فنيل رجل متقد الذكاء. لا أعني أن موري ليس كذلك؛ فإن المرء لا يمكن أن يصبح مهندسا دون أن يكون له عقل ذكي، بل ذكي جدا، لكن نيل ... شخصية عميقة.» ضحكت من نفسها ... ««الكهوف المبهمة العميقة لدب المحيط»، عم أتحدث؟ ظللت أنا ونيل لفترة طويلة ليس لأحدنا سوى الآخر؛ لذا أعتقد أنه مميز بعض الشيء. لا أعني أنه لا يمكن أن يكون شخصا مرحا، لكن في بعض الأحيان قد يكون أكثر الناس مرحا هم أكثر من يشعرون بالحزن في داخلهم. أليس كذلك؟ تتعجبين منهم، لكن ما جدوى القلق بشأن أبنائك الناضجين؟ بالنسبة لنيل أنا أشعر حياله ببعض القلق، وموري لا أشعر نحوه بالكثير من القلق. أما فيما يتعلق بجريتشن فأنا لست قلقة بشأنها على الإطلاق؛ وذلك لأن النساء دائما ما يكون لديهن شيء يعينهن على الاستمرار، أليس كذلك؟ الرجال لا يملكون هذا الشيء.» •••
لم يغلق المنزل الذي يطل على البحيرة أبوابه حتى عيد الشكر، وعادت جريتشن وأطفالها إلى أوتاوا بالطبع بسبب الدراسة. وكان على موري الذي أنهى عمله الصيفي أن يعود إلى كنجستون. وكان السيد ترافرس لا يخرج إلا في عطلات نهاية الأسبوع. وقد أخبرت السيدة ترافرس جريس أنها عادة ما كانت تمكث بصحبة بعض الضيوف أو تجلس بمفردها.
ثم تغيرت خططها؛ فقد عادت إلى أوتاوا مع السيد ترافرس في سبتمبر. حدث هذا بصورة غير متوقعة، وبالتالي ألغيت دعوة العشاء في عطلة نهاية الأسبوع.
أخبرها موري أنها كانت تعاني من بعض اضطرابات الأعصاب بين الحين والآخر. قال: «ينبغي أن تأخذ قسطا من الراحة، وكان عليها أن تذهب إلى المستشفى وتمكث هناك لنحو أسبوعين، وهم يعملون على استقرار حالتها، وهي دائما ما تغادرها في حالة جيدة.»
قالت جريس إن أمه هي آخر شخص يمكن أن تتخيله يعاني من مثل هذه الاضطرابات. «لكن ما سبب ذلك؟»
قال موري: «لا أعتقد أنهم يعرفون السبب.»
لكنه أردف بعد دقيقة: «حسنا، يمكن أن يكون السبب هو زوجها؛ أعني زوجها الأول، والد نيل، وما حدث معه إلى آخره.»
وما حدث هو أن والد نيل قد انتحر. «أعتقد أنه كان مضطربا.»
استمر قائلا: «لكن ربما لا يكون الأمر كذلك، ربما هي أسباب أخرى؛ فقد تكون تلك المشكلات التي تعاني منها بعض السيدات ممن هن في مثل عمرها. وعلى الرغم من ذلك فالأمور على ما يرام؛ فهم يستطيعون إعادتها لحالتها الطبيعية بمساعدة الأدوية الآن. لديهم بعض الأدوية الرائعة. لا تقلقي.» •••
وكما توقع موري؛ فبحلول عيد الشكر كانت السيدة ترافرس قد غادرت المستشفى وتحسنت حالتها. وأقيم عشاء عيد الشكر على البحيرة كما هي العادة، وأقيم يوم الأحد كالمعتاد أيضا؛ وذلك حتى تكون هناك فرصة لحزم الأمتعة وغلق المنزل يوم الاثنين. وكان هذا من حسن حظ جريس أيضا؛ لأن إجازتها بقيت يوم الأحد.
تجتمع العائلة بأسرها هناك دون وجود أي ضيوف، إلا إذا اعتبرت جريس من بين الضيوف. وسيكون نيل وميفيس وطفلاهما في منزل والدي ميفيس، وسيتناولون العشاء هناك يوم الاثنين، لكنهم سيمضون يوم الأحد في منزل عائلة ترافرس.
وفي الوقت الذي أحضر فيه موري جريس إلى البحيرة في صباح يوم الأحد، كان الديك الرومي في الفرن بالفعل. وسيكون العشاء مبكرا في نحو الخامسة بسبب وجود الأطفال. وكانت الفطائر معدة فوق مائدة المطبخ؛ حيث أعدت فطائر القرع، والتفاح، والتوت البري. كانت جريتشن هي المسئولة عن المطبخ، بوصفها طاهية كما كانت رياضية. كانت السيدة ترافرس تجلس قبالة المائدة تحتسي القهوة ومنهمكة في لعبة تركيب الصور المقطعة مع ابنة جريتشن الصغرى دانا.
قالت: «أوه، جريس!» وهبت من مكانها لتعانقها - وهي المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك - وبحركة غير محسوبة بيدها نثرت قطع اللعبة.
صاحت دانا: «أوه، جدتي!» وراحت جيني، أختها الكبرى التي كانت تشاهد باهتمام، تجمع قطع اللعبة.
قالت: «يمكننا أن نعيد ترتيبها ثانية، فجدتك لم تقصد ذلك.»
قالت جريتشن: «أين تضعين صلصة التوت البري؟»
قالت السيدة ترافرس وهي لا تزال ضاغطة على ذراع جريس، ومتجاهلة قطع اللعبة المتناثرة: «إنها في الخزانة.» «في أي مكان بالخزانة؟»
قالت السيدة ترافرس: «أوه، صلصة التوت البري، إنني أصنعها بنفسي، إنني أضع التوت البري في القليل من المياه أولا، ثم أضعه فوق نار هادئة، لا، أعتقد أنني أقوم بنقعه أولا.»
قالت جريتشن: «ليس لدي وقت لكل هذا. أتعنين أنه ليس لديك زجاجة معلبة منها؟» «لا أعتقد أن لدي منها، فأنا أصنعها.» «علي أن أرسل أحدا ليبتاع لي بعضا منها.» «بإمكانك أن تسألي السيدة وودز.» «لا، بالكاد تحدثت معها من قبل. ليس لدي الجرأة لأطلب منها شيئا. يجب أن يذهب أحدهم إلى المتجر.»
قالت السيدة ترافرس بهدوء: «عزيزتي، إنه عيد الشكر، ولن تجدي متجرا مفتوحا.» «هناك ذاك المتجر بالقرب من الطريق السريع دائما ما يكون مفتوحا.» ثم علا صوتها وهي تقول: «أين وات؟»
ردت عليها ميفيس من غرفة النوم الخلفية: «إنه في الخارج، في زورق التجديف.» وقد بدا صوتها يحمل بعض التحذير؛ لأنها كانت تحاول أن تحمل رضيعها على النوم. أردفت: «لقد اصطحب مايكي في الزورق.»
كانت ميفيس قد قدمت بسيارتها مع مايكي والرضيع، وسيلحق بهم نيل فيما بعد؛ فقد كان لديه بعض المكالمات ليجريها.
وقد ذهب السيد ترافرس للعب الجولف.
قالت جريتشن: «كل ما أحتاجه هو شخص يذهب إلى المتجر.» وقد انتظرت ولم يأت أي عرض من غرفة النوم، ثم رفعت حاجبيها وهي تنظر نحو جريس. «لا تستطيعين القيادة، أليس كذلك؟»
وأجابتها جريس بالإيجاب.
نظرت السيدة ترافرس حولها لترى موضع مقعدها، وجلست وقد تنهدت تنهيدة تنم عن شكر.
قالت جريتشن: «حسنا، موري يمكنه القيادة. أين موري؟»
كان موري في غرفة النوم الأمامية يبحث عن لباس البحر الخاص به، بالرغم من أن الجميع أخبروه بأن المياه ستكون شديدة البرودة ويصعب السباحة فيها؛ فقال إن المتجر لن يكون مفتوحا.
قالت جريتشن: «بل سيكون مفتوحا؛ فهم يبيعون البنزين، وإذا لم تجده مفتوحا، فهناك ذلك المتجر الآخر قبالة بيرث؛ ذلك الذي يضع مخروط الآيس كريم.»
أراد موري أن تصحبه جريس، لكن كانت الطفلتان، جيني ودانا، تحثانها على أن تأتي معهما لرؤية الأرجوحة التي وضعها جدهما أسفل شجرة القيقب النرويجي بجانب المنزل.
وأثناء هبوطها على الدرج شعرت بأن رباط فردة من حذاءيها قد قطع، فخلعت فردتي الحذاء، وسارت دون صعوبة فوق الرمال الناعمة، ونبات موز الجنة الناعم، والعديد من أوراق الشجر الملتوية التي سقطت بالفعل من فوق الأغصان.
قامت أولا بدفع الأطفال على الأرجوحة، ثم قاموا هم بدفعها بعد ذلك. وحدث عندما قفزت ، وهي عارية القدمين، أن شعرت بإحدى ساقيها قد انقبضت، وصرخت من الألم وهي لا تدري ماذا حدث.
لقد كانت قدمها، وليست ساقها، وقد نتج الألم من باطن قدمها اليسرى؛ حيث قطعتها الحواف الحادة لصدفة محار.
قالت جيني: «لقد أحضرت دانا ذلك المحار؛ فقد أرادت أن تصنع منزلا للحلزون.»
قالت دانا: «لقد ذهب بعيدا.»
أسرعت كل من السيدة ترافرس وجريتشن، وحتى ميفيس، خارج المنزل، فقد اعتقدن أن الصراخ قد صدر من إحدى الطفلتين.
قالت دانا: «إن قدمها ملطخة بالدماء؛ فالدم يغطي الأرض كلها.»
قالت جيني: «لقد جرح المحار قدمها. تركت دانا صدفات المحار هنا. لقد أرادت أن تصنع منزلا من أجل إيفان؛ إيفان الحلزون.»
قاموا بإحضار طست للغسيل، وبعض المياه لغسل الجرح، ومنشفة، والجميع يسألها إلى أي مدى يؤلمها ذلك.
قالت جريس وهي تصعد الدرج بعرج، والفتاتان تتنافسان لمعاونتها في الصعود وقد كانتا تعرقلان مسيرها.
قالت جريتشن: «أوه، هذا شيء فظيع، ولكن لماذا لم ترتدي حذاءك؟»
قالت دانا وجيني معا: «لقد قطع رباطه»، بينما تدور سيارة مكشوفة بلون النبيذ تصدر صوتا خافتا في المساحة المخصصة لانتظار السيارات.
قالت السيدة ترافرس: «هذا ما أطلق عليه الوقت المناسب، ها هو الرجل الذي نحتاجه تماما؛ الطبيب.»
كان هذا هو نيل، وكانت تلك المرة الأولى التي تراه فيها جريس. كان طويل القامة، نحيفا، وسريع الحركة.
قالت السيدة ترافرس بمرح: «أين حقيبتك؛ فلدينا حالة نريدك أن تراها.»
قالت جريتشن: «ها قد جئت بقطعة من الخردة؛ أهي جديدة؟»
قال: «إنها قطعة من الحماقة.» «لقد استيقظ الرضيع.» أطلقت ميفيس تنهيدة تحمل بعض الاتهام غير الموجه لأحد بعينه، ثم هرعت إلى داخل المنزل.
قالت جيني بحدة: «إنك لا تستطيع أن تفعل أي شيء في المنزل دون أن يستيقظ ذلك الرضيع.»
قالت جريتشن: «من الأفضل أن تصمتي.»
قالت السيدة ترافرس: «لا تقل إنك لم تحضرها معك.» لكن نيل التقط حقيبة الطبيب من المقعد الخلفي، فقالت: «أوه، إنها معك، هذا جيد، احتياطيا ... لا تدري ما قد يحدث.»
قال نيل لدانا: «هل أنت المريضة؟ ما الأمر؟ هل ابتلعت ضفدعا؟»
قالت دانا بكبرياء: «إنها هي، جريس.» «أوه فهمت، إنها هي من ابتلعت الضفدع.» «لقد جرحت قدمها، إنها تنزف بشدة.»
قالت جيني: «بسبب صدفة المحار.»
وهنا قال نيل لأبناء أخته: «أفسحا المكان.» ثم جلس على الدرج أسفل جريس، ثم رفع قدمها بحرص وقال: «أحضروا لي قطعة من القماش أو ما شابه.» ثم مسح الدماء بحذر حتى يرى الجرح. وعندما أصبح قريبا منها، لاحظت جريس رائحة عرفتها أثناء عملها هذا الصيف بالفندق؛ وهي رائحة الخمر الممتزجة بالنعناع.
قال: «من المؤكد أنها تنزف بشدة. هذا شيء جيد؛ فهو يطهرها. هل تؤلمك؟»
قالت جريس: «إلى حد ما.»
نظر إلى وجهها نظرة فاحصة ولكنها سريعة. ربما تساءل إن كانت قد تعرفت على الرائحة، وماذا تظن به الآن. «أراهن أنها تؤلمك فعلا. أترين ذلك الجزء المقطوع، علينا أن ندلف أسفل منه ونتأكد من أنه نظيف تماما، ثم أخيطه بغرزة أو غرزتين. لدي دواء يمكن دهان الجرح به حتى لا يؤلمك بشدة كما تظنين.» نظر نحو جريتشن وقال: «دعونا نقوم بإبعاد جمهور المشاهدين عن الطريق الآن.»
لم يوجه أي كلمة لأمه بعد؛ ومع ذلك فقد راحت تكرر أنه من حسن الحظ حضوره في ذلك الوقت بالتحديد.
قال: «صبي الكشافة دائما على استعداد.»
لم تبد يده مختلة إثر الشراب، وكذا لم يتضح أثره في عينيه، كما لم يبد أنه ذلك العم المرح الذي يتقمص شخصيته حينما يتحدث إلى الأطفال، أو ذلك الشخص الذي يردد الكلام المطمئن كما اختار أن يكون مع جريس. كان ذا جبهة عالية شاحبة، وخصلات من الشعر الأسود المجعد المائل للون الرمادي، وعينين رماديتي اللون لامعتين، وفم عريض ذي شفاه رفيعة تبدو ملتوية عند نفاد الصبر، أو الشهوة، أو الألم.
عندما ضمد الجرح بالخارج فوق الدرج، كانت جريتشن قد عادت إلى المطبخ واصطحبت الأطفال معها، وظلت السيدة ترافرس تشاهد باهتمام وهي تطبق على شفتيها وكأنما تتعهد بأنها لن تحدث أي مقاطعة. قال نيل إنه من الأفضل أن تؤخذ جريس إلى المدينة من أجل الذهاب إلى المستشفى هناك. «من أجل حقنة مضادة للتيتانوس.»
قالت جريس: «إن الأمر ليس بهذا السوء.»
قال نيل: «ليس هذا هو المقصد.»
قالت السيدة ترافرس: «أوافقه الرأي، التيتانوس، هذا شيء فظيع.»
قال: «علينا ألا ننتظر طويلا. جريس، سأصحبك للسيارة.» ثم أمسكها من أسفل ذراعها. ربطت فردة حذائها، ونجحت في أن تضع أصابع قدمها المصابة في الفردة الأخرى حتى تحاول جذبها وهي تسير. وكانت الضمادة نظيفة ومحكمة.
قال حينما كانت تتخذ مقعدها في السيارة: «سأنطلق الآن، وبلغيهم اعتذاري.»
إلى جريتشن؟ بل إلى ميفيس.
هبطت السيدة ترافرس من الشرفة، يلفها ذلك الحماس المبهم الذي بدا طبيعيا، والذي لا تستطيع كبح جماحه في ذلك اليوم. وضعت يدها على باب السيارة.
قالت: «هذا شيء جيد. جيد تماما جريس. لقد أرسلك الله اليوم. ستحاولين أن تبعديه عن الشراب اليوم، أليس كذلك؟ تعرفين كيف تفعلين ذلك.»
سمعت جريس هذه الكلمات، لكنها لم تعرها أي تفكير؛ فقد كانت تشعر بالحيرة الشديدة إزاء ذلك التغير الذي طرأ على السيدة ترافرس، وما بدا وكأنه زيادة في حجمها، تيبس في جميع حركاتها، بل نوبة محمومة من التعاطف، سعادة غامرة تنهال من عينيها. وقد بدت على جانبي فمها طبقة رقيقة كحبات السكر. •••
كان المستشفى يقع في كارلتون على بعد نحو ثلاثة أميال. كان هناك طريق سريع يقطع طريق السكة الحديدية، وقد قطعوا ذلك الطريق بسرعة شديدة شعرت معها كريس بأن السيارة في أعلى سرعتها قد ارتفعت عن سطح الطريق الممهد، وكأنما يحلقان بها. لم يكن هناك أي إشارات للمرور، ولم تكن خائفة، وعلى أي حال لم يكن في وسعها أن تفعل أي شيء حيال ذلك. •••
كان نيل يعرف الممرضة المناوبة في قسم الطوارئ، وبعد أن قام بملء استمارة الدخول وجعلها تلقي نظرة على قدم جريس (وقد قالت دون اهتمام: «عمل جيد»)، تمكن بعدها من أن يعطي حقنة التيتانوس لجريس بنفسه: «إنها لن تؤلمك الآن، ولكن ربما فيما بعد.» وبمجرد أن انتهى، عادت الممرضة إلى غرفة التغيير وقالت: «هناك شاب في غرفة الانتظار لكي يصحبها إلى المنزل.»
ثم وجهت حديثها لجريس قائلة: «إنه يقول إنه خطيبك.»
قال نيل: «أخبريه أنها لم تنته بعد، بل أخبريه أننا قد ذهبنا بالفعل.» «لكني أخبرته بأنكم موجودون بالفعل.»
قال نيل: «لكنك عندما رجعت اكتشفت أننا ذهبنا.» «لكنه يقول إنه أخوك، ألن يشاهد سيارتك في المرأب؟» «لقد أوقفت السيارة بالخلف؛ في المرأب الخاص بالأطباء.»
قالت الممرضة وهي ذاهبة: «يا لها من خدعة!»
قال نيل لجريس: «إنك لا تريدين العودة إلى المنزل بعد، أليس كذلك؟»
قالت جريس: «بلى.» قالتها وكأن الكلمة مكتوبة أمامها على الحائط، كما لو أنها تجري اختبارا على بصرها.
ومرة أخرى ساعدها لكي تدلف إلى السيارة، وقد تدلت فردة الحذاء من خلال الرباط الملفوف حول أصابع قدمها، واستقرت جريس فوق فرش السيارة ذي اللون الكريمي، وقطعوا طريقا خلفيا عندما غادروا المرأب؛ وهو طريق غير مألوف خارج المدينة. كانت تعرف أنها لن ترى موري، ولم يكن عليها أن تفكر به، أو تفكر كثيرا في ميفيس.
وإذا ما وصفت جريس تلك الفترة؛ ذلك التغير في حياتها فيما بعد، فإنها ستقول - أو قالت بالفعل - إنه كان أشبه بالبوابة التي أغلقت خلفها محدثة صوتا عاليا، لكنه لم يكن صوتا عاليا في وقته؛ بل هو خضوع غمرها بأكملها، وتلاشت أحقية الذين خلفتهم وراءها في أي شيء.
ظلت ذكرياتها عن ذلك اليوم واضحة ومليئة بالتفاصيل، بالرغم من أنها أدخلت بعض الاختلافات على أجزاء منها حينما كانت ترويها.
وحتى في بعض هذه التفاصيل، ولا بد وأنها كانت مخطئة. •••
قاد أولا باتجاه الغرب على الطريق السريع 7، وحسبما تذكر جريس، فلم يكن هناك أي سيارة أخرى تسير على الطريق السريع، وقد اقتربت سرعتهم من الطيران عند اجتيازهم الطريق السريع، ولكن لا يمكن أن يكون ذلك حقيقيا؛ فلا بد وأنه كان هناك بعض الأشخاص على الطريق؛ أشخاص في طريقهم للعودة إلى منازلهم في صباح ذلك الأحد؛ في طريقهم لكي يمضوا عيد الشكر مع عائلاتهم؛ في طريقهم إلى الكنيسة، أو عودتهم إلى منازلهم من الكنيسة. ولا بد أن نيل قد أبطأ من سرعته حينما كان يمر من خلال القرى، أو عند أطراف المدينة، أو عند اجتياز أي من المنعطفات على الطريق السريع القديم. لم تكن معتادة على ركوب السيارات المكشوفة، والرياح تغشي عينيها، وتداعب خصلات شعرها. هذا في حد ذاته منحها الشعور الزائف بالسرعة الشديدة، بل بالتحليق عاليا؛ بالطمأنينة التي تشبه المعجزة وليست المحمومة.
وبالرغم من أن موري وميفيس والعائلة قد سقطوا جميعا من ذهنها، إلا أن السيدة ترافرس ظلت باقية تحلق، وتوصل في همس، وبضحكة غريبة مخزية، رسالتها الأخيرة. «تعرفين كيف تفعلين ذلك.»
بالطبع لم يتحدث نيل وجريس، وكما تتذكر، كان على المرء أن يصرخ لكي يسمعه الآخر. وما تتذكره، في حقيقة الأمر، لا يختلف كثيرا عما كان في مخيلتها في ذلك الوقت عما عساه الجنس أن يكون؛ المقابلة التي حدثت مصادفة، الإشارات الصامتة وإن كانت قوية، الرحلة الصامتة تقريبا والتي كانت ترى نفسها فيها أسيرة على نحو أو آخر، الاستسلام الحالم الخيالي؛ فجسمها الآن ما هو إلا تيار من الرغبة الجارفة التي تجتاحها.
توقفا أخيرا في كالادر، ودخلا إلى أحد الفنادق؛ الفندق القديم الذي لا يزال موجودا حتى الآن. أمسك بيدها، وتخللت أصابعه أصابعها، وأبطأ من سرعة خطاه حتى تتماشى مع خطواتها الوئيدة. قادها نيل إلى البار، ولقد أدركت أنه كذلك، بالرغم من أنها لم تطأ واحدا من قبل (لم يكن فندق بيليز فولز لديه تصريح بذلك؛ فقد كان الأفراد يحتسون الخمر في غرفهم، أو في أحد الملاهي الليلية المتداعية على الطريق). كان كما توقعته تماما؛ غرفة كبيرة مظلمة تكاد تكون خالية من الهواء؛ حيث المقاعد والموائد تصطف في الخلف بلا اعتناء بعد عملية تنظيف سريعة، ولم تستطع رائحة منظف الليسول القوية أن تغطي على رائحة الجعة، والويسكي، والسيجار، والغليون، والرجال أيضا.
لم يكن ثمة أحد هناك، ربما لا يفتح أبوابه حتى فترة ما بعد الظهيرة. ولكن ألا يحتمل أن يكون الوقت الآن بعد الظهيرة؟ بدا تقديرها للوقت خاطئا .
ظهر رجل الآن من غرفة أخرى، وتحدث مع نيل. قال: «مرحبا دكتور.» ثم وقف خلف البار.
اعتقدت جريس أن الأمر سيسير هكذا؛ فكل مكان سيذهبان إليه سيجدان به شخصا يعرفه نيل بالفعل.
قال الرجل بصوت عال تشوبه بعض الحدة، بل يكاد يصل إلى حد الصراخ، كما لو أنه أراد أن يسمعه من بالمرأب: «تعلم أنه يوم الأحد، لا أستطيع أن أبيع لك شيئا هنا اليوم، ولا أستطيع أن أبيع لها شيئا على الإطلاق. إنها لا ينبغي حتى أن تكون هنا. أتفهم ذلك؟»
قال نيل: «نعم سيدي، حقا سيدي، أتفق معك بشدة.»
وأثناء حديث الرجلين، قام الرجل الواقف خلف البار بجذب زجاجة من الويسكي من فوق رف خفي، ثم صب بعضا منها في كأس وأعطاه لنيل عبر النضد.
قال لجريس: «هل تشعرين بالعطش؟» وكان قد فتح بالفعل زجاجة من المياه الغازية وأعطاها إياها دون أن يصبها في كأس.
قام نيل بوضع ورقة نقدية على النضد؛ بيد أن الرجل أزاحها بعيدا.
قال لنيل: «لقد أخبرتك بأني لا أستطيع البيع.»
قال نيل: «وماذا عن المياه الغازية؟» «لا أستطيع البيع.»
قام الرجل بإزاحة الزجاجة بعيدا، وتجرع نيل ما تبقى في الكأس سريعا، وقال: «إنك رجل طيب، إنها روح القانون.» «خذ معك علبة المياه الغازية، كلما غادرت سريعا ازدادت سعادتي.»
قال نيل: «بالطبع؛ إنها فتاة لطيفة، إنها زوجة أخي؛ زوجة أخي المستقبلية، كما فهمت.» «هل هذه هي الحقيقة؟»
لم يعودا إلى الطريق السريع رقم 7؛ إذ سلكا بدلا منه الطريق المتجه شمالا، والذي لم يكن ممهدا، ولكنه كان واسعا كفاية ومتدرجا على نحو مقبول. بدا أن للشراب تأثيرا معاكسا لما يفترض أن تحدثه المشروبات على قيادة نيل؛ فقد أبطأ للحد الذي يتناسب مع هذا الطريق، بل إنه كان حذرا أيضا.
قال: «أتمانعين؟»
قالت جريس: «أمانع في ماذا؟» «الذهاب إلى أي مكان قديم.» «لا.» «أحتاج إلى صحبتك. كيف حال قدمك؟» «إنها بخير.» «لا بد أنها تؤلمك نوعا ما.» «ليس كثيرا. كل شيء على ما يرام.»
أمسك يدها التي لم تكن تحمل علبة الكولا، وألصق راحة يدها على فمه ثم تركها تسقط. «هل تعتقدين أنني اختطفتك لأغراض شريرة؟»
كذبت عليه جريس حين قالت: «كلا» وهي تفكر كيف بدت هذه الكلمة «شريرة» مثل كلام أمه.
قال، كما لو أنها أجابته بنعم: «ربما تكونين على صواب في أي وقت آخر، ولكن ليس اليوم. لا أعتقد هذا. أنت اليوم في مأمن تماما مثل الكنيسة.»
وكان للتغير في نبرة صوته، التي غلبت عليها الحميمية والصراحة والهدوء، وتذكرها لحركة شفتيه على يدها، أثر على جريس، حتى إنها صارت تسمع كلماته ولكنها لم تفهم معناها. كان بوسعها أن تستشعر مائة لمسة، بل مئات اللمسات من شفتيه، رقصة من التضرع، على جسدها بالكامل، ولكنها استطاعت أن تقول: «الكنائس ليست آمنة دوما.» «هذا صحيح. معك حق.» «وأنا لست زوجة شقيقك.» «المستقبلية. ألم أقل المستقبلية؟» «أنا لست هذه أيضا.» «آه، حسنا. أعتقد أنني لست مندهشا. لا. لست مندهشا.»
ثم تغيرت نبرة صوته ثانية لتصبح عملية. «أبحث عن طريق فرعي هنا، ناحية اليمين. هناك طريق علي التعرف عليه. هل تعرفين هذه البلدة على الإطلاق؟» «لا، ليس هذا المكان.» «ألا تعرفين فلاور ستيشن؟ أومباه، بولاند؟ سنو رود؟»
لم يسبق لها أن سمعت بهذه الأماكن. «هناك شخص أود رؤيته.»
انعطف لليمين وهو يتمتم في تشكك. لم تكن هناك أي لافتات. هذا الطريق كان أضيق وأكثر وعورة، ويضم جسرا من حارة واحدة ذا أرضية من الألواح الخشبية، وظللتهما أغصان أشجار الغابة ذات الخشب الصلب التي تشابكت فوقهما. وقد تأخر اصفرار الأوراق في هذا العام بسبب المناخ الدافئ الغريب؛ لذا احتفظت هذه الفروع بلونها الأخضر، فيما عدا الشاذة منها، والتي برزت كالرايات. عم المكان شعور بالقدسية. ظل نيل وجريس صامتين لعدة أميال، وكانت الأفرع لا تزال تغطيهما وتبدو الغابة بلا نهاية، ولكن نيل قطع هذه السكينة.
قال: «هل تستطيعين القيادة؟» وعندما أجابت جريس بالنفي، قال: «أعتقد أنه لا بد لك أن تتعلمي القيادة.»
وكان يعني الآن. أوقف السيارة وخرج منها واستدار إلى الجانب الذي كانت تجلس فيه، وكان عليها الجلوس وراء المقود. «ليس هناك مكان للتعلم أفضل من هذا.» «ماذا لو اعترض طريقي شيء ما؟» «لن يعترض طريقك شيء، وسوف نتولى الأمر إن حدث هذا. وهذا هو السبب الذي جعلني أختار طريقا مستقيما. ولا تخافي، سوف تفعلين كل شيء بقدمك اليمنى.»
كانا في بداية نفق طويل تظلله الأشجار، بينما فرشت أشعة الشمس خيوطها على الأرض. لم يعبأ بشرح أي شيء حول كيفية قيادة السيارات، بل أراها ببساطة أين تضع قدمها، وجعلها تتمرس على تغيير السرعات، ثم قال: «الآن انطلقي وافعلي ما أمليه عليك.»
أفزعتها القفزة الأولى للسيارة. أمسكت بناقل الحركة وظنت أنه سينهي الدرس على الفور، ولكنه ضحك. قال «تمهلي، تمهلي، استمري في القيادة.» وكان هذا هو ما فعلته. لم يعلق على توجيهها للسيارة أو كيف أنساها توجيه المقود الضغط على دواسة البنزين، فكل ما قاله: «استمري في القيادة للأمام، هيا، ابقي على الطريق، لا تدعي المحرك ينطفئ.»
قالت: «متى أستطيع التوقف؟» «ليس قبل أن أخبرك.»
جعلها تواصل القيادة حتى خرجا من النفق، ثم أرشدها عن كيفية استخدام المكبح، وبمجرد أن توقفت فتحت الباب حتى يمكنهما تبادل الأماكن، ولكنه قال: «لا، إن تلك هي مجرد استراحة قصيرة. سرعان ما سيروق لك الأمر.» وعندما بدأت القيادة مجددا وجدت أنه ربما يكون محقا، وكادت هذه الدفقة اللحظية من الثقة بالنفس أن تسقطهما في قناة؛ ومع ذلك، فقد ضحك عندما اضطر أن يمسك بعجلة القيادة واستمر الدرس.
لم يدعها تتوقف حتى قطعا ما يقرب من عدة أميال، بل وانعطفا - ببطء - مرات عديدة، ثم قال لها إنه من الأفضل أن يتبادلا الأماكن؛ لأنه لا يملك الحس بالاتجاهات إلا عندما يقود.
سألها عن شعورها الآن، وبالرغم من أنها كانت ترتعد، إلا أنها قالت: «لا بأس.»
دلك ذراعها من الكتف إلى المرفق وقال: «يا لك من كاذبة!» ولكنه لم يمسسها أكثر من هذا، ولم يجعل أي جزء من جسدها يستشعر شفتيه ثانية.
ولا بد أنه استعاد حس الاتجاهات بعدما قطعا عدة أميال عند بلوغهما تقاطع طرق؛ حيث إنه انعطف يسارا وتضاءلت الأشجار وصعدا طريقا وعرا على تل طويل، وبعد بضعة أميال وصلا إلى قرية، أو على الأقل مجموعة من المباني على جانب الطريق. كانت هناك كنيسة ومتجر، وكلاهما لم يفتحا أبوابهما ليخدما الغرض الذي أسسا من أجله؛ حيث كان يوجد على الأرجح من يعيش فيهما، وقد استدلت على ذلك من خلال السيارات الواقفة حولهما والستائر الرثة المعلقة على النوافذ. ثمة بضعة منازل في نفس الحالة وخلف واحد منها حظيرة متداعية، مع بروز قش قديم داكن بين عوارضها المتصدعة مثل الأحشاء المنتفخة.
بدت على نيل أمارات السعادة عندما رأى هذا المكان، ولكنه لم يتوقف عنده.
قال: «كم هدأ بالي الآن ... كم هدأ بالي الآن. الآن أعرف. شكرا لك.» «أنا؟» «لأنك سمحت لي بتعليمك القيادة. لقد أراحني هذا.»
قالت جريس: «أراحك؟ حقا؟» «نعم. حقيقي تماما.» كان نيل يبتسم ولكنه لم ينظر إليها، كان منشغلا في النظر من جانب لآخر عبر الحقول التي امتدت بطول الطريق بعد أن تجاوز القرية. كان يبدو وكأنه يتحدث إلى نفسه. «هذه هي. لا بد أن تكون كذلك. الآن نعرف.»
واستمر على هذا الحال حتى انعطف في حارة لم تمتد على نحو مستقيم، وإنما ملتو عبر حقل، متجنبا الصخور ورقع الأرض المزروعة بنبات العرعر. وفي نهاية الحارة كان ثمة منزل لا يبدو بحال أفضل من حال المنازل في القرية.
قال: «الآن، لن أصطحبك إلى داخل هذا المكان، لن أتأخر أكثر من خمس دقائق.» •••
ولكنه تأخر أكثر من هذا.
جلست في السيارة، التي كانت تربض في ظل المنزل. كان باب المنزل مفتوحا، ولكن الباب الشبكي كان مغلقا. كان السلك ينطوي على رقع تم إصلاحها؛ سلك جديد مشبوك بالقديم. لم يأت أحد لإلقاء نظرة عليها، ولا أي مخلوق. والآن بعد أن توقفت السيارة، امتلأ النهار بهدوء غير طبيعي. كان غير طبيعي لأنك قد تتوقع أن عصرا حارا كهذا سيكون مليئا بأزيز حشرات العشب وطنينها وصريرها وسط شجيرات العرعر . حتى وإن لم تستطع رؤيتها في أي مكان، فينبغي أن يعلو ضجيجها من كل شيء ينمو على الأرض، وتمتد بامتداد الأفق، ولكنه كان وقتا متأخرا من العام، متأخرا للغاية بحيث لا يمكنك حتى سماع صيحات الأوز وهو يحلق صوب الجنوب. بأي حال من الأحوال، هي لم تسمع شيئا.
بدوا وكأنهما على قمة العالم هنا، أو فوق واحدة من أعلى بقع العالم؛ فكان الحقل يمتد أسفلهما من جميع الجوانب، والأشجار من حولهما لم تر منها سوى أجزاء صغيرة فقط؛ لأنها نمت على أرض أكثر انخفاضا.
من الذي يعرفه هنا؟ من يعيش في هذا المنزل؟ سيدة؟ لم يبد ممكنا أن نوعه المفضل من النساء يمكن أن يكون في مكان كهذا، ولكن لم يكن هناك حد للأمور الغريبة التي يمكن أن تتعرض لها جريس في هذا اليوم. ليس لها حد.
ذات يوم كان هذا منزلا من الطوب، ولكن أحدهم قد شرع في هدم جدران الطوب، فبدت الجدران الخشبية البسيطة عارية من تحتها، وقد تم تكديس الطوب الذي كان يغطيها في الفناء، ربما انتظارا لبيعه. والطوب الذي ترك على هذا الجدار من المنزل شكل خطا مائلا، وكأنه درجات سلم، ولأنه لم يكن هناك شيء تفعله جريس، فقد اتكأت للخلف دافعة مقعدها للوراء كي تعدها. كانت تفعل هذا بغباء وجدية في نفس الوقت، بالطريقة التي تنتزع بها بتلات الزهرة، ولكنها لم تكن تقول شيئا صارخا مثل: يحبني، لا يحبني. «محظوظة. غير محظوظة. محظوظة. غير محظوظة.» هذا هو كل ما واتتها الجرأة لتقوله.
وجدت أنه يصعب عليها تتبع الطوب؛ لأنه جاء على نحو متعرج، وخاصة أن الخط أصبح مستويا فوق الباب.
كانت تعرف. ماذا عساه يمكن أن يكون هذا غير منزل أحد مهربي الخمور؟ فكرت في شكل هذا المهرب في المنزل؛ رجل عجوز نحيف متعب، نكد المزاج ومتشكك، يجلس على العتبة الأمامية لمنزله بينما يمسك ببندقية في ليلة الهالوين، وقد حفر أرقاما على أعواد الخشب التي يشعل بها المدفأة ورصها بجوار منزله حتى يعرف إذا ما سرق أي منها. تخيلت هذا الرجل وهو نائم مستدفئ في حجرته القذرة وإن كانت مرتبة (عرفت أنها ستكون على هذا النحو من خلال الرقع التي تم إصلاحها على الباب الشبكي)، وتخيلته وهو ينهض من فوق سريره الصغير أو أريكته التي تصدر صريرا، والتي يغطيها لحاف مليء بالبقع صنعته له قبل وقت طويل إحدى قريباته أو سيدة ليست على قيد الحياة الآن.
وليس الأمر أنه سبق لها دخول منزل أحد مهربي الخمور، ولكن الفوارق - في بلدتها - بين طرق الحياة المحترمة التي غلب عليها الفقر وغير المحترمة كانت دقيقة. كانت تعرف مثل هذه الأمور.
كم كان أمرا غريبا حقا أنها فكرت في الزواج من موري. كانت هذه ستكون بمثابة خيانة؛ خيانة لنفسها، ولكن استقلالها السيارة مع نيل ليس خيانة؛ لأنه يعرف أنها فعلت أمورا من هذا القبيل قبل ذلك، وهي عرفت الكثير والكثير عنه.
والآن، بدا لها أنها تستطيع رؤية عمها في المدخل، منحنيا ومتحيرا، وقد أخذ ينظر لها وكأنها غائبة منذ سنوات وسنوات، كما لو أنها وعدت بالعودة إلى المنزل ونسيت هذا الأمر، وطوال ذلك الوقت كان من المفترض أن يموت، ولكنه لم يفعل.
صارعت كي تتحدث معه، ولكنه كان تائها. استيقظت لتجد أنها تتحرك. كانت في السيارة مع نيل، على الطريق مجددا، كانت نائمة وفمها مفتوح؛ لذا شعرت بالعطش. استدار ناحيتها للحظات، ولاحظت، بالرغم من الرياح التي كانت تلفحهما، أن ثمة رائحة ويسكي جديدة تفوح منه.
كان ما توقعته صحيحا.
قال: «أستيقظت؟ لقد كنت مستغرقة في النوم عندما عدت. آسف ... اضطررت أن أتحدث معهم لفترة. ألا ترغبين في دخول الحمام؟»
في الواقع، كانت هذه مشكلة تفكر فيها أثناء توقفهما عند المنزل. كانت قد رأت دورة مياه خلف المنزل، ولكنها خجلت من الترجل من السيارة والتوجه نحوها.
قال: «يبدو هذا مكانا مناسبا.» وأوقف السيارة. ترجلت من السيارة وسارت بين زهور القضبان الذهبية اليانعة والخلة الشيطانية ونبات زهرة النجمة، ثم جلست القرفصاء، بينما وقف هو بين هذه الزهور على الجانب الآخر من الطريق، وهو يدير وجهه للناحية الأخرى. وعندما عادت إلى السيارة رأت الزجاجة على الأرض بجوار قدميها، وقد بدا أن أكثر من ثلثها قد شرب.
رآها وهي تحدق بالزجاجة.
قال: «آه، لا تقلقي؛ لقد صببت بعضا منها هنا.» كان ممسكا بقارورة صغيرة، ثم استطرد: «هكذا أسهل أثناء القيادة.»
كانت هناك زجاجة كوكاكولا على الأرض أيضا. طلب منها البحث في درج تخزين القفازات أمامها عن فتاحة الزجاجات.
قالت متفاجئة: «إنها باردة.» «بفعل الثلج. إنهم يقتطعون الجليد من البحيرات في الشتاء ويخزنونه في نشارة الخشب، وهم يحتفظون به أسفل المنزل.»
قالت: «ظننت أنني رأيت عمي في مدخل هذا المنزل، ولكني كنت أحلم.» «يمكنك أن تخبريني عن عمك. أخبريني عن مكان إقامتك، وظيفتك، أي شيء. أحب فقط أن أسمعك تتحدثين.»
كانت هناك قوة جديدة في صوته، وتغير في وجهه، ولكنه لم يكن توهج الثمالة الجنوني؛ فيبدو الأمر كما لو أنه كان مريضا ... ليس مريضا للغاية، ولكنه متوعك بعض الشيء بسبب هذا الطقس ويريد الآن طمأنتها أنه أفضل. أعاد غطاء القارورة مكانه ووضعها جانبا وأمسك يدها. أمسكها بخفة، وكأنه يصافح رفيقه.
قالت جريس: «إنه عجوز للغاية، إنه عم والدي في الواقع، إنه يصنع مقاعد الخيزران. لا أستطيع شرح هذا لك، ولكن يمكنني أن أريك إن كان لدينا مقعد من الخيزران.» «لا يوجد واحد هنا.»
ضحكت وقالت: «إنه أمر ممل في الواقع.» «أخبريني عن اهتماماتك إذن. ما الذي يثير اهتمامك؟»
قالت: «أنت.»
سحب يده من فوق يدها: «وما الذي يثير اهتمامك في؟»
قالت جريس في حسم: «ما تفعله الآن، وسببه.» «أتعنين شرب الخمر؟ لماذا أشرب؟» أزاح الغطاء ثانية: «لماذا لا تسألينني؟» «لأنني أعرف ما الذي ستقوله.» «ماذا؟ ما الذي سأقوله؟» «ستقول: وما عساني أفعل غير ذلك؟ أو شيئا من هذا القبيل.»
قال: «هذا صحيح، هذا يشبه ما كنت سأقوله. حسنا، إذن ستحاولين أن تخبريني سبب خطئي.»
قالت جريس: «لا، لن أفعل هذا.»
وعندما قالت ذلك، شعرت بالبرود. ظنت أنها جادة أكثر من اللازم، ولكنها رأت الآن أنها كانت تحاول إبهاره بهذه الإجابات؛ لتثبت له أنها خبيرة بالناس والحياة مثله، وفي خضم هذا توصلت لهذه الحقيقة المطلقة. هذا الافتقار للأمل ... الحقيقي والعقلاني والدائم.
قال نيل: «ألن تفعلي؟ لا، لن تفعلي. كم ارتحت. أنت باعثة على الراحة حقا يا جريس.»
بعد برهة قال: «أتعلمين؟ أشعر بالنعاس. بمجرد أن أجد مكانا مناسبا، سوف أوقف السيارة وأنام، لفترة وجيزة. أتمانعين في ذلك؟» «لا أمانع. أظن أن عليك القيام بهذا.» «سوف تحرسينني؟» «نعم.» «حسن.»
كانت البقعة التي وجدها تقع في قرية صغيرة تدعى فورتشن، كان هناك متنزه على أطرافها إلى جوار نهر، ومكان مكسو بالحصى لإيقاف السيارات. دفع المقعد للوراء وغط في النوم على الفور. حل الليل كما اعتاد أن يفعل في هذا الوقت، في وقت العشاء، مما يثبت أنه لم يكن يوما من أيام الصيف بأي حال. بدا أنه كان هنا أناس في نزهة يحتفلون بعيد الشكر منذ فترة قصيرة؛ فلا زال هناك دخان ينبعث من أخشاب أشعلت للتدفئة في الهواء الطلق، وانتشرت رائحة هامبورجر في الهواء. لم تجعل الرائحة جريس تشعر بالجوع، بل جعلتها تتذكر شعورها بالجوع في ظروف أخرى.
استغرق في النوم على الفور وخرجت هي من السيارة. كان بعض الغبار قد علق بها نتيجة وقفاتهما العديدة ودرس القيادة الذي خاضته. غسلت ذراعيها ويديها ووجهها جيدا بقدر استطاعتها في صنبور خارجي وجدته. بعد ذلك، سارت ببطء - بسبب قدمها المصابة - حتى حافة النهر، ولاحظت كم هو ضحل، مع اختراق الأعشاب لسطحه. وكانت هناك لافتة تقول إنه يحظر ممارسة الفحشاء أو القيام بأفعال تخدش الحياء أو استخدام الألفاظ النابية في هذا المكان، وأنه سوف يتم معاقبة من يفعل هذا.
جربت الأرجوحات، التي كانت تواجه جهة الغرب. دفعت نفسها لأعلى، ونظرت للسماء الصافية؛ كان لونها أخضر باهتا ممزوجا بلون ذهبي شاحب، وكان هناك حد وردي كبير في الأفق. أصبح الجو باردا بالفعل.
ظنت أنهما سيتلامسان؛ شفتاهما، لساناهما، جسداهما، احتكاك العظام بعضها ببعض؛ التأجج، الشغف، ولكن لم يكن هذا هو ما يخبئه لهما القدر على الإطلاق. كان هذا أشبه بلعب الأطفال مقارنة بمدى معرفتها به، مدى اكتشافها لمكنوناته، الآن.
ما رأته كان نهائيا، كما لو كانت على حافة مياه داكنة مستوية امتدت على مد البصر؛ مياه باردة مستوية، وبينما تنظر إلى هذه المياه الداكنة الباردة المستوية عرفت أنها كل ما كان هناك.
ولم تكن مسألة معاقرته الخمر هي التي جعلتها تفكر على هذا النحو، ولم يكن الانتظار كذلك، أيا كان هذا الانتظار، وطوال الوقت. شرب الخمر، أو الحاجة إلى الشرب؛ كان هذا مجرد نوع من الإلهاء، شأنه شأن أي شيء آخر.
عادت إلى السيارة وحاولت إيقاظه. تقلب ولكنه لم يستيقظ؛ لذا سارت في الأرجاء مجددا كي تبقى دافئة، ولكن على مهل كي لا تؤذي قدمها. أدركت الآن أنها ستعود لعملها مجددا؛ لخدمة الزبائن وتقديم الإفطار، في الصباح.
حاولت ثانية، متحدثة معه بإلحاح، فأجابها بالعديد من الوعود والتمتمات، وغط في النوم ثانية. وعندما حل الظلام كانت قد استسلمت. والآن بعد مداهمة برد الليل لها اتضحت لها حقائق أخرى؛ أنهما لن يظلا هنا، وأنهما ما زالا في هذا العالم، وأن عليها العودة إلى بيليز فولز.
وبصعوبة نقلته إلى المقعد المجاور لقائد السيارة. وإن لم يوقظه هذا، فيبدو أنه ما من شيء آخر سيفعل. استغرق منها الأمر بعض الوقت لتعرف كيف تضيء المصابيح الأمامية، ثم بدأت تحرك السيارة وهي تهتز وتسير ببطء نحو الطريق.
لم يكن لديها أدنى فكرة عن الاتجاهات، ولم يكن هناك أحد على الطريق لتسأله. ظلت فقط تقود حتى الجانب الآخر من البلدة، وهناك، لحسن الحظ، وجدت لافتة تشير إلى الطريق المؤدي إلى بيليز فولز، من بين أماكن أخرى. إنها على بعد تسعة أميال فقط.
قادت السيارة على الطريق السريع الذي انقسم إلى حارتين بسرعة لا تزيد عن ثلاثين ميلا في الساعة. لم يكن هناك ازدحام مروري. مرة أو مرتان تجاوزتها سيارة وهي تطلق البوق، والسيارات القليلة التي واجهتها كانت تطلق النفير أيضا. ربما كان هذا لأنها تقود ببطء شديد، وربما في المرات الأخرى لأنها لم تكن تعرف كيفية تخفيف الضوء الساطع. لا بأس، ليس بوسعها التوقف، فلن تستطيع أن تستجمع شجاعتها ثانية في منتصف الطريق. لم يكن بإمكانها شيء سوى مواصلة القيادة، كما قال لها: «واصلي القيادة.»
في البداية لم تتعرف على بيليز فولز؛ لأنها وصلتها بهذه الطريقة غير المعتادة. وعندما وصلت، أصبحت أكثر فزعا مما كانت خلال التسعة أميال السابقة. كان السبب الأول لذلك هو القيادة في مكان لا تعرفه، وكان السبب الآخر هو أنه كان عليها التوقف أمام بوابات الفندق.
كان مستيقظا عندما توقفت في ساحة الانتظار. لم يبد متفاجئا لأنه استيقظ في مكان آخر، ولم يفاجأ حتى مما فعلته، بل أخبرها أن أصوات النفير أيقظته في الواقع قبل عدة أميال، ولكنه تظاهر بأنه لا يزال نائما؛ لأنه رأى أن المهم ألا يفزعها، ولكنه لم يكن قلقا؛ فقد عرف أن بوسعها القيام بهذا.
سألته إن كان متيقظا كفاية الآن ليقود. «متيقظ للغاية، وألمع مثل الدولار.»
طلب منها خلع حذائها، واستشعرها وضغط عليها هنا وهناك قبل أن يقول: «جيد، ليس بها سخونة وليست متورمة. هل تؤلمك ذراعك؟ إنه لن تؤلمك في الغالب.» اصطحبها حتى الباب وشكرها على صحبتها. كانت لا تزال مندهشة لأنها عادت بأمان. لم تدرك تقريبا أنه حان وقت الوداع.
في الحقيقة، إنها لا تعرف حتى يومنا هذا إن كانا رددا كلمات الوداع أم لا، أم أنه فقط لف ذراعيه حولها وعانقها بقوة وبضغط متغير ومستمر حتى إنه بدا وكأنه يحتاج أكثر من ذراعين، وأنه احتواها، كان جسده قويا وخفيفا، يطلبها ويتخلى عنها في نفس الوقت، كما لو أنه يخبرها أنها كانت مخطئة في تركه؛ فكل شيء محتمل، ولكن مرة أخرى كأنه يقول إنها لم تكن مخطئة في ذلك الحين، لقد أراد أن يترك عليها أثرا ثم يرحل. •••
وفي وقت مبكر من الصباح، طرق المدير على باب المهجع مناديا على جريس.
قال: «مكالمة هاتفية لك. لا تنهضي، إنهم فقط يريدون معرفة هل أنت هنا أم لا. قلت إنني سآتي وأتأكد. حسنا الآن.»
قالت في نفسها لا بد أنه موري. واحد منهم، على أي حال، ولكنه على الأحرى موري. الآن عليها مواجهة موري.
وعندما هبطت الدرجات لتقديم الإفطار - مرتدية نعليها المصنوعين من القماش - سمعت عن الحادث. ارتطمت سيارة بدعامة جسر في منتصف الطريق المؤدي إلى ليتل سابوت ليك، وقد تحطمت على الفور واحترقت. لم تتحطم سيارات أخرى في الحادث، ولم يصب ركاب آخرون، وسيتم التعرف على هوية السائق من خلال أسنانه، أو ربما تم التعرف عليه بالفعل.
قال المدير: «يا لها من طريقة للموت! الأفضل أن ينحر المرء عنقه.»
قال الطاهي ذو الطبيعة المتفائلة: «يمكن أن يكون مجرد حادث، ربما غط في النوم.» «نعم، بالطبع.»
آلمتها ذراعها الآن كما لو كانت قد تلقت لطمة قوية. لم تستطع الحفاظ على توازن يدها وهي تحمل صينيتها، ولكنها اضطرت أن تحملها أمامها مستخدمة كلتا يديها. •••
لم تضطر أن تواجه موري وجها لوجه؛ فقد كتب لها رسالة:
فقط أخبريني أنه أرغمك على فعل هذا. فقط أخبريني أنك لم ترغبي في الذهاب.
ردت على الرسالة بثلاث كلمات: «لقد أردت الذهاب.» وكانت ستضيف عبارة «أنا آسفة»، ولكنها منعت نفسها من هذا. •••
جاء السيد ترافرز إلى الفندق لرؤيتها. كان مهذبا وعمليا وحاسما ولطيفا وليس قاسيا. رأته الآن في ظروف جعلته يبدو مستقلا وقويا؛ رجلا يستطيع تولي المسئولية، يمكنه ترتيب الأمور. قال إنه كان حزينا للغاية، إنهم جميعهم تعساء، ولكن إدمان المسكرات هو شيء بشع حقا. وعندما تتحسن حالة السيدة ترافرز سوف يأخذها في رحلة؛ ربما في إجازة إلى مكان دافئ.
ثم قال إن عليه الذهاب؛ فلديه الكثير من الأمور ليفعلها. وعندما كان يصافحها مودعا إياها وضع ظرفا في يدها.
قال: «كلانا يتمنى أن تستفيدي من هذا.»
كان شيكا بألف دولار. فكرت على الفور أن تعيده إليه أو تمزقه، وحتى وقتنا هذا ما زالت تظن أحيانا أن ذلك كان سيمثل أمرا جللا، ولكنها بالطبع لم تستطع في النهاية القيام بذلك؛ ففي تلك الأيام، كان هذا مبلغا كافيا يضمن لها أن تبدأ بداية جيدة في الحياة.
الخطايا
توجهوا بالسيارة إلى خارج البلدة نحو منتصف الليل؛ وجلس هاري ودلفين في المقعد الأمامي، بينما استقرت آيلين ولورن في المقعد الخلفي. كانت السماء صافية وقد انزلقت الثلوج من فوق الأشجار، لكنها لم تذب تحتها أو حتى فوق تلك الصخور التي امتدت على جانب الطريق. أوقف هاري السيارة بجانب أحد الجسور. «هنا مناسب.»
قالت آيلين: «قد يرى أحدهم أننا توقفنا هنا، وربما يتوقف ليتبين ما نحن مقدمون على عمله هنا.»
شرع في القيادة مرة أخرى، وانعطفوا عند أول طريق ضيق غير ممهد قابلوه، حيث هبطوا من السيارة جميعا وساروا بحذر بجانب الضفة، لمسافة قصيرة، بين أشجار الأرز الداكنة المتشابكة. صدرت بعض الأصوات الخفيفة من تحتهم نتيجة تفتت الثلوج، بالرغم من أن الأرض كانت لزجة وموحلة. كانت لورن لا تزال ترتدي منامتها أسفل معطفها، ولكن آيلين جعلتها ترتدي حذاءها الطويل ذا الرقبة.
قالت آيلين: «أهنا مناسب؟»
قال هاري: «لكنه لا يبعد كثيرا عن الطريق.» «إنه يبعد بمسافة كافية.» •••
كان هذا هو العام الذي أعقب ترك هاري لعمله في إحدى مجلات الأخبار بسبب إنهاكه الشديد، وكان قد اشترى الصحيفة الأسبوعية في تلك البلدة الصغيرة التي يتذكرها منذ أيام طفولته؛ فقد كانت عائلته لديها منزل صيفي يطل على واحدة من تلك البحيرات الصغيرة الموجودة هنا، وتذكر أول كوب من الجعة احتساه في ذلك الفندق المطل على الطريق الرئيسي، وقد ذهب بصحبة آيلين ولورن لتناول العشاء في أول ليلة أحد يمضونها بالبلدة.
ولكن الحانة كانت مغلقة، واضطر هاري وآيلين لشرب المياه.
قالت آيلين: «كيف ذلك؟»
وقد رفع هاري حاجبيه وهو ينظر نحو مالك الفندق، والذي كان هو النادل أيضا في نفس الوقت.
قال: «أتغلق يوم الأحد؟» «ليس لدينا تصريح.» تحدث المالك بلكنة ثقيلة، بدت أنها تحمل بعضا من الازدراء. كان يرتدي قميصا، وربطة عنق، وسترة من الصوف، وسروالا، بدت جميعها متشابهة؛ جل ما كان يرتديه ذو ملمس ناعم، به بعض الكرمشة، والتجعيدات كبشرة الجلد الخارجية الجافة ، يميل لونها إلى الشحوب كما لا بد وأن تكون بشرته الحقيقية أسفل ملابسه.
قال هاري: «لقد تغير الأمر واختلف عن الماضي.» وعندما لم يجبه الرجل استمر في حديثه وطلب وجبة اللحم البقري المشوي مع كل مشتملاتها.
قالت آيلين: «يا له من شخص ودود!» «إنه الطابع الأوروبي، إنها ثقافتهم؛ فهم لا يشعرون بأن عليهم أن يبتسموا طوال الوقت.» ثم أشار إلى بضعة أشياء في غرفة الطعام، والتي لها نفس الطابع؛ فها هو السقف المرتفع، والمروحة التي تدور ببطء، وتلك اللوحة الزيتية القاتمة التي تحتوي على منظر لأحد كلاب الصيد وفي فمه طائر يكسوه الريش بلون أحمر يميل إلى الاصفرار.
دخل بعض المرتادين حيث كانت هناك حفلة عشاء عائلية؛ فتيات صغيرات بأحذيتهن البراقة وملابسهن المزخرفة المنفوشة، وطفل صغير، وصبي يافع يرتدي حلته، وقد غلبه الإحراج الشديد، العديد من الآباء والأجداد؛ فهناك رجل كبير في السن ونحيف يبدو شارد الذهن، وامرأة عجوز تتحرك ببطء فوق مقعدها المتحرك وترتدي طوقا من الزهور على معصمها. وكانت أي امرأة في الحفل بردائها المنمق تماثل وحدها أربع نسوة بحجم آيلين.
همس هاري: «إنه احتفال بعيد زواج.»
وفي طريقه للخروج توقف ليقدم نفسه وعائلته، وليخبرهم بأنه زميلهم الجديد بالجريدة، وليقدم أيضا تهانيه بعيد الزواج، وتمنى ألا يمانعوا في أن يقوم بتدوين أسمائهم. كان هاري رجلا ذا وجه عريض، وهيئة صبيانية بعض الشيء، وبشرة خمرية وشعر لامع بلون بني فاتح. وقد غمر شعوره بالسعادة وعظيم التقدير جل المائدة - بالرغم من أنه لم يمتد ليطول ذلك الصبي المراهق أو الزوجين المتقدمين في العمر. وقد سأل عن المدة التي قضياها في زواجهما، فأخبروه بأنها خمسة وستون عاما.
صاح هاري وقد أصابته الفكرة بالدوار: «خمسة وستون عاما؟» تساءل إن كان بإمكانه تقبيل العروس، وقد فعل، ولامست شفتاه طرف أذنها الطويلة عندما أدارت رأسها جانبا.
قال لآيلين: «والآن عليك بتقبيل العريس.» فابتسمت ابتسامة خافتة وطبعت قبلة سريعة أعلى رأسه.
سأل هاري عن وصفة الزواج السعيد.
قالت واحدة من النساء اللاتي اتسمن بالضخامة: «إن أمي لا تستطيع الكلام، لكن دعوني أسأل أبي.» ثم راحت تصيح في أذن والدها: «ما الذي تنصح به من أجل زواج سعيد؟»
قطب حاجبيه بطريقة شقية وقال: «بكل بساطة ضع عنقها تحت قدمك طوال الوقت.»
ضحك الكبار، وقال هاري: «حسنا، سأذكر في الجريدة أنك دائما ما تحرص على أن تنال موافقة زوجتك في كل شيء.»
وبالخارج قالت آيلين: «كيف لهم أن يكونوا على هذا القدر من السمنة؟ لا أفهم. ربما عليك أن تأكل آناء الليل والنهار لتصل إلى هذا الحجم.»
قال هاري: «شيء غريب.»
قالت: «كان هناك بعض من الفاصوليا الخضراء المعلبة. في أغسطس. أليس هذا هو الوقت الذي تنضج فيه الفاصوليا الخضراء؟ وهنا وسط الريف حيث يفترض أنهم يزرعون المحاصيل؟»
قال هاري بسعادة: «إنه لشيء أعجب من العجب.» •••
سرعان ما طرأت بعض التغييرات على الفندق؛ فتم تركيب سقف معلق في غرفة الطعام السابقة؛ عبارة عن مربعات من الورق المقوى مثبتة بشرائط من المعدن، واستبدلت الموائد المستديرة الضخمة بأخرى مربعة صغيرة الحجم، وكذلك تم تغيير الكراسي الخشبية الثقيلة ليحل محلها كراسي معدنية أخف وزنا ذات مقاعد بلاستيكية من اللون البني المائل للحمرة. وبسبب وجود الأسقف المنخفضة، كان لا بد من تقليل حجم النوافذ، فأصبحت على شكل مستطيلات عريضة، وعلقت على إحداها لافتة من النيون كتب عليها «مقهى مرحبا».
ولم يكن المالك - الذي يدعى السيد باليجيان - يبتسم على الإطلاق أو يتفوه بكلمة تزيد عما يمكنه لأي شخص بالرغم من وجود اللافتة التي ترحب بالزائرين.
وعلى إثر التغييرات، امتلأ المقهى بالزبائن في فترة الظهيرة، أو الساعات المتأخرة في فترة ما بعد الظهيرة. وكانت الزبائن من طلاب المدرسة الثانوية، وأكثرهم من طلاب السنة التاسعة حتى الحادية عشرة. كذا كان يتردد عليها بعض من طلاب المرحلة المتوسطة. أما جاذبية المكان الشديدة فكانت تكمن في أنه بمقدور أي شخص أن يدخن، لكن لا يمكنك شراء السجائر إن كنت تبدو أقل من ستة عشر عاما. كان السيد باليجيان حازما بشأن ذلك؛ فكان يقول بصوته العميق الكئيب : «لا، لا يمكنك ذلك.»
وفي ذلك الوقت قام بتعيين امرأة للعمل معه، وإن تصادف وحاول أي شخص صغير السن أن يبتاع منها السجائر كانت تنفجر في الضحك وتقول: «مع من تمزح يا ذا الوجه الطفولي.»
ولكن بالرغم من ذلك كان باستطاعة أي طالب في السادسة عشرة من عمره أو أكثر جمع النقود من أولئك الطلاب الأصغر سنا ليبتاع دستة من علب السجائر.
قال هاري: «تنفيذا لنصوص القانون فقط.»
توقف هاري عن تناول طعام الغداء هناك؛ حيث كان هناك صخب شديد بالمكان، لكنه كان لا يزال يذهب إليه ليتناول طعام الإفطار. تمنى لو أن السيد باليجيان أصبح أكثر ودا ليروي قصة حياته. احتفظ هاري بملف مليء بالأفكار التي تصلح للعديد من الكتب، وكان دائما ما يتطلع لمعرفة قصص حياة الآخرين؛ فكان يقول إن شخصا مثل السيد باليجيان - أو حتى تلك النادلة السمينة الفظة الحديث - يمكن أن يخفيا مأساة معاصرة، أو حتى مغامرة، تصنع كتابا من أكثر الكتب مبيعا.
كان هاري قد أخبر لورن بأنه من الأشياء الهامة في الحياة أن يعيش المرء في العالم باهتمام وشغف؛ بمعنى أن تفتح عينيك وترى كل الإمكانيات، والجوانب الإنسانية، في كل شخص تقابله؛ أن تكون على دراية بما حولك. إن كان لديه أي شيء ليعلمه إياها فقد كان هو ذاك: «أن تكون على دراية بما حولك.» •••
كانت لورن تعد طعام إفطارها بنفسها، ويتكون عادة من الحبوب الممزوجة بشراب القيقب المحلى بدلا من اللبن، أما آيلين فتعد قهوتها وتعود إلى فراشها وتحتسيها على مهل، وكانت دوما لا ترغب في الحديث في ذلك التوقيت؛ إذ كان عليها أن تعد نفسها لتبدأ عمل ذلك اليوم في مكتب الجريدة. وعندما كانت تستعيد نشاطها على نحو كاف - وذلك أحيانا بعد أن تغادر آيلين إلى المدرسة - كانت تنهض من الفراش، وتأخذ حماما وترتدي واحدا من أطقم ملابسها المثيرة غير الرسمية. وحيث إن فصل الخريف أوشك على الانتهاء كانت عادة ما ترتدي سترة ثقيلة، وتنورة قصيرة من الجلد، وجوارب ضيقة ذات ألوان زاهية. ومثلها كمثل السيد باليجيان؛ فقد استطاعت آيلين أن تبدو مختلفة عن أي فرد في البلدة، لكنها على العكس منه كانت جميلة بشعرها الأسود القصير، وأقراطها الذهبية الرفيعة التي تتخذ شكل علامة التعجب، وجفونها المظللة باللون الأرجواني الخفيف. كان أسلوبها في مكتب الجريدة يتسم بالحزم، وكانت تعبيراتها جامدة وخالية من الود بعض الشيء، لكن ابتساماتها المشرقة المدروسة كانت تنجح في كسر ذلك في بعض الأحيان.
كانوا قد استأجروا أحد المنازل التي تقع عند أطراف البلدة، وكانت تقع خلف فناء المنزل مباشرة أراض برية شديدة الجاذبية من التلال الصخرية، ومنحدرات الجرانيت، ومستنقعات شجر الأرز، والبحيرات الصغيرة، وغابة مليئة بمختلف الأشجار؛ فهناك شجر الحور، والقيقب الناعم، والأرزية الكندية، وشجر التنوب. لقد أحب هاري المكان، وقال إنه ليس ببعيد أن يستيقظوا ذات يوم ليروا أيلا في الفناء الخلفي. عادت لورن إلى المنزل بعد انتهاء اليوم الدراسي بعد أن انكسرت الشمس وتلاشى دفء ذلك اليوم من أيام الخريف الذي لا بأس به. كان المنزل باردا، وتنبعث منه رائحة طعام عشاء الليلة الماضية، ومسحوق القهوة التي فسدت، والقمامة التي كان عليها أن تلقيها بالخارج. كان هاري قد صنع كومة من السماد؛ فقد كان يعتزم أن يزرع حديقة من الخضراوات في العام القادم. حملت لورن الدلو المليء بالقشور، وبقايا التفاح، ومسحوق القهوة وفضلات الطعام إلى أطراف الغابة، حيث من الممكن أن يظهر أحد الدببة أو واحد من حيوانات الأيل لتناولها. تحولت أوراق شجر الحور إلى اللون الأصفر، وكانت أشجار الأرزية الكندية تحمل بعض النتوءات البرتقالية ذات الزغب بجانب الأشجار دائمة الخضرة. قامت بإلقاء القمامة ثم هالت عليها بعضا من الطين والحشائش تماما كما علمها هاري.
اختلفت حياتها على نحو كبير الآن مقارنة بما كانت عليه منذ أسابيع قليلة فقط؛ وذلك عندما كانت هي وهاري وآيلين يستقلون السيارة متجهين نحو واحدة من البحيرات الصغيرة من أجل السباحة في أحد الأيام الحارة في فترة ما بعد الظهيرة. وفي المساء تذهب هي وهاري في جولات مغامرة حول البلدة، بينما كانت آيلين تقوم بصنفرة جدران المنزل وطلائها ولصق أوراق الحائط زاعمة أنه بمقدورها أن تقوم بذلك بنفسها بصورة أسرع وأفضل. وكان كل ما تطلب من هاري أن يفعله هو أن يقوم بإزاحة صناديق أوراقه، وخزانة ملفاته ومكتبه بعيدا عن طريقها، ووضعها في حجرة صغيرة متواضعة في قبو المنزل، وقد عاونته لورن في ذلك.
كان أحد صناديق الكرتون الذي حملته خفيفا بطريقة غريبة، وبدا أنه يحوي شيئا ناعما، لا يشبه الورق، بل أشبه بالقماش أو خيوط الغزل. وبمجرد أن قالت: «ما هذا؟» ورآها هاري وهي تحمله قال: «انتظري.» ثم أردف: «يا إلهي!»
وانتزع الصندوق من يدها ووضعه على الفور في أحد أدراج خزانة الملفات، ثم أغلقها بعنف وهو يقول ثانية: «يا إلهي!»
كان نادرا ما يتحدث إليها بهذا الأسلوب الفظ الغاضب، ثم راح ينظر حوله كما لو أن هناك أحدا يراقبهما، ثم خبط بيده على بنطاله.
قال: «إنني جد آسف، لم أتوقع أن تلتقطي هذا الصندوق.» اتكأ بمرفقه على خزانة الملفات ثم أحنى رأسه ووضع جبهته بين كفيه.
قال: «الآن، الآن يا لورن. بإمكاني أن أخترع أي كذبة أقولها لك، لكني سأخبرك بالحقيقة؛ لأنني أعتقد أنه ينبغي أن يعرف الأطفال الحقيقة، أو على الأقل ينبغي أن يعرفها من هم في مثل عمرك، لكن في تلك الحالة سيكون هذا بمثابة سر، اتفقنا؟»
قالت لورن: «اتفقنا.» ولكن كان هناك شيء في قرارة نفسها جعلها تتمنى ألا يفعل ذلك.
قال هاري: «هذا الصندوق به رماد.» وخفت صوته على نحو غريب وهو يلفظ كلمة رماد، ثم أردف قائلا: «إنه ليس رمادا عاديا، بل رماد ناتج عن إحراق جثة رضيع. هذا الرضيع توفي قبل مولدك. حسنا، اجلسي.»
جلست فوق كومة من المفكرات ذات الغلاف المقوى، والتي تحتوي على كتابات هاري. رفع رأسه ثم نظر إليها. «ما أخبرتك به أمر مؤلم بالنسبة لآيلين؛ لهذا ينبغي أن يظل سرا؛ ولذا لم نخبرك به قط؛ فآيلين لا تحتمل أن يذكرها به أحد ثانية. والآن، أفهمت ذلك؟»
قالت ما ينبغي لها قوله في هذا الموقف: «نعم.» «حسنا، والآن ما حدث هو أننا رزقنا بذلك الطفل قبل أن نرزق بك، وكانت بنتا، وعندما كانت الرضيعة لا تزال ضعيفة وضئيلة الحجم، حملت آيلين للمرة الثانية. كان ذلك صدمة كبيرة لها؛ لأنها قد أيقنت لتوها كم المجهود الشاق الذي تتطلبه العناية بطفل حديث الولادة، وها هي لا تحصل على أي قسط من النوم وتتقيأ بسبب شعورها بالغثيان في الصباح، بل في الواقع لم يكن في الصباح فقط، بل في فترة الظهيرة والمساء، ولم تكن تدري كيف تواجه الأمر؛ فقد أصبحت حاملا بالفعل. وذات ليلة فقدت السيطرة على مشاعرها، وواتتها فكرة الخروج. استقلت السيارة وبصحبتها الرضيعة في مهدها، وكان الظلام قد حل، والأمطار تهطل، وكانت تقود السيارة بسرعة شديدة ولم تلحظ أحد منعطفات الطريق، فاصطدمت سيارتها. هذا ما حدث. لم تكن الرضيعة مثبتة على نحو جيد في مهدها، فوقعت منه وارتطمت بشدة. وأصيبت آيلين بكسر في ضلوعها وبارتجاج في المخ، وبدا الأمر حينها وكأننا سنفقد الطفلين.»
أخذ نفسا عميقا ثم قال: «أعني أننا فقدنا واحدا بالفعل؛ فعندما سقطت الرضيعة من مهدها ارتطمت بشدة وماتت بالطبع، لكننا لم نفقد ذلك الآخر الذي كانت تحمله آيلين في أحشائها؛ لأنه كان أنت. أفهمت الآن؟ أنت.»
أومأت برأسها ببطء. «لذا؛ فالسبب الذي لم يجعلنا نخبرك بذلك - بجانب حالة آيلين الانفعالية - هو أن الأمر قد يشعرك بأنك شخص غير مرغوب فيه، ولم نكن نريد أن يحدث هذا في بداية هذه الظروف، لكن عليك أن تصدقيني بأننا كنا نرغب بوجودك بشدة. أوه يا لورن. لقد رغبنا فيك بالفعل، ونحبك بشدة.»
أبعد ذراعه عن خزانة الملفات، ثم اقترب منها وطوقها بذراعيه. كانت تنبعث منه رائحة العرق والنبيذ الذي احتساه هو وآيلين في العشاء، ولم تشعر لورن بالراحة على الإطلاق، وشعرت بالإحراج. لم تحزنها القصة بالرغم من أن ذلك الرماد كان شيئا مفزعا ومخيفا، لكنها سلمت بكلماته وأن الأمر سيزعج آيلين.
قالت بطريقة عفوية: «ألهذا السبب كنتما تتشاجران؟» فأبعد يده عنها.
قال بأسى: «نتشاجر. أعتقد أن ثمة شيئا يكمن خلف ذلك؛ يكمن خلف نوبات الهياج هذه. أتدرين أنني أشعر بالأسى والحزن حيال كل ذلك. إنني كذلك حقا.» •••
عندما كانا يذهبان للتريض في الخارج معا كان يسألها بين الحين والآخر إذا ما كان يساورها شعور بالقلق، أو الحزن، بشأن ما قصه عليها، فكانت تجيبه بصوت حازم يدل على نفاد الصبر بعض الشيء وتقول: «لا.» ويقول حينها: «حسنا.»
كان لكل شارع جاذبيته ومصدر جماله؛ فهناك القصر الفيكتوري (الذي أضحى الآن إحدى دور الرعاية)، والبرج الحجري الذي كان هو كل ما تبقى من مصنع لإنتاج المكانس اليدوية، وهناك أيضا المقابر التي يعود تاريخها لعام 1842. ولبضعة أيام سيقام معرض في الخريف. وشاهدا الشاحنات وهي تسير الواحدة تلو الأخرى عبر الأوحال، وتزيح أحد الأرصفة المحملة بالكتل الأسمنتية التي راحت تنزلق وتتزحزح للأمام؛ مما جعل مؤخرة الشاحنات ترتج وتترنح، وتوقفت الشاحنات وراحت تضبط وتنظم المسافات فيما بينها. اختار كل من هاري ولورن شاحنة من الشاحنات لتشجيعها والتهليل لها.
بدا للورن الآن أن كل ذلك الوقت الذي مر لم يكن يحمل إلا وهجا زائفا؛ نوعا من الحماسة الساذجة المستهترة التي لا تقيم وزنا لما يحدث في الحياة اليومية، أو الواقع الذي كان عليها مواجهته بمجرد أن تبدأ الدراسة وتخرج طبعات الجريدة للنور ويتغير الطقس. أيضا، كان الدب أو الأيل من الحيوانات المتوحشة بالفعل التي لا تفكر إلا في احتياجاتها الضرورية، ولم تكن تجلب أي نوع من الإثارة، ولم تعد تستطيع القفز والصراخ الآن كما كانت تفعل في أرض المعارض وهي تهلل للعربة التي تقوم بتشجيعها؛ فقد يراها أحد من المدرسة ويعتقد أنها غريبة الأطوار.
وهو أقرب إلى فكرتهم عنها على أي حال.
فعزلتها في المدرسة كانت نابعة من المعرفة والخبرة، والتي كانت تبدو وكأنها نوع من السذاجة والتحفظ، ولكنها لم تكن تدري ذلك تماما؛ فالأشياء التي كانت أسرارا شريرة بالنسبة للآخرين لم تكن هكذا بالنسبة لها، ولم تكن تدري كيف تتصنع وتتظاهر حيالهم بغير ذلك. وكان هذا هو ما فصلها وأبعدها عن الآخرين مثلما أبعدتها أيضا معرفتها بكيفية نطق بضع كلمات بالفرنسية وقراءتها لرواية «سيد الخواتم». كانت قد احتست نصف زجاجة من الجعة عندما كانت في الخامسة من عمرها، ونفثت الدخان عندما كانت في السادسة، بالرغم من أنه لم يرق لها أي منهما. كانت في بعض الأحيان تتناول القليل من النبيذ على العشاء، وكان ذلك يعجبها بعض الشيء. كانت تعرف ما هو الجنس الفموي، وكذلك كل ما يتعلق بوسائل منع الحمل وما يفعله الشواذ. وكثيرا ما كانت ترى هاري وآيلين وهما عاريين، كما رأت حفلة لأصدقائهما وهم مجردون من ملابسهم وقد التفوا حول النيران المشتعلة في الغابة. وفي تلك الإجازة أيضا تسللت هي ومجموعة من الأطفال الآخرين ليشاهدوا الآباء وهم يندسون سريعا إلى خيمات الأمهات وهن لسن بزوجاتهم بناء على اتفاقات سرية مسبقة. وقد عرض عليها أحد الصبية ممارسة الجنس معها فوافقت، لكنه لم يحرز أي تقدم، وشعر كلاهما بالغضب حيال الآخر، وفيما بعد كانت تكره مجرد رؤيته.
كان كل ذلك كالحمل الثقيل بالنسبة لها هنا؛ فقد منحها شعورا بالحرج والحزن الغريب، بل والحرمان. ولم يكن هناك الكثير لتفعله سوى أن تتذكر أن تنادي آيلين وهاري في المدرسة بأبي وأمي. كان ذلك يجعلهما أكبر، ولكن ليس أكثر عنفا أو حدة؛ فحدود حدتهما كانت تذوب قليلا عندما كانت تتحدث عنهما بهذا الأسلوب، وتتخفى سمات شخصيتهما بعض الشيء تحت غطاء خادع. أما حينما تكون أمامهما وجها لوجه فلا يكون لديها أي أسلوب لتحقق نفس التأثير، بل إنها حتى لا تستطيع أن تعترف أن ذلك قد يكون مصدر راحة لها. •••
كان بعض الفتيات في فصل لورن يذهبن إلى الفندق ويجدن طريقهن إلى الحمام، وقد كن يجدن المقهى المجاور إغراء لا يقاوم، لكنهن لم تكن لديهن الشجاعة الكافية لدخوله. وهناك في الحمام كن يمضين نحو ربع الساعة أو نصف الساعة في تصفيف شعورهن وشعور الأخريات بتسريحات مختلفة، ووضع أحمر الشفاه الذي كن يسرقنه من متجر ستيدمان، وتشم كل منهن عنق الأخرى ومعصمها الذي كن يغرقنه بكافة أنواع العطور المتاحة للتجربة دون مقابل في الصيدلية.
عندما طلبن من لورن أن تصاحبهن ذات مرة تشككت في أن يكون وراء ذلك خدعة ما، لكنها وافقت على أي حال، وكان جزء من موافقتها راجعا إلى أنها تكره العودة إلى المنزل بمفردها في فترة ما بعد الظهيرة التي تقصر باستمرار وتمكث في المنزل الذي يقع على أطراف الغابة.
وبمجرد أن دخلن إلى البهو أمسكت بيدها فتاتان، وقمن بدفعها نحو النضد حيث تجلس سيدة من العاملات في المطعم على أحد المقاعد العالية وتقوم ببعض العمليات الحسابية على الآلة الحاسبة.
كانت هذه السيدة تدعى دلفين، كانت لورن تعرف اسمها بالفعل من هاري. كانت ذات شعر طويل ناعم يميل إلى الأشقر المائل للبياض، أو ربما كان أبيض بالفعل؛ لأنها لم تكن صغيرة السن. لا بد وأنها كانت تضطر إلى إعادة شعرها للوراء دوما لتزيحه عن وجهها تماما كما تفعل الآن. كانت عيناها - اللتان بدتا من وراء نظارتها ذات الإطار الداكن - تغطيهما جفونها المظللة باللون الأرجواني. كان وجهها عريضا، كجسدها، وشاحبا بعض الشيء وذا بشرة ناعمة، ولم يكن هناك شيء بها ينم عن التكاسل أو البلادة. رفعت عينيها الآن فظهر لونهما الأزرق الفاتح الصريح، وراحت تقلب نظرها بين الفتيات كما لو أنه لا يدهشها أي سلوك ذميم يصدر عنهن.
قالت الفتيات: «ها هي.»
نظرت المرأة - دلفين - الآن نحو لورن وقالت: «أنت لورن؟ أواثقة من هذا؟»
أجابت لورن في حيرة بنعم.
قالت المرأة وهي تشير إلى الفتيات وكأنهن يقفن بالفعل على مسافة بعيدة وخارج إطار حديثها مع لورن تماما: «لقد سألتهن إن كانت هناك في المدرسة فتاة تدعى لورن.» وأردفت قائلة: «سألتهن لأننا قد عثرنا على شيء ما هنا، ولا بد وأنه سقط من أحدهم في المقهى.»
ثم فتحت أحد الأدراج وأخرجت منه سلسة ذهبية، وكان يتدلى منها أحرف تكون اسم لورن.
هزت لورن رأسها بالنفي.
قالت دلفين: «لا تخصك؟ أوه، أمر سيئ. لقد سألت الأولاد في المدرسة الثانوية بالفعل؛ لذا علي أن أحتفظ بها هنا بعض الوقت؛ ربما يأتي أحدهم ليسأل عنها.»
قالت لورن: «بإمكانك أن تنشري إعلانا في جريدة أبي.» لكنها لم تدرك حينها أنه كان ينبغي لها أن تقول «الجريدة» فقط؛ وذلك حتى اليوم التالي عندما كانت تمر بجوار فتاتين في مدخل المدرسة وهما يلمزان ويقولان بصوت يتصنع الفخر: «جريدة أبي.»
قالت دلفين: «بإمكاني أن أفعل ذلك، لكني سأجد كل أنواع البشر يأتون إلى هنا ويدعون أنها تخصهم، وربما يصل الأمر بهم إلى الكذب بشأن أسمائهم. إنها سلسة من الذهب.»
أشارت لورن لها قائلة: «لكنهم لن يستطيعوا ارتداءها إن لم تكن تحمل أسماءهم الحقيقية.» «ربما لا يفعلون، لكني لن أضعها نصب أعينهم ليدعوا هذا على أي حال.»
كانت الفتيات الأخريات قد توجهن نحو دورة المياه.
فنادتهن دلفين قائلة: «أنتن، ممنوع الدخول هناك.»
فاستدرن نحوها في دهشة.
وقلن: «كيف ذلك؟» «لأنه ممنوع الدخول، هذا هو الأمر، والآن بإمكانكن التسكع في مكان آخر.» «لكنك لم تمنعينا من الدخول فيما مضى.» «ما مضى قد مضى، والآن شيء آخر.» «ولكن من المفترض أنها دورة مياه عامة.» «إنها ليست كذلك، أما التي تقع في مبنى شئون المدينة فهي كذلك، والآن اغربن عن هنا.»
استدارت دلفين موجهة حديثها إلى لورن التي كانت على وشك أن تتبع الأخريات: «لا أقصدك بهذا الكلام، إنني جد آسفة أن السلسلة لا تخصك. بإمكانك العودة مرة أخرى في غضون يوم أو يومين، وإن لم يأت أحد ليسأل عنها، لنر، فهي تحمل اسمك على أي حال.»
عادت لورن مرة أخرى في اليوم التالي، ولكنها لم تكن تهتم بأمر السلسلة على الإطلاق؛ فهي في الواقع لا تتخيل أنه يمكن أن يسير المرء واسمه يتدلى فوق عنقه. كل ما هنالك أنها كانت تريد أن تأخذ جولة ما؛ مكانا تذهب إليه. كان بمقدورها أن تذهب إلى مكتب الجريدة، ولكن بعد أن سمعتهن وهن يرددن كلمة «جريدة أبي» على هذا النحو لم تعد راغبة في الذهاب إلى هناك.
قررت أنها لن تدخل إن كان السيد باليجيان هو الذي يقف خلف النضد وليست السيدة دلفين، ولكنها كانت دلفين من تقف هناك بالفعل، وكانت تروي نبتة قبيحة الشكل عند النافذة الأمامية.
قالت دلفين: «أوه، حسنا، لم يأت أحد ليسأل عنها، سأتريث حتى نهاية الأسبوع، لدي شعور قوي أنها ستكون لك. بإمكانك أن تأتي دائما في هذا الوقت من اليوم؛ فليس لدي عمل بالمقهى في فترة ما بعد الظهيرة، وإن حدث ولم تجديني في البهو فعليك فقط بدق الجرس، فسأكون في مكان ما هنا.»
قالت لورن: «حسنا.» واستدارت لترحل. «أتريدين أن تجلسي لبضع دقائق؟ كنت أفكر أن أتناول قدحا من الشاي. هل تشربين الشاي؟ هل يسمح لك بتناول الشاي؟ أم تفضلين مشروبا باردا بدلا منه؟»
قالت لورن: «صودا الليمون لو سمحت.» «في كأس زجاجي؟ أتريدين تناوله في كأس زجاجي؟ هل تفضلينه بالثلج؟»
قالت لورن: «ليس هناك داع؛ فهو مناسب تماما كما هو. أشكرك جزيل الشكر.»
أحضرت دلفين كأسا به بعض الثلج على أي حال، وقالت: «إنه لا يبدو لي مثلجا بما يكفي.» ثم سألت لورن عن المكان الذي تفضل الجلوس فيه؛ هل على أحد المقاعد القديمة المكسوة بالجلد القابعة بجوار النافذة أم على أحد الكراسي العالية خلف النضد؟ اختارت لورن أحد المقاعد العالية وجلست دلفين على مقعد آخر قبالتها. «والآن، ألا تخبرينني بما تعلمته اليوم بالمدرسة؟»
قالت لورن: «حسنا ...»
أسفر وجه دلفين العريض عن ابتسامة. «لقد طرحت عليك هذا السؤال على سبيل المزاح، كنت أكره بشدة أن يسألني الآخرون عن ذلك؛ أولا: لأنني كنت لا أتذكر أي شيء تعلمته في ذاك اليوم، وثانيا: لأنني لم أرغب في الحديث عن المدرسة حينما أكون خارجها؛ لذا دعينا نغفل ذلك الأمر.»
لم تندهش لورن برغبة السيدة الواضحة في أن تصادقها. لقد نشأت وهي تعتقد تماما أنه يمكن أن يتساوى الأطفال والبالغون في علاقاتهم بعضهم مع بعض، على الرغم من أنها لاحظت أن العديد من البالغين لا يتفهمون ذلك؛ ولهذا كان من الأفضل ألا تثير هذا الأمر وتفرضه على أحد. لاحظت أن دلفين كانت متوترة بعض الشيء؛ ولهذا كانت تتحدث دون أن تلتقط أنفاسها، وتضحك في لحظات غريبة، وكيف أنها لجأت إلى المناورة وهي تمد يدها نحو أحد الأدراج وتخرج منه لوحا من الشوكولاتة. «مجرد قطعة حلوى صغيرة مع الشراب؛ ربما تجعل الأمر يستحق أن تأتي لمقابلتي مرة أخرى.»
شعرت لورن بالحرج نيابة عن المرأة، بالرغم من سعادتها بقبول لوح الشوكولاتة، فلم تكن تحصل على أي حلوى بالمنزل.
قالت: «لست بحاجة لرشوتي كي آتي، إنني أحب ذلك.» «أوه، حسنا، لن أفعل، أهو كذلك؟ يا لك من طفلة! حسنا، أعيديها لي.»
مدت يدها لتنتزع الشوكولاتة، ولكن راوغتها لورن وتفادت يدها لتحميها، وراحت تضحك هي الأخرى. «لقد قصدت المرة القادمة؛ فليس عليك أن ترشيني في المرة القادمة.» «ومع هذا لا بأس برشوة واحدة، أهو كذلك؟»
قالت لورن: «أحب أن أجد شيئا أفعله، بخلاف العودة فقط إلى المنزل.» «ألا يمكنك زيارة بعض الأصدقاء؟» «ليس لدي أصدقاء في الواقع؛ فلم أبدأ دراستي في هذه المدرسة إلا في شهر سبتمبر.» «حسنا، إن كانت تلك المجموعة التي أتت هنا تعد نموذجا لمن ستنتقين منهن صديقاتك فمن الأفضل أن تظلي هكذا دونهن. هل أعجبتك المدينة؟» «إنها صغيرة، وهناك بعض الأشياء اللطيفة بها.» «إنها مقلب نفايات؛ جميعها مثل مقالب النفايات. لقد عايشت الكثير من مقالب النفايات في حياتي لدرجة أنك قد تعتقدين أن الفئران قد أكلت أنفي الآن.» وراحت تمرر أصابعها على أنفها لأعلى وأسفل، وكان لون طلاء أظافرها يماثل ظلال جفونها. وأردفت بارتياب: «لا تزال هناك.» ••• «إنها مقلب نفايات.» كانت دلفين تقول أشياء من هذا القبيل، كانت تتحدث بحماسة شديدة. لم تكن تحاور بل تطرح وقائع، وكانت أحكامها حادة تنم عن مزاجية شديدة. تحدثت دلفين عن نفسها؛ عن ميولها وحالتها البدنية، وكأنها تتحدث عن معضلة معقدة، شيء فريد وقاطع.
كانت تعاني من الحساسية تجاه البنجر؛ فإذا ما حدث ودخلت جوفها ولو حتى قطرة واحدة من عصيره، فإن أنسجتها تنتفخ ويكون لزاما أن تذهب إلى المستشفى؛ لأنها تحتاج إلى عملية طارئة حتى تستطيع التنفس. «كيف هو الأمر معك؟ هل تعانين من أي نوع من الحساسية؟ لا؟ عظيم.»
كانت تعتقد أنه ينبغي أن تظل أيدي المرأة نظيفة بغض النظر عن نوع العمل الذي تمارسه. كانت تحب أن تضع طلاء أظافر باللون الأزرق الداكن أو بلون الخوخ، وكانت تحب أيضا أن ترتدي الأقراط الضخمة التي تحدث صوتا حتى أثناء عملها؛ فلم تكن تحب ذلك النوع الصغير الرقيق.
لم تكن تخشى الثعابين، لكنها تكن مشاعر غريبة نحو القطط. كانت تعتقد أن القطة كانت تأتي وتستلقي فوقها وهي طفلة رضيعة؛ لأن رائحة اللبن كانت تجذبها.
قالت للورن: «وماذا عنك؟ ما الشيء الذي يخيفك؟ ما لونك المفضل؟ هل حدث ومشيت أثناء نومك؟ هل تعرضت لحمام شمس أو لضربة شمس؟ هل ينمو شعرك بسرعة أم ببطء؟»
لم يكن الأمر يبدو وكأن لورن غير معتادة على أن يهتم بها أحد؛ فهاري وآيلين، وبخاصة هاري، كانا بالفعل يهتمان بأفكارها وآرائها وشعورها حيال الأشياء، وكان هذا الاهتمام يسبب لها الضيق في بعض الأحيان، لكنها لم تكن تدرك مطلقا أنه يمكن أن يكون هناك كل هذه الأشياء الأخرى؛ تلك الحقائق العشوائية، التي تبدو مهمة على نحو ممتع. ولم يعترها مطلقا ذلك الشعور، كما هو الحال في المنزل، أن هناك أي سؤال آخر يكمن خلف أسئلة دلفين، ولم تشعر مطلقا أنها إن لم تأخذ حذرها فإنه يمكن أن يكون هناك تطفل وتدخل في شئونها.
علمتها دلفين بعض النكات. أخبرتها أنها تعرف المئات من النكات، لكنها لن تقص على مسامعها إلا ما هو مناسب. لم يكن هاري ليرى أن النكات التي تقال على قاطني نيوفاوندلاند مناسبة، لكن لورن كانت تضحك عليها من باب الكياسة. •••
أخبرت آيلين وهاري أنها ستذهب لمنزل صديقتها بعد انتهاء المدرسة. لم تكن تلك كذبة في الحقيقة، وبدا أنهما قد سعدا بذلك، لكنها - بسببهما - لم تأخذ السلسلة التي تحمل اسمها عندما أخبرتها دلفين أن بمقدورها ذلك. لقد تظاهرت بأنها قلقة من أن يأتي مالكها الذي لا يزال يبحث عنها.
كانت دلفين تعرف هاري؛ فقد كانت تحضر له طعام الإفطار في المقهى. كان من الممكن أن تذكر زيارات لورن لها، لكن من الواضح أنها لم تفعل.
كانت في بعض الأحيان تضع لافتة مكتوبا عليها «دق الجرس لاستدعاء الموظف المختص»، ثم تصطحب لورن معها إلى أجزاء أخرى من الفندق؛ إذ ثمة نزلاء يمكثون بالفندق من حين لآخر، وكان يجب ترتيب أسرتهم، وتنظيف دورات المياه والأحواض الخاصة بهم، وكذا أرضيات الغرف. لم تسمح للورن بأن تساعد في شيء، وكانت تقول لها: «اجلسي فقط وتحدثي إلي، إنه نوع من العمل الباعث على الوحدة.»
لكنها كانت هي التي تتحدث فقط. تحدثت عن حياتها، ولكن دون أي نوع من التسلسل أو الترتيب؛ فظهرت بعض الشخصيات واختفت، وكان من المفترض أن تعرف لورن من هم دون أن تسأل؛ فالأشخاص الذين كانت تذكر أسماءهم بعد لقب السيد أو السيدة كانوا رؤساء جيدين، أما الرؤساء السيئين فكانت تطلق عليهم الخنازير أو الأوغاد «لا تكرري لغتي.» وقد عملت دلفين في بعض المستشفيات «ممرضة؟ أتمزحين؟» وفي حقول التبغ، ومطاعم لا بأس بها، وفي أماكن الغطس، وفي أحد معسكرات تخزين الأخشاب حيث كانت تقوم بالطهو، وعملت أيضا في إحدى محطات الحافلات حيث كانت تقوم بالتنظيف، ورأت أشياء فاضحة لن تستطيع التحدث عنها، وأيضا في أحد المتاجر الكبرى التي تفتح أبوابها طوال الليل حيث كانت تعمل لساعات متأخرة جدا حتى استقالت.
في بعض الأحيان كانت تصادق لورن، وفي أحيان أخرى فل. كان لفل أسلوبها في استعارة الأشياء دون استئذان؛ فقد استعارت كنزة دلفين وارتدتها في حفل راقص، وتعرقت كثيرا حتى اتسخت منطقة ما تحت الإبط بشدة، أما لورن فقد تخرجت من المدرسة الثانوية، ولكنها ارتكبت خطأ كبيرا عندما تزوجت من ذلك الشخص الغبي، ومن المؤكد أنها تشعر بالأسف الآن.
كان من الممكن أن تتزوج دلفين؛ فبعض الرجال الذين رافقتهم شقوا طريقهم في الحياة على نحو لا بأس به، وبعضهم أضحوا مجموعة من المشردين، أما البعض الآخر فليس لديها أدنى فكرة عما حدث لهم . لقد كانت مغرمة بفتى يدعى تومي كيلبرايد، لكنه كان ينتمي للطائفة الكاثوليكية. «ربما لا تعرفين ماذا يعني هذا بالنسبة للمرأة.»
قالت لورن: «يعني أنه ليس بمقدورك أن تستخدمي موانع الحمل، لقد كانت آيلين تنتمي للطائفة الكاثوليكية، لكنها تركتها لأنها لم توافق على هذا. آيلين هذه هي أمي.» «لم يكن هناك داع لأن تشعر أمك بالقلق على أي حال؛ فقد انتهت الأمور إلى ما تريده.»
لم تفهم لورن ما تعنيه، ثم اعتقدت أن دلفين ربما تتحدث عنها - أي عن لورن - كونها طفلة وحيدة؛ فلا بد وأنها اعتقدت أن هاري وآيلين كانا يرغبان في إنجاب المزيد من الأطفال بعد أن رزقا بها، لكن لم يكن باستطاعة آيلين ذلك، ولكن على حد علم لورن لم يكن الأمر هكذا.
قالت: «كان بإمكانهم إنجاب المزيد إن أرادوا هذا، بعد أن أنجباني.»
قالت دلفين مازحة: «هذا ما تعتقدينه، أليس كذلك؟ ربما لم يكن باستطاعتهم إنجاب أي طفل على الإطلاق، وربما تبنوك.» «لا، لم يفعلوا ذلك. أعلم هذا تماما.» كانت لورن على وشك أن تخبرها بما حدث عندما كانت آيلين حاملا، لكنها أحجمت عن هذا؛ لأن هاري شدد على أن يظل الأمر سرا. وكانت هي من النوع الذي يؤمن بالخرافات بشأن نكص أي عهد، بالرغم من أنها لاحظت أن البالغين لا يبالون ويحنثون بعهودهم.
قالت دلفين: «لا تأخذي الأمر على محمل الجد هكذا.» ثم احتضنت وجه لورن براحتيها وراحت تربت على وجنتيها بأصابعها ذات الأظافر المطلية بلون التوت البري، وأردفت قائلة: «إنني أمزح فقط.» •••
كان المجفف بمغسلة الفندق لا يعمل؛ ولذا كان على دلفين أن تقوم بنشر الشراشف والمناشف المبتلة، ولأن السماء كانت تمطر فإن أفضل مكان للتجفيف هو إسطبل تأجير الخيول. عاونتها لورن في حمل السلال المكتظة بالأقمشة القطنية البيضاء عبر الفناء الصغير المفترش بالحصى خلف الفندق وحتى الإسطبل الخاوي المشيد من الحجارة. كانت الأرض أسمنتية، لكن لا تزال بعض الرائحة تتسلل من الأرضية بأسفله، أو ربما كانت تنبعث من الجدران المشيدة من كسارة الحجر والحصى . رائحة التراب الرطب، ورائحة بول الخيول وجلودها. كان المكان خاويا إلا من بعض أحبال الغسيل وبعض المقاعد والمناضد المكسورة. وقد أصدرت خطواتهم صدى صوت بالمكان.
قالت دلفين: «جربي أن تنادي اسمك؟»
صاحت لورن: «دل-فيييي-ييين.» «اسمك أنت، ماذا تفعلين؟»
قالت لورن: «إن اسمك له صدى أفضل.» وشرعت تنادي اسمها ثانية «دل- فييييييي-يين.»
قالت دلفين: «إنني لا أحب اسمي، ما من أحد يفضل اسمه.» «أنا لا أكره اسمي.» «لورن جميل، إنه اسم لطيف. لقد اختاروا لك اسما لطيفا.»
اختفت دلفين خلف الشراشف التي كانت تقوم بتثبيتها فوق أحد الأحبال، وراحت لورن تتجول على مهل وهي تطلق صفيرا.
قالت دلفين: «إنه الغناء الذي يبدو ملائما وجميلا هنا، هلا شدوت بأغنيتك المفضلة.»
لم تستطع لورن أن تفكر في أغنية مفضلة لديها، وقد استغربت دلفين الأمر تماما مثلما أصابتها الدهشة عندما علمت أن لورن لا تعرف أيا من النكات على الإطلاق.
قالت: «لدي الكثير من الأغاني.» ثم شرعت في الغناء:
يا نهر القمر الجميل ... أكبر من مسافة ميل.
كانت هذه هي إحدى الأغنيات التي كان هاري يشدو بها في بعض الأحيان، ودائما ما كان يتندر على الأغنية أو على نفسه. أما أسلوب دلفين في غنائها، فكان مختلفا تمام الاختلاف؛ فقد شعرت لورن أن الحزن العميق الذي يكمن في صوت دلفين يجذبها نحو الشراشف البيضاء المتمايلة، بل بدا وكأن الشراشف ذاتها تحتويها وتذوب من شدة التأثر، لا، بل كانت تحتوي دلفين أيضا، مخلفة شعورا بالعذوبة والملاحة. كان غناء دلفين أشبه بالعناق الدافئ والحضن الكبير الذي تندفع نحوه دون شعور، وفي نفس الوقت فإن تلك المشاعر الفياضة جعلتها تشعر بانقباض في معدتها مما ينذر بإصابتها ببعض الإعياء.
أنتظرك بالقرب من المنعطف
يا صديقي الذي يشبه العنب البري.
قاطعتها لورن عندما جذبت أحد الكراسي التي لا تحوي مقعدا على الأرض. •••
على طاولة العشاء قالت لورن بحزم لهاري وآيلين: «هناك شيء أود أن أسألكما عنه، هل هناك احتمال أن تكونا قد تبنيتماني؟»
قالت آيلين: «من أين أتيت بتلك الفكرة؟»
توقف هاري عن تناول الطعام، ورفع حاجبيه محذرا لورن، ثم راح يمزح ويقول: «إن أردنا تبني طفل فهل تعتقدين أننا كنا سنأتي بمن يطرح كل تلك الأسئلة المتطفلة؟»
نهضت آيلين وراحت تعبث بسحاب تنورتها، فسقطت التنورة على الأرض، ثم قامت بإنزال سروالها الضيق ولباسها التحتي.
قالت: «انظري هنا، من المفترض أن يخبرك هذا.»
ظهر على بطنها - الذي كان يبدو مسطحا وهي مرتدية ملابسها - بعض الامتلاء والترهل، كذا كانت هناك آثار لبعض الخطوط البيضاء الباهتة على سطح بشرتها التي اكتسبت سمرة خفيفة حتى حدود علامة القطعة السفلية من لباس البحر، وقد ظهرت تلك الخطوط في ضوء المطبخ. كانت لورن قد رأت كل ذلك من قبل، لكنها لم تلق له بالا؛ فقد بدت الخطوط وكأنها جزء عادي من جسد آيلين، تماما مثل الشامتين الموجودتين على عظمة الترقوة.
قالت آيلين: «هذا بسبب علامات تمدد الجلد بسبب الحمل، لقد حملتك أمامي هكذا.» ثم مدت يدها أمام جسمها لمسافة مناسبة تشير إلى حجم بطنها آنذاك، ثم أردفت قائلة: «هل اقتنعت الآن؟»
وضع هاري رأسه على بطن آيلين العاري، وراح يداعبه بأنفه، ثم تراجع ووجه كلامه إلى لورن: «في حال إن كنت تتساءلين عن سبب عدم إنجابنا للمزيد من الأطفال، فإن الإجابة هي أنك الطفل الوحيد الذي كنا نحتاجه. إنك تتسمين بالذكاء والجمال وخفة الظل. ما الذي يضمن لنا الحصول على طفل آخر بهذه السمات الجيدة؟ بالإضافة إلى أننا لسنا بعائلة عادية؛ فنحن نحب التنقل، ونحب تجربة الأشياء، ونتحلى بالمرونة. لقد رزقنا بطفلة رائعة تتكيف تحت أي ظروف؛ فما من داع لاختبار حظنا مرة أخرى، فليس ثمة ضمان أن يكون مثلك.»
كان وجهه، الذي لم تره آيلين، يتجه نحو لورن مصوبا نظرة تحمل قدرا من الجدية والصرامة يفوق ما تحمله كلماته، وكانت تشي بالتحذير المستمر الذي يختلط بالدهشة وخيبة الأمل.
لو لم تكن آيلين موجودة معهم، لطرحت عليه لورن بعض الأسئلة. ماذا لو أنهما كانا قد فقدا الطفلين بدلا من طفل واحد؟ ماذا لو لم تكن هي من مكثت في بطن آيلين ولم تكن هي المسئولة عن تلك الآثار البادية عليها؟ كيف لها أن تتأكد من أنهما لم يأتيا بها عوضا عما فقداه؟ فإذا كان هناك شيء كبير لم تعلم به من قبل، فلم لا يكون هناك شيء آخر أيضا؟
سببت لها هذه الفكرة بلبلة وتشويشا في ذهنها، لكنها كان لها بعض الجاذبية فيما بعد. •••
في المرة التالية التي ذهبت فيها لورن إلى الفندق كانت تعاني من بعض السعال.
قالت دلفين: «لتصعدي معي للطابق العلوي؛ فلدي علاج جيد لذلك.»
وأثناء وضعها اللافتة المكتوب عليها «دق الجرس لاستدعاء الموظف المختص»، كان السيد باليجيان يدلف إلى بهو الفندق آتيا من المقهى. كان يرتدي في إحدى قدميه فردة حذاء، وفي القدم الأخرى خفا، وكان مفتوحا ليسع قدمه التي تلتف حولها ضمادة. وكانت هناك بقعة من الدماء الجافة عند موضع أصبعه الكبير.
اعتقدت لورن أن دلفين ستقوم بإنزال اللافتة عندما ترى السيد باليجيان، لكنها لم تفعل، وكل ما قالته له هو: «من الأفضل أن تغير تلك الضمادة إذا ما أتيحت لك الفرصة.»
أومأ السيد باليجيان برأسه موافقا، لكنه لم ينظر إليها.
قالت له: «سأهبط سريعا.»
كانت حجرتها تقع في الطابق الثالث أسفل الإفريز. قالت لورن وهي تصعد وتسعل في نفس الوقت: «ما الذي ألم بقدمه؟»
قالت دلفين: «أي قدم؟ أعتقد أن أحدهم ربما يكون قد داسها، ربما بكعب حذائه.»
كان سقف حجرتها ينحدر بشدة على جانبي النوافذ البارزة. لم يكن هناك سوى فراش واحد، وحوض للغسيل، ومقعد، ومكتب. واستقر على المقعد صحن ساخن وضعت عليه غلاية المياه. أما المكتب فكان مزدحما بمجموعة من مساحيق التجميل، وأمشاط الشعر وأقراص، وعبوة من أكياس الشاي وعبوة أخرى من مسحوق الشوكولاتة الساخنة. أما مفرش السرير فكان مصنوعا من نسيج قطني خفيف ذي خطوط رفيعة باللونين الأبيض والبيج.
قالت دلفين: «إنها ليست مرتبة، أليس كذلك؟ إنني لا أمضي الكثير من الوقت هنا.» قامت بملء الغلاية من مياه الحوض وثبتتها على قاعدة التسخين ، ثم جذبت مفرش السرير لتأخذ بطانية، ثم قالت: «اخلعي عنك سترتك، ودفئي نفسك بهذه.» ثم لامست جهاز التدفئة المشع بيدها وأردفت قائلة: «إن الأمر يستغرق اليوم كله لكي تصل الحرارة إلى هنا.»
قامت لورن بالفعل بما طلبته منها، وأخرجت دلفين قدحين وملعقتين من الدرج العلوي، وراحت تفرغ قدرا من مسحوق الشوكولاتة الساخنة من عبوتها. قالت دلفين: «إنني أتناولها بالمياه الساخنة فقط، أعتقد أنك معتادة على تناولها بالحليب، لكني لا أتناول الحليب مع الشاي أو مع أي مشروب آخر. عندما أحضر اللبن هنا يفسد؛ فليس لدي مبرد.»
قالت لورن: «لا بأس، سأتناولها بالمياه الساخنة.» بالرغم من أنها لم تتناول الشوكولاتة الساخنة بهذه الطريقة من قبل. اجتاحتها رغبة مفاجئة بأن تكون في المنزل الآن متدثرة بالغطاء على الأريكة وهي تشاهد التليفزيون.
قالت دلفين بصوت يشوبه بعض التوتر أو العصبية: «لا تقفي هكذا، اجلسي واستريحي؛ فلن تستغرق الغلاية وقتا طويلا.»
جلست لورن على حافة الفراش، وفجأة استدارت دلفين وجذبتها من أسفل ذراعيها - مما جعلها تسعل ثانية - وعدلت من وضع لورن بحيث جعلتها تجلس وظهرها للحائط وقدماها تتدليان ولا تلامسان الأرض، ثم خلعت لها حذاءها الطويل ذا الرقبة، وأسرعت تتحسس قدميها لترى إن كانت جواربها مبتلة. «لا، ليست مبتلة.» «حسنا، سأحضر لك شيئا ليعالج ذلك السعال، أين شراب الكحة؟»
ومن نفس الدرج العلوي قامت دلفين بإخراج زجاجة ممتلئة حتى نصفها بسائل أصفر بلون الكهرمان، وصبت منها ملء ملعقة وقالت: «افتحي فمك، إن مذاقه ليس فظيعا.»
قالت لورن عندما ابتلعته: «هل يحتوي ذلك الشراب على الويسكي؟»
أمعنت دلفين النظر في الزجاجة التي لم تكن تحمل أي ملصق عليها. «لا أرى أي شيء يدل على ذلك، هل لمحت أنت شيئا؟ هل سيشعر أبوك وأمك بالغضب إن أعطيتك ملعقة من الويسكي كعلاج للسعال؟» «في بعض الأحيان يصنع لي أبي مشروبا ساخنا محلى من عصير الليمون والويسكي والماء الساخن.» «أحقا يفعل؟»
كانت مياه الغلاية قد وصلت لدرجة الغليان، وصبت دلفين المياه في الأقداح، وراحت تقلب المشروب بسرعة، وهي تذيب التكتلات وكأنها تتحدث إليها.
قالت وهي تحاول أن تبدو مرحة: «هيا أيها التافهون، هيا.»
كان هناك شيء غريب بشأن دلفين اليوم؛ كانت تبدو أكثر ارتباكا وهياجا، وربما تخفي غضبا وراء هذا، إضافة إلى ذلك فقد كانت دلفين أكثر نشاطا وحركة وبريقا، بل وأكثر زهوا وتكلفا من أن تقطن في مثل هذه الحجرة.
قالت: «إنك تجولين بنظرك في المكان، وأنا أدري تماما ما يدور بخلدك؛ لا بد وأنك تحدثين نفسك بأني امرأة فقيرة، وتتساءلين قائلة: يا ترى لم لا تقتني المزيد من الأشياء؟ لكني لا أهوى اكتناز الأشياء وتجميعها، والسبب في هذا هو أنني مررت بالكثير من تجارب الانتقال بين الحين والآخر والرحيل من مكان لمكان؛ فبمجرد أن كان يستقر بي المقام في مكان ما، يقع شيء ما، وبعدها يكون لزاما علي أن أرحل، ومع هذا فإنني أدخر النقود، وسيصاب الناس بالدهشة إذا ما علموا برصيد حسابي في البنك.»
أعطت لورن قدحها ثم جلست بترو عند مقدمة الفراش واضعة الوسادة خلف ظهرها وقدمها التي غطتها بالجورب مستقرة على الأغطية. كان دوما ما يعتري لورن ذلك الشعور بالاشمئزاز عندما ترى الأقدام التي تغلفها الجوارب المصنوعة من النايلون. وهذا الشعور لا يعتريها حيال الأقدام العارية أو تلك المغطاة بالجوارب العادية القصيرة أو بالأحذية، أو حتى الأقدام المغطاة بجوارب نايلون داخل الأحذية، بل يعتريها تحديدا فقط إذا ما رأت الأقدام ذات الجوارب النايلون دون أي شيء آخر؛ وبخاصة إذا ما لامست أي أقمشة أخرى. كان هذا بمثابة شعور غريب يخص شخصيتها، تماما كشعورها حيال فطر عيش الغراب أو حبوب القمح التي تغرق في اللبن.
قالت دلفين: «عندما أتيت إلى هنا في فترة ما بعد الظهيرة هذه كنت أشعر بالحزن؛ فقد كنت أفكر في فتاة كنت أعرفها، ورأيت أنه كان من المفترض أن أبعث لها برسالة إن كنت أعرف مكانها. جويس هو اسمها. لقد كنت أفكر فيما يمكن أن يكون قد حدث لها في حياتها.»
ضغطت مرتبة الفراش إلى الداخل بفعل ثقل جسد دلفين ، حتى إن لورن وجدت صعوبة في محاولة تفادي الانزلاق نحوها. وقد جعلها ذلك المجهود الذي بذلته لكيلا تصطدم بجسدها تشعر بحرج شديد، وحاولت أن تبدو أكثر ودا ودماثة من المعتاد.
قالت: «متى عرفتها؟ أعندما كنت صغيرة؟»
ضحكت دلفين وقالت: «نعم، حينما كنت صغيرة وكانت هي صغيرة أيضا. كانت قد اعتادت أن تخرج من المنزل وتتسكع مع أحد الشباب، وكان نتيجة ذلك أن وقعت في ورطة. أتعرفين ماذا أعني بذلك؟»
قالت لورن: «أصبحت حاملا.» «تماما. لقد كانت تعيش وتعبث بلا هدف، واعتقدت أنه ربما يمكن أن يمر الأمر مثل الأنفلونزا التي تأتي وتختفي دون ضرر. وكان لدى الرجل بالفعل طفلان من امرأة أخرى لم يكن متزوجا بها، لكنها كانت في مكانة الزوجة بأي حال من الأحوال، وكان دوما ما يفكر في العودة إليها، ولكن قبل أن يرحل ويعود إليها تم القبض عليه، وكذلك هي، تم القبض على جويس؛ لأنها كانت تهرب له بعض الأشياء، كانت تضعها في الفوط الصحية. أتعرفين شكلها؟ أتعرفين ما الأشياء التي تهربها؟»
أجابتها لورن على السؤالين قائلة: «نعم أعرف شكلها. بالطبع كانت تهرب مخدرات.»
أحدثت دلفين ما يشبه الغرغرة وهي تحتسي مشروبها وقالت: «الأمر كله سري للغاية، أتفهمين ذلك؟»
لم يمتزج كل مسحوق الشوكولاتة بالمياه، ولم يذب فيها تماما، ولم ترغب لورن في أن تقوم بتحريكه وإذابته بالملعقة التي لا تزال تحمل مذاق الشراب الذي من المفترض أنه مضاد للسعال. «أفلتت من العقاب بحكم مع إيقاف التنفيذ؛ لذا فلم تكن مسألة حملها بالشيء السيئ حينها؛ فقد كانت هي السبب في أنها لم تواجه أي عقاب. وما حدث بعد ذلك هو أنها تعرفت على بعض المسيحيين، وكانوا يعرفون طبيبا وزوجته يعتنيان بالفتيات بعدما يضعن حملهن، ثم يعطيان الأطفال على الفور لمن يريد تبنيهم. ولم يكن ذلك من باب المروءة أو الأمانة، بل كانا يأخذان نقودا مقابل هؤلاء الأطفال، ولكن على أي حال فقد جنبها ذلك من يعملون في مجال الرعاية الاجتماعية. وعليه وضعت طفلها ولم تره بعد ذلك ، وكل ما علمته عنه أنه كان بنتا.»
نظرت لورن حولها بحثا عن ساعة تعرف من خلالها الوقت، ولكن يبدو أنه لم تكن هناك واحدة، وكانت ساعة يد دلفين تختفي تحت أكمام سترتها السوداء. «غادرت جويس المكان وواجهت حدثا تلو الآخر، ولم تفكر في شأن الطفلة إطلاقا؛ فقد اعتقدت أنه بمقدورها أن تتزوج وتنجب المزيد من الأطفال، ولكن لم يحدث شيء من هذا القبيل. حسنا، هذا لم يضايقها كثيرا؛ نظرا لنوعية بعض الأشخاص الذين كانت ترافقهم ولم يحدث أن حملت منهم. بل إنها أجرت بضع عمليات جراحية حتى لا يكون لها أطفال. أتعرفين أي نوع من العمليات؟»
قالت لورن: «عمليات إجهاض. كم الساعة الآن؟»
قالت دلفين: «إنك طفلة لديك معلومات كثيرة. نعم، صحيح، إنها عمليات إجهاض.» أزاحت كم سترتها لتنظر إلى ساعة يدها، ثم أردفت قائلة: «إنها لم تصل الخامسة بعد. كنت سأقول إنها بدأت تفكر في أمر تلك الطفلة الصغيرة وتتساءل عما يمكن أن يكون قد حدث لها، ومن ثم شرعت في البحث والتقصي لتعرف. وحدث أن حالفها الحظ وعثرت على أولئك الأشخاص؛ المسيحيين، وكان عليها أن تتعامل معهم بأسلوب بغيض، لكنها حصلت على بعض المعلومات، وقد نجحت في الحصول على اسم الزوجين اللذين قاما بتبني الطفلة.»
شقت لورن طريقها بحركات ملتوية لتهبط من الفراش، وتحركت ببعض الخفة والرشاقة فوق الأغطية، ووضعت القدح فوق المنضدة.
وقالت: «يجب أن أذهب الآن.» ثم نظرت من النافذة وقالت: «إنها تمطر ثلجا.» «حقا؟ وما الشيء الجديد أيضا؟ ألا تودين معرفة بقية القصة؟»
كانت لورن ترتدي حذاءها الطويل ذا الرقبة وحاولت أن تفعل ذلك وهي تبدو شاردة الذهن حتى لا تلاحظ دلفين ما تفعل. «من المفترض أن الرجل يعمل في تلك الجريدة؛ لذا ذهبت إلى هناك وقالوا لها إنه غير موجود، لكنهم أخبروها عن المكان الذي آل إليه. لم تكن تعرف بالقطع الاسم الذي أطلقوه على الفتاة، لكن كان هذا شيئا آخر استطاعت أن تعرفه فيما بعد؛ فلا يعرف المرء مطلقا ما سيتكشف له من معلومات حتى يشرع في المحاولة. هل تحاولين الهروب مني؟» «يجب أن أذهب الآن، إنني أشعر ببعض التعب في معدتي. أنا مصابة بالبرد.»
شرعت لورن في البحث عن سترتها التي قامت دلفين بتعليقها على مشجب عال في خلفية باب الحجرة، وعندما لم تستطع إنزاله سريعا اغرورقت عيناها بالدموع.
قالت بأسى: «إنني حتى لا أعرف شيئا عن هذه الشخصية التي تدعى جويس.»
أنزلت دلفين قدميها على الأرض، ونهضت من الفراش على مهل، ووضعت القدح على المكتب. «إن كانت معدتك تؤلمك فينبغي أن تستريحي قليلا، يبدو أنك احتسيت المشروب على عجل.» «إنني فقط أريد سترتي.»
رفعت دلفين الجاكت من فوق المشجب، لكنها رفعته بيدها أعلى من متناول لورن، وعندما حاولت لورن الإمساك به لم تعطه لها دلفين.
قالت: «ما الخطب؟ أتبكين؟ لم أكن أحسب أنك طفلة بكاءة سريعة التأثر. حسنا، حسنا، لقد كنت أغيظك فقط. ها هي السترة.»
دست لورن أكمامها داخل السترة، لكنها كانت تعرف أنها لن تستطيع قفل السحاب الخاص بها، فوضعت يديها في الجيبين فقط.
قالت دلفين: «حسنا، هل أصبحت على ما يرام الآن؟ إننا ما زلنا أصدقاء، أليس كذلك؟» «أشكرك على الشوكولاتة الساخنة.» «لا تسرعي خطاك؛ فمعدتك بحاجة للراحة.»
انحنت دلفين نحوها، فتراجعت لورن للخلف؛ فقد فزعت من أن يدخل الشعر الأبيض - خصلات الشعر الأبيض الناعمة المنسدلة - إلى فمها.
إن كنت بلغت من الكبر ما يجعل شعرك أبيض، فينبغي ألا يكون بهذا الطول. «إنني أعلم أنك تحافظين على الأسرار، وأدري أنك لا تبوحين بشيء عن زياراتك لي وحديثنا وتحتفظين بهما سرا. ستفهمين فيما بعد. إنك فتاة صغيرة رائعة. هيا.»
ثم طبعت قبلة على رأسها.
وقالت: «لا تقلقي من شيء.» •••
تساقطت قطع ضخمة من الثلوج مخلفة طبقات رقيقة هشة على جانبي الطريق، ذابت تاركة آثار أقدام سوداء، وما لبث أن امتلأ الرصيف ثانية بطبقات أخرى من الجليد. كانت العربات تشق طريقها بتأن وحذر على الضوء الخافت لمصابيحها الصفراء. كانت لورن تتلفت حولها من آن إلى آخر؛ خشية أن يكون هناك من يتبعها، لم تستطع أن تتبين طريقها بوضوح بسبب الثلوج الكثيفة المتساقطة والأضواء المتضائلة، لكنها لم تعتقد أنه كان ثمة من يقتفي أثرها.
كانت تشعر بانتفاخات في معدتها، وبأنها خاوية في ذات الوقت، واعتقدت أنه يمكن أن تتخلص من ذلك الشعور بمجرد تناولها نوعية الطعام المناسبة؛ لذا اتجهت إلى خزينة المطبخ فور دخولها إلى المنزل وأعدت لنفسها صحنا من حبوب القمح التي اعتادت تناولها في الإفطار. لم يتبق شيء من شراب القيقب المحلى، لكنها وجدت بعضا من شراب الذرة. وقفت في المطبخ البارد وشرعت في تناول الطعام دون أن تخلع عنها حذاءها أو حتى ملابسها، وراحت تنظر صوب الفناء الخلفي الذي اكتسى حديثا بالبياض. لقد أضفت الثلوج وضوحا على الأشياء بالخارج بالرغم من أن مصابيح المطبخ كانت مضاءة. رأت صورتها منعكسة ووراءها الفناء الخلفي الذي تكسوه الثلوج والصخور الداكنة التي يكسو قمتها اللون الأبيض، وتتدلى الفروع دائمة الخضرة للأشجار تحت الثلوج البيضاء.
وما كادت تضع الملعقة الأخيرة في فمها حتى هرعت إلى الحمام وأفرغت ما في جوفها كله؛ من رقائق الذرة التي تغير شكلها بالكاد، والشراب اللزج، وخيوط رفيعة لزجة من الشوكولاتة ذات اللون الباهت. •••
كانت مستلقية على الأريكة عندما عاد والداها إلى المنزل، وكانت لا تزال ترتدي حذاءها وملابسها وتشاهد التليفزيون.
نزعت آيلين عنها ملابس الخروج وأحضرت لها غطاء، وشرعت في قياس درجة حرارتها، وكانت طبيعية، ثم تحسست بطنها لترى إن كان متصلبا بعض الشيء، ثم جعلتها تثني ركبتها اليمنى حتى لامست صدرها لترى إن كان ذلك سيشعرها بألم في جانبها الأيمن. كانت آيلين تشعر دوما بالقلق حيال الإصابة بالتهاب بالزائدة الدودية؛ لأنه تصادف وأن كانت في حفلة ما - وكانت من ذلك النوع الذي يستغرق أياما - حيث توفيت فتاة إثر انفجار الزائدة الدودية، وقد كان الجميع في حالة سكر شديد، لدرجة أن أيا منهم لم يدرك أنها كانت في حالة خطيرة. وعندما تيقنت من أن حالة لورن لا علاقة لها بالزائدة الدودية ذهبت لتعد العشاء، وجلس هاري بصحبة لورن .
قال: «أعتقد أن كل ما تعانين منه هو رفضك للمدرسة. لقد كنت أشعر بذلك أيضا وأنا صغير، إلا أنني عندما كنت طفلا لم يكن العلاج لتلك الحالة قد تم اختراعه بعد. أتعرفين ما علاج ذلك؟ الاستلقاء على الأريكة ومشاهدة التليفزيون.»
أخبرتهم لورن في صباح اليوم التالي أنها لا تزال مريضة؛ بيد أن ذلك لم يكن صحيحا. رفضت تناول طعام الإفطار، ولكن بمجرد أن غادر كل من هاري وآيلين المنزل، أحضرت كعكة كبيرة بالقرفة وتناولتها دون تسخينها وهي تشاهد التليفزيون. مسحت أصابعها اللزجة في الغطاء الذي تتدثر به، وحاولت أن تفكر في شأن مستقبلها. كانت تريد أن تمضيه هنا، داخل المنزل، فوق هذه الأريكة، ولكنها ما لم تدعي مرضا يبدو حقيقا فما من سبيل إلى تحقيق ذلك.
انتهت نشرة الأخبار بالتليفزيون وتبعتها إحدى حلقات المسلسل الدرامي اليومي. كان المسلسل كعالم آخر اعتادت رؤيته عندما أصيبت بالتهاب الشعب الهوائية في الربيع الماضي، ومنذ ذاك الحين نسيت أمره تماما، وبالرغم من انقطاعها عن مشاهدة المسلسل لفترة طويلة إلا أنه لم يطرأ أي تغيير على الأحداث. ظهرت نفس الشخصيات، وأغلبها تقريبا، ولكن في ظروف جديدة بالطبع، وكانوا يتصرفون بنفس أسلوبهم المعتاد (الذي ينطوي على النبل، أو القسوة، أو الشهوة، أو الحزن)، ونفس رؤيتهم لما هو أبعد في المستقبل، وذات العبارات المبهمة غير المكتملة التي تشير إلى بعض الحوادث والأسرار. استمتعت بمشاهدتهم لفترة من الوقت، لكن جال بخاطرها شيء أشعرها بالقلق؛ فقد يظهر من خلال هذه القصص فيما بعد أن الأطفال والبالغين ينتمون إلى عائلات أخرى تماما غير تلك التي نشئوا في كنفها وتقبلوها كعائلاتهم؛ فيحدث أن يظهر فجأة وبلا مقدمات أشخاص يتسمون بالجنون والخطورة بادعاءاتهم الكارثية ومشاعرهم وانفعالاتهم المختلفة، ويقلبون حياتهم رأسا على عقب.
كان هذا يبدو لها من قبل واحدا من الاحتمالات المثيرة، لكنه لم يعد هكذا الآن.
لم يكن هاري وآيلين يحكمون غلق الأبواب؛ فيقول هاري إننا نعيش في مكان تغادر فيه منزلك فحسب دون أن يكون هناك داع لإحكام غلقه. ولكن لورن نهضت الآن وأحكمت غلق البابين الأمامي والخلفي، ثم أسدلت الستائر على جميع النوافذ. لم تمطر السماء ثلجا اليوم، لكن الثلوج الموجودة لم تذب، وكانت هناك مسحة من اللون الرمادي بها كما لو أنها ازدادت عمرا أثناء الليل.
لم تكن ثمة وسيلة تستطيع من خلالها تغطية النوافذ الصغيرة عند الباب الأمامي. ثمة ثلاث نوافذ على شكل قطرات الدمع متراصة في خط مائل، وكانت آيلين تكرههم بشدة. كذلك نزعت آيلين ورق الحوائط، وقامت بطلاء جدران هذا المنزل المتواضع بألوان غير معتادة؛ كلون بيض طائر أبي الحناء وهو الأزرق، والوردي بلون التوت البري، والأصفر الليموني، وقد تخلصت من الأبسطة القديمة، وقامت بصقل الأرضيات، لكن لم يكن هناك ما تفعله حيال هذه النوافذ الصغيرة.
قال هاري إن منظرها ليس بهذا السوء، وإنها بعددهم تماما، بل وبنفس الارتفاع الذي يناسب كلا منهم؛ فلكل واحد نافذته التي ينظر من خلالها. وأطلق عليهم أسماء الدبة الأم، والدب الأب، والدبة الصغرى.
عندما انتهت حلقة المسلسل الدرامي، وتحدث بعدها رجل وامرأة عن كيفية العناية بنباتات المنزل، راحت لورن في غفوة خفيفة لم تدرك أنها نوم، لكنها أدركت أنها راحت في النوم عندما استيقظت من حلم رأت خلاله أحد الحيوانات التي تذكرها بالشتاء من نوع ابن عرس رمادي اللون، أو ربما كان أحد الثعالب الهزيلة، لم تكن متيقنة من نوعه، وكان يراقب المنزل في ضوء النهار الوضاح من الفناء الخلفي، وقد أخبرها أحدهم في الحلم أن هذا الحيوان شرس؛ لأنه لا يخشى الآدميين أو المنازل التي يسكنون بها.
كان جرس الهاتف يدق، فجذبت الغطاء فوق رأسها حتى لا تسمع صوته. كانت على ثقة من أنها دلفين؛ فهي تريد أن تطمئن على حالها، وسبب اختفائها، وعن رأيها في القصة التي أخبرتها بها، ومتى ستأتي إلى الفندق. •••
لكنها كانت آيلين في الحقيقة، أرادت أن تطمئن على لورن وعلى حالة الزائدة الدودية. انتظرت آيلين على الهاتف حتى دق لنحو عشر أو خمس عشرة مرة، ثم غادرت مكتب الجريدة بعدها مسرعة إلى المنزل دون حتى أن تضع معطفها. وعندما وجدت الباب مغلقا من الداخل راحت تدق عليه بشدة بقبضة يدها وتدير المقبض، ثم ألصقت وجهها بزجاج نافذة الدبة الأم وصاحت باسم لورن. وترامى إليها صوت التليفزيون، فجرت نحو الباب الخلفي وراحت تدق عليه بشدة وتنادي على لورن ثانية.
سمعت لورن كل ذلك بالقطع ورأسها مختفية أسفل الغطاء، لكنها استغرقت بعض الوقت لتدرك أنها آيلين وليست دلفين. وعندما أيقنت ذلك تسللت بخفة نحو المطبخ والغطاء يتدلى وراءها على الأرضية وهي ما زالت شبه معتقدة أن الصوت قد يكون خدعة.
قالت آيلين وهي تطوقها بذراعيها: «يا إلهي! ماذا أصابك؟ لماذا كان الباب موصدا؟ لماذا لم تجيبي على الهاتف؟ ما اللعبة التي تلعبينها؟»
ظلت لورن متماسكة لنحو خمس عشرة دقيقة وآيلين تحتضنها تارة وتصرخ بها تارة أخرى، ثم انهارت وراحت تقص على مسامعها كل شيء. مثل لها ذلك راحة كبيرة، وأزاح حملا ثقيلا عن كاهلها، ولكن برغم ذلك فحتى عندما كانت تبكي وترتعش كانت تشعر بأن هناك شيئا شديد الخصوصية والتعقيد قد تخلت عنه في مقابل الراحة والشعور بالأمان. لم يكن من الممكن الإفصاح عن الحقيقة كلها؛ لأنها هي نفسها لم تصل إليها كاملة. لم تستطع أن تشرح لها ما كانت تريده، بل حتى وصلت إلى أنها لم تكن تريد شيئا على الإطلاق.
هاتفت آيلين هاري وأخبرته أنه ينبغي أن يحضر إلى المنزل، وكان عليه أن يأتي سيرا على الأقدام؛ فهي لا تستطيع أن تذهب إليه لتأخذه؛ إذ إنها لم تستطع ترك لورن وهي في هذه الحالة.
ذهبت لتفتح الباب الأمامي، فوجدت مظروفا ألقي من فتحة البريد ودون طابع بريد، ولم يكن هناك شيء مدون فوقه سوى اسم لورن.
قالت: «هل سمعت صوت هذا وهو يوضع في فتحة البريد؟ هل ترامى إلى مسامعك وقع خطوات أحدهم في الشرفة؟ كيف أتى هذا إلى هنا بحق الجحيم؟»
فتحت المظروف وأخرجت منه سلسة ذهبية يتدلى منها اسم لورن.
قالت لورن: «لقد نسيت أن أحكي لك هذا الجزء.» «هناك رسالة قصيرة.»
صرخت لورن: «لا تقرئيها، لا تقرئيها، لا أريد أن أسمع ما بها.» «لا تكوني سخيفة، إنها لن تعضك؛ إنها فقط تقول إنها هاتفت المدرسة ولكنك لم تكوني هناك، وتساءلت إن كنت مريضة، وتلك هدية لك لكي تشعرك بالبهجة. وتقول أيضا إنها اشترتها من أجلك أنت ولم يفقدها أحدهم. ماذا يعني ذلك؟ كان من المفترض أن تكون هدية عيد ميلادك عندما تبلغين الحادية عشرة في مارس القادم، لكنها فضلت أن تمنحها لك الآن. من أين أتت بفكرة أن عيد ميلادك في مارس؟ عيد ميلادك في يونيو.»
قالت لورن وقد عاد إليها الآن صوتها الطفولي الذي يشوبه الوهن والحزن: «أعرف ذلك.»
قالت آيلين: «أرأيت؟ كل معلوماتها خاطئة، إنها مجنونة.»
قالت لورن: «لكنها رغم ذلك تعرف اسمك، وتعرف مكانك. أنى لها أن تعرف ذلك إن لم تكونا تبنيتماني؟» «لا أدري كيف عرفت ذلك بحق الجحيم، لكنها مخطئة؛ كل معلوماتها غير صحيحة. أنصتي إلي، سأخرج لك شهادة ميلادك. لقد ولدت في مستشفى ويلسلي في تورنتو. سنصحبك إلى هناك، سأجعلك ترين الحجرة التي ولدت بها ...» نظرت آيلين إلى الرسالة ثانية وأطبقت عليها قبضتها.
قالت: «تلك الحقيرة. تهاتف المدرسة، وتأتي إلى المنزل. تلك الملعونة المخبولة!»
قالت لورن وهي تعني السلسلة: «أبعدي هذا الشيء، أخفيه بعيدا. الآن.»
لم يكن هاري على نفس درجة الغضب التي كانت عليها آيلين.
قال: «كانت تبدو شخصية طبيعية تماما حينما كنت أتحدث إليها، ولم تذكر شيئا من هذا القبيل أمامي على الإطلاق.»
قالت آيلين: «إنها لم تكن لتفعل؛ فقد أرادت أن تصل للورن مباشرة. يجب أن تذهب وتتحدث معها وإلا فعلت أنا، وأعني ذلك، واليوم.»
قال هاري: «سأضعها عند حدها، تماما. لن يكون هناك المزيد من المشاكل. يا له من موقف مخز!»
قامت آيلين بإعداد طعام الغداء مبكرا. وقد أعدت شطائر الهامبورجر مع المايونيز والخردل تماما كما يفضلها هاري ولورن. وقد انتهت لورن من تناول طعامها قبل أن تدرك أنها ربما تكون أخطأت عندما أظهرت تلك الشهية في تناول طعامها.
قال هاري: «أتشعرين بتحسن؟ هل ستعودين إلى المدرسة فيما بعد الظهيرة؟»
قالت: «ما زلت أعاني من البرد.»
قالت آيلين: «لا، لن تعود إلى المدرسة، وسأمكث معها في المنزل.»
قال هاري: «لا أرى أن هناك ضرورة لذلك على الإطلاق.»
قالت آيلين وهي تدفع بالمظروف داخل جيبه: «وأعطها هذه، لا تشغل بالك ولا تهتم بالنظر إلى المظروف، إنها هديتها الغبية، وأخبرها أن تكف نهائيا عن فعل مثل هذه الأشياء وإلا ستزج بنفسها في مشكلة كبيرة، عليها أن تكف نهائيا. يكفي هذا ولا تحاول فعل أي شيء.» •••
لم تضطر لورن إلى العودة للمدرسة، ليس في تلك البلدة.
قامت آيلين خلال فترة ما بعد الظهيرة بمهاتفة أخت هاري - والتي لم يكن يحادثها بسبب بعض الانتقادات التي وجهها زوجها بشأن أسلوبه؛ أسلوب هاري، في الحياة - وتحدثتا بشأن المدرسة التي كانت تذهب إليها الأخت، وهي مدرسة بنات خاصة في تورنتو، وتبعت هذه المكالمة المزيد من المكالمات الأخرى، وتم تحديد موعد بشأن ذلك الموضوع.
قالت آيلين: «إن المسألة لا تتعلق بالنقود؛ فهاري يمتلك ما يكفي من النقود، أو بمقدوره الحصول عليها.»
قالت: «ولا يتعلق الأمر بتلك المسألة فقط، بل إنك تستحقين العيش في مكان أفضل من هذه البلدة الوضيعة، ولا تستحقين أن ينتهي بك المطاف كأي ريفية خرقاء. لقد كنت أفكر في ذلك طوال الوقت، لكني كنت أرجئ النقاش فيه حتى تكبرين قليلا.»
قال هاري عندما عاد إلى المنزل إن الأمر يعتمد بالتأكيد على ما تريده لورن. «هل ترغبين في مغادرة المنزل يا لورن؟ أعتقد أنك أحببت المكان هنا، وأظن أن لك بعض الأصدقاء.»
قالت آيلين: «أصدقاء؟ نعم لديها تلك السيدة التي تدعى دلفين. هل توصلت إليها؟ وهل تلقت الرسالة؟»
قال هاري: «نعم، فعلت، وتلقت الرسالة جيدا.» «هل أعدت لها رشوتها؟» «إن أردت أن تطلقي عليها ذلك، نعم فعلت.» «لا مزيد من المشاكل؟ أفهمت؟ لا مزيد من المشاكل.»
فتح هاري المذياع وراحوا يستمعون إلى النشرة أثناء تناولهم العشاء، وقامت آيلين بفتح زجاجة من النبيذ.
قال هاري في صوت يشوبه شيء من تهديد: «ما هذا؟ أهو احتفال؟»
لقد تعلمت لورن العلامات واعتقدت أنها ترى ما عليها أن تمر به الآن، الثمن الذي سيدفع من أجل عملية الإنقاذ الخارقة؛ عدم الرجوع للمدرسة ثانية أو الاقتراب من الفندق، بل ربما يصل الأمر لعدم السير في الشوارع على الإطلاق، وعدم الخروج من المنزل في الأسبوعين الباقيين قبل حلول إجازات عيد الميلاد.
قد يكون النبيذ أحد هذه العلامات، أحيانا، وفي أحايين أخرى لا يكون كذلك، لكن عندما أخرج هاري زجاجة الجين وصب لنفسه نصف كوب ولم يضف إليه شيئا آخر سوى الثلج - ولم يضف حتى الثلج بعد ذلك - أدركت أن الأمور قد استقرت وتم إعداد كل شيء. قد لا يزال كل شيء باعثا على البهجة، لكنها تلك البهجة الحادة كأطراف السكين. وسيتحدث هاري إلى لورن، وستتحدث آيلين إلى لورن، وذلك بصورة أكثر مما اعتادا عليه، وسيتحدثان بعضهما إلى بعض بين الحين والآخر بأسلوب يبدو طبيعيا. لكن سيكون هناك بالرغم من ذلك نوع من اللامبالاة في الغرفة لم تظهره الكلمات بعد، وسوف تتمنى لورن، أو ستحاول أن تتمنى - أو تحديدا اعتادت على محاولة تمني - أن يكفا بأي حال عن البدء في الشجار. ودائما ما كانت تعتقد - كانت لا تزال تعتقد - أنها ليست الوحيدة التي تمنت ذلك؛ فهما أيضا كانا يأملان في هذا، إلى حد ما، إلا أنهما أيضا كانا يتوقان لما سيأتي، ولم يكن باستطاعتهما التغلب على ذلك الشعور. فلا توجد مرة واحدة عمت فيها تلك الأجواء؛ أجواء التغير في الغرفة، ذلك البريق الصادم الذي يجعل كل الأشكال والأثاث والأواني أكثر حدة وكثافة، ولم يتبعها ما هو أسوأ.
ولم تعتد لورن على أن تبقى في غرفتها، بل كانت توجد حيث يكونان، تقحم نفسها وسطهما، تحتج وتبكي حتى يحدث أن يمسكها أي منهما ويحملها إلى الفراش قائلا: «حسنا حسنا، لا تزعجينا، لا تزعجينا فحسب، إنها حياتنا، اتركي لنا فرصة للحديث.» و«الحديث» كان يعني التجول في أرجاء المنزل وهما يتبادلان الخطب الرنانة التي تحمل الإدانة والاستنكار، والصرخات التي يصرحان خلالها بالمتناقضات في حياتهما، إلى أن يبدآ في التراشق بمنافض السجائر، والزجاجات والصحون. وفي مرة من المرات هرعت آيلين إلى خارج المنزل وألقت بنفسها فوق العشب، وهي تقطع الحشائش وتمسك بكتل الأوحال بينما كان هاري يقول لها مستهجنا وهو على عتبة الباب: «أوه، أهذا هو الأسلوب إذن؟ حسنا قدمي للناس عرضا.» وفي مرة أخرى حبس هاري نفسه في دورة المياه وهو يصيح: «ليس هناك سوى طريقة واحدة للتخلص من هذا العذاب.» وقد هددتا كلتاهما بابتلاع الأقراص أو استخدام الشفرات الحادة لإنهاء حياتيهما.
قالت آيلين ذات مرة: «أوه، يا إلهي! فلنكف عن ذلك، أرجوك، أرجوك علينا أن نكف عن هذا.» وأجابها هاري بصوت منتحب مقلدا صوتها في قسوة: «إنك أنت من يفعل ذلك، كفي أنت عن هذا.»
توقفت لورن عن محاولة اكتشاف سبب هذه المشاجرات؛ إذ وجدت أن لها في كل مرة سببا مختلفا (فقد استلقت الليلة في الظلام واعتقدت أن هذه المشاجرات ربما تكون بشأن رحيلها؛ بشأن اتخاذ آيلين لهذا القرار بمفردها)، ربما كان السبب هو نفس السبب في كل مرة؛ أنهما لا يستسلمان أبدا.
كانت لورن أيضا قد صرفت النظر عن فكرتها بأن هناك نقطة ضعف بداخلهما - فهاري يمزح طوال الوقت لأنه كان حزينا بداخله، أما آيلين فكانت تتسم بالحدة واللامبالاة لأن ثمة شيئا بشأن هاري كان يجعلها تبتعد وتحجم - وأنها إذا كان بمقدورها - أي لورن - أن توضح ما بداخل كل منهما للآخر لسارت الأمور على نحو أفضل.
وتراهما في اليوم التالي وقد بدت عليهما الاستكانة والانكسار والخزي وبعض من النشاط والسرور بصورة غريبة. قالت آيلين للورن ذات مرة: «على الناس أن يفعلوا ذلك في بعض الأحيان؛ فمن الخطأ كبت مشاعرك، بل ثمة نظرية تقول إن كبت الغضب يؤدي إلى الإصابة بالسرطان.»
وقد كان هاري يشير إلى مشاجراتهما بالخلاف، فيقول: «آسف بشأن خلافنا؛ فآيلين امرأة سريعة التقلب، وكل ما يمكنني قوله يا عزيزتي ... أوه، يا إلهي! كل ما أستطيع قوله إن مثل هذه الأمور تحدث .» •••
في تلك الليلة راحت لورن في النوم قبل أن يبدآ شجارهما المدمر، حتى قبل أن تتأكد من أنهما سيقدمان على ذلك. ولم تكن حتى آثار زجاجة الجين قد ظهرت عليهما عندما تركتهما وذهبت إلى فراشها.
أيقظها هاري.
قال: «آسف يا حبيبتي، هل بإمكانك أن تنهضي وتهبطي إلى الطابق السفلي؟» «أهو الصباح؟» «لا، لا يزال الوقت متأخرا من الليل، لكني أود أن أتحدث إليك أنا وآيلين. ثمة شيء نود أن نتحدث إليك بشأنه؛ إنه يتعلق بما تعرفينه بالفعل. والآن هيا، أتودين ارتداء الخف؟»
قالت لورن مذكرة إياه: «تعلم بأني أبغض ارتداءه.» وتقدمته وهي تهبط الدرج. كان لا يزال يرتدي كامل ملابسه، وكذلك كانت آيلين وهي تنتظر في الردهة بالطابق السفلي، وقالت للورن: «هناك شخص آخر تعرفينه هنا.»
لقد كانت دلفين. كانت تجلس على الأريكة وترتدي معطفا للتزلج فوق سروالها الأسود المعتاد وسترتها. لم تكن لورن رأتها من قبل في ملابس بخلاف ملابس العمل. كان وجهها ممتقعا باهتا، وبشرتها متجعدة، ويبدو جسمها واهنا بشكل كبير.
قالت لورن: «ألا يمكننا الذهاب إلى المطبخ؟» ولم تكن تعرف لماذا قالت ذلك، لكن المطبخ كان يبدو المكان الأكثر أمانا؛ فهو مكان أقل خصوصية، وبه مائدة تستطيع الاتكاء عليها إذا ما التفوا حولها جالسين.
قال هاري: «لورن ترغب بالجلوس بالمطبخ، فلنذهب إلى المطبخ.»
قال عندما جلسوا هناك: «لورن، لقد أوضحت لهما أنني أخبرتك بأمر الطفل؛ الطفل الذي كان لدينا قبل مجيئك وما حدث له.»
انتظر حتى قالت لورن: «نعم.»
قالت آيلين: «هل بإمكاني أن أقول شيئا الآن؟ هل بإمكاني أن أقول شيئا للورن؟»
قال هاري: «بالطبع.»
قالت آيلين وهي تنظر إلى يديها اللتين تضعهما على حجرها أسفل سطح المائدة: «لم يحتمل هاري فكرة وجود طفل آخر، لم يحتمل فكرة أن يكون هناك فوضى بالبيت؛ فلديه كتاباته، وكان يريد إنجاز بعض الأشياء؛ لذا فلا ينبغي أن يكون هناك أي نوع من الفوضى. وكان يريدني أن أخضع لعملية إجهاض، وقلت له بأني سأفعل، ثم أخبرته بأني لن أفعل، ثم عدت ثانية وأخبرته بأنني سأخضع لها، لكني لم أستطع، وتشاجرنا حينها وأخذت الطفل واستقللت السيارة، فكنت ذاهبة لمنزل إحدى صديقاتي. لم أكن أسير بسرعة كبيرة، وبالطبع لم أكن ثملة، كل ما في الأمر أنه لم تكن هناك إضاءة كافية على الطريق وكان الطقس سيئا.»
أضاف هاري: «وكذلك لم يكن مهد الطفل مثبتا جيدا في المقعد.»
قال: «لكن دعينا من ذلك، أنا لم أكن مصرا على إجراء عملية الإجهاض. ربما أكون قد ذكرت إجراء العملية، لكن لم يكن من سبيل أن أجبرك عليها. إنني لم أتحدث مع لورن بشأن ذلك؛ لأنه سيكون من المؤلم أن تسمع هذا. من المؤكد أنه أمر مؤلم.»
قالت آيلين: «نعم، ولكنها الحقيقة، ولورن بإمكانها تفهم ذلك جيدا؛ فهي تعلم أنها لم تكن السبب.»
قالت لورن وقد دهشت هي ذاتها من أسلوبها: «لقد كنت أنا السبب، من عساه يكون غيري؟»
قالت آيلين: «لكني لم أكن أنا التي أرغب في فعل ذلك.»
قال هاري: «أحقا؟ إنك لم تكوني معترضة تماما على إجرائها.»
قالت لورن: «توقفا عن هذا.»
قال هاري: «هذا تماما هو ما اتفقنا ألا نفعله، أليس هذا ما اتفقنا ألا نفعله؟ ونحن ندين بالاعتذار لدلفين.»
لم تكن دلفين تنظر إلى أحد أثناء ذلك الحديث الدائر بينهم. ولم تقرب مقعدها من المائدة، بل بدا أنها لم تلحظ عندما ذكر هاري اسمها. فلم يكن شعورها بالهزيمة فقط هو ما جعلها في تلك الحالة من الصمت والسكون، بل هو ثقل المكابرة والعناد، بل والاشمئزاز، الذي لم يلحظه هاري أو آيلين. «لقد تحدثت إلى دلفين في فترة ما بعد الظهيرة يا لورن، وأخبرتها بأمر الطفلة. كانت تلك هي طفلتها، ولم أخبرك مطلقا بأننا كنا قد تبنينا تلك الطفلة؛ لأنه من شأنه أن يجعل الأمور أسوأ؛ كيف أننا تبنينا تلك الطفلة ثم الطريقة التي أضعناها بها. مرت خمس سنوات ونحن نحاول أن يكون لدينا طفل، واعتقدنا بأن ذلك لن يحدث، ولن نرزق بأحدهم، فتبنينا طفلة. لكن دلفين كانت أم تلك الطفلة في المقام الأول، وأطلقنا على الطفلة اسم لورن، ثم أسميناك بهذا الاسم؛ أعتقد لأنه كان الاسم المفضل لدينا، كما أنه كان يمنحنا شعورا بأننا نبدأ من جديد. وكانت دلفين ترغب في أن تعرف أخبار ابنتها، واكتشفت أننا نحن من أخذناها، وكان من الطبيعي أن تعتقد خطأ بأنك أنت طفلتها، وقدمت إلى هنا ووجدتك. كان هذا شيئا محزنا. وعندما أخبرتها بالحقيقة أرادت دليلا على هذا الكلام، وأنا أتفهم ذلك تماما؛ لذا أخبرتها بأن تأتي إلى هنا الليلة وأطلعتها على المستندات الخاصة بك. إنها لم تكن ترغب في سرقتك أو أي شيء من هذا القبيل، إنها فقط أرادت أن تصادقك؛ فلقد كانت تشعر بالوحدة والحيرة.»
قامت دلفين بفتح سحاب معطفها كما لو أنها كانت تبغي المزيد من الهواء.
قال: «وأخبرتها بأن الصندوق لا يزال لدينا؛ إذ لم نجد قط الوقت المناسب ل ...» ثم أشار بيده إلى الصندوق المصنوع من الورق المقوى الذي استقر فوق النضد وأردف قائلا: «لذا فقد جعلتها ترى هذا أيضا.»
وأضاف: «لذا فنحن الليلة كعائلة، وإذ أضحى كل شيء واضحا، سنذهب إلى الخارج وننهي الأمر، سنتخلص من كل الشقاء واللوم؛ دلفين وآيلين وأنا، ونريدك أن تأتي معنا؛ فهل توافقيننا الرأي في هذا؟ هل توافقين؟»
قالت لورن: «لقد كنت نائمة، وأعاني من نزلة برد.»
قالت آيلين: «عليك أن ترافقينا كما قال هاري.»
كانت دلفين لا تزال تخفض بصرها ولا ترفعه نحوهم. أخذ هاري الصندوق من فوق النضد وأعطاها إياه وقال: «ربما أنت الأولى بحمله. هل أنت على ما يرام؟»
قالت آيلين: «الجميع بخير، دعونا نذهب.» •••
وقفت دلفين وسط الثلوج وهي تحمل الصندوق، وقالت آيلين: «هل تسمحين لي؟» وأخذته منها في إجلال واحترام، وقامت بفتحه، وكانت على وشك أن تعطيه لهاري، لكنها غيرت رأيها ومدته نحو دلفين ثانية. قامت دلفين بأخذ حفنة صغيرة من الرماد، لكنها لم تأخذ الصندوق ومررته إليهم. أخذت آيلين حفنة هي الأخرى وأعطت الصندوق لهاري. وعندما أخذ هو حفنة من الرماد كان على وشك أن يعطي الصندوق للورن ، لكن آيلين قالت له: «لا، ليس عليها أن تفعل ذلك.»
كانت لورن قد دست يديها بالفعل في جيبيها.
لم تهب أي رياح؛ لذا سقط الرماد حيث ألقاه كل من هاري وآيلين ودلفين وسط الثلوج.
تحدثت آيلين كما لو كان حلقها محتقنا: «أبانا الذي في السماوات ...»
أكمل هاري بصوت واضح: «هذه لورن طفلتنا التي أحببناها، دعونا نقل ذلك جميعا.» ثم نظر نحو دلفين وآيلين ورددوا جميعهم: «هذه لورن طفلتنا.» كان صوت دلفين خفيضا تماما وهي تتمتم بذلك، أما صوت آيلين فكان يمتلئ بالصدق الذي يشوبه بعض التوتر، وكان هاري يقودهم بصوت رنان تعلوه الجدية الشديدة.
وفي النهاية قالت آيلين مسرعة: «ونحن نودعها ونسلمها إلى الثلوج، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا. اغفر لنا خطايانا.»
في رحلة العودة إلى البلدة جلست دلفين في المقعد الخلفي إلى جوار لورن، وقد فتح لها هاري الباب الأمامي لكي تجلس بجواره، لكنها جاوزته لتجلس في المقعد الخلفي. وقد تخلت عن المقعد الأهم؛ فهي الآن لم تعد حاملة للصندوق. وضعت يدها في جيب معطفها لتخرج منديلا ورقيا، وبينما هي تفعل ذلك جذبت شيئا آخر سقط على أرضية السيارة. أطلقت شهقة لاإرادية، وانحنت لأسفل لكي تحدد مكانه، لكن لورن كانت أسرع منها. التقطت لورن فردة واحدة من القرط الذي طالما رأت دلفين وهي ترتديه؛ كان طويلا يصل إلى كتفها، وبه بعض كرات الخرز التي تعكس ألوان قوس قزح وتعكس بريقا على خصلات شعرها. لا بد وأنها كانت ترتدي هذا القرط في تلك الليلة، لكنها رأت أنه من الأحرى أن تضعه في جيبها. ومجرد ملمس ذلك القرط بكراته اللامعة الباردة المصنوعة من الخرز جعل لورن تتمنى فجأة وهو ينزلق من بين أصابعها أن تختفي بعض الأشياء، وأن تعود دلفين نفس الشخص الذي عرفته في البداية، وهي تجلس خلف النضد في الفندق حيث كانت تتسم بالجرأة والمرح.
لم تنبس دلفين بكلمة. أخذت القرط دون أن تتلامس أصابعهما، لكن لأول مرة في تلك الليلة يلتقي وجهاهما هي ولورن وينظران مباشرة إحداهما إلى الأخرى . اتسعت حدقتا عيني دلفين، وارتسم على وجهها للحظة تعبيرا مألوفا بالتهكم والتآمر. هزت كتفيها ووضعت القرط في جيبها. كان هذا كل ما حدث بينهما، ومنذ ذاك الحين وجهت نظرها للأمام نحو مؤخرة رأس هاري.
أبطأ هاري من سرعته، ثم توقف لكي ينزلها عند الفندق وقال: «سيكون شيئا لطيفا أن تأتي لتناول طعام العشاء معنا في أي ليلة لا تعملين خلالها.»
قالت دلفين: «إنني غالبا ما أعمل طوال الوقت.» غادرت السيارة وهي تقول: «وداعا.» ولم تكن توجه حديثها لأي منهم على وجه التحديد، ثم سارت بخطى متثاقلة عبر الرصيف المغطى بالثلج إلى داخل الفندق.
قالت آيلين وهم في طريقهم إلى المنزل: «كنت أعرف أنها لن تقبل الدعوة.»
قال هاري: «حسنا، ربما شعرت بالتقدير لدعوتنا هذه على أي حال.» «إنها لا تهتم بأمرنا. لم يكن يهمها سوى لورن حينما كانت تعتقد أنها ابنتها، والآن لم تعد تهمها هي الأخرى.»
قال هاري وقد علا صوته: «لكن نحن نفعل، إنها ابنتنا نحن.»
ثم أردف قائلا: «نحن نحبك يا لورن، كنت أريد فقط أن أعيد عليك هذا الكلام مرة أخرى.» «ابنتها. ابنتنا.»
ثمة شيء شعرت لورن أنه يوخز كاحليها العاريين، فانحنت لترى سبب ذلك، فوجدت بعض النباتات الشائكة؛ كتلة من النباتات الشائكة، تعلق بسروال منامتها. «لقد علقت بي بعض النباتات الشائكة أسفل الثلوج، علقت بي المئات منها.»
قالت آيلين: «سأقوم بنزعها عنك عندما نصل إلى المنزل؛ فليس ثمة ما أستطيع فعله الآن.»
راحت لورن تزيح النباتات بغضب عن منامتها، وبمجرد أن تخلصت منها اكتشفت أنها التصقت بأصابعها، فحاولت أن تتخلص منها بيدها الأخرى، ولكنها سرعان ما علقت بأصابع يدها كلها. شعرت بالتقزز والاشمئزاز من تلك النباتات لدرجة أنها أرادت أن تطرق يدها بعنف لتزيحها وتصرخ بأعلى صوتها، لكن كانت تدرك أنه ليس بمقدورها أن تفعل شيئا سوى الجلوس والانتظار.
الخدع
1
قالت روبن ذات ليلة منذ سنوات: «سأموت، سأموت إن لم يكونوا قد انتهوا من تجهيز ذلك الرداء.»
كانوا يجلسون في الشرفة المظللة للمنزل الخشبي ذي اللون الأخضر الداكن القابع في شارع إيزاك. وكان ويلارد جريج - الذي يقطن في المنزل المجاور - يلعب الكونكان مع أخت روبن - جوان - على طاولة اللعب. كانت روبن تجلس على الأريكة وهي تتطلع في عبوس إلى إحدى المجلات. كانت رائحة التبغ تمتزج مع رائحة الكاتشاب المغلي المتصاعدة من مطبخ أحد المنازل القائمة على الطريق.
لمح ويلارد شبه ابتسامة على وجه جوان قبل أن تتساءل في صوت غير مبال: «ماذا قلت؟»
قالت روبن في تحد: «لقد قلت إنني سأموت، سأموت إن لم يكونوا قد انتهوا من تجهيز ذلك الرداء بحلول الغد؛ أعني من يقومون بتنظيفه.» «هذا ما اعتقدت أنك قلتيه. ستموتين؟»
لا يستطيع أحد توجيه اللوم لجوان على أي ملاحظة من هذا النوع.
فقد كانت نبرة صوتها شديدة الاعتدال، واحتقارها يغلفه الهدوء الشديد، ولم تكن ابتسامتها - التي اختفت الآن - سوى حركة خفيفة لركن فمها.
قالت روبن بتحد: «نعم سأموت؛ فأنا أحتاجه بشدة.»
قالت جوان موجهة حديثها إلى ويلارد بلهجة من يفشي سرا: «إنها تحتاجه، ستموت بدونه، إنها ستذهب إلى المسرحية.»
قال ويلارد مستنكرا: «والآن يا جوان!» كان والداه، وكذلك هو أيضا، أصدقاء لوالدي الفتاتين - كان لا يزال ينظر إليهما على أنهما فتاتين صغيرتين - والآن وبعد أن رحل الآباء والأمهات جميعهم فقد شعر أن من واجبه أن يمنع البنات - قدر المستطاع - من أن تضايق إحداهما الأخرى.
كانت جوان تبلغ من العمر الآن ثلاثين عاما، أما روبن فكانت في السادسة والعشرين من العمر. كان جسم جوان طفوليا، ذات صدر نحيل، ووجه طويل شاحب، وشعر بني منسدل بنعومة. لم تحاول أن تتظاهر بأي شيء مطلقا سوى أنها شخص غير محظوظ؛ فهي تقف في المنتصف ما بين مرحلة الطفولة والنضج الأنثوي. تعيقها إصابتها بمرض الربو الحاد والمستمر معها منذ الطفولة. ولا يمكن التوقع من شخصية مثل هذه - شخصية لا تستطيع أن تخطو إلى الخارج في الشتاء أو تترك بمفردها طوال الليل - أن يكون لديها ذلك الأسلوب المدمر المتمثل في التقاط حماقات الآخرين ممن هم أكثر حظا منها والتندر عليها، أو أن تحمل كل هذا الكم من الاحتقار والازدراء. طيلة حياتهم بدا لويلارد أنه ظل يشاهد روبن ودموع الغضب تملأ عينيها، ويسمع جوان وهي تقول: «ما الخطب معك الآن؟»
لم تشعر روبن إلا بوخز بسيط الليلة، وغدا هو يومها الذي تذهب فيه إلى مدينة ستراتفورد، وقد شعرت بالفعل أنها تعيش خارج نطاق جوان بعض الشيء.
سألها ويلارد في محاولة لتهدئة الأمور قدر ما يستطيع: «ما هي المسرحية يا روبن؟ أهي إحدى مسرحيات شكسبير؟» «نعم، إنها مسرحية «كما تحب».» «وهل بإمكانك متابعة مسرحيات شكسبير جيدا؟»
قالت روبن إنه بإمكانها ذلك. «إنك مذهلة.» •••
تواظب روبن على فعل ذلك منذ خمس سنوات؛ فقد كانت تشاهد مسرحية واحدة كل موسم صيف. بدأ الأمر حينما كانت تعيش في ستراتفورد وتتمرن على التمريض. كانت قد ذهبت مع صديقة لها حصلت على تذكرتين مجانيتين من عمتها التي كانت تعمل في مجال الأزياء. شعرت الفتاة صاحبة التذكرتين بالملل الشديد من العرض - كانت مسرحية «الملك لير» - لذا كتمت روبن مشاعرها ولم تفصح عن رأيها، فلم يكن بمقدورها أن تعبر عنه على أي حال، وكانت تفضل أن تغادر المسرح بمفردها، وألا تتحدث لأي شخص لأربع وعشرين ساعة على الأقل. عقدت عزمها حينها على أن تعود إلى المسرح مرة أخرى وأن تأتي بمفردها.
لن يكون ذلك بالشيء الصعب؛ فالمدينة التي نشأت بها، والتي كان عليها أن تحصل على عمل فيها من أجل جوان، لا تبعد سوى ثلاثين ميلا فقط، والناس هناك يعرفون أن مسرحيات شكسبير تعرض في ستراتفورد. بيد أن روبن لم تسمع بأن أحدا ذهب إلى هناك ليشاهد إحداها؛ فالناس ممن هم في مستوى ويلارد يخشون أن ينظر إليهم الجمهور في المسرح بشيء من الازدراء وأن يشعروهم بالدونية، بجانب صعوبة فهم لغة المسرحية، وتعذر المتابعة معها. أما الأشخاص من أمثال جوان فكانوا على ثقة تامة من أنه ما من أحد يمكنه أن يهوى مسرحيات شكسبير؛ لذا فإن حدث وذهب أحد من مدينتها فسيكون هذا مرجعه رغبة من يذهب في الاختلاط بعلية القوم، والذين بدورهم لا يستمتعون بها، بل يذهبون لمجرد أن يعلنوا أمام الآخرين أنهم قد ذهبوا واستمتعوا بالعرض. أما القلائل ممن اعتادوا مشاهدة العروض المسرحية فيفضلون الذهاب إلى مسرح رويال ألكس في تورونتو حين تقدم إحدى فرق برودواي الموسيقية عروضها هناك.
كانت روبن تهوى الجلوس في مقعد ذي موقع جيد؛ ولذا لم يكن بمقدورها سوى دفع ثمن تذكرة حفلة يوم السبت الصباحية؛ كي يمكنها الحصول على مثل هذا المقعد. اختارت مسرحية تعرض في يوم من أيام إجازتها من المستشفى، ولم تكن قد قرأتها من قبل، ولم تهتم إن كانت من اللون الكوميدي أم التراجيدي. ولم تر مطلقا شخصا واحدا هناك ممن تعرفهم سواء في المسرح أو بالخارج في شوارع المدينة، وكان ذلك يلائمها تماما. وقد قالت لها إحدى الممرضات اللائي يعملن معها ذات مرة: «ليس لدي ما يكفي من الشجاعة التي تمكنني من القيام بذلك بمفردي.» وقد جعل هذا روبن تدرك أنها بالقطع تختلف عمن عداها من الأخريات. لم تشعر من قبل براحة مثل تلك التي تشعر بها في مثل هذه الأوقات؛ حيث يحيط بها الغرباء فقط. وكانت بعد انتهاء العرض تتجول في شوارع وسط المدينة، بجانب النهر، وتبحث عن مكان أسعاره زهيدة كي تتناول فيه الطعام؛ وهو ما كان في العادة عبارة عن شطيرة تتناولها وهي جالسة على أحد المقاعد المرتفعة المقابلة للنضد. وفي تمام الثامنة إلا الثلث كانت تستقل القطار عائدة إلى منزلها؛ وهذا كل ما في الأمر، لكن تلك الساعات القليلة كانت تملؤها بيقين بأن تلك الحياة التي تعود إليها ثانية، والتي كانت تبدو بالنسبة لها مجرد شيء بديل وغير مرض، ما هي إلا شيء مؤقت بمقدورها أن تتقبله وتتكيف معه إلى حين. كذلك فإن ثمة بريقا يطل خلف ذلك، خلف تلك الحياة، خلف كل شيء؛ بريق يتمثل في ضوء الشمس الذي تراه من خلال نوافذ القطار؛ فقد كان ضوء الشمس والظلال الممتدة في حقول الصيف أشبه ببقايا المسرحية التي لا يزال يتردد صداها في رأسها.
كانت قد شاهدت في العام الماضي مسرحية «أنطونيو وكليوباترا»، وعندما انتهى العرض المسرحي، سارت بجوار النهر كالمعتاد، ولاحظت أن هناك بجعة سوداء تسبح بخفة على سطحه - وكانت أول مرة ترى فيها بجعة بهذا اللون. كانت البجعة بمثابة دخيل بارع يسبح ويأكل على مقربة من البجع الأبيض. ربما كان تلألؤ أجنحة البجع الأبيض هو ما جعلها تفكر في تناول الطعام في أحد المطاعم الحقيقية هذه المرة وليس على النضد في مكان ما؛ فستذهب إلى أحد المطاعم حيث المفارش البيضاء، وبعض الزهور الندية المتفتحة، وكوب من النبيذ، وتتناول شيئا لا تتناوله في المعتاد مثل بلح البحر، أو الدجاج. وأقدمت على تفحص حقيبتها لترى كم معها من النقود.
ولكن لم تكن حقيبتها موجودة؛ فالحقيبة الصغيرة المصنوعة من قماش الكشمير ذات السلسلة الفضية، والتي نادرا ما تحملها، لم تكن معلقة على كتفها كالمعتاد. لقد فقدتها. سارت بمفردها كل ذلك الطريق من وسط المدينة حيث يقع المسرح دون أن تلاحظ أنها اختفت. وبالطبع لم تكن هناك أي جيوب في ردائها، وليست معها تذكرة عودة، أو أحمر شفاه، أو مشط، أو أي نقود، ولو حتى مبلغا ضئيلا.
تذكرت أنها كانت تضع الحقيبة على حجرها طوال مدة المسرحية أسفل برنامج العرض. حتى برنامج العرض ليس معها الآن هو الآخر. أيكون الاثنان قد سقطا على الأرض؟ لكن لا؛ فهي تتذكر أن الحقيبة كانت معها في دورة المياه عندما ذهبت إلى دورة المياه الخاصة بالسيدات؛ فلقد قامت بتعليقها من سلسلتها الفضية على المشجب الموجود خلف الباب، لكنها لم تتركها هناك؛ لا لم تتركها؛ فلقد تطلعت إلى نفسها في المرآة المثبتة فوق حوض غسيل الأيدي، وأخرجت منها المشط وراحت تعبث بخصلات شعرها. كان شعرها أسود ناعما، وبالرغم من أنها كانت تحاول أن تجعله منتفخا كشعر جاكي كينيدي، وتقوم بلفه على بكرات الشعر ليلا، فقد كان يميل للانسدال على كتفيها. أما فيما عدا ذلك فكانت سعيدة وراضية بما ترى من هيئتها. كانت عيناها ذواتي لون رمادي يميل إلى الخضرة ، أما حاجباها فكانا أسودين، وتميل بشرتها إلى السمرة؛ سواء حاولت أن تجعلها كذلك أم لا فهي مكتسبة لهذا اللون. وما كان يظهر جمال ذلك ويضفي عليه المزيد من الجاذبية هو رداؤها القطني المنفوش بلون الأفوكادو الأخضر، والذي يضيق عند الخصر وبه صف من الثنيات والطيات الصغيرة عند منطقة الورك.
ذلك هو المكان الذي تركت فيه الحقيبة؛ هناك فوق النضد بجوار حوض غسيل الأيدي عندما كانت تتطلع إلى نفسها في إعجاب، وتستدير وتنظر بجانبها لتتمكن من رؤية فتحة الفستان المصممة على شكل رقم 7 من الخلف؛ فقد كانت تعتقد أنها تبدو جميلة من الخلف، ولتتيقن من أن حمالة الصدر لا تظهر من تحت الثوب.
وفي خضم خيلائها وزهوها بذاتها، وسعادتها الزائفة بنفسها، خرجت مسرعة من دورة المياه تاركة حقيبة يدها.
صعدت من حافة النهر إلى الطريق واستدارت عائدة مرة أخرى في اتجاه المسرح من خلال أقصر الطرق وأكثرها استقامة، وسارت بأسرع ما يمكنها. لم يكن هناك أي جزء ظليل بطول الشارع، وكان المرور مزدحما في ذلك الوقت الحار من فترة ما بعد الظهيرة. كادت تجري؛ مما جعل العرق يتصبب من أسفل بطانة فستانها. سارت عبر ساحة انتظار السيارات عند محلات المخبوزات، والتي أصبحت خاوية الآن، ثم صعدت التل الصغير. لم يكن ثمة منطقة ظليلة هناك، ولم تر أثرا لأي شخص حول مبنى المسرح.
لكنه لم يكن مغلقا. وقفت لنحو دقيقة في ردهة المسرح الخالية؛ حتى تستطيع أن ترى ما بالداخل جيدا بعدما ضعفت رؤيتها نتيجة الضوء الساطع بالخارج. كانت تسمع ضربات قلبها، وقد برزت قطرات العرق من فوق شفتها العليا. كان شباك التذاكر مغلقا، وكذا ركن المرطبات، وأغلقت أبواب المسرح الداخلية. هبطت الدرج الذي يؤدي إلى دورة مياه السيدات، وحذاؤها يحدث جلبة على سلالم الدرج الرخامية.
ليتها تكون مفتوحة، ليتها تكون مفتوحة، ليت الحقيبة هناك.
لا، لم يكن هناك شيء على النضد الناعم ذي التعريقات، ولا في داخل سلة المهملات، أو على أي مشجب مثبت في أي من الأبواب.
شاهدت رجلا يقوم بتنظيف أرضية البهو عندما صعدت لأعلى، وأخبرها أنها ربما تكون في مكتب المفقودات، لكنه كان مغلقا. ترك ما يقوم بتنظيفه على مضض وقادها نحو سلم آخر يؤدي إلى الأسفل حيث توجد غرفة صغيرة لا يوجد بها أي فتحات تهوية تحوي عدة مظلات، وبعض الطرود، بل وحتى السترات، والقبعات، وفراء ثعلب بنيا ذا مظهر مقزز، ولكن لا أثر لحقيبة من الكشمير تحمل على الكتف.
قال: «حظ سيئ.»
قالت له في توسل: «هل من الممكن أن تكون أسفل مقعدي؟» قالتها رغم أنها كانت واثقة أنها ليست هناك. «لقد انتهيت من تنظيف ذلك المكان بالفعل.»
لم يكن بيدها شيء آخر تفعله سوى أن تصعد الدرج وتسير عبر الردهة، وتخرج إلى الشارع.
سارت في الاتجاه المعاكس لساحة السيارات؛ بحثا عن مكان ظليل تسير فيه. بمقدورها تخيل جوان وهي تقول لها إن عامل النظافة أخفى حقيبتها ليأخذها معه إلى منزله ليعطيها لزوجته أو ابنته؛ فهذا هو ما يفعلونه في مكان كهذا. كانت تبحث عن مقعد أو حافة جدار بارزة تستريح عليها بينما تقرر ما ستفعله وتحلل الأشياء التي مرت بها، إلا أنها لم تر ملمحا لشيء حولها في أي مكان.
ظهر من ورائها كلب ضخم، واصطدم بها بينما يمر من جانبها، كان كلبا ذا لون بني داكن، وأرجل طويلة وتعبيرات يعلوها الزهو والعناد.
سمعت رجلا ينادي قائلا: «جونو، جونو، انتبهي إلى أين تذهبين.»
ثم وجه حديثه لروبن: «إنها كلبة صغيرة ووقحة، إنها تعتقد أنها تملك الرصيف، لكنها ليست شريرة. هل انتابك الخوف منها؟»
قالت روبن: «لا.» كان فقدانها لحقيبتها قد شغل كل تفكيرها، ولم تر أن مهاجمة كلب يمكن أن تطغى على ذلك. «عادة ما يشعر الناس بالخوف الشديد عند رؤية كلاب الدوبرمان؛ فالشائع عن كلاب الدوبرمان أنها تتسم بالشراسة، إنها مدربة على أن تظهر شراستها وعنفها عندما تقوم بالحراسة، لكنها لا تفعل ذلك عندما آخذها لتتريض.»
كانت روبن بالكاد تستطيع التفرقة بين سلالة كلب عن الآخر؛ إذ إن أسرتها لم تقتن يوما كلبا أو قطا بسبب مرض الربو الذي يلازم جوان.
قالت: «لا بأس.»
وبدلا من السير في اتجاه المكان الذي تنتظر فيه الكلبة جونو، ناداها مالكها لتعاود أدراجها ثانية، وقام بتوثيق السلسلة التي يحملها في الطوق الذي ترتديه الكلبة، وقال: «إنني أطلق سراحها على الحشائش أسفل المسرح فقط؛ فهي تهوى ذلك، لكن كان ينبغي أن أقوم بتوثيقها هنا، إلا أنني تكاسلت عن فعل هذا. ماذا بك؟ هل أنت مريضة؟»
لم تشعر روبن حتى بالدهشة حيال ذلك التغيير في دفة الحوار. قالت: «فقدت حقيبتي. لقد كان خطئي، تركتها بجوار حوض غسيل الأيدي في دورة المياه بالمسرح وعدت ثانية لأبحث عنها لكني لم أجدها. لقد مضيت وتركتها هناك بعد انتهاء المسرحية.» «ما المسرحية التي كانت معروضة اليوم؟»
قالت: «أنطونيو وكليوباترا. إن بها كل نقودي بالإضافة إلى تذكرة العودة بالقطار.» «هل أتيت بالقطار لتشاهدي أنطونيو وكليوباترا؟» «نعم.»
تذكرت النصيحة التي كانت تسديها أمها إليها وإلى جوان بشأن السفر بالقطار، أو السفر بوجه عام لأي مكان؛ وهي الاحتفاظ دائما ببعض النقود وطيها وتثبيتها في الملابس الداخلية، وعدم التحدث إلى أي شخص غريب. «علام تبتسمين؟» «لا أدري.»
قال: «ابتسمي كيفما تشائين؛ لأنه يسعدني أن أقرضك بعض النقود من أجل تذكرة القطار؛ متى سيغادر؟»
أخبرته بموعد قيام القطار، وقال: «حسنا، لكن قبل أن تغادري عليك بتناول بعض الطعام، وإلا ستشعرين بالجوع ولن تستمتعي برحلة القطار. ليس معي شيء الآن؛ لأنني لا أحمل معي أي نقود عندما آخذ جونو في جولتها اليومية، لكن متجري لا يبعد كثيرا عن هنا، تعالي معي وسأجلب بعض النقود من الدرج.»
كان ذهنها مشغولا إلى الآن، لدرجة أنها لم تلحظ أنه يتحدث بلكنة مختلفة. ما عساها أن تكون؟ إنها ليست بفرنسية أو ألمانية؛ فكلتاهما تستطيع أن تميزها؛ فهي تعرف الفرنسية من دراستها لها بالمدرسة، أما الألمانية فعرفتها من خلال بعض المهاجرين ممن يترددون أحيانا على المستشفى التي تعمل بها لتلقي العلاج. والشيء الآخر الذي لاحظته هو أنه تحدث عن استمتاعها برحلة القطار، فما من أحد تعرفه تحدث عن شعور شخص بالغ بذلك، لكنه تحدث عن ذاك الأمر باعتباره شيئا طبيعيا ولازما.
عند منعطف شارع داوني قال: «سننعطف في ذلك الاتجاه؛ فمنزلي يقع هناك.»
قال «منزلي»! ألم يقل «متجري» من قبل، ربما يقع متجره داخل المنزل.
لم تكن تشعر بالقلق، وتعجبت من ذلك الشعور فيما بعد. قبلت عرضه بالمساعدة دون لحظة تردد واحدة، وسمحت له بإنقاذها، ووجدت أنه من الطبيعي تماما ألا يحمل معه أي نقود أثناء تريضه، لكنه يستطيع إحضار النقود من درج النقود بالمتجر.
ربما كانت لكنته هي سبب عدم شعورها بالقلق؛ فقد كانت بعض الممرضات يتندرن على لكنة المزارعين الألمان وزوجاتهم، وكان ذلك بالطبع من وراء ظهورهم؛ لذا اعتادت روبن على معاملة هؤلاء الأشخاص ببعض المراعاة، كما لو أنهم يعانون من مشاكل في الكلام أو من التأخر العقلي، بالرغم من أنها كانت تعلم أن ذلك محض هراء؛ ولذا فاللكنة المختلفة تولد بداخلها نوعا من الدماثة واللطف.
لم تكن قد أمعنت النظر فيه جيدا؛ فقد كانت مستاءة بشدة في البداية، إلا أنه كان من الصعب بعد ذلك تبين هيئته عن كثب؛ لأنهما كانا يسيران جنبا إلى جنب. كان طويل القامة، وذا ساقين طويلتين أيضا، ويسير بخطوات سريعة. والشيء الوحيد الذي لاحظته بالفعل هو شعاع الشمس المتلألئ فوق شعره القصير، وبدا لها أنه بلون الفضة اللامعة؛ لقد كان رماديا. أما جبهته العريضة العالية فهي الأخرى تلمع في ضوء الشمس، وتولد لديها انطباع بأنه من الجيل الذي يسبقها. بدا لطيفا وكيسا، ولكنه قليل الصبر بعض الشيء، من ذلك النوع من الأشخاص الذين يشبهون معلمي المدارس؛ إذ بدا مسيطرا، يفرض الاحترام وليس الحميمية. استطاعت فيما بعد داخل المنزل أن ترى أن خصلات شعره الرمادية تختلط ببعض الخصلات الحمراء المشوبة بالاصفرار - بالرغم من أن بشرته كانت زيتونية تميل إلى السمرة، وهو شيء غير اعتيادي لذوي الشعر الأحمر - وكانت حركته داخل المنزل غريبة بعض الشيء كما لو أنه لم يعتد على أي نوع من الصحبة في منزله. يحتمل أنه يكبرها بنحو عشر سنوات على الأكثر.
كانت قد وثقت به لأسباب غير صحيحة؛ بيد أنها لم تكن مخطئة في ثقتها تلك.
كان المتجر يقع بالفعل داخل المنزل. وكان منزلا صغيرا بني من القرميد، بدا أنه يعود لسنوات طويلة ماضية، وكان يقع في شارع تصطف به المباني المصممة في الأساس لتكون متاجر. كان هناك ذلك النوع من الأبواب الأمامية، ثم درجة واحدة للصعود، ونافذة من ذلك النوع الذي تجده في أي منزل عادي، وكانت هناك ساعة أنيقة معلقة بها. قام بفتح الباب؛ بيد أنه لم يقم بقلب اللافتة المكتوب عليها مغلق. زاحمتهما جونو وتقدمت طريقهما، واعتذر هو مرة أخرى عن سلوكها. «إنها تعتقد أنه من واجبها أن تتيقن من أنه لا يوجد أحد ليس من حقه الوجود هنا، ولا تختلف عن ذلك كثيرا عندما تذهب إلى الخارج.»
كان المكان مزدحما بالساعات ذات اللون الخشبي الداكن والفاتح، ذات الأرقام الملونة والقباب المطلية بالذهب. كانت موضوعة فوق الأرفف والأرضية، بل حتى فوق النضد الذي يتم خلاله المعاملات التجارية. وبخلاف ذلك كانت هناك بعض الساعات التي استقرت فوق المقاعد وأجزاؤها الداخلية مكشوفة. انسلت جونو من بينهما بمهارة وخفة، واستطاعا سماعها، وهي تصعد الدرج وتدب بقوائمها. «هل تهتمين بالساعات؟»
قالت روبن قبل أن تفكر بأنه كان عليها أن تكون أكثر لطفا: «لا.»
قال: «حسنا؛ فليس علي أن أسترسل في حديثي الجاذب عنها.» ثم قادها عبر الممر الذي اتخذته جونو مرورا بأحد الأبواب الذي رجحت أن يكون باب دورة المياه، ثم صعدا درج السلم شديد الانحدار، وأصبحا أمام المطبخ الذي رأته لامعا ومرتبا ونظيفا، وكانت جونو تنتظر بجانب صحن أحمر موضوع على الأرض وهي تهز ذيلها.
فقال لها: «عليك بالانتظار، ألا ترين أننا لدينا ضيف؟»
أفسح الطريق لروبن لكي تدلف إلى الحجرة الأمامية الواسعة والتي لم تغط ألواحها الأرضية العريضة الملونة أي نوع من الأبسطة، ولا توجد أي ستائر على النوافذ؛ مجرد شيش نوافذ فحسب. كذلك كان يوجد نظام نقل الصوت العالي، والذي يحتل مساحة كبيرة من أحد الحوائط، وأريكة تمتد بطول الحائط المقابل من ذلك النوع الذي يتم جذبه للخارج فيصير فراشا، كان هناك أيضا مقعدان من القماش، وخزانة كتب موضوع على أحد رفوفها مجموعة من الكتب، وعلى رف آخر مجموعة من المجلات المكدسة بعناية وترتيب، ولم تر أي لوحات أو وسائد أو أي نوع من أنواع الزخارف. كانت غرفة شخص عازب؛ حيث كل شيء موضوع في مكانه عن قصد، وله ضرورة، ويعبر عن رضا صاحبه وارتياحه لكل ما هو بسيط دون تكلف. كانت تختلف عن مقر إقامة العازب الآخر الوحيد الذي تعرفه روبن؛ فحجرة ويلارد جريج كانت أشبه بأحد المخيمات المهجورة التي تأسست مصادفة وسط أثاث والديه المتوفيين.
قال: «أين تفضلين الجلوس؟ على الأريكة؟ إنها مريحة أكثر من المقاعد، سأعد لك قدحا من القهوة. فلتجلسي هنا وتحتسيه بينما أعد لك طعام العشاء. ماذا تفعلين في الأوقات الأخرى ما بين انتهاء العرض المسرحي وإقلاع القطار إلى مدينتك؟»
إن الأجانب يتحدثون بطريقة مختلفة، ويتركون مساحة صمت بين الكلمات مثلما يفعل الممثلون.
قالت روبن: «أتريض فحسب ثم أذهب لتناول أي طعام.» «كما كنت تفعلين اليوم إذن. أتشعرين بالملل وأنت تتناولين الطعام بمفردك؟» «لا، أفكر حينها في المسرحية.»
كانت القهوة ذات نكهة قوية، لكنها اعتادت على مذاقها. لم تشعر أن عليها أن تعرض عليه المساعدة في المطبخ كما تفعل مع أي امرأة. نهضت من مكانها وقطعت أرض الحجرة وهي تكاد تسير على أطراف أصابعها، وأحضرت مجلة لتقرأ فيها، لكن حتى عندما أمسكت المجلة أيقنت أنه لا طائل من قراءتها؛ فالمجلة مطبوعة من ورق بني زهيد الثمن، ومكتوبة بلغة لم تستطع قراءتها أو فهمها.
بل إنها في الحقيقة أدركت بمجرد أن فتحتها وهي تضعها على حجرها أنها حتى لا تستطيع التعرف على أحرف الهجاء.
دلف إلى الحجرة حاملا معه المزيد من القهوة.
قال: «أوه، إذن هل تستطيعين قراءة لغتي؟»
كانت لهجته تبدو ساخرة، لكنه تجنب النظر إليها؛ فقد بدا الأمر كما لو أنه قد شعر بالخجل في منزله.
أجابته قائلة: «إنني حتى لا أدري ما هي هذه اللغة.»
قال: «إنها اللغة الصربية. وبعض الناس يطلقون عليها الصربية الكرواتية.» «وهل أتيت من تلك البلد؟» «إنني من مونتينيجرو.»
شعرت بالحيرة، إنها لا تعرف أين تقع مونتينيجرو. أهي بجوار اليونان؟ لا، تلك الأخرى هي مقدونيا.
قال: «مونتينيجرو في يوغسلافيا، أو هكذا يخبروننا، لكننا لا نعتقد هذا.»
قالت: «لم أكن أعتقد أن بمقدورك أن تخرج من واحدة من تلك الدول؛ أعني الدول الشيوعية. لم أكن أعتقد أنه يمكنك أن تتركها مثل الأشخاص العاديين وتخرج منها إلى الغرب.»
تحدث وكأن ذلك لم يستهوه كثيرا، أو كأنما قد نسي الأمر برمته وقال: «لا، بل بمقدورك هذا، بمقدورك أن تتركيها إن أردت. لقد غادرتها منذ ما يقرب من خمس سنوات، وقد أصبح الأمر أيسر الآن، وقريبا ما سأعود إليها وأتوقع أن أغادرها ثانية على عجل. والآن علي أن أعد طعام العشاء وإلا ستذهبين وأنت جائعة.»
قالت روبن: «هناك شيء واحد فقط أود الاستفسار عنه؛ لم لا أستطيع قراءة هذه الأحرف؟ أعني ما هذه الأحرف؟ هل هذه هي الأبجدية الخاصة بموطنك؟» «إنها الأبجدية السيريلية، مثل الأحرف اليونانية. والآن إنني أعد الطعام.»
جلست وصفحات المجلة المطبوعة بالأبجدية الغريبة على حجرها، واعتقدت أنها دخلت إلى عالم غريب؛ قطعة صغيرة من عالم غريب في شارع داوني بستراتفورد، مونتينيجرو، الأبجدية السيريلية. اعتقدت أنه من الوقاحة أن تواصل طرح الأسئلة عن الأشياء التي تخصه، كما لو كان إحدى العينات التي تفحصها. كان عليها أن تتحكم في نفسها بالرغم من أن لديها الآن الكثير من الأسئلة.
راحت كل الساعات الموجودة بالطابق السفلي أو معظمها تدق؛ لقد كانت السابعة بالفعل.
ناداها من المطبخ: «هل هناك قطار آخر يقوم متأخرا؟»
قالت: «نعم، في العاشرة إلا خمس دقائق.»
قال: «أهذا يناسبك؟ ألن يشعر أحد بالقلق عليك؟»
قالت: «لا، جوان ستشعر بالاستياء، لكننا لا نستطيع أن نطلق على ذلك شعورا بالقلق.» •••
كان طعام العشاء عبارة عن اليخنة، أو نوع من الحساء الثقيل المقدم في صحون صغيرة مع قطع الخبز والنبيذ الأحمر.
قال: «إنه ستروجانوف اللحم، آمل أن يعجبك مذاقه.»
قالت بصدق: «إنه لذيذ حقا.» أما النبيذ فلم تكن واثقة من رأيها بشأنه؛ فهي تحبه أكثر حلاوة من ذلك. «أهذا ما تتناولونه في مونتينيجرو؟» «لا، ليس تماما؛ فطعام مونتينيجرو ليس جيدا، فنحن لا نشتهر بطعامنا.»
لذا كان من المناسب بالقطع أن تقول: «بم تشتهرون؟»
سألها: «وماذا عن بلدك؟» «أنا من كندا.» «لا، أقصد ما تشتهرون به.»
أربكها ذلك، وشعرت بالغباء، لكنها مع ذلك ضحكت. «لا أدري. أعتقد أننا لا نشتهر بشيء.» «ما يشتهر به المونتينيجريون هو الصياح والصراخ والشجار؛ فهم مثل جونو بحاجة لتعلم النظام.»
نهض لتشغيل بعض الموسيقى، ولم يسألها عما تفضل سماعه، وكان هذا مريحا لها؛ فلم تكن تريد أن يسألها عن مؤلفي الموسيقى الذين تهواهم، بينما كل من تستطيع ذكر أسمائهم هما موتسارت وبيتهوفن، ولا تثق حتى في أنه يمكنها التحدث عن مؤلفات أي منهما. إنها في الواقع كانت تهوى الموسيقى الشعبية، لكنها اعتقدت أنه ربما يرى اختيارها ذلك مزعجا وبه شيء من التنازل، ومن الممكن أن يربط ذلك ببعض أفكارها عن مونتينيجرو.
قام بتشغيل نوع من موسيقى الجاز. •••
لم يكن لروبن قط حبيب أو حتى صديق. كيف حدث هذا، أو لم يحدث؟ لا تدري. كان ذلك بسبب جوان بالقطع، لكن هناك بعض الفتيات اللاتي نجحن في إقامة علاقات على الرغم من أنهن كن مثلها؛ مثقلات بالأعباء. ربما يكون سبب ذلك راجعا إلى أنها لم تعر المسألة الكثير من الاهتمام في الوقت المناسب؛ ففي المدينة التي عاشت بها، كانت معظم الفتيات يرتبطن بعلاقات جدية قبل أن ينهين دراستهن في المدرسة الثانوية، وبعضهن لا ينهين دراستهن وينتهي بهن المطاف بالزواج. أما الفتيات اللاتي كن ينتمين لطبقات أعلى - وهن قليلات من اللواتي استطاع أولياء أمورهن إرسالهن إلى الجامعة - فكان من المتوقع أن يقطعن علاقتهن بأي صديق من المدرسة الثانوية قبل الذهاب للبحث عن فرص أفضل. وسرعان ما تخطف فتيات أخريات الفتيان المنفصلين. أما الفتيات اللاتي لم يتحركن سريعا فيجدن أنفسهن أمام اختيارات رديئة. وبعد سن معينة فإن أي رجل جديد يظهر قد يأتي ومعه زوجة بالفعل.
لكن روبن قد حصلت على فرصتها بالفعل. لقد ذهبت لتتمرن على التمريض، وهو الشيء الذي يفترض أنه منحها بداية جديدة؛ فالفتيات اللاتي تمرن على التمريض واتتهن فرص الارتباط بالأطباء، أما هي فقد أخفقت في هذا أيضا؛ إذ لم تدرك تلك الفرصة في حينها. لقد كانت تتسم بالجدية، وربما هنا كانت تكمن المشكلة. كانت جادة بشأن أشياء كمسرحية «الملك لير»، ولم تكن جادة بشأن استغلال حفلات الرقص وممارسة التنس. فبعض الجدية التي تتسم بها الفتاة قد تحول عنها النظرات. بيد أنه من الصعب أن تفكر في حالة واحدة حسدت فيها أي فتاة أخرى على رجل ارتبطت به، بل إنها لا تستطيع أن تفكر في أي شخص تمنت الارتباط به.
وهي ليست ضد فكرة الزواج كلية؛ إنها فقط تنتظر كما لو أنها فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، غير أنها بين الحين والآخر كانت تواجه وتدرك موقفها الحقيقي بأنها ليست كذلك. وفي بعض الأحيان كانت واحدة من السيدات اللاتي يعملن معها ترتب مقابلة لها مع أحد الأشخاص، ثم يحدث أن تتلقى صدمة من الشخص الذي يعتبره الآخرون مناسبا لها. بل وحتى ويلارد أفزعها منذ وقت قريب حينما مزح قائلا إنه عليه أن ينتقل للعيش معهم في يوم من الأيام ويعاونها في العناية بجوان.
كان هناك بعض الأشخاص يلتمسون لها العذر بالفعل، بل ويثنون عليها مسلمين بأنها قد حسمت أمرها من البداية وخططت لتكريس حياتها لأختها جوان. •••
عندما انتهيا من تناول الطعام سألها إن كانت ترغب في جولة على ضفة النهر قبل أن تستقل القطار، ووافقت على الفور، لكنه أخبرها أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا عرف اسمها أولا.
وقال لها: «قد أحتاج إلى تقديمك إلى أحدهم.»
أخبرته باسمها.
قال: «روبن على اسم الطائر؟»
قالت: «على اسم طائر الروبن ذي الصدر الأحمر.» قالتها تماما كما قالتها قبل ذلك مرارا دون تفكير، شعرت بالحرج الشديد ولم يكن في استطاعتها فعل شيء سوى التحدث بعدم اكتراث. «دورك الآن لكي تخبرني باسمك.»
كان اسمه دانييل، «إنه دانيلو في الواقع، لكنه هنا دانييل.»
قالت بنفس اللهجة الطائشة التي تولدت نتيجة شعورها بالحرج مما قالته عن طائر الروبن ذي الصدر الأحمر: «إذن ما هنا يستخدم هنا، ولكن أين تقطن هناك؟ أي في مونتينيجرو؛ هل تعيش في المدينة أم في الريف؟» «لقد كنت أعيش في الجبال.»
بينما كانا يجلسان في الغرفة التي تعلو متجره كانت هناك مسافة تفصل بينهما، ولم تشعر مطلقا بالخوف، ولم تتمن مطلقا أن تتبدل تلك المسافة بحركة فظة، أو جريئة، أو ماكرة من جانبه. وفي المناسبات القليلة التي حدث فيها ذلك مع رجال آخرين كانت تشعر بالحرج الشديد من أجلهم، ولكن للضرورة الآن كانت تسير هي وذلك الرجل جنبا إلى جنب، وإذا ما حدث وصادفا شخصا في طريقهما فقد تتلامس ذراعاهما معا، أو ربما تحرك قليلا خلفها ليفسح لها الطريق، وهنا قد تلامس ذراعه أو صدره ظهرها لثوان. وقد خلفت هذه الاحتمالات، ونظرة الناس ممن يقابلانهم في الطريق لهما كعاشقين، بداخلها نوعا من الرجفة والتوتر اللذين يسريان من كتفيها إلى تلك الذراع التي لامسته.
سألها عن «أنطونيو وكليوباترا»، وهل راقت لها المسرحية أم لا، وأجابته بالإيجاب، وسألها عن أكثر جزء استهواها، فكانت مشاهد العناق الجريئة والمقنعة هي أول ما تبادر إلى ذهنها، لكنها لم تستطع أن تقول ذلك بالقطع.
قالت: «ذلك الجزء في النهاية عندما أوشكت على وضع الأفعى على جسدها.» كانت على وشك أن تقول: على صدرها، لكنها غيرت رأيها، لكن كلمة «جسدها» لم تبد أفضل، «ثم دخل ذلك الرجل العجوز وفي يده سلة التين وبداخلها الأفعى، وراحوا يمزحون. أعتقد أن هذا المشهد أعجبني؛ لأنك لا تتوقع شيئا كهذا في تلك اللحظة؛ أعني أنني أحببت مشاهد أخرى أيضا، لقد راقت لي جميعها، لكن ذلك المشهد كان مختلفا.»
قال: «نعم، لقد أعجبني هذا المشهد أنا أيضا.» «هل شاهدت المسرحية؟» «لا، إنني أدخر نقودي الآن ، لكني قرأت العديد من أعمال شكسبير ذات مرة؛ فالطلبة يقرءونها عندما يتعلمون اللغة الإنجليزية. في الصباح كنت أتعلم كل شيء عن الساعات، وفي المساء كنت أتعلم اللغة الإنجليزية. وأنت ماذا تعلمت؟»
قالت: «لم أتعلم الكثير في الواقع من المدرسة، لكني بعد ذلك تعلمت ما يؤهلني لكي أصبح ممرضة.» «أعتقد أنك تعلمت الكثير كي تصبحي ممرضة. أعتقد هذا.»
تحدثا بعد ذلك عن طقس المساء المعتدل، وكيف كان له وقع محبب عليهما، وأن فترة الليل قد امتدت بشكل ملحوظ بالرغم من أنهما لا يزال أمامهما شهر أغسطس كله. ثم تجاذبا الحديث بعد ذلك عن جونو وكيف أنها كانت تريد الخروج معهما، لكنها هدأت على الفور عندما ذكرها بأنها يجب أن تبقى لكي تحرس المتجر. بدا ذلك الحديث شيئا فشيئا وكأنه ذريعة متفق عليها للاسترسال؛ ستار تقليدي لشيء ينمو بداخلهما وأصبح حتميا ولا مفر من حدوثه بينهما.
لكن وسط أضواء محطة القطار تلاشى على الفور ذلك الشعور الذي كان غامضا وواعدا بحدوث أمر ما. كان هناك الكثير من الأشخاص الذين اصطفوا أمام شباك التذاكر، ووقف هو خلفهم، منتظرا دوره، ثم ابتاع لها تذكرة. ساروا على رصيف محطة القطار حيث ينتظر الركاب الآخرون.
قالت: «هلا كتبت اسمك كاملا وعنوانك على قصاصة من الورق، وسوف أرسل لك النقود على الفور حالما أعود.»
حدثت نفسها قائلة بأن شيئا ما سيحدث الآن، لكن لم يحدث شيء، ولم يطرأ جديد الآن. وداعا، أشكرك، سأرسل النقود، لا داعي للعجلة، أشكرك، ليس ثمة إزعاج، أشكرك أنت أيضا، وداعا.
قال: «دعينا نسر هناك.» ثم سارا بطول رصيف المحطة بعيدا عن أضوائها. «من الأحرى ألا تقلقي بشأن النقود، ليست سوى مبلغ ضئيل، وقد لا تصل هنا على أي حال؛ لأني سأرحل من هنا قريبا، وفي بعض الأحيان يصل البريد متأخرا.» «لكني يجب أن أرد لك نقودك.» «سأقول لك كيف تردين نقودي إذن، هل تنصتين جيدا؟» «نعم.» «سآتي إلى هنا الصيف القادم في نفس المكان، وذات المتجر، الصيف القادم؛ لذا ستختارين المسرحية التي تفضلينها وتأتين إلى هنا بالقطار ثم إلى المتجر.» «سأرد لك النقود حينها؟» «أوه، نعم، وسأعد طعام العشاء ونحتسي النبيذ، وسأخبرك بما حدث طيلة العام الماضي، وأنت كذلك ستقصين لي ما مر بك، وهناك شيء آخر أريده منك.» «ما هو؟» «سترتدين نفس الفستان؛ نفس فستانك الأخضر، ونفس تصفيفة الشعر.»
ضحكت قائلة: «حتى تعرفني.» «نعم.»
وصلا إلى نهاية رصيف المحطة، وقال وهما يخطوان فوق الأرض المفروشة بالحصى: «احترسي.» ثم أردف: «اتفقنا؟»
قالت روبن: «نعم.» وقد بدا بعض الارتباك في صوتها؛ إما بسبب سطح الأرض غير الثابت بفعل الحصى، أو لأنه قد أمسكها من كتفيها ثم تحركت يداه لأسفل على ذراعيها العاريتين.
قال: «أعتقد أن لقاءنا كان شيئا مهما، أظن هذا، هل توافقينني في ذلك؟»
قالت: «نعم.» «نعم، نعم هو كذلك.»
دس يديه تحت ذراعيها ليجذبها نحوه أكثر ويطوق خصرها بذراعيه، وراحا يتبادلان القبلات مرات ومرات.
كان حوار القبلات هامسا رقيقا، أخاذا، يتسم بالجرأة والتحول. وعندما انتهيا كان كلاهما يرتعدان، واستطاع بصعوبة أن يستعيد رباطة جأشه ويحاول أن يتحدث بلهجة خالية من المشاعر. «لن نتبادل أي رسائل؛ فالرسائل ليست بالفكرة الجيدة، سيتذكر أحدنا الآخر فحسب، وليس عليك أن تخبريني قبل أن تأتي، تعالي فقط. إن كنت تحملين نفس المشاعر فستأتين فحسب.»
سمعا صوت القطار وهو قادم، وساعدها في الصعود إلى الرصيف ولم يلمسها ثانية، لكنه سار بسرعة بجوارها وتحسس شيئا في جيبه.
وقبل أن يغادرها أعطاها قصاصة ورقة مطوية وقال: «كتبتها قبل أن نغادر المتجر.»
وفي القطار قرأت اسمه؛ «دانيلو أدزيك»، والكلمات بييلويفيتشيه؛ قريتي. •••
وصلت مدينتها وسارت في الظلام تعلوها الأشجار، ولم تكن جوان قد أوت إلى فراشها؛ حيث كانت جالسة تلعب لعبة سوليتير.
قالت روبن: «آسفة، لقد فاتني القطار الذي يغادر مبكرا، تناولت لحم الستروجانوف على العشاء.» «إذن، فهذا ما أشم رائحته الآن.» «وكأسا من النبيذ.» «يمكنني أن أشم ذلك أيضا.» «أعتقد أنني سأذهب إلى الفراش مباشرة.» «أظن أن عليك ذلك.»
تذكرت روبن في نفسها وهي تصعد الدرج بيت شعر للشاعر ويليام وردزوورث.
كم كان ما حدث شيئا سخيفا، بل إنه مدنس، إن جاز القول فإنه يعد انتهاكا للحرمات. ما معنى أن يقبلها رجل غريب في رصيف محطة القطار، ويطلب منها أن تقص عليه ما حدث لها في فترة عام. إن علمت جوان بأمر ذلك ماذا ستقول؟ رجل أجنبي؟ إن الأجانب يلتقطون الفتيات اللاتي لا يرتبط بهن أحد آخر.
ظلت الأختان بالكاد تتبادلان الحديث لمدة أسبوعين، وقد شعرت جوان بالراحة عندما لم تر أي مكالمات هاتفية أو أي رسائل تأتي، وأن روبن لا تخرج في الأمسيات إلا للذهاب إلى المكتبة. إنها تدرك أن هناك شيئا ما قد تغير، لكنها لم تكن تعتقد أنه بالأمر الجاد، وبدأت تتندر وتلقي النكات مع ويلارد.
قالت ذات مرة على مسمع من روبن: «أوتدري أن فتاتنا هنا قد بدأت تقوم بمغامرات غامضة في ستراتفورد؟ نعم. كما أخبرك. أتت إلى المنزل تفوح منها رائحة الشراب واللحم. أتعرف ماذا كانت تشبه تلك الرائحة؟ رائحة القيء.»
كان في اعتقادها أن روبن ذهبت إلى أحد المطاعم الغريبة التي تقدم بعض الأطباق الأوروبية وطلبت كأسا من النبيذ بجانب وجبتها؛ معتقدة أن ذلك يجعل منها فتاة راقية.
كانت روبن قد ذهبت إلى المكتبة لتقرأ شيئا عن مونتينيجرو.
قرأت جزءا يقول: «لأكثر من قرنين من الزمن ظل أهل مونتينيجرو في صراع مع الأتراك والألبان وهو ما كان بالنسبة لهم واجب كل إنسان (ومن هنا شاع عن أهل مونتينيجرو أنهم يتسمون بالكبرياء ويميلون إلى العدائية والشجار وينفرون من العمل، وكان هذا مصدر تندر ونكات اليوغسلافيين).»
لكنها لم تستطع أن تعرف أي قرنين يقصدهما الكتاب. قرأت عن الملوك، والقساوسة، والحروب، والنزاعات والاغتيالات، وقرأت عن أعظم القصائد الصربية على الإطلاق، والتي كانت تحمل عنوان: «جبل جارلاند»، والتي كتبها ملك مونتينيجرو. لم تستطع أن تحتفظ بكلمة مما قرأت فيما عدا الاسم، الاسم الحقيقي لمونتينيجرو، والذي لم تعرف كيف تنطقه؛ وهو جرنا جورا.
راحت تنظر إلى الخرائط حيث كان من الصعب أن تحدد مكان البلد ذاته، لكنها نجحت في النهاية من خلال العدسة المكبرة أن تتعرف على أسماء مدن عدة - ولم يوجد بينها اسم بييلويفيتشيه - واستطاعت أن تتعرف على أنهار موراكا وتارا، وترى السلاسل الجبلية المظللة في الخريطة، والتي بدت في كل مكان ما عدا وادي زيتا.
كان من الصعب تفسير احتياجها للاستمرار في ذلك الاستقصاء، ولم تحاول هي حتى تبريره (بالرغم من أن الجميع كانوا يلاحظون حضورها الدائم في المكتبة وانهماكها في القراءة)، لكن كان كل ما تحاول فعله - وهو شبه ما نجحت في فعله على الأقل - هو أن تحدد مكان دانيلو الفعلي وتاريخه الحقيقي، وأن تعتقد أنه بالقطع يعرف كل تلك الأسماء التي تتعلمها، وأن ذلك التاريخ هو ما قد تعلمه بالفعل في المدرسة، وأنه زار بعضا من هذه الأماكن سواء عندما كان طفلا أو شابا، وربما يزور هذه الأماكن في الوقت الحالي. وعندما تلامس أصابعها اسما مطبوعا لموقع على الخريطة، تشعر أنها ربما لمست المكان الذي يوجد به الآن.
حاولت أن تعرف أيضا من خلال بعض الكتب والرسوم البيانية أي شيء يتعلق بصناعة الساعات، لكنها لم تنجح في ذلك.
ظل ملازما لها في أفكارها. كانت تفكر به عندما تستيقظ من النوم وفي أوقات الراحة بالمستشفى. وقد جعلتها احتفالات أعياد الميلاد تفكر في طقوس الكنيسة الأرثوذكسية - التي كانت قد قرأت عنها - حيث القساوسة ذوو اللحى الطويلة في زيهم الكهنوتي الذهبي، والشموع المتلألئة، وعبق البخور والترانيم الحزينة التي تتردد بلغة أجنبية. وقد جعلها الطقس البارد والجليد المتراكم فوق البحيرة تفكر في الشتاء في الجبال. شعرت وكأنها اختيرت لكي ترتبط بذلك الجزء الغريب من العالم، اختيرت لتلقى نوعا غريبا من القدر. واعتادت أن تردد على نفسها كلمات مثل «القدر» و«الحبيب» وليس «الصديق» وإنما «الحبيب». كانت تتذكر في بعض الأحيان أسلوبه العفوي الذي شابه بعض التردد عندما تحدث عن الذهاب إلى بلده والخروج منها، وشعرت بالخوف عليه، وتخيلت أن يكون قد وقع في مكائد شريرة، أو مؤامرات تشبه مؤامرات السينما، أو أنه يواجه الأخطار والأهوال. ربما كان قراره بعدم تبادل الرسائل شيئا جيدا، لربما كانت حياتها ستستنزف بالكامل في كتابتها وانتظارها؛ في كتابتها وانتظار الردود ثم انتظار الردود وكتابتها؛ وبالقطع في القلق الشديد الذي كان سيعتريها إن لم تصل تلك الخطابات.
لقد أصبح لديها الآن شيء تحمله معها طوال الوقت. كانت تدرك ذلك البريق الذي تولد بداخلها، في جسدها، وفي صوتها، بل وفي كل أفعالها. لقد جعلها تسير بطريقة مختلفة، وتبتسم دون سبب معلوم، وتعامل المرضى بحنان غريب. كانت سعادتها تكمن في التفكير مليا في شيء واحد في كل مرة، وكانت تفعل ذلك بينما تقوم بواجباتها، وعندما تتناول طعام العشاء مع جوان، كانت دائما ما تتذكر جدران الحجرة العارية، وخطوط الضوء المنعكسة عليها من خلال شيش النوافذ ذي الأضلع، وأوراق المجلة الخشنة برسوماتها التوضيحية القديمة الموضوعة بدلا من الصور، والآنية الفخارية التي يحيط بها طوق أصفر، والتي قدم فيها لحم الستروجانوف. كانت تتذكر أيضا كمامة جونو بلون الشوكولاتة، وقوائمها الطويلة القوية النحيلة، ثم تذكرت الهواء المنعش في الطريق، ورائحة أحواض الورد التي زرعتها بلدية المدينة، وأعمدة الإضاءة الممتدة بطول النهر، والتي تدافعت والتفت حولها أعداد غفيرة من الحشرات الصغيرة.
ذاك الانقباض في صدرها، وشعورها بنهاية الموقف، وحين عاد بتذكرتها، ثم بعد ذلك سيرهما معا، والخطوات الوئيدة المدروسة، والهبوط من رصيف المحطة والسير على الحصى، وشعورها بالألم من خلال نعل حذائها الخفيف نتيجة سيرها على الحصى الصغيرة الحادة.
لم يتلاش شيء من ذاكرتها، كلما تكرر ذلك البرنامج في ذهنها، ظلت ذكرياتها وما أضفته عليها من زخارف جميلة تدب بعمق في ذهنها. «أعتقد أن لقاءنا كان شيئا هاما.» «نعم. نعم.» •••
ومع ذلك عندما قدم شهر يونيو تأخرت في الذهاب؛ فلم تكن قد قررت بعد أي مسرحية ستشاهدها، أو أرسلت في حجز تذكرتها. وقد قررت في النهاية أن تختار الذكرى السنوية لذلك اليوم، فاختارت نفس اليوم الذي التقيا فيه العام الماضي، وكانت المسرحية المعروضة في ذلك اليوم هي مسرحية «كما تحب». وجال بخاطرها أنه يمكنها أن تذهب فقط إلى شارع داوني، وألا تهتم بأمر المسرحية؛ لأن ذهنها سيكون مشغولا جدا وتشعر بالإثارة لدرجة لن تتمكن معها من متابعة معظم المسرحية، إلا أنها كانت تؤمن بالخرافات، وتخشى أن تغير من نمط ذلك اليوم الذي اعتادت عليه. أحضرت تذكرتها، ثم أخذت فستانها الأخضر من أجل التنظيف. لم ترتده منذ ذلك اليوم، لكنها كانت تريد أن يبدو زاهيا وأنيقا كالجديد.
لم تأت السيدة التي تقوم بالكواء في محل التنظيف لعدة أيام في ذلك الأسبوع؛ فقد كان ابنها مريضا، لكنهم وعدوها بأن الفستان سيكون جاهزا عندما تعود في صباح يوم السبت. •••
قالت روبن: «سأموت، سأموت إن لم يكونوا قد انتهوا من تجهيز ذلك الرداء من أجل الغد.»
نظرت إلى جوان وويلارد وهما يلعبان الكونكان على مائدة اللعب. اعتادت أن تراهما على هذا النحو مرارا. والآن من الممكن ألا تراهما هكذا ثانية. كم هما بعيدان عن شعورها بالتوتر والتحدي، إنها مغامرة حياتها.
لم يكن الفستان جاهزا بعد؛ فالطفل لا يزال مريضا. فكرت روبن في أن تأخذ الفستان إلى المنزل وتقوم بكيه بنفسها، لكنها اعتقدت أنها ستكون في حالة توتر شديدة لن تمكنها من القيام بالمهمة بشكل جيد؛ وخاصة أن جوان كانت تنظر إليها. فذهبت على الفور إلى وسط المدينة، صوب المتجر الوحيد الذي يبيع الفساتين، وكانت محظوظة - هكذا اعتقدت - لأنها وجدت فستانا أخضر آخر كان يناسب مقاسها جيدا، لكنه كان ذا خطوط مستقيمة وبلا أكمام. ولم يكن بلون الأفوكادو الأخضر، بل الأخضر الليموني. أخبرتها السيدة التي تبيع في المتجر بأن هذا اللون هو لون هذا العام، وأنه قد ذهبت موضة الفساتين الواسعة التي تضيق عند الخصر. •••
ومن خلال نافذة القطار رأت الأمطار وقد بدأت تتساقط، ولم تكن تحمل معها مظلة. في المقعد المواجه لها جلس مسافر تعرفه من قبل، كانت سيدة أجرت عملية استئصال للمرارة منذ أشهر قليلة في المستشفى، وكانت لتلك السيدة ابنة متزوجة في ستراتفورد، وكانت من نوع الأشخاص الذين يعتقدون أنه طالما أن هناك شخصين يعرف أحدهما الآخر والتقيا في نفس القطار متوجهين لنفس المكان، فعليهما إذن أن يتجاذبا أطراف الحديث دون توقف.
قالت: «إن ابنتي تنتظرني، وبإمكاننا اصطحابك إلى أي مكان ستذهبين إليه؛ وخاصة أنها تمطر.»
كان المطر قد توقف حينما وصلا ستراتفورد، بل كانت الشمس ساطعة والطقس حارا تماما؛ ومع هذا لم يكن في وسع روبن فعل شيء سوى أن تقبل عرض السيدة بركوب السيارة. جلست في المقعد الخلفي بجوار طفلين يتناولان الآيس كريم. لقد كانت معجزة أنه لم يتساقط أي من قطرات الفراولة أو البرتقال على ردائها.
لم تستطع الانتظار حتى انتهاء عرض المسرحية؛ إذ كانت تشعر برعشة في المسرح المكيف؛ لأن فستانها من قماش خفيف، كما أنه بلا أكمام، أو ربما كان شعورها بالتوتر هو سبب تلك الرعشة. شقت طريقها إلى نهاية الصف مقدمة اعتذارها للآخرين، ثم صعدت ذلك الممر بدرجاته غير المتساوية، وخرجت إلى البهو الذي يملؤه ضوء النهار. كانت السماء قد بدأت تمطر ثانية، وبشدة. وحيثما كانت بمفردها في دورة المياه - نفس المكان الذي فقدت فيه حقيبة نقودها - راحت تصفف شعرها الذي أفسدته الرطوبة؛ فالشعر الذي قامت بلفه كي يسترسل ناعما مفرودا أصبح ينسدل في خصلات سوداء ناعمة ملتفة حول وجهها، ربما كان ينبغي لها أن تحضر معها مثبت الشعر. قامت بتصفيفه بأفضل شكل ممكن، وراحت تمشطه للوراء.
كانت الأمطار قد توقفت عندما غادرت المسرح، وسطعت الشمس مرة أخرى في كبد السماء، وراحت تلقي بأشعتها اللامعة فوق الرصيف المبتل. والآن انطلقت إلى وجهتها. شعرت بوهن في ساقيها يماثل تماما ما كانت تشعر به في تلك الأوقات التي كان ينبغي لها فيها التوجه إلى السبورة لحل مسألة رياضية، أو عندما كانت تضطر إلى الوقوف أمام الفصل لكي تلقي على مسامعهم أحد الدروس التي حفظوها. وسرعان ما أصبحت عند ناصية شارع داوني، وخلال دقائق من الآن ستتغير حياتها. لم تكن في أتم استعداد، لكنها لا تتحمل أي تأخير.
وعند مجموعة البنايات الثانية استطاعت أن تلمح أمامها ذلك المنزل الصغير الغريب الذي لا يزال في مكانه، الواقع بين الأبنية التقليدية التي تحوي بعض المتاجر المصطفة على جانبيه.
اقتربت أكثر فأكثر. كان الباب مفتوحا كما هو الحال مع معظم المتاجر الممتدة بطول الطريق، ولم يكن في معظمها أجهزة تكييف هواء؛ فلم يكن هناك سوى باب به سلك لحجب الحشرات الطائرة.
صعدت درجتي السلم ثم توقفت خارج المتجر، لكنها لم تدفع بابه، بل انتظرت لدقيقة حتى تعتاد عيناها على المكان شبه المظلم في الداخل، وحتى لا تتعثر وهي تدخل المكان.
ورأته هناك، في مكان عمله خلف النضد، مشغولا في شيء ما أسفل المصباح الوحيد الموجود. كان منحنيا للأمام، ورأت جانب وجهه؛ فقد كان منهمكا في عمله الذي يؤديه في إصلاح إحدى الساعات. كانت تخشى أن يكون قد تغير، بل خشيت في الواقع حقيقة أنها لا تتذكره جيدا، أو أن مونتينيجرو قد أضفت بعض التغيير عليه؛ فيكون قد قص شعره بطريقة مختلفة، أو يكون قد أطلق لحيته. لكن لا، فإنه كما هو لم يطرأ عليه أي اختلاف. وكان المصباح الذي يتلألأ فوق رأسه يظهر نفس خصلات شعره، التي كانت تلمع كما كانت من قبل؛ تلك الخصلات الرمادية التي تتخللها أخرى حمراء مشوبة باللون البني. كانت كتفاه عريضتين، بها قليل من التحدب، وكانت أكمام القميص مرفوعة لأعلى لتظهر ذراعيه المفتولتين، وقد علا وجهه تعبير ينم عن شدة التركيز، والاهتمام، والتقدير الشديد لما يقوم به، وللآلية التي يعمل بها. نفس النظرة المحفورة في ذهنها، بالرغم من أنها لم تره من قبل وهو يعمل. لقد كانت دائما تتخيل تلك النظرة وقد وجهها إليها.
لا، إنها لا تريد أن تخطو للداخل، لقد كانت تريده أن ينهض ويتجه نحوها ويفتح الباب؛ لذا نادته باسمه؛ دانييل. خجلت في آخر دقيقة من أن تناديه باسم دانيلو؛ خشية أن تنطق المقاطع الأجنبية بطريقة غريبة غير متقنة.
لم يسمعها، أو ربما لأنه كان منهمكا فيما يعمله تأخر في النظر إليها، ثم رفع بصره لأعلى، لكن ليس باتجاهها؛ فقد بدا أنه يبحث عن شيء يحتاجه في تلك اللحظة، لكنه لمحها بالفعل في اللحظة التي رفع فيها عينيه، ثم قام بحذر بإزاحة شيء ما بعيدا عن طريقه، ودفع بنفسه للوراء من أمام طاولة العمل، ونهض من مكانه، وسار على مضض باتجاهها.
هز رأسه قليلا وهو ينظر إليها.
كانت يدها على وشك أن تدفع الباب؛ بيد أنها لم تفعل. انتظرت أن يتحدث، لكنه لم يفعل. هز رأسه مرة أخرى وظهر عليه الارتباك، ولم يحرك ساكنا، ثم أزاح وجهه عنها، وجال ببصره في أنحاء المتجر؛ فقد راح ينظر إلى صف الساعات كما لو أنها ستمنحه بعض المعلومات، أو ستكون عونا له. وعندما نظر مرة ثانية إلى وجهها، ارتعد، وبحركة لا إرادية، أو ربما لم تكن كذلك، كشف عن أسنانه الأمامية كما لو أن مرآها بث فيه نوعا من الخوف الحقيقي، وإدراكا لوجود خطر محدق.
وقفت هناك، وقد تسمرت في مكانها كما لو أن هناك احتمالية أن يكون ذلك لعبة أو مزحة.
والآن اتجه نحوها ثانية كما لو أنه قد قرر ما سيقدم على فعله. ولم ينظر إليها ثانية، لكنه تصرف بشيء من التصميم والنفور - وفقا لتصورها - ووضع يده على الباب الخشبي - باب المتجر الذي كان لا يزال مفتوحا - وصفقه في وجهها.
كان هذا التصرف من جانبه بمثابة اختصار للوقت، وبفزع شديد فهمت ما كان يفعله؛ حيث لجأ إلى هذا التصرف لأنه كان السبيل الأيسر للتخلص منها بدلا من شرح الأمور، ومواجهة دهشتها وحماقتها الأنثوية، ومشاعرها المجروحة، وربما دموعها وانهيارها المحتملين. •••
كان كل ما شعرت به هو الخزي؛ الخزي الشديد. لو كانت امرأة أخرى مكانها أكثر ثقة وخبرة لشعرت بالحنق ورحلت في غضب عارم، وليذهب للجحيم. كانت روبن قد سمعت امرأة في العمل تتحدث عن رجل هجرها، فكانت تقول: «لا يستحق سوى أن أبول عليه.» «لا تثقي في أي شيء يرتدي سروالا.» لقد تصرفت تلك المرأة وكأنها لم تصبها الدهشة. وبداخلها، لم تكن روبن تشعر بالدهشة هي الأخرى، لكنها كانت تلوم نفسها. كان عليها أن تفهم جيدا أن كلمات الصيف الماضي، والوعد والوداع عند محطة القطار، لم تكن سوى نوع من الحماقة؛ عطف غير ضروري نحو أنثى وحيدة فقدت حقيبة يدها، وتأتي لمشاهدة المسرحيات بمفردها. ربما شعر هو بالندم على ما حدث حتى قبل أن يصل إلى منزله، وتمنى ألا تكون قد أخذت كلماته على محمل الجد.
ومن المحتمل بشدة أن يكون قد تزوج في مونتينيجرو، وزوجته بالطابق الأعلى؛ وهو ما يفسر الانزعاج الذي علا وجهه وارتجافه والفزع الذي انتابه. وإن كان قد فكر في روبن، فسيكون من منطلق خوفه من أن تفعل ما فعلته؛ من أن تنسج أحلامها العذرية الساذجة، وتضع خططا وهمية سخيفة. فربما كانت هناك العديد من النساء اللاتي جعلن من أنفسهن حمقاوات أمامه قبلها، وقد وجد سبلا كثيرة للتخلص منهن. وكان ما فعله معها أحد هذه السبل. من الأفضل التعامل بقسوة بدلا من إظهار العطف؛ فلا اعتذارات، أو تفسيرات، أو أي أمل، فقط تظاهر بأنك لا تعرفها، وإن لم ينجح هذا، اصفق الباب في وجهها؛ فكلما أبغضتك على نحو أسرع، كان هذا أفضل.
وبالرغم من ذلك فقد كان هذا الأسلوب شاقا مع بعض النساء.
وهو ما حدث معها تماما، وها هي الآن تبكي. نجحت في أن تحبس دموعها طول الطريق، لكنها انهمرت عندما وصلت إلى النهر. ورأت نفس البجعة السوداء تسبح وحيدة، نفس أسراب البط الصغيرة وآباؤها تصيح حولها، والشمس المنعكسة أشعتها على صفحة المياه. كان من الأفضل عدم محاولة الهروب، وعدم تجاهل تلك الضربة الموجعة؛ فإن فعلت ذلك لدقيقة، فستكون عرضة لأن يعاودها الألم مرة أخرى، لكن هذه المرة سيكون كطعنة قاتلة في الصدر. •••
قالت جوان: «عدت في وقت أفضل هذا العام، كيف كانت المسرحية؟» «لم أكمل مشاهدتها، فبمجرد دخولي القاعة دخلت إحدى الحشرات الصغيرة الطائرة في عيني، فرحت أطرف بعيني عدة مرات، لكني لم أفلح في التخلص منها، فاضطررت للنهوض، والذهاب لدورة المياه كي أغسل عيني ببعض الماء لكي أخرجها، ثم أخرجت جزءا منها في المنشفة، وقد قمت بفرك عيني الأخرى أيضا.» «تبدين وكأنك كنت تبكين بشدة، عندما أتيت اعتقدت أنها كانت مسرحية شديدة السواد. من الأحرى أن تغسلي عينك بالماء المالح.» «كنت سأفعل.»
كان هناك بعض الأشياء الأخرى التي عقدت العزم على فعلها، أو بالأحرى عدم فعلها؛ ومنها أنها لن تذهب مطلقا إلى ستراتفورد مجددا، ولن تسير في الشوارع بمفردها، لن تشاهد مسرحيات مرة أخرى، ولا مزيد من الفساتين الخضراء؛ سواء تلك التي بلون الليمون أو الأفوكادو. ستتجنب سماع أي معلومات عن مونتينيجرو، ومن المفترض ألا يكون بالأمر الصعب.
2
والآن أتى فصل الشتاء وقد تجمدت البحيرة تماما وصولا إلى حاجز الأمواج. كان الثلج كثيفا متراكما، وقد بدا في بعض الأماكن وكأن هناك أمواجا هائلة قد تجمدت في طريقها. خرج العمال ليقوموا بإنزال أضواء أعياد الميلاد. انتشر مرض الأنفلونزا. عيون الناس تدمع عند السير عكس اتجاه الرياح، ومعظم النسوة يرتدين أزياء الشتاء من السراويل الثقيلة والمعاطف الثقيلة الخاصة بالتزلج على الجليد.
لكن روبن لم ترتد مثلهن؛ فعندما خطت خارج المصعد لتتفقد الطابق الثالث ثم الأخير من المستشفى كانت ترتدي معطفا طويلا أسود، وتنورة من الصوف رمادية اللون، وكنزة حريرية ذات لون بنفسجي فاتح يميل إلى الرمادي. وقد انسدل شعرها الرمادي بكثافة حتى كتفيها، وفي أذنيها قرط صغير من الألماس (جدير بالذكر، أن بعض النساء ذوات المظهر الأفضل والحيثية في المدينة هن اللائي لم يتزوجن)، ولم يكن عليها أن ترتدي زي الممرضات الآن؛ لأنها تعمل لجزء من الوقت وفي هذا الطابق فقط.
كان يمكنها أن تستقل المصعد حتى الطابق الثالث، لكن الهبوط هو ما كان صعبا؛ فالممرضة الجالسة خلف النضد عليها أن تضغط على زر خفي للسماح لك بالنزول. فهذا الطابق هو جناح الأمراض النفسية، على الرغم من أنه من النادر أن يطلق عليه الآخرون هذا المسمى. ولأنه يطل على الجانب الغربي من البحيرة تماما مثل شقة روبن فقد كان يطلق عليه في العادة فندق صنسيت، في حين أن بعض الأشخاص الأكبر سنا يطلقون عليه رويال يورك. ومعظم المرضى يمكثون هنا لفترات قصيرة، بالرغم من أن تلك الفترات القصيرة تتكرر لبعضهم باستمرار. أما أولئك الذين يعانون من حالات مزمنة من الوهام أو الانعزال أو الاكتئاب، فهم ينقلون إلى مكان آخر في مستشفى المقاطعة، والذي يحمل، على نحو ملائم، اسم «دار الرعاية طويلة الأجل»، ويقع خارج المدينة مباشرة.
لم تتطور المدينة بشكل كبير خلال الأربعين عاما الماضية، لكنها تغيرت؛ فقد تم تشييد اثنين من مراكز التسوق الضخمة، بينما كانت المتاجر الصغيرة في ذلك الميدان تصارع من أجل البقاء. كانت هناك بعض المنازل الجديدة التي شيدت - مجمع مباني لكبار السن - وكانت تطل على المنحدر، وتم تحويل اثنين من المنازل الضخمة التي تطل على البحيرة إلى مجموعة من الشقق الصغيرة، وكان من حظ روبن أن حصلت على شقة فيها. أما المنزل الذي كانت تقطن به هي وجوان، والذي يقع في شارع إيزاك، فقد تم تجميله بأرضيات الفينيل وتحول لمكتب للعقارات. أما منزل ويلارد فظل كما هو إلى حد ما. وكان ويلارد قد أصيب بسكتة دماغية منذ عدة أعوام، لكنه تحسن بشكل كبير بالرغم من أنه أصبح يسير على عكازين. وعندما كان في المستشفى، كانت روبن تراه كثيرا، وكان يتحدث كثيرا عن علاقة الجوار الطيبة التي كانت تربطه بها وبجوان، وأوقات المتعة والتسلية التي كانوا يمضونها في لعب الأوراق.
مضى على وفاة جوان الآن ثمانية عشر عاما، وبعد أن قامت روبن ببيع المنزل ابتعدت عن كل مجتمعاتها وعلاقاتها القديمة؛ فلم تعد تذهب للكنيسة، وكانت بالكاد ترى الأشخاص الذين عرفتهم منذ الصغر ومن كانت تذهب معهم إلى المدرسة، فيما عدا من يأتون منهم مرضى لتلقي العلاج في المستشفى.
لاحت فرص الزواج مرة أخرى في وقت من أوقات حياتها، لكنها كانت محدودة؛ فقد كان هناك بعض الأرامل من الرجال الذين ظهروا حولها، والذين يعيشون بمفردهم. وكانوا في العادة يريدون نساء لديهن خبرة في الزواج؛ رغم أن الوظيفة الجيدة ميزة لا يمكن تجاهلها هي الأخرى، لكن روبن أوضحت للجميع أنها لا تهتم بموضوع الزواج. ويقول الناس الذين تعرفهم منذ أن كانت صغيرة إنها لم تهتم مطلقا بهذا الأمر، حتى إن بعضا ممن تعرفهم الآن يقولون عنها إنها لا بد وأن تكون مثلية، لكن ربما تمنعها نشأتها في بيئة متخلفة تعجيزية من أن تصرح بذلك.
أصبحت هناك أنواع مختلفة من الناس يعيشون في المدينة في الوقت الحالي، وهؤلاء هم من أقامت معهم صداقات جديدة. وبعضهم يعيشون معا دون زواج، ومنهم من ولد في الهند، ومصر، وكوريا، والفلبين. استمرت أنماط الحياة القديمة، وبعض تقاليد الأيام الخوالي إلى حد ما، لكن ثمة الكثير ممن لديهم أسلوبهم الخاص في حياتهم ولا يعرفون أي شيء عن هذا. بإمكانك أن تشتري أي نوع من الطعام تريده، وأن تجلس في صباح يوم جميل من أيام الآحاد على مائدة موضوعة على الرصيف وتحتسي القهوة اللذيذة وتستمتع بصوت أجراس الكنيسة وهي تدق دون أن تفكر في ممارسة أي طقس من طقوس العبادة. ولم يعد الشاطئ محاطا بالمخازن وبمباني السكك الحديدية؛ فيمكنك الآن أن تسير على الممر الخشبي لمسافة ميل بطول البحيرة. وكان يوجد جمعية موسيقى الكورال، وجمعية الممثلين. وكانت روبن لا تزال عضوا نشطا في جمعية الممثلين، بالرغم من أنها لم تعد تقف على خشبة المسرح كثيرا كما كانت تفعل من قبل. كانت قد قامت بالتمثيل منذ عدة سنوات في مسرحية هيدا جابلر، وكان رد الفعل العام بأنها مسرحية كريهة؛ بيد أنها أدت دور هيدا بمهارة واقتدار. وقال الناس إنها أدت الشخصية جيدا رغم أن الشخصية تناقضها تماما في الواقع.
العديد من الناس هنا يذهبون إلى ستراتفورد هذه الأيام، لكنها كانت تذهب لمشاهدة المسرحيات في نياجرا بجوار البحيرة. •••
لاحظت روبن ثلاثة أسرة وقد اصطفت أمام الحائط المقابل.
قالت لكورال الممرضة التي تقف خلف النضد: «ما الخطب؟»
قالت كورال في تشكك: «إنه أمر مؤقت؛ عملية إعادة توزيع.»
راحت روبن تعلق معطفها وحقيبتها في الخزانة الموضوعة خلف النضد، وأخبرتها كورال أن هذه الحالات وردت من مقاطعة بيرث، وقالت إنه نوع من التعديل نتيجة الازدحام هناك؛ فقد كان هناك نوع من الارتباك الشديد، ولم يكن مستشفى المقاطعة هنا مستعدا لاستقبالهم بعد؛ لذا قرر القائمون عليه نقلهم إلى هنا في الوقت الحالي. «أعلي أن أذهب إليهم وألقي التحية؟» «كما تشائين، لكن آخر مرة ألقيت عليهم نظرة كانوا جميعهم نائمين.»
كانت جوانب الأسرة الثلاثة حيث يتمدد المرضى مرفوعة لأعلى، وكانت كورال محقة، فبدا أنهم جميعا يغطون في النوم. وكانوا امرأتين متقدمتين في العمر ورجلا عجوزا. استدارت روبن مبتعدة ثم ما لبثت أن عادت ثانية في نفس اللحظة، ووقفت تنظر نحو الرجل العجوز، كان فاغرا فاه، وقد نزع طاقم أسنانه إن كان لديه واحد. لم يفقد شعره بعد، بل كان له شعر قصير ملأه الشيب. يبدو هزيلا، ووجنتاه غائرتان، ولكن وجهه لا يزال عريضا عند منطقة الصدغ، محتفظا بلمحة من السيطرة التي شابها الاضطراب تماما كما رأته آخر مرة. رأت على جلده بقعا باهتة، ذابلة فاتحة اللون تقارب اللون الفضي، ربما أزيلت منها خلايا سرطانية. كان جسمه واهنا، تكاد ساقاه لا ترى أسفل الغطاء، لكنه احتفظ بعرض صدره، وكتفاه عريضتان بعض الشيء، تماما كما كانت تتذكر.
قرأت البطاقة المعلقة في أرجل الفراش: «ألكسندر أدزيك».
دانيلو، دانييل.
ربما كان هذا اسمه الثاني؛ ألكسندر، أو ربما كان يكذب وقد احتاط بأن اختلق كذبة أو نصف كذبة من البداية حتى النهاية.
عادت إلى النضد وتحدثت إلى كورال قائلة: «أما من معلومات بشأن هذا الرجل؟» «لم؟ أتعرفينه؟» «أعتقد هذا.» «سأرى إن كانت هناك معلومات عنه، وسأرسل في طلبها.»
قالت روبن: «لا داعي للعجلة، يمكنك ذلك عندما يسمح لك الوقت، إنه من باب الفضول فقط، من الأفضل أن أذهب الآن لألقي نظرة على مرضاي.»
كانت مهمة روبن هي أن تتحدث مع أولئك المرضى مرتين في الأسبوع، وأن تعد التقارير بشأنهم، والتي توضح درجة تراجع حالات الوهام والاكتئاب لديهم، وكيفية تأثر حالتهم المزاجية بزيارات أقاربهم أو أزواجهم. عملت في ذلك القسم لسنوات؛ وذلك منذ أن كان هناك توجه نحو علاج المرضى النفسيين بالقرب من منازلهم، في السبعينيات، وكانت تعرف الكثير من الأشخاص الذين يداومون على التردد على المكان، وقد تلقت العديد من الدورات التدريبية الإضافية التي تؤهلها للتعامل مع الحالات النفسية، لكنه كان شيئا تميل لممارسته على أي حال. فبعد فترة وجيزة من عودتها من ستراتفورد دون مشاهدة مسرحية «كما تحب»، شعرت بشيء يجذبها نحو ممارسة ذلك العمل؛ فقد كان هناك شيء غير حياتها بالرغم من أنه لم يكن الشيء الذي تتوقع حدوثه.
كانت تبقي السيد راي للنهاية؛ لأنه كان بوجه عام يأخذ معظم الوقت، لم يكن بإمكانها أن تمنحه كل الوقت الذي يريده؛ إذ كان ذلك الأمر يعتمد على مشكلات المرضى الآخرين. وقد رأت اليوم أن حالات بقية المرضى قد تحسنت بوجه عام؛ وذلك بفضل العقاقير التي يتناولونها، وكان كل ما يفعلونه هو الاعتذار عن الجلبة التي أحدثوها. أما السيد راي - الذي يعتقد أنه لم يتلق التقدير والعرفان الكافيين على إسهاماته في اكتشاف الحامض النووي أو دي إن إيه - فقد كان في حالة غضب شديدة بسبب خطاب أرسله لجيمس واتسون، أو جيم كما يطلق هو عليه.
قال: «ذلك الخطاب الذي أرسلته لجيم، لدي من الوعي والدراية ما يجعلني لا أرسل خطابا كهذا دون أن أحتفظ بنسخة منه، لكني ذهبت بالأمس لأبحث بين ملفاتي وخمني ماذا اكتشفت؟ خمني.»
قالت روبن: «أخبرني أنت.» «إنه غير موجود، لم أجده. لقد سرق.» «ربما وضع في مكان آخر بالخطأ، دعني أبحث لك عنه.» «ليس أمرا مستغربا، ربما كان علي أن أستسلم منذ أمد طويل؛ فأنا أحارب ذوي السلطة والنفوذ. ومن ذا الذي يغلبهم إن حاربهم؟ أخبريني، هل علي أن أستسلم؟» «أنت من يقرر ذلك.»
وراح يردد على مسامعها، مرة ثانية، تفاصيل ما ألم به من سوء حظ. لم يكن عالما، لكنه كان يعمل في مجال استقصاء الآراء، وكان يتابع التطورات العلمية طيلة حياته. ما من شك أن ما أعطاه لها من معلومات، بل وحتى الرسومات التوضيحية التي أعدها بقلم باهت، كانت كلها صحيحة، إلا أن القصة التي يرويها بشأن خداعه كانت سخيفة ومتوقعة، ومن المحتمل أنها مستقاة من بعض أفلام السينما أو التليفزيون.
لكنها كانت تحب ذلك الجزء من قصته الذي يصف فيه كيف يتم فك شفرة التركيب الحلزوني للحامض النووي، وكيف ينفصل الخيطان بعيدا بعضهما عن بعض، ويريها كيف يحدث ذلك بأيد ماهرة ممتنة، وكيف يبدأ كل خيط رحلته ويضاعف من نفسه بناء على تعليماته الخاصة.
وكان ذلك يروق له هو الآخر، ويشعره بالدهشة، حتى إن الدموع تترقرق في عينيه. وكانت هي دائما ما تشكره على أسلوب شرحه، وترغب في أن يتوقف عند هذا الحد، لكنه بالطبع لا يفعل.
ومع ذلك فقد كانت تعتقد أن حالته في تحسن؛ فعندما يبدأ في التعمق في بعض جوانب الظلم ويبحث في أسبابه، ويركز على بعض الأشياء الأخرى مثل الخطاب الذي سرق منه، فهذا يعني أن هناك احتمالا أن تسير حالته للأفضل.
وبقليل من التشجيع، وبتحويل جزء من انتباهه عن بعض الأشياء، كان من المحتمل أن يقع في غرامها. وهذا هو ما حدث مع اثنين من المرضى قبل الآن، وكلاهما كانا متزوجين، لكن ذلك لم يمنعها من ممارسة العلاقة الحميمية معهما، وذلك بعد مغادرتهما المكان. ومع هذا، فمنذ ذاك الوقت تغيرت مشاعرهما، وشعر كلا المريضين بالامتنان لها، وأحست هي بحسن نواياهما، وشعرت كما شعرا هم أيضا بأن الأمر لم يزد عن مجرد حنين في غير مكانه.
وهي لا تشعر بالندم حيال ذلك؛ فليس هناك الآن سوى القليل الذي تشعر حياله بالندم، ليس من بينه بالطبع حياتها الجنسية، والتي كانت متقطعة وسرية، لكنها بوجه عام كانت باعثة على الراحة. وربما كان المجهود الذي تبذله كي تبقيها سرا ليس ضروريا بالنظر إلى ما يعتقده الناس عنها؛ فمن تعرفهم الآن كونوا رأيهم على نحو خاطئ وقاطع تماما مثلما فعل من كانت تعرفهم منذ فترة طويلة. •••
أعطتها كورال ورقة مطبوعة.
وقالت: «إنها لا تحتوي على الكثير من المعلومات.»
شكرتها روبن وقامت بطيها، واتجهت نحو الخزانة كي تضعها في حقيبتها؛ فقد كانت تريد أن تكون بمفردها عند قراءتها، لكنها لم تطق انتظارا حتى تصل إلى المنزل. ذهبت إلى حجرة الاستراحة التي كانت مخصصة للصلاة، ولم يكن ثمة أحد بها في تلك اللحظة، فكان يغلفها الهدوء.
ألكسندر أدزيك، من مواليد الثالث من يوليو عام 1924، بييلويفيتشيه، يوغوسلافيا. هاجر إلى كندا في التاسع والعشرين من مايو عام 1962، ويقوم على رعايته أخوه دانيلو أدزيك المولود في الثالث من يوليو عام 1924 في بييلويفيتشيه، وهو حاصل على الجنسية الكندية.
عاش ألكسندر أدزيك مع شقيقه دانيلو حتى وفاة الأخير في السابع من سبتمبر عام 1995، ثم أدخل دار الرعاية طويلة الأمد بمقاطعة بيرث في الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1995، وهو نزيل بها منذ ذلك التاريخ.
وألكسندر أدزيك أبكم أصم منذ ولادته، أو ربما كان ذلك نتيجة مرض أصيب به بعد الولادة بفترة وجيزة، وعندما كان طفلا لم يدخل أي مؤسسات تعليم لذوي الاحتياجات الخاصة، ولم يتم تحديد مستوى ذكائه على الإطلاق، لكنه تدرب على إصلاح الساعات، ولم يتلق أي تدريبات تذكر على لغة الإشارة؛ فكان يعتمد اعتمادا كليا على أخيه، ويبدو للعيان أنه يتعذر معالجته نفسيا. يعاني من الخمول الشديد، وليس لديه أي شهية للطعام. يظهر سلوكا عدوانيا بين الحين والآخر. حالته في تدهور بشكل عام منذ دخوله.
مستحيل!
إخوة!
توأم.
كانت روبن تريد أن تضع هذه الورقة أمام شخص ما، سلطة ما.
هذا سخف، لا أقبله.
ومع ذلك.
كان ينبغي أن يؤهلها شكسبير لذلك؛ فالتوائم كانت دوما سببا للخلط ووقوع الكوارث في مسرحيات شكسبير. فمن المفترض أن هذه الخدع كانت وسيلة لغاية ما، وفي النهاية يكشف الستار عن كل الأشياء الغامضة، وتغفر كل الحيل والزلات، وتتأجج نيران الحب وما شابهها من عواطف من جديد، أما من خدع فيتقبل ذلك بصدر رحب دون تذمر أو شكوى.
لا بد وأنه قد ذهب في مهمة قصيرة، قصيرة للغاية؛ فهو لم يكن ليستطيع أن يترك مثل هذا الأخ وحده لفترة طويلة. ربما كان الباب الشبكي مؤصدا؛ فهي لم تحاول أن تدفعه لفتحه. ربما أخبر أخاه أن يغلق الباب وألا يفتحه ريثما يأخذ جونو في جولة حول البناية. لقد تساءلت حينها عن سبب غياب جونو .
لو كانت قد قدمت متأخرة قليلا أو في وقت سابق عن ذلك بقليل، لو كانت قد انتظرت حتى نهاية عرض المسرحية أو لم تذهب لتشاهدها بالأساس، لو كانت تجاهلت أمر شعرها.
ثم ماذا؟ كيف كان يمكن أن ينجحا في تخطي الصعاب؛ هو مع ألكسندر وهي مع جوان؟ إن الأسلوب الذي تصرف به ألكسندر في هذا اليوم لم يكن يوحي بأنه سيتقبل أي دخيل أو أي تغييرات تطرأ. وبالقطع كانت جوان ستعاني هي الأخرى، لكن كان زواج روبن من شخص أجنبي سيكون أشد وطأة على جوان من وجود ألكسندر الأبكم الأصم في المنزل.
من الصعب الآن تقدير الأمور بالنظر إلى الظروف حينها.
لقد فسد كل شيء في يوم واحد، بل في دقيقتين، لكن ليس بسبب نوبات المشاعر الغاضبة، أو البدايات الصعبة، أو الصراعات، أو الآمال أو الخسائر؛ أي ليس من خلال الأسلوب الطويل المعتاد الذي عادة ما تفسد من خلاله الأمور. وإذا كان حقيقيا أن الأمور عادة ما تفسد، أليس الطريق الأسرع هو الأيسر في تحملها؟
لكنك لا تستطيع أن تتبنى وجهة النظر هذه لنفسك، وكذلك روبن؛ فإلى الآن ما زالت تتوق لفرصتها؛ فهي لن تدخر لحظة امتنان للخدعة التي تعرضت لها، لكنها ستتحول في النهاية إلى الشعور بالامتنان لاكتشافها. إنه ذلك الاكتشاف الذي يترك كل شيء كاملا حتى تحين لحظة ذاك التدخل البسيط التافه، ويتركك في حالة غضب شديد، لكنك تشعر ببعض الراحة إذا ما نظرت إلى الأمر عن بعد ولا يعتريك شعور بالخزي. •••
لقد كان بالقطع عالما آخر ذلك الذي وجدا به هي وهو، تماما كأي عالم أعد فوق خشبة المسرح؛ الترتيبات غير المحكمة، وابل القبلات، الاعتقاد الأرعن الذي طوقهما بأن كل شيء سيسير كما خططا له، ولكن الواقع كان غير ذلك. تحرك قيد أنملة في هذا الطريق أو ذاك وسيضيع منك كل شيء.
كان لدى روبن مرضى يؤمنون بأنه ينبغي أن يوضع المشط وفرشاة الأسنان في ترتيب سليم، وكذلك الأحذية يجب أن توضع في الجهة الصحيحة، وينبغي عد الخطوات وإلا ستكون النتيجة نوعا من العقاب إن حدث أي تغيير.
وإن كانت قد أخفقت في شيء، فسيكون ذلك بسبب أمر الفستان الأخضر؛ فقد ارتدت يومها الفستان الخطأ بسبب السيدة التي كانت تعمل في متجر التنظيف وابنها الذي كان مريضا.
تمنت لو بمقدورها أن تخبر أحدا؛ تخبره هو.
القوى
استريحي من دانتي
الثالث عشر من مارس عام 1927. الآن يأتينا الشتاء، في الوقت الذي يفترض فيه أننا نترقب قدوم الربيع. عواصف هائلة تسد الشوارع وتغلق أبواب المدارس، وهناك من يقول إن رجلا طاعنا في السن خرج للسير في الطرقات ويحتمل أنه تجمد. خرجت اليوم مرتدية حذاء الجليد، وسرت في منتصف الشارع تماما، ولم يكن هناك أثر فوق الجليد إلا لقدمي، وحينما عدت من المتجر كان الجليد قد غطى آثار قدمي تماما. كان السبب أن البحيرة لم تتجمد كما هو معتاد، وكانت الرياح القادمة من الغرب تحمل الرطوبة الكثيفة وتلقيها علينا في صورة جليد. ذهبت لشراء القهوة إضافة إلى غرض أو اثنين من الأشياء المهمة. من كنت سأرى في المتجر سوى تيسا نيتربي التي لم أرها منذ عام تقريبا! كنت أشعر بالضيق لأنني قد لا أتمكن من الخروج لرؤيتها مطلقا؛ لأنني كنت أحاول الاستمرار في صداقتي معها بعد أن تركت المدرسة. أظن أنني الوحيدة التي حاولت. كانت ترتدي وشاحا أسود كبيرا يغطيها بالكامل، وكأنها خرجت لتوها من إحدى القصص. كانت ضخمة في نصفها العلوي بسبب وجهها العريض وشعرها الأسود المموج الكثيف والمتشابك، وكتفيها العريضتين، على الرغم من أن طولها لا يمكن أن يتجاوز خمسة أقدام. اكتفت بالابتسام فقط، إنها تيسا القديمة ذاتها. سألتها عن أحوالها، وهو الشيء الذي أفعله دائما عندما أراها، حقا؛ نظرا لما كانت تعانيه من مرض امتد لفترة طويلة - أيا كانت - وهو الذي أخرجها من المدرسة عندما كانت تقارب الأربعة عشر عاما. وكذلك فإنني أسألها عن ذلك لأنه ليس هناك الكثير الذي يمكن أن أسأل بصدده؛ فهي لا تنتمي إلى العالم الذي ننتمي جميعنا إليه؛ فهي لا تذهب لأي نواد، ولا تستطيع المشاركة في أي أنشطة رياضية، ولا تحيا حياة اجتماعية طبيعية. إنها بالطبع تحيا حياة تضم أناسا كثيرين، ولا غبار على ذلك، لكني لا أدري كيف أتحدث عن هذا الأمر، وربما هي أيضا لا تدري كيف تتحدث عنه.
كان السيد ماك ويليامز يعاون زوجته في المتجر بسبب عدم تمكن الموظفين من الحضور، وكان شخصا يحب إغاظة الآخرين على نحو مستفز، وشرع في إغاظة تيسا، وراح يسألها إن كانت تعلم بأمر قدوم العاصفة مسبقا، ولم لم تخبر الجميع بشأنها، إلى آخر مثل هذه الأمور. طلبت منه السيدة ماك ويليامز أن يتوقف، وبدت تيسا وكأنها لم تسمع ما قاله، وطلبت علبة من السردين. انتابني فجأة شعور كريه وأنا أتخيلها تتناول عشاءها المكون من علبة سردين. وهو شيء يصعب تصوره، ولا أرى سببا يمنعها من طهي وجبتها كأي شخص آخر.
ومن الأخبار الهامة التي سمعتها في المتجر انهيار سقف مسرح فرسان بيثياس، وكان هذا هو المسرح الذي كنا سنعرض مسرحية «الجناديلي» على خشبته، والتي كان من المفترض أن يبدأ عرضها في نهاية مارس. ولا يتسع مسرح مبنى البلدية لعرضها، أما دار الأوبرا القديمة فهي تستخدم الآن لتخزين النعوش لصالح متجر أثاث هاي. ومن المفترض أننا لدينا بروفة الليلة، لكني لا أدري من الذي سيذهب إلى هناك وما ستسفر عنه الأمور. •••
السادس عشر من مارس، قرار بوقف عرض مسرحية «الجناديلي» لهذا العام، ولم يكن قد ذهب إلى البروفة في مسرح مدرسة الأحد سوى ستة منا فقط؛ لذا توقفنا وذهبنا إلى منزل ويلف لاحتساء بعض القهوة. وأعلن ويلف أيضا أنه كان قد قرر أن يكون هذا آخر عرض له بسبب انشغاله الشديد في عمله، وأنه لم يعد لديه متسع من الوقت، وعليهم أن يجدوا مغنيا آخر. ستكون تلك ضربة قاصمة؛ لأنه الأفضل على الإطلاق.
ما زلت أشعر ببعض الاستغراب وأنا أنادي ويلف الطبيب باسمه الأول، حتى وإن كان يقارب الثلاثين فقط؛ فقد اعتاد الناس على أن يطلقوا على منزله منزل الطبيب كوجان، ولا يزال الكثيرون يطلقون عليه ذلك إلى الآن؛ حيث شيد هذا المنزل خصوصا لكي يكون منزل طبيب؛ إذ يقع جناح المكتب خارجه في أحد جوانب المنزل. لكن ويلف قام بإعادة بنائه من جديد؛ حيث قام بهدم بعض الحوائط تماما، فأصبح رحبا وفسيحا وأكثر إضاءة، ومازحه سيد رالستون قائلا إنه يعده من أجل زوجة المستقبل. كان ذلك موضوعا شديد الحساسية بسبب وجود جيني، لكن ربما لم يكن سيد على علم بذلك الأمر (تلقت جيني ثلاثة عروض بالزواج؛ الأول من ويلف ربستون، ثم أعقبه عرض تومي شتلز، ثم عرض يوان ماكاي. طبيب، ثم طبيب عيون، ثم كاهن. إنها تكبرني بثمانية أشهر فقط، لكني لا أعتقد أن لدي أملا بأن أحظى بما حظيت به. أظن أنها تغويهم بعض الشيء، بالرغم من أنها تقول دوما إنها لا تستطيع أن تفهم ذلك الأمر، وتصيبها الدهشة الشديدة في كل مرة يطلبون فيها الزواج منها. أعتقد أن هنالك دائما أساليب تستطيعين من خلالها أن تحولي كل شيء إلى مزحة، وتجعلي الآخرين يعرفون أنك لن ترحبي بعرض الزواج قبل أن تدعيهم يتمادون في الأمر ويجعلون من أنفسهم أضحوكة).
إذا ما حدث وألم بي مرض خطير فآمل أن أتمكن من تمزيق تلك المذكرات، أو أن أتفحصها وأمحو أي شيء وضيع بها؛ خشية أن أموت فيقرأها الناس.
شرعنا في التحدث بأسلوب تشوبه الجدية بعض الشيء، ولا أدري السبب وراء ذلك. وتطرق الحوار إلى الأشياء التي تعلمناها في المدرسة، وكيف أن الكثير منها سقط من ذاكرتنا، بالفعل. وذكر أحدنا نادي النقاش الذي كان موجودا في المدينة، وكيف أنه تم التخلص من كل هذه الأشياء بعد الحرب عندما أضحى الجميع يقتنون السيارات التي يتجولون بها، ويذهبون لمشاهدة الأفلام، وبدءوا في ممارسة لعبة الجولف. ومن بين الموضوعات الجادة التي اعتادوا الحديث عنها موضوعات من أمثال: «أيهما يمثل أهمية أكثر في تشكيل الشخصية الإنسانية؛ أهو العلم أم الأدب؟» هل بمقدور أي شخص تخيل إقناع الآخرين في الوقت الحالي بالتوجه للاستماع إلى ذلك؟ إننا أنفسنا نشعر بسخافة الأمر ونحن نجلس بطريقة غير منظمة ونتحدث عن ذلك الموضوع. ثم قالت جيني إنه علينا على الأقل أن نكون ناديا للقراءة، وجرنا ذلك للحديث عن الكتب الهامة التي كنا ننوي قراءتها، لكننا لم نشرع في ذلك على نحو جاد مطلقا؛ فهناك كتاب «كلاسيكيات هارفرد» الذي يقبع هناك على الرف خلف الباب الزجاجي في غرفة المعيشة، ويمر عام وراء عام دون قراءته. قلت لم لا نقرأ كتاب «الحرب والسلام»؟ لكن جيني ادعت أنها قرأته بالفعل؛ لذا تطرق الأمر إلى عمل تصويت بين كتابي «الفردوس المفقود» و«الكوميديا الإلهية»، وفاز كتاب «الكوميديا الإلهية». وكان كل ما نعرفه عنه هو أنه لا يحتوي على الكوميديا ومكتوب باللغة الإيطالية، بالرغم من أننا سنقرؤه باللغة الإنجليزية بطبيعة الحال. اعتقد سيد أنه مكتوب باللغة اللاتينية، وقال إنه قرأ شقا كبيرا منه في فصل السيدة هيرت، وذلك يكفيه طيلة حياته، وصحنا جميعا فيه، ثم تظاهر بأنه كان يعرف كل شيء طيلة الوقت. وعلى أي حال أما وقد توقف عرض «الجناديلي» فعلينا أن نخصص بعض الوقت للقراءة، وسنلتقي كل أسبوعين ليشجع كل منا الآخر.
أخذنا ويلف في جولة حول المنزل لنلقي نظرة عليه بأكمله. وكانت غرفة الطعام تقع على أحد جوانب الردهة، بينما تقع غرفة المعيشة على الجانب الآخر، وكان المطبخ يحوي الخزانات المدمجة في الحائط، وبه حوضان للغسيل، وأحدث موقد كهربائي. وهناك غرفة جديدة للغسيل بجانب الردهة الخلفية، ودورة مياه ذات طابع عصري. وكانت الخزانات متسعة بما يكفي للدخول فيها، ومثبت بأبوابها مرايا كبيرة بطول من يقف أمامها. غطت الأرضيات الخشبية اللامعة كل مكان في المنزل. وعندما عدت إلى منزلي شعرت أن المكان يفتقر إلى الأناقة، ويبدو رثا، وأن تلك الألواح الخشبية التي تكسو الجدران الداخلية تبدو كئيبة وذات طراز قديم. تحدثت مع أبي على الإفطار أنه بمقدورنا أن نشيد غرفة مشمسة بالقرب من غرفة الطعام حتى يكون لدينا غرفة واحدة على الأقل مشرقة وعصرية (نسيت أن أذكر أن ويلف لديه غرفة مشمسة تمتد من الجهة المقابلة للمنزل حتى مكتبه وتضفي توازنا جميلا). وجاء رد أبي متسائلا فيم نحتاج ذلك ونحن لدينا شرفتان تستقبلان أشعة الشمس في الصباح وتصلحان للجلوس في المساء؟ لذا وجدت أنه من غير المرجح أن أصل لأي حلول فيما يتعلق بخطتي لتحسين المنزل. •••
الأول من أبريل. أول شيء فعلته عندما استيقظت هو خداع أبي بكذبة. هرعت نحو الردهة وأنا أصرخ بأن هناك خفاشا هبط من المدخنة ودخل إلى غرفتي، فاندفع خارجا من دورة المياه وحمالة سرواله لأسفل ورغوة الصابون تغطي وجهه، وطلب مني أن أكف عن الصراخ والهستيريا، وأن أذهب لأحضر المقشة. ذهبت لأحضرها، ثم اختبأت خلف الدرج الخلفي متظاهرة بالخوف والفزع، بينما راح هو يضرب بقوة وقد ارتدى نظارته في محاولة منه للعثور على الخفاش. وقد أشفقت عليه في آخر الأمر، فصحت قائلة: «إنها كذبة أبريل!»
عقب ذلك هاتفتني جيني وقالت: «نانسي، ماذا أفعل؟ شعري يتساقط، إنه يغطي الوسادة، كتل كبيرة من شعري الجميل تساقطت فوق الوسادة كلها، والآن لقد أصبحت شبه صلعاء، لن أغادر هذا المنزل ثانية، هل بمقدورك المجيء إلى هنا لنرى إذا ما يمكننا أن نصنع منه شعرا مستعارا؟»
فقلت بشيء من البرود: «امزجي فقط بعضا من الدقيق والمياه وقومي بإلصاق الشعر مجددا، ولكن أليس من الغريب أن يحدث ذلك الخطب في صباح يوم كذبة أبريل؟»
والآن يأتي الجزء الذي لا أتشوق لتسجيله.
سرت حتى منزل ويلف دون أن أنتظر طعام الإفطار؛ لأنني أعلم أنه يذهب إلى المستشفى مبكرا. فتح الباب الأمامي بنفسه وهو يرتدي صدرية يظهر قميصه من تحتها. لم أفكر أن أتجه إلى المكتب؛ إذ اعتقدت أنه ما زال مغلقا. وكانت تلك السيدة العجوز التي أوكل إليها أمر العناية بالمنزل - والتي لا أعرف حتى اسمها - تتحرك محدثة ضجة عالية في المطبخ. كان من المفترض أن تفتح هي الباب، لكنه كان هناك في الردهة وعلى وشك المغادرة. قال: «نانسي، ما الأمر؟»
لم أتفوه بكلمة، لكنني نظرت إليه بوجه تبدو عليه علامات التألم، وقبضت بيدي على حلقي. «ماذا ألم بك يا نانسي؟»
ازداد انقباض يدي على حلقي، وتحدثت بصوت متحشرج، ورحت أهز رأسي لأشير إلى أنني لا أستطيع إخباره. يا له من شيء مثير للشفقة!
قال ويلف وهو يقودني خلال الردهة الجانبية ثم عبر باب المنزل حتى وصلنا إلى المكتب: «تفضلي من هنا.» رأيت تلك السيدة العجوز تختلس النظر، لكني لم أبين أنني لمحتها، استمررت فقط في تمثيليتي.
قال وهو يدفعني برفق نحو المقعد المخصص للمرضى ويضيء الأنوار: «والآن، ما الأمر؟» كانت الستائر لا تزال مسدله، والمكان تنبعث منه رائحة المطهر القوية أو ما شابه ذلك. أخرج واحدة من العصي التي تعمل على خفض اللسان، وتلك الأداة التي يستخدمها لإضاءة موضع الحلق ورؤيته من الداخل. «والآن افتحي فمك بأقصى ما تستطيعين.»
فعلت ذلك، لكن قبل أن يضغط على لساني بذلك الخافض صحت قائلة: «كذبة أبريل.»
لم تبد على وجهه أي ابتسامة. قام بإخراج خافض اللسان وأطفأ النور في أداة الكشف، ولم يتفوه بكلمة حتى جذب الباب الخارجي للمكتب بعنف. ثم قال: «لدي مرضى يجب أن أراهم. نانسي، لماذا لا تتعلمين أن تتصرفي حسبما يليق بعمرك؟»
أسرعت للخروج من المكان وأنا أشعر بخجل شديد، ولم تكن لدي الشجاعة لأسأله لماذا لم يتقبل تلك المزحة بصدر رحب! وبالقطع ستقوم تلك الفضولية في مطبخه بنشر ما حدث في المدينة بأكملها، وستقص على الجميع مدى الغضب الذي شعر به، وكيف أنني اضطررت إلى التسلل خارج المنزل وأنا أشعر بمهانة شديدة. ظللت في حالة سيئة طوال اليوم، ومن أسوأ المصادفات الغبية هي أني شعرت بالتعب، والحمى بالفعل، مع قليل من احتقان الحلق؛ لذا جلست في الغرفة الأمامية ووضعت غطاء فوق ساقي، وأخذت أقرأ كتاب دانتي القديم؛ فمساء الغد هو الموعد المحدد لاجتماع نادي القراءة؛ لذا ينبغي أن أتقدم على الباقين، لكن المشكلة أنه لم يعلق بذهني أي شيء مما قرأته؛ لأنني ظللت طوال وقت القراءة مشغولة بالتفكير؛ أي شيء تافه وغبي ذلك الذي أقدمت على فعله؟ إنني أكاد أسمعه وهو يخبرني بصوت حاد أن أتصرف حسبما يليق بعمري. بيد أني وجدتني أتجادل معه في ذهني وأردد أنه ليس بالشيء البغيض أن تحظى ببعض المتعة في حياتك. أعتقد أن والده كان قسيسا، فهل كان ذلك سببا رئيسيا فيما هو عليه؟ إن عائلات أولئك القساوسة تتنقل كثيرا؛ لذا ربما لم يتسع له الوقت لكي يتعرف على مجموعة من الأصدقاء ينشئون معا ويفهمون معنى أن يلهوا معا ويتصرفون بحماقة بعضهم مع بعض.
أستطيع رؤيته الآن وهو يفتح الباب بالصدرية التي يرتديها، وبقميصه المنشى؛ طويل القامة ونحيل يشبه السكين في حدته، شعره مصفف ومفروق بعناية، وله شارب مستقيم. يا لها من كارثة!
رحت أتساءل إن كان بإمكاني أن أبعث له برسالة أشرح له فيها أن المزحة في رأيي لا تعد نوعا من الإهانة. أم يا ترى من الأفضل أن أكتب مجرد اعتذار يتسم بالوقار واللياقة؟
لا أستطيع أن أتشاور في الأمر مع جيني؛ لأنه كان قد طلب الزواج منها؛ مما يعني أنه يراها شخصا أكثر جدارة مني. كذلك فإنني في حالة مزاجية جعلتني أتساءل إن كان من الممكن أن تستخدم جيني تلك المعلومات ضدي وتنشرها سرا (حتى وإن كانت قد رفضت مطلبه). •••
الرابع من أبريل. لم يظهر ويلف في اجتماع نادي القراءة؛ لأن زميلا قديما له أصيب بسكتة دماغية؛ لذا كتبت رسالة لأبعثها له، وحاولت أن أجعلها في صورة اعتذار، لكن دون أن يشوبها الإهانة. كان ذلك الأمر يزعجني على نحو يفوق الحد، لكن لم تكن الرسالة هي مصدر ضيقي، إنما ما فعلته أنا. •••
الثاني عشر من أبريل. تلقيت أكثر شيء أثار دهشتي خلال حياتي القصيرة الحمقاء وأنا أفتح الباب في ظهيرة ذلك اليوم. كان والدي قد وصل لتوه إلى المنزل وجلس يتناول العشاء، ووجدت ويلف بالباب. لم يرد مطلقا على الرسالة التي بعثت له بها، وسلمت بأنه يشعر نحوي بالاشمئزاز، وينوي تجنبي للأبد، وكان كل ما في وسعي أن أفعله في المستقبل هو أن أحاول تجاهله؛ لأنني ليس لدي خيار آخر.
سألني إن كان أزعجني وقطع علي وجبة العشاء.
لم يكن ليفعل؛ لأنني كنت قد قررت الامتناع عن تناول وجبة العشاء حتى أفقد خمسة أرطال من وزني. فبينما كان والدي والسيدة بوكس يتناولان عشاءهما، كنت قد ذهبت إلى غرفتي وأغلقت الباب فحسب، واستأنفت قراءة دانتي.
أجبته بالنفي.
سألني إن كنت أرغب في نزهة بالسيارة؛ فبإمكاننا أن نرى الثلوج وهي تتساقط فوق النهر. ثم استأنف حديثه موضحا أنه ظل مستيقظا طوال الليل، وأن عليه أن يفتح عيادته في الواحدة، وهو الأمر الذي لا يسمح له بأن يأخذ غفوة قصيرة؛ لذا فإن بعضا من الهواء المتجدد سيشعره بالانتعاش. لم يوضح سبب بقائه مستيقظا طوال الليل؛ لذا خمنت أن يكون السبب ولادة طفل، وأنه ظن أنني قد أشعر بالحرج إن أخبرني.
أخبرته أنني كنت على وشك قراءة الجزء المخصص لهذا اليوم.
قال: «امنحي نفسك راحة من دانتي لبعض الوقت.»
لذا ذهبت لأحضر معطفي، وأخبرت أبي بأني ذاهبة للخارج، واستقللت معه السيارة. توجهنا نحو الجسر الشمالي حيث تجمع العديد من الأشخاص؛ معظمهم من الرجال والأطفال في ساعة راحتهم لتناول العشاء؛ وذلك لكي يشاهدوا تجمعات الثلوج. لم تكن ثمة كتل هائلة منه هذا العام؛ حيث تأخر فصل الشتاء كثيرا في بدايته. ومع ذلك كانت الثلوج تصطدم بدعامات الجسر فتتفتت محدثة بعض الصوت كما هو الحال دائما عندما تتخلل بعض تيارات المياه الصغيرة تلك الدعامات. وليس ثمة ما تفعله سوى الوقوف والنظر إليها مشدوها ومسحورا بمنظرها الأخاذ. شعرت ببرودة في قدمي. قد تكون الثلوج آخذة في الذوبان، لكن يبدو أن برودة الشتاء لم تستسلم بعد، وبدا الربيع بعيدا كل البعد، وتساءلت أنى لبعض الناس أن يقفوا هناك ويعتبروه شيئا مسليا بدرجة تجعلهم يقفون ويرقبونه لساعات؟
لم يستغرق الأمر طويلا ليشعر ويلف بالسأم أيضا. عدنا أدراجنا إلى السيارة، وبدا كل واحد منا منتظرا أن يتحدث الآخر، ثم قررت أن أستجمع شجاعتي لأواجه الموقف، وسألته مباشرة: «هل تلقيت رسالتي؟»
فقال إنه تلقاها بالفعل.
قلت له إنني شعرت بحماقة ما فعلت (كان ذلك صحيحا، لكن ربما شاب لهجتي بعض الندم على نحو أكثر مما قصدت).
قال: «لا عليك، دعك من هذا.»
عاد بالسيارة للوراء ثم اتجه صوب المدينة وقال: «كنت آمل في طلب الزواج منك، غير أنني لم أرد أن أقولها هكذا، كنت أريد أن أمهد للأمر بصورة أفضل، في موقف أكثر ملاءمة.»
سألته قائلة: «هل تعني أنك كنت تأمل في ذلك ولكنك لا تريد ذلك الآن؟ أم تقصد أنك ترغب في ذلك بالفعل الآن؟»
أقسم أنني حين تفوهت بهذا لم أكن أستحثه على شيء، بل كنت أريد منه توضيحا للأمور فقط.
قال: «أعني أنني أرغب بالفعل.»
خرجت كلمة «أوافق» من فمي حتى قبل أن أتغلب على صدمتي من المفاجأة. لا أدري كيف أفسر الأمر؛ لقد قلت أوافق بأسلوب هادئ مهذب دون أن يبدو علي شغف أو لهفة؛ مثلما تقول أوافق على تناول قدح من الشاي. بل إنني لم أتصرف بأسلوب ينم عن شعوري بالدهشة. بدا وكأنه علي أن أعمل على أن نتخطى تلك اللحظة سريعا لنشعر بعدها بالاسترخاء ونتصرف بصورة طبيعية، برغم حقيقة أنني لم أشعر مطلقا بأي نوع من الراحة والاسترخاء مع ويلف؛ ففي بعض الأحيان كنت أشعر بالارتباك والحيرة نحوه، وكنت أراه مخيفا ومضحكا في ذات الوقت، إلا أنه منذ موقف كذبة أبريل التعيس لم يكن يعتريني سوى الشعور بالإحراج الشديد. أتمنى أنني لم أوافق على طلبه حينها لمجرد التغلب على ذلك الشعور بالإحراج. أتذكر وقتها أنني حدثت نفسي بأنه ربما كان علي أن أسحب موافقتي، وأن أخبره أنني أحتاج المزيد من الوقت لأفكر في الأمر، لكنني بالكاد كنت أستطيع أن أفعل هذا دون أن أضع كلانا في حالة من الإحراج الشديد، بالإضافة إلى أنني لا أعرف ما هو الأمر الذي سأفكر به.
تمت خطبتي لويلف. لا أستطيع أن أصدق هذا. هل يسير الأمر على هذا النحو مع الجميع؟ •••
الرابع عشر من أبريل. جاء ويلف إلى منزلنا وتحدث مع أبي، وذهبت أنا لأتحدث مع جيني؛ فتحدثت إليها مباشرة وبصراحة، واعترفت لها أنني أشعر بالحرج وأنا أخبرها بذلك، ثم قلت لها إنني أتمنى ألا تمانع في أن تكون وصيفة الشرف. قالت إنها بالطبع لا تمانع، ثم تأثر كلانا بالموقف وتعانقنا، ونحن نتنفس الصعداء.
قالت: «لا يقارن الزملاء بالأصدقاء مطلقا.»
غلبت علي حالة من التهور، وأخبرتها أن الخطأ كان خطأها على أي حال.
وأخبرتها أنني لم أستطع أن أتحمل فكرة أن تخذل فتاتان هذا الرجل المسكين. •••
الثلاثون من مايو. لم أدون شيئا هنا منذ فترة طويلة؛ لأني كنت غارقة في دوامة من الأشياء التي يجب علي إنجازها. حددنا موعد الزفاف في العاشر من يوليو، وتعكف السيدة كورنيش على حياكة فستاني، وتفقدني صوابي وأنا أقف أمامها مرتدية ملابسي الداخلية فقط وقد شبكتها جميعها بالدبابيس مع القماش وهي تصيح في بأن أقف ثابتة في مكاني. كان الفستان من قماش المركيزيت الأبيض، ولن يكون للفستان ذيل؛ لأنني أخشى أن أطأ فوقه وأتعثر فيه. ثم اشتريت جهاز العروس المكون من نصف دستة من قمصان النوم الصيفية، ورداء الكيمونو الياباني من الحرير المموج بنقوش زهرة الزنبق، وثلاث منامات شتوية، اشتريتها جميعا من متجر سيمبسون في تورونتو. في الواقع ليست المنامة هي أفضل ما تبتاعه العروس في جهازها، ولكن قمصان النوم لا تشعر بالدفء، وأنا أبغضها على أي حال؛ لأنها دائما ما تنكمش وتعلق عند الخصر في نهاية الأمر. وقد ابتعت كميات من القمصان الداخلية الحريرية وأشياء أخرى بلون الخوخ أو «بلون البشرة». قالت جيني إنه علي أن أبتاع كميات من تلك الأشياء وأحتفظ بها كلما سنحت لي الفرصة؛ لأنه إن اندلعت حرب في الصين فستصبح الكثير من الملابس الحريرية نادرة للغاية؛ فهي تتابع الأخبار كعادتها دوما. وكان رداؤها كوصيفة شرف من اللون الأزرق الفاتح.
وشرعت السيدة بوكس بالأمس في إعداد كعكة الزفاف، ومن المفترض أنها ستستغرق ستة أسابيع حتى يتم إعدادها وتنضج، وبذا سيتم إعدادها في آخر لحظة قبل الموعد. كان علي أن أساعد في عملية التقليب والإعداد ليجلب لي ذلك الحظ، وكان العجين مثقلا بالفواكه لدرجة اعتقدت معها أن ذراعي ستسقطان. وكان أولي موجودا، فراح يساعدني في التقليب دون أن تلاحظ السيدة بوكس. ما الحظ الذي سيجلبه ذلك؟ لا أدري.
أولي هو ابن عم ويلف، وقدم في زيارة إلى المدينة ستستمر شهرين. وبما أن ويلف ليس له أخ فسيكون هو - أولي - الإشبين. إنه يكبرني بسبعة أشهر فقط، فبدوت أنا وهو وكأننا لا نزال أطفالا، بينما لم يكن ويلف كذلك (ولا أستطيع أن أتخيل أنه كان طفلا بالفعل في يوم من الأيام). مكث أولي في مصحة لعلاج الدرن لمدة ثلاث سنوات، لكنه أصبح الآن في حال أفضل. أحدث له الأطباء انخماصا جزئيا في إحدى رئتيه حينما كان هناك، كنت قد سمعت بهذا واعتقدت أنه ربما كان عليه أن يعيش برئة واحدة، لكن ذلك لم يكن صحيحا؛ لقد قاموا بعمل ذلك حتى تتوقف الرئة عن وظيفتها بينما يعالجونها بالعقاقير ويعملون على تكيس العدوى؛ وذلك حتى لا تنشط (أترون كيف اكتسبت معرفة طبية الآن بما أنني خطبت وسأتزوج من طبيب). وبينما كان ويلف يشرح ذلك، وضع أولي يده فوق أذنيه، وقال إنه لا يريد أن يفكر بما حدث لرئتيه، وراح يتظاهر بأنه أجوف من الداخل كعروسة مصنوعة من مادة السيليولويد. كانت شخصيته مناقضة لويلف تماما، إلا أنه كان هناك انسجام كبير بينهما.
أحمد الله أننا سنقوم بتزيين الكعك بطريقة محترفة عند صانع الحلوى؛ فلا أعتقد أن السيدة بوكس ستتحمل المزيد من الضغط. •••
الحادي عشر من يونيو. بقي أقل من شهر على حفل الزفاف، يجب ألا أكون جالسة هنا الآن لأكتب، بل علي أن أراجع قائمة هدايا الزفاف، لا أستطيع أن أصدق أن كل تلك الأشياء ستئول إلي. كان ويلف يلح علي في اختيار ورق الحائط. كنت أظن أن جميع الغرف مملطة بالجص ومدهونة باللون الأبيض؛ لأن ذلك هو ما يفضله ويلف، لكن يبدو أنه كان قد تركها كذلك حتى تختار زوجته المستقبلية ورق الحوائط. أخشى أنني كنت أبدو متحيرة بالمهمة، لكني استجمعت شتات نفسي وأخبرته أن ذلك ينم عن كياسته ومراعاته للرأي الآخر، غير أني لا أستطيع تخيل ما أريده إلا بعد أن أنتقل للعيش هناك بالفعل (لا بد وأنه كان يتمنى أن يكون كل شيء قد تم الانتهاء منه حين عودتنا من شهر العسل)، لكني بذلك قد أرجأت كل شيء.
ما زلت أذهب إلى الطاحونة يومين في الأسبوع، وتوقعت نوعا ما أن يستمر ذلك لما بعد الزواج، لكن أبي أخبرني أنه بالقطع لن يستمر الوضع على ما هو عليه. واستمر في حديثه كما لو أن تعيين امرأة متزوجة أمر غير قانوني، ولا يتم التعيين إلا إذا كانت أرملة أو تعاني ظروفا قاسية، لكني أوضحت له أنه ليس بتعيين طالما أنه لا يدفع لي راتبا على أي حال. ثم شرع في قول ما كان متحرجا من قوله في البداية، وهو أنه حينما أتزوج سيكون هناك فترات انقطاع أتوقف فيها عن ممارسة مهامي.
قال: «هناك أوقات لن تتمكني فيها من الخروج إلى الأماكن العامة.»
احمر وجهي خجلا كالبلهاء وقلت له: «لا أعرف شيئا مما تتحدث عنه.»
لذا خطر على ذهنه (أي أبي) أنه سيكون شيئا جيدا إن حل أولي مكاني فيما أقوم به من عمل، وأنه يأمل (أبي) أن يبذل أولي كل ما في وسعه في هذا النشاط التجاري، ويلم به تماما ليتمكن في النهاية من تولي جميع الأعمال والمهام. ربما كان أبي يتمنى أن أتزوج شخصا يمكنه القيام بذلك، برغم أنه يعتقد أن ويلف «شخص ممتاز ومن الطراز الأول». ولأن أولي غير مرتبط بأي عمل في الوقت الحالي، وهو شخص متعلم يتسم بالذكاء (رغم أني لا أعلم قدر التعليم الذي تلقاه وأين، إلا أنه من الواضح أن لديه قدرا من المعرفة يفوق بالفعل أي شخص هنا)؛ لذا فهو الاختيار الأمثل؛ ولهذا السبب اصطحبته إلى المكتب بالأمس وأطلعته على الدفاتر وغير ذلك، وأخذه أبي وقدمه إلى الرجال هناك وإلى كل من تصادف وجوده في المكان، وبدا وكأن الأمور تسير على ما يرام. كان أولي شخصا نابها وأبدى قدرا من الجدية في المكتب ، ثم بدا مرحا ينشر الضحكات (لكن في حدود) بين الرجال، بل إنه غير من أسلوب حديثه بالقدر الصحيح، وكان أبي سعيدا بهذا، وشعر بأنه جاء عونا له. عندما ألقيت عليه تحية المساء قال: «إنه لمن حسن حظي أن يظهر ذلك الرجل هنا الآن. إنه شخص يبحث عن مستقبل ومكان يستقر به.»
لم أعارض ذلك، بل اعتقدت أن هناك فرصة كبيرة أمام أولي ليستقر هنا ويدير طاحونة الفرم، تماما مثلما كانت لدي أنا فرصة للمشاركة في عرض زيجفيلد فوليز المسرحي.
أعتقد أنه لا يسعه إلا أن يقوم بعمله على نحو متميز.
وفكرت ذات مرة بأن جيني يمكن أن تحمل عني مسئولية أولي. إنها مثقفة وتدخن، وبالرغم من أنها تذهب إلى الكنيسة فإن آراءها من ذلك النوع الذي يعتبره الآخرون إلحادية. وأخبرتني أنها لا تعتقد أن أولي سيئ المظهر بالرغم من أنه يعد قصير القامة (أعتقد أن طوله حوالي خمسة أقدام وثماني بوصات أو تسع)، وعيناه زرقاوان كما تحب، ولديه ذاك الشعر البني بلون حلوى الزبد الاسكتلندية، الذي يسقط بعضه في تموجات خفيفة فوق جبهته ويوحي ببعض الجاذبية المتعمدة. كان لطيفا معها بالقطع حينما التقى بها وشجعها على أن تتحدث كثيرا، وبعد أن غادرت إلى منزلها قال لي: «أعتقد أن صديقتك الصغيرة على قدر من الثقافة، أليس كذلك؟» «صغيرة؟» إن جيني تكاد تماثله في الطول، وكنت على وشك أن أخبره بذلك، لكنه من الوضاعة أن أشير إلى شيء يتعلق بالطول وأنا أتحدث مع رجل يعاني من نقص في ذلك الجانب؛ لذا آثرت الصمت. ولم أدر ماذا أقول فيما يتعلق بجانب الثقافة؛ ففي رأيي أن جيني على قدر من الثقافة (فهل قرأ أولي مثلا رواية الحرب والسلام؟) لكني لم أستطع أن أخمن من أسلوب كلامه إن كان يقصد أنها كذلك أم لا. وكل ما أستطيع قوله هو أنه إن كان يقصد أنها مثقفة، فذلك أمر لا يهتم به، أما إن لم تكن كذلك، فقد تصرفت وكأنها على قدر من الثقافة؛ وذلك شيء لا يهتم به أيضا. كان ينبغي أن أقول شيئا ثقيل الظل مثل: «إنني لا أستطيع أن أفهمك.» لكني بالقطع لم أفكر في شيء كهذا إلا فيما بعد، لكن الشيء الأسوأ هو أنه بمجرد أن قال ذلك تكونت بداخلي بعض الأفكار والآراء بشأن جيني، وبينما كنت أدافع عنها (في أفكاري)، وجدتني بطريقة خبيثة أتفق معه تماما، ولا أدري إن كانت ستبدو - كما كانت - في رأيي على هذا القدر من الذكاء في المستقبل أم لا.
كان ويلف موجودا بالقرب منا، وبالطبع سمع ذلك الحوار، لكنه لم يقل شيئا. ربما كنت أستطيع أن أسأله إن لم يكن قد شعر بأنه يريد أن يدافع عن الفتاة التي تقدم للزواج منها في يوم من الأيام، لكنني لن أصرح له مطلقا بأني أعرف ذلك الأمر. كان عادة ما يسمعني أتحدث أنا وأولي وهو يحني رأسه قليلا للأمام (وهو الأسلوب الذي يتبعه مع معظم الناس؛ فقد كان طويل القامة جدا) وعلى وجهه شبه ابتسامة. ولا أدري إن كانت ابتسامة أم أن تلك حركة فمه المعتادة. كانا يأتيان كلاهما في الأمسيات إلى منزلنا، وينتهي الأمر بأن يلعب كل من أبي وويلف الورق، بينما نمضي أنا وأولي الوقت في تجاذب أطراف الحديث على نحو متباسط، أو نلعب ثلاثتنا - أنا وأولي وويلف - لعبة البريدج التي تحتاج ثلاثة لاعبين (لم يعتد أبي على لعب البريدج؛ لأنه يعتقد أنها تنم عن الغرور والتكبر)، وفي بعض الأحيان كان ويلف يتلقى مكالمة هاتفية من المستشفى أو من إلسي بانتون (مديرة منزله التي لا أتذكر اسمها دوما، فكنت أصيح سائلة السيدة بوكس) فيضطر للمغادرة، وفي أحيان أخرى عندما ننتهي من لعب الورق، كان يجلس قبالة البيانو ويشرع في العزف بمهارة دون أن يكون أمامه نوتة موسيقية، بل وربما يستطيع العزف في الظلام. كان أبي يتجول في الشرفة ثم يأتي ليجلس معي أنا وأولي، وينصت ثلاثتنا لعزفه ونتمايل على أنغامه. كان يبدو وقتها أن ويلف يعزف لنفسه وكأن أداءه غير موجه لنا؛ فلم يكن يهتم إن كنا ننصت له أم لا، أو إذا ما كنا قد بدأنا في الحديث ثانية، وهو ما كنا نقوم به بالفعل في بعض الأحيان؛ لأن معزوفاته قد تكون كلاسيكية بعض الشيء لأبي الذي كانت أغنيته المفضلة «منزلي القديم في كنتاكي». فكان ينتاب أبي حينها شعور بعدم الراحة؛ فقد كان ذلك النوع من الموسيقى يشعره بالدوار وكأن العالم يلف من حوله؛ لذا كنا نبدأ في الحوار ثانية من أجل أبي. ثم يكون هو - أي أبي - من يبدأ في إخبار ويلف بأننا جميعا استمتعنا بعزفه، فيشكره ويلف بأسلوب مهذب، لكنه يكون شارد الذهن. ولم نكن أنا وأولي نعقب بشيء؛ لأننا نعلم أنه في تلك الحالة لا يهتم برأينا بطريقة أو بأخرى.
وفي مرة من المرات دهشت؛ إذ وجدت أولي يشدو بهمس مع عزف ويلف. «الفجر يبزغ وبير جينت يتثاءب ...»
فهمست قائلة: «ماذا؟»
قال أولي: «لا شيء، إنها الأغنية التي يعزفها.»
جعلته يتهجى ببطء ب-ي-ر-ج-ي-ن-ت.
ينبغي أن أعرف أكثر عن الموسيقى؛ فهي ستكون شيئا مشتركا بيني وبين ويلف.
أصبح الطقس حارا فجأة. تفتحت زهور الفاوانيا بالخارج وازداد حجمها، وتساقطت زهرات سبيريا من شجيراتها وكأنها ثلوج متساقطة. تجولت السيدة بوكس بالخارج وألقت نظرة على الزهور وهي تقول إذا استمر الطقس هكذا فستجف الزهور كلها بحلول موعد الزفاف.
وبينما أكتب هذا كنت قد احتسيت ثلاثة أقداح من القهوة ولم أصفف شعري بعد. قالت السيدة بوكس: «سيتعين عليك تغيير نمط حياتك في القريب العاجل.»
قالت ذلك لأن إلسي ثينجامابوب أخبرت ويلف أنها ستستقيل من عملها حتى أكون أنا مسئولة عن تدبير شئون المنزل.
لذا فأنا الآن أغير من أسلوب حياتي، ووداعا لمذكراتي على الأقل في الوقت الحالي. كان دائما ما يلازمني ذلك الشعور بأن هناك شيئا غريبا سيحدث في حياتي؛ لذا من المهم أن أدون كل شيء. فهل كان ذلك مجرد شعور؟
فتاة بلباس البحارة
قالت نانسي: «لا تعتقد أن بمقدورك أن تجلس هكذا في تراخ وتكاسل، لدي مفاجأة لك.»
قال أولي : «أنت دوما محملة بالمفاجآت.»
كان هذا يوم الأحد، وتمنى أولي أن يأخذ قسطا من الراحة والاسترخاء. لقد كانت طاقة نانسي الزائدة شيئا لا يكن له أولي كثيرا من التقدير.
افترض أولي أنها ستكون بحاجة إلى هذه الطاقة في القريب العاجل؛ لأنها ستساعد في شئون المنزل، وهو ما سيعتمد عليه ويلف بأسلوبه الاعتيادي الذي يشوبه بعض البرود.
توجه ويلف مباشرة إلى المستشفى بعد أن غادر الكنيسة، وعاد أولي لتناول العشاء مع نانسي ووالدها. كانوا عادة ما يتناولون إحدى الوجبات الخفيفة الباردة أيام الآحاد؛ فالسيدة بوكس تذهب إلى كنيستها في ذلك اليوم وتقضي فترة ما بعد الظهيرة تستمتع براحة طويلة في منزلها الصغير. ساعد أولي نانسي في تنظيف وترتيب المطبخ، وترامى إلى مسامعهم أصوات شخير تأتي من غرفة الطعام.
قال أولي بعد أن ألقى نظرة صوب الحجرة: «إنه أبيك، لقد غلبه النوم وهو جالس في مقعده الهزاز ومجلة «ساترداي إيفننج بوست» على ركبتيه.»
قالت نانسي: «إنه لا يعترف أبدا أن النوم سيغلبه بعد ظهيرة أيام الآحاد؛ فهو يعتقد دوما أنه سيقرأ.»
كانت نانسي ترتدي مئزرا للمطبخ وتربطه حول خصرها؛ ولم يكن من ذلك النوع الذي يستخدم في أعمال المطبخ الشاقة. قامت بخلعه وتعليقه فوق مقبض الباب، ونفشت شعرها أمام مرآة صغيرة مثبتة بجوار باب المطبخ.
قالت بصوت يشوبه الشكوى، لكنه لا ينم عن الاستياء: «إن مظهري غير مهندم.»
قال: «هذا حقيقي، ولا أدري ما الذي رآه ويلف فيك.»
قالت: «انتبه لكلماتك وإلا لكمتك.»
قادته خارج باب المطبخ، ثم تجولا حول شجيرات الكشمش، وأسفل شجرة القيقب حيث كانت تضع أرجوحتها كما أخبرته بالفعل مرتين أو ثلاث مرات. ثم سارا بعد ذلك عبر الممر الخلفي حتى نهاية المربع السكني. لم يكن ثمة أحد يقوم بجز الحشائش؛ فهذا يوم الأحد، بل لم يكن هناك أحد على الإطلاق في الأفنية الخلفية، وكانت كل المنازل مغلقة على ما بداخلها، ولها تلك الهيئة الشامخة الساترة على ما فيها كما لو أن بداخل كل منزل أناسا أجلاء كوالد نانسي يغيبون مؤقتا عن ذلك العالم وهم يأخذون ما يستحقونه من فترة راحة.
لكن هذا لا يعني أن الهدوء يغلف المدينة بأسرها؛ فبعد ظهيرة يوم الأحد هو الوقت الذي ينزح فيه أهل الريف وبعض من أهل قرى الريف إلى الشاطئ، الذي يبعد عنهم مسافة ربع ميل بالقرب من سفح الجرف. وهناك تختلط صيحات من يلعبون على الزلاقات المائية بصرخات الأطفال وهم يغطسون ويرشون بعضهم بعضا بالمياه، وتسمع أصوات أبواق السيارات العالية، وعربات الآيس كريم وهي تطلق صفيرها، وهتافات الشباب وهم يتباهون بأنفسهم في حماس، وكذا أصوات الأمهات اللاتي يعتريهن القلق العارم. كل ذلك يمتزج في صيحة واحدة مختلطة.
وعند نهاية الممر، وعبر شارع أقل حالا وغير ممهد، ظهر مبنى مهجور قالت عنه نانسي إنه مستودع الثلج القديم، وامتدت خلفه قطعة أرض خاوية، وجسر خشبي يقع فوق قناة جافة، ثم وصلا بعد ذلك إلى طريق يتسع لمرور عربة واحدة؛ أو بالأدق عربة يجرها حصان واحد فقط. وعلى كلا جانبي هذا الطريق اصطف جدار من الشجيرات الشائكة بأوراقها الخضراء الصغيرة البراقة وقد تناثرت عليها بعض الزهور الجافة وردية اللون. ولم تكن تلك الشجيرات تسمح بتخلل النسيم، أو تلقي بأي ظلال عليهما، وحاولت أغصانها أن تتشابك بكمي قميص أولي.
قالت نانسي عندما سألها في ضيق عما لامسه: «إنها زهور برية.» «أعتقد أن هذه هي المفاجأة، أليس كذلك؟» «سترى.»
شعر بالحر الخانق في ذلك الممر الضيق، وتمنى لو أنها تبطئ من خطواتها. وكثيرا ما أدهشه التفكير في طول الوقت الذي يمضيه في التجول مع تلك الفتاة، والتي لم تكن رائعة ومميزة بأي حال من الأحوال فيما عدا كونها مدللة، وتتسم بالجرأة التي تقارب حد الوقاحة والغرور بعض الشيء. ربما كان يحب إزعاجها. إنها فقط تتسم بذكاء يفوق سائر الفتيات، وهذا هو ما يجعله يفعل ذلك.
كل ما استطاع أن يراه، من على بعد، هو سقف أحد المنازل تحفه بعض الأشجار لتلقي بظلالها فوقه فتغطيه، وبما أنه لم يكن هناك أمل في الحصول على أي معلومات من نانسي، راح الأمل يداعبه بالجلوس في مكان بارد ومنعش عندما يصلان إلى هناك.
قالت نانسي: «ربما لديها صحبة الآن. ربما علمت.»
رأوا عند المنعطف في نهاية الطريق سيارة قديمة شديدة الاتساخ من طراز فورد موديل تي.
قالت: «على أي حال إنها سيارة واحدة فقط، لنأمل أن يكونوا قاربوا على الانتهاء.»
لكنهم عندما بلغوا السيارة لم يخرج لهم أحد من المنزل الجميل ذي الطابق والنصف، المشيد من الطوب والذي يطلق عليه الطوب الأبيض في هذا الجزء من المدينة، والطوب «الأصفر» في المنطقة التي أتى منها أولي (وهو في حقيقة الأمر ذو لون داكن ويبدو متسخا). لم يكن هناك سور حول المنزل؛ مجرد حاجز من الأسلاك المحيطة بالفناء الذي يحتوي على حشائش غير مقلمة. ولم يكن هناك ممر أسمنتي من البوابة إلى باب المنزل، إنما مجرد طريق تغطيه القاذورات. وهو شيء معتاد خارج البلدة؛ فليس لدى كل المزارعين أرصفة ممهدة أو ماكينات لتهذيب الحشائش.
من المرجح أنه كانت توجد هنا أحواض من الزهور؛ على الأقل بعض من الزهور البيضاء والصفراء المنتشرة حول المنزل أو هناك وسط الحشائش الطويلة. كان على ثقة أنه كانت هناك بعض زهور الأقحوان، لكنه لم يهتم بسؤال نانسي؛ إذ يحتمل أن تسمعه بعضا من تصحيحاتها الساخرة.
قادته نانسي نحو أثر أصلي بقي من الأيام الخوالي الجميلة التي اتسمت بالبطء والتمهل؛ أرجوحة خشبية مكتملة غير مطلية، لها مقعدان يواجه أحدهما الآخر. ويبدو أن أحدا لم يطأ الحشائش بالقرب منها في هذا المكان؛ فمن الواضح أن تلك الأرجوحة لم تستخدم كثيرا، وقد استقرت أسفل ظلال شجرتين مورقتين. وبمجرد أن استقرت نانسي فوقها نهضت ثانية وراحت تدفع نفسها للأمام وللخلف بعد أن ثبتت نفسها وسط المقعدين لتتحرك بذلك الشيء الغريب محدثة صريرا عاليا.
قالت: «سيجعلها هذا الصوت تعرف أننا هنا.»
قال: «يجعل من؟» «تيسا.» «أهي صديقة لك؟» «بالطبع.»
قال أولي دون حماس: «أهي صديقة لك كبيرة في السن؟» كانت قد تسنت له العديد من الفرص ليرى كم كانت نانسي تضيع الكثير من وقتها وتظهر ما يسمى - في بعض كتب الفتيات التي ربما تكون قد قرأتها أو التي تأثرت بها - بالجانب المشرق من شخصيتها. وقد جال بخاطره مضايقتها ومداعبتها البريئة للرجال الكبار في المصنع. «لقد كنا نذهب للمدرسة معا، أنا وتيسا.»
جعله ذلك يتذكر شيئا آخر طاف بذهنه؛ الطريقة التي رتبت بها لقاءه مع جيني في محاولة لجذب كليهما للآخر.
قال أولي: «وما الشيء المثير للاهتمام فيها؟»
قالت له: «سترى. آه يا إلهي!»
قفزت من منتصف الأرجوحة واتجهت نحو طلمبة المياه اليدوية بالقرب من المنزل، وبدأت تضخ بهمة ونشاط. كان عليها أن تضخ طويلا وبعزم شديد قبل أن يبدأ تدفق المياه. وحتى مع هذا المجهود لم يبد عليها أي أمارات للتعب، بل راحت تستمر في ضخ المياه لفترة قبل أن تملأ ذلك القدح المصنوع من القصدير والمعلق بجوار المضخة، ثم حملته، والمياه تفيض منه، واتجهت صوب الأرجوحة. واعتقد أولي من خلال تلك النظرة المتحمسة في عينيها أنها ستقدمه له على الفور، لكنها في الحقيقة رفعته نحو شفتيها وتجرعته بسعادة.
قالت وهي تعطيه إياه: «إنها ليست مياه البلدة، إنها مياه الآبار، يا لها من مياه لذيذة!»
كانت فتاة من ذلك النوع الذي يمكن أن يشرب المياه غير المعالجة من أي قدح قصديري قديم معلق فوق أي مورد مياه (لقد جعلته المصائب التي ألمت بجسده أكثر دراية بمثل هذه المخاطر من أي شاب آخر)، وكانت هي شخصية تحب أن تتباهى بالطبع، لكنها كانت في الواقع متهورة بطبيعتها ومحبة للمجازفة، ولديها قناعة تامة بأنها تحيا حياة جذابة.
لم يكن ليقول هذا عن نفسه، إلا أنه كانت لديه فكرة - لم يستطع أن يذكرها دون أن يضفي عليها روح الدعابة - وهي أنه خلق لشيء غير اعتيادي، وأن حياته سيكون لها معنى وقيمة مختلفة. وربما هذا هو ما جذب كليهما للآخر، لكن الفرق بينهما هو أنه سيستمر للحصول على ما يريد ولن يرضى بما هو أقل مثلما كان عليها أن تفعل هي - أو مثلما هي الآن بالفعل - كونها فتاة. وقد شعر بالراحة فجأة إزاء فكرة أن مجال الخيارات أمامه أوسع بكثير مما يتاح لأي فتاة، وجعله هذا أيضا يشعر حيالها بالشفقة، وأن يمرح ويمزح معها. ثمة أوقات مرت عليهما لم يكن هو بحاجة لأن يسأل خلالها عن سبب وجوده معها، حينما كان يشرع في إغاظتها أو حينما تعمد هي إلى مضايقته وإغاظته، وهو ما جعل الوقت يمر بسرعة دون أن يشعرا به.
كانت المياه لذيذة ومنعشة على نحو رائع.
قالت وهي تجلس في مواجهته: «هناك كثيرون يأتون لزيارة تيسا، ولا تعرف أبدا الوقت الذي يوجد فيه أي شخص عندها.»
قال: «حقا؟» وطافت بذهنه فكرة متطرفة بعض الشيء؛ وهي أنها قد تكون على قدر من فساد الأخلاق والتحرر يجعلها تصادق فتاة منحرفة، عاهرة ريفية يتردد عليها الأشخاص دون التقيد برسميات، أو على الأقل لا تزال باقية على أواصر الصداقة بفتاة فسدت أخلاقها.
نجحت في قراءة أفكاره؛ فقد كانت لماحة في بعض الأوقات وعلى قدر من الذكاء.
فقالت: «أوه، لا، إنني لم أقصد أي شيء من هذا القبيل. أوه، إنها أسوأ فكرة يمكن أن أسمعها على الإطلاق؛ فتيسا هي آخر فتاة على وجه الأرض يمكن أن ... أوه هذا شيء مقزز. عليك أن تشعر بالخجل حيال ما فكرت به. إنها آخر فتاة ... سترى بنفسك.» اكتسى وجهها بالحمرة.
فتح الباب، وظهر رجل وامرأة في منتصف العمر تبدو عليهما علامات الإرهاق، ولكن ليس الإنهاك الشديد، كسيارتهما البالية، ودون إلقاء تحيات الوداع الطويلة المعتادة - أو أي من تحيات الوداع المسموعة على الإطلاق - سارا عبر الممر ونظرا نحو الأرجوحة ولمحا نانسي وأولي، لكنهما لم يتفوها بشيء. والغريب أن نانسي لم تقل شيئا هي الأخرى، ولم تلق عليهما أي نوع من أنواع التحية الحارة. توجه الزوجان نحو جانبي السيارة ثم استقلاها وسارا بها مبتعدين.
ثم ظهر شخص عند ظل مدخل الباب وصاحت نانسي قائلة: «أهلا، تيسا.»
كانت المرأة تشبه طفلا قوي البنيان، لها رأس ضخم يغطيه شعر مجعد داكن اللون، ولها كتفان عريضتان، وساقان قصيرتان بدينتان. كانت ساقاها عاريتين، وترتدي لباسا غريب المظهر؛ يتكون من تنورة وكنزة ذات ياقة تشبه ياقات البحارة. لقد كان غريبا بالنسبة لهذا اليوم الحار على الأقل، بالإضافة إلى حقيقة أنها لم تعد فتاة بالمدرسة. من المرجح أنها كانت ترتدي هذه الملابس منذ أيام الدراسة، ولأنها من الأشخاص المدبرين، احتفظت بها لترتديها هنا في المنزل؛ فمثل هذه الأنواع من الملابس لا تبلى، كما أنها - في رأي أولي - لا تضفي جاذبية على أجسام الفتيات؛ فهي تبدو كالحمقاء فيها، لا تختلف كثيرا عن غالبية فتيات المدرسة.
جاءت به نانسي وقدمته إلى تيسا، وقال هو لتيسا - بذلك الأسلوب الذي ينطوي على التلميحات، والذي كان مقبولا عادة لدى معظم الفتيات - بأنه سمع عنها الكثير.
قالت نانسي: «كلا، إنه لم يسمع عنك. لا تصدقي حرفا مما يقوله، إنني أحضرته معي إلى هنا لأني لم أكن أدري ماذا أفعل به في حقيقة الأمر.»
كانت عينا تيسا ناعستين، ولم تكونا شديدتي الاتساع، لكنهما كانتا بلون أزرق فاتح يعكس عمقا شديدا على نحو مدهش. وعندما رفعتهما لتنظر نحو أولي زاد تألقهما دون أن يحملا أي تعبيرات تنم عن المودة أو العداء أو حتى الفضول. كان بهما عمق وثقة جعلت من المستحيل على أولي أن يستمر في التلفظ بمجاملات سخيفة.
قالت وهي تتقدم أمامهما لتريهما الطريق: «من الأفضل أن تتفضلا بالدخول، آمل ألا تمانعا في أن أنتهي أولا من مخض اللبن، لقد كنت أقوم بذلك بالفعل عندما قدمت آخر مجموعة فتوقفت حينها، لكن إن لم أستأنف ذلك العمل الآن فقد يفسد الزبد.»
قالت نانسي: «تقومين بمخض اللبن يوم الأحد؟ يا لك من فتاة شقية! أترى يا أولي هكذا يصنع الزبد. أراهن أنك تعتقد أنه يأتي جاهزا مباشرة من البقرة ثم يتم لفه ليرسل إلى المتجر.» ثم وجهت حديثها لتيسا: «هيا، باشري عملك، وإن شعرت بالتعب يمكنك أن تدعيني أجرب هذا العمل لبرهة. إنني قدمت إلى هنا كي أدعوك إلى حفل زفافي في الواقع.»
قالت تيسا: «لقد سمعت بهذا الأمر.» «كنت سأرسل لك دعوة، لكني لم أكن أدري إن كنت ستنتبهين لها أم لا، واعتقدت أنه من الأفضل أن آتي إلى هنا وأضعك تحت التهديد حتى تؤكدي أنك ستأتين.»
توجهوا مباشرة نحو المطبخ، كانت ستائر النافذة مسدلة وتلامس حافتها، وثمة مروحة عالية فوقهم تحرك الهواء. كانت تنبعث من المكان رائحة الطبخ، ورائحة بعض النباتات التي تستخدم لقتل الحشرات الطائرة، ورائحة فحم القطران، وأقمشة تجفيف الصحون. ربما تكون كل هذه الروائح عالقة في الجدران وفي الألواح الأرضية منذ عشرات السنين، لكن هناك شخصا ما تكلف عناء طلاء الخزانات والأبواب باللون الأزرق المائل إلى الأخضر، بالطبع هي تلك الفتاة التي تلتقط أنفاسها بصعوبة وتكاد تطلق صوتا كصوت الخنزير وهي تقوم بمخض اللبن.
نثرت أوراق الصحف حول المكان الذي تعمل به الفتاة في مخض اللبن لحماية الأرضية، التي حوت بعض النقر في مسارات المرور المعتادة حول المائدة وعند الموقد. كان أولي في العادة مهذبا مع معظم فتيات المزارع، ويسألهن دوما إن كن يرغبن في أن يساعدهن في مخض اللبن، إلا أنه في هذا الموقف لم يكن واثقا من رغبته في ذلك. إن تيسا تلك لا تبدو متجهمة، بل تبدو أكبر من عمرها الحقيقي؛ فهي تتسم بالصراحة المنفرة والاستقلالية إلى حد كبير. حتى نانسي، هدأت بعد فترة ولم تعد تتحدث كثيرا في وجودها.
تكون الزبد، وقفزت نانسي لتلقي نظرة عليه، ونادته لكي يفعل ذلك هو أيضا. وتعجب من لونه الباهت؛ فهو بالكاد أصفر، لكنه لم يقل شيئا خشية أن توبخه نانسي على جهله، ثم قامت الفتاتان بوضع الكتلة اللزجة الباهتة على قطعة من القماش على الطاولة، ثم راحا يقرعانها قرعا خفيفا بملعقة التقليب الخشبية، وبعدها لفتاها في قطعة القماش بالكامل. رفعت تيسا بابا في الأرض وحملتاها ونزلتا بها درجتين يوصلان إلى قبو صغير لم ينتبه هو لوجوده لولا أن رآه. وأطلقت نانسي صرخة عالية؛ فقد كادت قدمها أن تزل. ظن أولي أن تيسا بمقدورها أن تنجز هذا العمل بصورة أفضل لو كانت بمفردها، لكنها لم تمانع أن تمنح نانسي مزية مساعدتها تماما كما يفعل المرء مع طفل لذيذ مشاكس. تركت نانسي تنظف الأرضية وترفع عنها أوراق الصحف، بينما فتحت هي زجاجات من عصير الليمون أحضرتها من القبو. أحضرت كتلة كبيرة من الثلج من مبرد صغير موضوع في أحد جوانب المطبخ، وقامت بغسلها لإزالة بعض نشارة الخشب العالقة بها، وقرعتها بالمطرقة، في حوض الغسيل، حتى تضع بعض الثلوج في أكوابهم. ومرة ثانية لم يعرض هو أي مساعدة أيضا.
قالت نانسي بعدما تجرعت رشفة من عصير الليمون: «والآن يا تيسا، فقد حان الوقت، أسدي لي صنيعا. أرجوك هيا.»
شربت تيسا كأس الليمون.
قالت نانسي: «أخبري أولي بما يحمله في جيبه، هيا، ولتبدئي بالجانب الأيمن.»
قالت تيسا دون أن ترفع بصرها نحوه: «أعتقد أنه يحمل حافظة نقوده.»
قالت نانسي: «أوه، استمري، هيا.»
قال أولي: «نعم، إنها أصابت؛ ففيه حافظة نقودي بالفعل. والآن، هل بإمكانها أن تخمن محتوياتها؟ فإنها لا تحوي الكثير.»
قالت نانسي: «لا عليك من ذلك، أخبريه يا تيسا بما يحتويه جيبه الأيمن أيضا.»
قال أولي: «ما هذا على أي حال؟»
قالت نانسي في عذوبة: «هيا يا تيسا، أنت تعرفينني. أتذكرين؟ نحن أصدقاء منذ زمن، نحن أصدقاء منذ السنة الدراسية الأولى. هيا افعلي هذا من أجلي.»
قال أولي: «أهي لعبة؟ هل هذه لعبة اخترعتماها وحدكما وتتفقان عليها؟»
ضحكت نانسي من كلامه.
قالت: «ما الأمر؟ ماذا لديك في جيبك وتشعر بالخجل حياله؟ ألديك جورب قديم كريه الرائحة مثلا؟»
قالت تيسا في هدوء: «قلم رصاص، بضع نقود، بعض العملات المعدنية، ولكني لا أستطيع أن أحدد قيمتها. أهناك قطعة من الورق مكتوب عليها؟ مطبوع عليها شيء؟»
قالت نانسي: «هيا أفرغ ما في جيبك يا أولي، أفرغ ما في جيبك.»
أردفت تيسا قائلة: «أوه، وقطعة من العلك. أعتقد قطعة من العلك هذا هو كل ما هناك.»
لم تكن العلكة ملفوفة بالورق، وإنما بقطعة من نسيج الكتان.
قال أولي: «لقد نسيت وجودها!» بالرغم من أنه لم يفعل.
وأفرغ ما في جيبه، فكان عبارة عن عقب قلم رصاص، بعض العملات المعدنية من النيكل والنحاس، قصاصة من إحدى الصحف مهترئة ومطوية.
قال وقد انتزعتها نانسي على الفور وفتحتها: «أعطانيها أحد الأشخاص.»
قرأت نانسي بصوت عال: «نحن نهتم بشراء المخطوطات النادرة على أن تكون في حالة فوق الممتازة، مخطوطات في كل من الشعر والأدب، سيتم النظر بجدية إلى ...»
انتزعها أولي من يدها. «لقد أعطاني أحدهم إياها. كانوا يريدون معرفة رأيي إن كانت شيئا مجديا أم لا.» «أوه، أولي.» «لم أكن أدري أنها ما زالت موجودة، وهكذا الأمر مع قطعة العلك.» «أولم تدهشك تيسا؟» «بالطبع أنا مندهش، لقد نسيت أنا شخصيا ما أحمله.» «أولم تصبك الدهشة من تيسا؟ مما عرفته؟»
نجح أولي في منح تيسا ابتسامة، بالرغم من أنه كان منزعجا بشدة، غير أنه لم يكن خطأها.
قال: «إن ما في جيبي يحمله الكثير من الرجال. عملات معدنية؟ بديهي. قلم رصاص ...»
قالت نانسي: «وعلك؟» «محتمل.» «وماذا عن الورقة المطبوعة؟ تيسا قالت إنها مطبوعة.»
قال: «إنها قالت قصاصة ورق. إنها لم تعرف ما المكتوب عليها.» ثم وجه كلامه إلى تيسا قائلا «لم تعرفي، أليس كذلك؟»
هزت رأسها نافية علمها، ونظرت باتجاه الباب وهي تنصت. «أعتقد أن هناك سيارة بالخارج تسير عبر الممر.»
وكانت محقة؛ لقد سمعوا جميعا صوتها الآن. ذهبت نانسي لتختلس نظرة من خلال الستائر، وخلال تلك اللحظة رمت تيسا أولي بابتسامة غير متوقعة. ولم تكن تلك الابتسامة تنم عن التواطؤ، أو الاعتذار، أو التدلل. ربما هي ابتسامة تنم عن الترحيب، لكنها خالية من أي دعوة صريحة. إنها مجرد تعبير عن الدفء؛ بعض من مشاعر اللطف تجاههما. وفي نفس الوقت حركت كتفيها العريضتين؛ حيث أرختهما في ارتياح، كما لو أن الابتسامة غمرتها وتغلل ذلك الشعور في كيانها كله.
قالت نانسي: «أوه، رائع.» كان عليها أن تسيطر على ذلك الشعور بالإثارة، وكذلك أولي كان عليه أن يسيطر على شعوره الغريب بالدهشة والانجذاب.
فتحت تيسا الباب بينما كان هناك رجل يهبط من سيارته، وانتظر بجوار البوابة حتى تسير نانسي وأولي عبر الممر. كان يبدو في الستينيات من عمره، مكتنز الكتفين، تكسو وجهه ملامح جادة، يرتدي حلة صيفية فاتحة اللون، وقبعة من ماركة كريستي الإنجليزية الشهيرة. كانت سيارته كوبيه ذات طراز حديث. أومأ إلى نانسي وأولي برأسه سريعا في احترام خلا من الفضول على نحو متعمد كما لو أنه أمسك لهما الباب الذي يخرج منه في إحدى عيادات الأطباء على سبيل المثال.
ولم يكد باب تيسا يغلق خلفه حتى ظهرت سيارة أخرى في أقصى نهاية الممر.
قالت نانسي: «إنه صف من السيارات، دائما ما يكون ما بعد ظهيرة أيام الأحد مزدحما؛ وبالأخص في الصيف على أي حال. يقطع الناس الأميال لكي يروها.» «حتى تخبرهم بما يحملونه في جيوبهم؟»
تجاهلت نانسي تلك الملحوظة دون تعليق. «إنهم يسألونها في الغالب عن أشياء فقدت منهم، أشياء ثمينة بالنسبة لهم على أي حال.» «هل تطلب أتعابا مقابل ذلك؟» «لا أعتقد هذا.» «بل يجب عليها ذلك.» «ولم؟» «أوليست فقيرة؟» «إنها لا تموت من الجوع.» «لكنها لا تصيب دائما فيما تقول.» «أعتقد أنها تصيب بالفعل، وإلا لما تردد الناس عليها باستمرار، أليس كذلك؟»
تغيرت لهجة حديثهما بينما كانا يسيران جنبا إلى جنب وسط شجيرات الورد عبر ذلك الممر الخانق المشرق بضوء الشمس. راحا يمسحان حبات العرق التي تساقطت على وجهيهما، ولم يعد لديهما أي طاقة يمكن استخدامها في النقد والجدال.
قال أولي: «لكني لم أفهم كيف تفعل ذلك؟»
قالت نانسي: «لا أعتقد أن أحدا يفهم ذلك. إنها ليست الأشياء التي يفقدها الآخرون فحسب، إنها تستطيع أن تحدد مكان الجثث أيضا.» «الجثث؟» «كان هناك رجل اعتقد الجميع أنه كان يعبر خطوط السكك الحديدية، وحدث أن هبت عليه عاصفة ثلجية علق فيها وتجمد حتى الموت، ولم يعثروا له على أثر، فطلبت منهم أن يبحثوا بجوار البحيرة عند سفح الجرف. وتأكد كلامها؛ فلم يكن موجودا عند خطوط السكك الحديدية على الإطلاق. وذات مرة فقدت بقرة فأخبرتهم أنها غرقت.»
قال أولي: «حسنا، إن كان الأمر هكذا، لم لم يقم أحد بالتحقق من الأمر؟ أعني بصورة علمية.» «إن هذا الأمر حقيقي مائة بالمائة.» «لا أعني أنني لا أثق بها، لكني أريد أن أعرف كيف تفعل هذا، ألم تحاولي مرة سؤالها؟»
فاجأته نانسي بإجابتها حين قالت: «ألن يكون هذا نوعا من الوقاحة؟»
بدا الآن أنها هي التي اكتفت بهذا القدر من المحادثة.
بيد أنه أصر على مواصلة الحديث قائلا: «إذن، هل كانت ترى بعض الأشياء الغريبة عندما كانت طفلة صغيرة بالمدرسة؟» «لا. لا أدري، إنها لم تفصح عن شيء كهذا مطلقا.» «هل كان شأنها شأن أي شخص آخر؟» «إنها لم تكن كذلك تماما، لكن من منا مثل الآخر؟ أعني أنني لا أعتقد مطلقا أنني كنت كأي شخص آخر، أو أن جيني تعتقد أنها مثل أي شخص. أما تيسا فكانت تعيش في المكان الذي تحيا فيه الآن، وكان عليها أن تقوم بحلب البقرة قبل أن تأتي إلى المدرسة في الصباح، وهو شيء لم يكن أي منا يفعله. وكنت أحاول دوما أن أكون صديقتها.»
قال أولي في هدوء: «أنا متأكد.»
استمرت في حديثها كأنها لم تسمع جملته. «ومع ذلك أعتقد أن الأمر بدأ؛ أو أنه من المؤكد أنه بدأ عندما مرضت تيسا؛ فقد أصابها المرض عندما كنا في السنة الثانية من المدرسة الثانوية؛ فكانت تنتابها بعض النوبات، فتركت المدرسة، ولم تعد إليها مطلقا، وهذا هو الوقت الذي انقطعت فيه صلتها بكل شيء.»
قال أولي: «أهي نوبات صرع؟»
ابتعدت عنه قليلا وهي تقول: «إنني لم أسمع بشيء كهذا، كم كنت سمجة.»
توقف أولي عن السير وقال: «لم؟»
توقفت نانسي هي الأخرى. «لقد اصطحبتك إلى هناك عن قصد لأريك أننا لدينا شيء مميز هنا. هي. تيسا. أعني كي أريك تيسا.» «نعم، ثم ماذا؟» «لأنك تعتقد أنه ليس لدينا شيء هنا يستحق المشاهدة؛ فأنت تظن أننا لا نستحق إلا السخرية؛ جميعنا هنا؛ لذا أردت أن أريك شيئا غريب الأطوار.» «لا أستطيع أن أصفها بأنها غريبة الأطوار.» «كان هذا مقصدي على الرغم من ذلك، ربما أستحق ضربة على رأسي.» «ليس إلى هذه الدرجة.» «علي أن أذهب إليها لأعتذر.» «لم أكن لأفعل ذلك.» «حقا لن تفعل؟» «لا.» •••
في ذلك المساء، ساعد أولي نانسي في إعداد عشاء خفيف بارد. كانت السيدة بوكس قد تركت دجاجة مطهوة وسلطة الجيلي في المبرد، وكانت نانسي قد أعدت كعكة الملائكة يوم السبت كي تقدمها لهم مع الفراولة. قاموا بترتيب كل شيء في الشرفة التي اكتست بظلال ما بعد الظهيرة. وفيما بين الوجبة الرئيسية والحلوى، قام أولي بحمل الصحون وأواني السلطة إلى المطبخ.
قال فجأة: «أتساءل إن كان أحدهم قد فكر في إحضار وجبة طعام لذيذة لها أو شيء من هذا القبيل؛ مثل الدجاج أو الفراولة.»
كانت نانسي تنتقي أفضل حبات التوت الطازجة لتغمسها في سكر الفاكهة، وقالت بعد لحظة: «آسفة. ماذا قلت؟» «أقصد تلك الفتاة؛ تيسا.»
قالت نانسي: «أوه، إن لديها الكثير من الدجاج، يمكنها أن تذبح إحداها وقتما تشاء. ولن تصيبني الدهشة إن عرفت أن لديها قطعة أرض زرعتها كلها بالتوت؛ فهم عادة ما يفعلون هذا في الريف.»
كان شعورها بالندم على اصطحابه لتيسا قد أراحها بعض الشيء، ولكن تلاشى هذا الإحساس الآن.
قال أولي: «ليست المسألة فقط أنها ليست غريبة الأطوار، بل إنها لا ترى نفسها كذلك.» «أوه، بالطبع لا.» «إنها راضية بما هي عليه. كذلك فإن عينيها لافتة للنظر.»
راحت نانسي تنادي على ويلف لتسأله إن كان يرغب في العزف على البيانو في حين تقوم هي بإعداد الحلوى وإحضارها لهم. «ما زال أمامي خفق الكريمة، وبالطبع ستستغرق وقتا طويلا للغاية في هذا الطقس.»
قال ويلف إن بمقدورهم الانتظار؛ فهو يشعر ببعض التعب.
ومع ذلك، عزف ويلف قطعة موسيقية فيما بعد عندما انتهوا من تناول الحلوى وبدأ الظلام يغلف المكان. ولم يذهب والد نانسي لحضور قداس المساء في الكنيسة - فقد كان يعتقد أنه مطلب زائد عن الحد - لكنه لا يسمح بلعب أي نوع من أنواع لعب الورق أو الشطرنج أو النرد يوم الأحد، وراح يتصفح مجلة «ساترداي إيفننج بوست» مرة ثانية ، بينما كان ويلف يعزف على البيانو. جلست نانسي على درج الشرفة، بعيدة عن مستوى نظر أبيها، وراحت تنفث دخان سيجارة وهي تأمل ألا يشمها والدها.
قالت لأولي الذي كان متكئا على حافة الشرفة: «عندما أتزوج سأدخن وقتما أحب.»
كان أولي لا يدخن بالطبع بسبب إصابة رئتيه.
ضحك قائلا: «على رسلك ... أهذا سبب كاف لتفعلي ذلك؟»
كان ويلف يعزف مقطوعة تدعى «موسيقى ليلية صغيرة» لموتسارت من دون نوتة موسيقية.
قال أولي: «إنه ماهر، له يدان ماهرتان في العزف بالرغم من أن الفتيات كن يصفنها بأنها باردة.»
ومع ذلك لم يكن يفكر في تلك اللحظة في ويلف أو نانسي أو أمر زواجهما، بل كان يفكر في تيسا؛ في شخصيتها غريبة الأطوار، وهدوئها، وكان يسأل نفسه عما تفعله الآن في تلك الأمسية الطويلة الحارة حيث تقطن عند نهاية ذلك الطريق الضيق المليء بالورد البري. هل ما زال لديها بعض الزوار والمريدين؟ هل ما زالت منشغلة بحل المشكلات التي يواجهها الناس في حياتهم؟ أم أنها ذهبت للخارج وجلست على الأرجوحة وراحت تميل بها للأمام وللخلف محدثة صريرا وهي تجلس وحيدة دون صحبة سوى القمر الذي ينير السماء؟
سيعرف في غضون فترة قصيرة أنها تمضي الأمسيات وهي تحمل دلاء المياه من المضخة لتروي بها أشجار الطماطم، وتقوم بتقليب التربة التي تحوي محاصيل البازلاء والبطاطس، وإن أراد فرصة للحديث معها فلا بد وأن يشاركها هو الآخر في هذه الأعمال أيضا.
خلال ذلك الوقت انهمكت نانسي في ترتيبات حفل الزفاف بصورة أكبر، دون أن تولي تيسا أي جزء من تفكيرها، وكذلك هو، فيما عدا أنها أشارت لمرة أو اثنتين أنها لا تجده بجوارها في الوقت الذي احتاجت فيه إليه.
التاسع والعشرين من أبريل
عزيزي أولي
كنت أتوقع أن نسمع عنك منذ أن عدنا من مدينة كيبيك، وأصابتني الدهشة عندما لم تفعل (حتى في احتفالات أعياد الميلاد!) إلا أني بعدها أعتقد أنني استطعت اكتشاف السبب؛ كنت قد شرعت في محاولة الكتابة مرات عدة، لكني اضطررت أن أرجئ الكتابة حتى أتبين مشاعري. بإمكاني القول إن المقال أو القصة أو أيا ما تطلق عليها في مجلة «ساترداي نايت بوست» كانت حسنة الصياغة، وإنك حققت نجاحا كبيرا تفتخر به بانضمامك إلى تلك المجلة، إلا أن أبي لم يعجبه وصفك للميناء بأنه ميناء صغير على البحيرة، ويود فقط أن يذكرك بأنه أفضل ميناء على هذا الجانب من بحيرة هيورون وأكثرها ازدحاما، أما بالنسبة لي فلم يرق لي وصفك للمكان بأنه «اعتيادي يفتقر للخيال والإثارة»، ولا أدري إن كان هذا المكان «اعتياديا» أكثر من أي مكان آخر، وماذا تتوقع أن يكون؟ مكانا شاعريا؟
ومع هذا، فالمشكلة الأساسية الآن هي تيسا، وما سيفعله هذا بحياتها، ولا أتخيل أن ذلك طاف بذهنك. لم أستطع التوصل إليها عبر الهاتف، وليس بمقدوري أن أجلس خلف مقود السيارة الآن على نحو مريح (لأسباب أتركها لمخيلتك) لكي أذهب إليها. على أي حال فما ترامى إلى مسامعي هو أن هناك طوفانا من الناس يذهبون إليها، حتى إنه بات من الصعب تماما على السيارات أن تصل إليها حاليا؛ حيث إن عربات الإنقاذ تنتشل سيارات الأشخاص حين تسقط في مصارف المياه (ولكنهم لا يلقون على هذا العمل أي نوع من أنواع الثناء على جهدهم، إنما درسا أخلاقيا عن أحوالنا المعيشية المتخلفة التي نحيا فيها)، والطريق في حالة من الفوضى والإهمال، ووصل إلى درجة من التهالك لا تسمح بالإصلاح، أما الزهور البرية فهي بالقطع شيء من الماضي لا وجود له الآن. وقد وصل مجلس البلدة بالفعل إلى حالة من السخط الشديد؛ لأنهم لا يدرون كم سيتكلف إصلاح كل ذلك، وكثير من الناس في حالة غضب شديدة؛ لأنهم يعتقدون أن تيسا هي من كانت وراء كل تلك الدعاية وترفل في الثراء، ولا يصدقون أنها تقوم بهذا كله دون مقابل، وإن كان هناك أحد قد جمع نقودا من وراء ذلك فهو أنت. إنني أستعير كلام أبي حينما أقول لك ذلك؛ فأنا أعلم تماما أنك لست بالشخصية المرتزقة. لقد كنت أنت من استفدت؛ إذ حققت مجدا من وراء طباعة الموضوع. سامحني إن صدمك كلامي بما فيه من سخرية؛ فلا بأس أن تكون شخصا طموحا، لكن ماذا عن مصلحة الآخرين؟
ربما كنت تتوقع خطاب تهنئة، لكن آمل أن تعذرني؛ فقد كنت أريد أن أزيح حملا ثقيلا عن صدري.
ومع هذا، هناك شيء إضافي، أريد أن أسألك بشأنه، هل كنت تفكر طوال الوقت في كتابة ذلك؟ لقد علمت أنك ترددت على منزل تيسا عدة مرات بمفردك. إنك لم تذكر ذلك لي مطلقا، ولم تطلب مني أن أرافقك إلى هناك. لم تشر مطلقا إلى أنك تود الحصول على مادة صحفية (أعتقد أن هذه هي الكلمة المناسبة للإشارة إلى الأمر)، وحسبما أتذكر فقد كتبت الموضوع برمته بطريقة فظة غلبت عليها الحدة، وليس ثمة كلمة واحدة في الموضوع بأكمله تذكر فيها كيف أنني اصطحبتك إلى هناك أو قدمتك إلى تيسا، ليس هناك أي عرفان بذلك على الإطلاق، كما لم يكن هناك كلمة شكر أو تقدير ترسلها لي على نحو خاص. وإنني أتساءل إلى أي مدى كنت أمينا مع تيسا فيما يخص نواياك؟ أو إذا ما كنت طلبت موافقتها على ممارسة - وأستشهد بكلماتك الآن - فضولك العلمي. هل شرحت لها ما ستفعله بها؟ أم أنك فقط ترددت عليها جيئة وذهابا لاستغلال أولئك الناس «الاعتياديين» لتبدأ مستقبلك المهني بوصفك «كاتبا»؟
حسنا، حظا موفقا يا أولي، ولا أتوقع أن أتلقى منك رسالة ثانية (فإننا لم نحظ بشرف اتصالك بنا ولو مرة واحدة).
زوجة ابن عمك، نانسي
عزيزتي نانسي
أود أن أقول إنك تحدثين جلبة دون داع؛ فإن عاجلا أو آجلا كان هناك من سيكتشف تيسا ويكتب عنها ليعلم الجميع، فلم لا يكون ذلك الشخص هو أنا؟ لقد تبلورت في ذهني فكرة كتابة الموضوع تدريجيا حينما ذهبت لأتحدث إليها، لقد كنت حقا أتصرف من منطلق فضولي العلمي، وهو الشيء الذي لن أعتذر عنه؛ فهو جزء من طبيعتي. يبدو أنك ترين أنه كان علي أن أطلب موافقتك على كل خططي وتحركاتي، أو أن أخطرك بها في الوقت الذي كنت فيه في حالة من الانشغال الشديد والقلق بشأن فستان زفافك وحفلاتك أو كم الهدايا والصحون الفضية التي ستتلقينها أو الأشياء الأخرى التي يعلمها الله.
أما بالنسبة لتيسا، فإنك مخطئة تماما حينما اعتقدت أنني أغفلت أمر تيسا بعد أن ظهر المقال، أو أنني لم أضع في اعتباري ما سيحدثه هذا الأمر من أثر على حياتها؛ وفي حقيقة الأمر فإنني تلقيت منها رسالة قصيرة لا تشير إلى أن الأمور على تلك الدرجة من الفوضى التي وصفتها. وعلى كل حال فلن يكون عليها أن تحتمل حياتها هناك على هذا النحو طويلا؛ فأنا على اتصال ببعض الأشخاص ممن قرءوا المقال واهتموا بمحتواه كثيرا. وهناك أبحاث تجرى على مثل تلك الأمور ذات طبيعة قانونية، بعضها هنا إلا أن غالبيتها في الولايات المتحدة. أعتقد أن هناك بعض الاعتمادات المالية المتاحة للإنفاق على مثل هذا النوع من الأشياء، كما أن هناك اهتماما شديدا بذلك الموضوع في الخارج؛ لذا فأنا أدرس بعض الفرص حول إمكانية الذهاب إلى بوسطن، أو بالتيمور أو نورث كارولينا؛ وذلك بالنسبة لتيسا لتكون من أفراد عينات البحث، وبالنسبة لي بوصفي صحفيا مختصا بالموضوعات العلمية من نفس النوعية.
أسفت على رأيك في بهذا الشكل القاسي. لم تذكري كيف تسير حياتك الزوجية ولم تشيري إلى أي شيء عنها سوى بخبر واحد مستتر (أهو حادث سعيد؟) ولم تذكري أي شيء عن ويلف، ولكني فهمت أنكما ذهبتما إلى مدينة كيبيك وأتمنى أن تكونا استمتعتما بها، وآمل أن يكون ويلف بخير وازدهار كما هو دائما.
أولي
عزيزتي تيسا
من الواضح أنك نزعتي أسلاك الهاتف، وربما كان شيئا ضروريا بالقطع في خضم تلك الشهرة التي تتمتعين بها الآن. لا أقصد أن أبدو حاقدة؛ فكثيرا ما تخرج مني بعض الأشياء هذه الأيام بطريقة لم أكن أقصدها. إنني أنتظر مولودا - لا أدري إن كنت سمعت بهذا أم لا - وهذا الأمر يجعل مني شخصية شديدة الحساسية وسريعة الغضب.
أتخيل أنك أصبحت الآن شديدة الانشغال وتمرين بأوقات يشوبها الارتباك مع كل ذلك الكم من الأشخاص الذين يأتون لزيارتك، وأعتقد أنه بات من الصعب أن تواصلي نمط حياتك الطبيعية. وإن أتيحت لك الفرصة سيكون شيئا جميلا أن أراك. فهذه دعوة مني لزيارتي إن كنت تأتين إلى المدينة (لقد علمت من المتجر أنهم يرسلون لك كل مواد البقالة التي تحتاجينها). إنك لم تري منزلي الجديد من الداخل؛ أعني بعد أن أضفنا إليه بعض التجديدات حديثا والجديد بالنسبة لي أنا أيضا، كما أنك لم تري منزلي القديم أيضا؛ فقد خطر على ذهني الآن وأنا أكتب لك أنني كنت أنا دوما من تذهب لزيارتك، وليس كثيرا أيضا كما كنت أريد؛ فالحياة دوما مليئة بالكثير من المهام والمشاغل. وما بين الحصول على الأشياء وإنفاقها نستنفذ الكثير من قوانا. لم نترك أنفسنا لننشغل إلى تلك الدرجة ويفوتنا فعل الأشياء التي كان يجب علينا إنجازها أو التي كنا نحب أن نقوم بها؟ أتذكرين كيف قمنا بقرع الزبد بالملعقة الخشبية القديمة؟ لقد استمتعت بها، كان هذا هو اليوم الذي أحضرت فيه أولي لزيارتك وآمل ألا تكوني نادمة على تلك الزيارة.
والآن يا تيسا، آمل ألا تعتقدي بأني أدس أنفي أو أتدخل فيما لا يعنيني، لكن أولي قد ذكر لي في خطاب أنه على اتصال ببعض الأشخاص الذين يجرون بعض الأبحاث أو شيئا من هذا القبيل في الولايات المتحدة، وأفترض أنه كان على اتصال بك بخصوص هذا الموضوع. لا أدري أي نوع من الأبحاث تلك التي يعنيها، لكني يجب أن أقول لك إني شعرت بأن الدم يتجمد في عروقي عندما قرأت ذلك الجزء من خطابه. لدي شعور دفين بأنه ليس بالشيء الجيد أن تغادري المكان هنا - إن كان هذا هو ما تفكرين به - وتذهبي إلى حيث لا يعرفك أحد أو يفكر بك أحد كصديقة أو شخصية طبيعية. شعرت فحسب أنه يجب علي أن أقول لك ذلك.
هناك شيء آخر أشعر أنه ينبغي لي أن أخبرك به ولا أعرف كيف. فالأمر هكذا؛ فأولي بالقطع ليس بالشخص السيئ، لكنه ذو تأثير خاص - وأنا أفكر في هذا الأمر الآن، فتأثيره ليس فقط على النساء إنما على الرجال أيضا - ولا يكمن الأمر في عدم معرفته بذلك، إنما هو لا يتحمل مسئولية ما يفعله ولا يدرك تبعاته. وبصراحة أكبر، فأنا لا أرى قدرا أسوأ من الوقوع في حبه؛ إذ يبدو أنه قد تقرب منك بطريقة ما كي يكتب عنك أو عن تلك التجارب أو أي ما يحدث؛ وسيكون ودودا ويتصرف بتلقائية، لكنك قد تخطئين فهم تصرفاته وتفسرينها على نحو أكثر مما هي عليه في الحقيقة. أرجو ألا تغضبي من كلامي هذا، وأن تأتي لزيارتي.
نانسي
عزيزتي نانسي
أرجو ألا تشعري بالقلق تجاهي؛ فأولي على اتصال بي ويخبرني بكل شيء أولا بأول. وفي الوقت الذي تصلك فيه هذه الرسالة نكون قد تزوجنا بالفعل، وربما وصلنا إلى الولايات المتحدة. وآسف بشدة لأني لم أتمكن من رؤية منزلك الجديد.
المخلصة تيسا
ثقب في الرأس
كانت التلال في وسط ولاية ميشيجان الأمريكية مغطاة بغابات البلوط، وكانت زيارة نانسي الوحيدة إلى هذا المكان في خريف 1968 بعدما اصفرت أوراق شجر البلوط، ولكنها لا تزال متشبثة بفروعها. كانت معتادة على مساحات الأراضي الواسعة التي تحوي أشجار الخشب الصلد، وليست الغابات التي تحوي العديد من أشجار القيقب الضخمة، التي صبغها الخريف باللون الأحمر والذهبي. أما الألوان الداكنة لأوراق شجر البلوط الكبيرة - بألوانها المتدرجة من الأصفر إلى البني - فلم تكن ترفع من معنوياتها كثيرا، حتى عندما ينعكس ضوء الشمس فوقها.
كان التل الذي يقع عنده المستشفى الخاص عاريا من أي أشجار، ويبعد مسافة من أي مدينة أو قرية أو حتى مزرعة مأهولة بالسكان. كانت بناية من ذلك النوع الذي يتم تحويله إلى مستشفى في أي من المدن الصغيرة بعدما كان قبل ذلك منزلا كبيرا لإحدى العائلات المهمة التي توفي جميع أفرادها أو لم يستطيعوا الاحتفاظ بالمنزل. كان بها نافذتان بارزتان إلى الخارج على جانبي الباب الأمامي، أما الطابق الثالث فكان يحوي العديد من النوافذ المستقيمة على السقف المائل. كان المبنى مصنوعا من الطوب القديم الذي بدا متسخا، ولم يكن هناك أي شجيرات حوله، أو أي سياج من الأشجار، ولا يحيط به أي بستان من بساتين التفاح، مجرد بعض الحشائش المقلمة ومرأب مفروش بالحصى.
ولم يكن ثمة مكان يمكن للمرء أن يختبئ به إن واتته فكرة الهروب من هذا المكان.
لم تكن لتخطر على ذهنها مثل تلك الفكرة - أو ليس بهذه السرعة - في الأيام التي سبقت مرض ويلف.
أوقفت سيارتها بجوار عدة سيارات أخرى، وتساءلت إن كانت هذه السيارات تخص فريق العمل بالمستشفى أم الزائرين. أي عدد من الزائرين هذا الذي يمكنه أن يأتي إلى هذا المكان المنعزل؟
كان على المرء أن يصعد عددا من درجات السلم كي يتمكن من قراءة اللافتة الموضوعة على الباب الأمامي، والتي تطلب منك الاتجاه نحو الباب الجانبي. رأت - على مسافة قصيرة جدا - بعض القضبان الحديدية على بعض النوافذ؛ بيد أن النوافذ الناتئة لم تكن تحمل تلك القضبان، ولا تغطيها الستائر؛ على عكس بعض النوافذ في الجزء العلوي والسفلي من المبنى حيث يوجد ما يمكن أن يكون قبوا فوق الأرض.
أما الباب الذي ينصح بالاتجاه إليه فيفتح على ذلك المستوى المنخفض من المبنى. دقت الجرس، ثم قرعت الباب ثم عادت فدقت الجرس ثانية. هيئ لها أنها تسمعه يدق، لكنها لم تكن واثقة؛ لأن هناك جلبة كبيرة بالداخل. أمسكت بمقبض الباب في محاولة لفتحه، وومما أثار دهشتها - بالنظر إلى أن هناك قضبانا حديدية على النوافذ - أن انفتح الباب. وجدت نفسها تقف عند عتبة المطبخ؛ مطبخ كبير مزدحم تابع لمؤسسة، ويعج بالكثير من الناس الذين يقومون بغسل الصحون وتنظيف المكان بعد الغداء.
كانت نوافذ المطبخ عارية، وكان السقف عاليا مما ساعد على تضخيم الضوضاء، وقد طليت كافة الجدران والخزانات باللون الأبيض. وجدت عددا من المصابيح المضاءة بالرغم من أن ضوء النهار كان لا يزال في أوجه.
بالطبع لاحظ من بداخل المطبخ وجودها على الفور، لكن أحدا لم يتوجه لتحيتها أو لمعرفة سبب وجودها وما تفعله في هذا المكان.
لاحظت شيئا آخر؛ فإلى جانب وطأة الجلبة والضوء، انتابها نفس الشعور الذي كان قد اعتراها في منزلها الجديد، والذي لا بد وأن أدركه أولئك الذين كانوا يأتون لزيارتها على نحو أكثر منها.
وهو ذلك الشعور بعدم الارتياح وأن ثمة شيئا غريبا بالمكان، وأنه ليس بمقدورك أن تسيطر على ذلك الشعور أو تغيره، لكن كل ما بوسعك فعله هو مقاومته فحسب بكل ما أوتيت من قوة. غير أن هناك بعض الأشخاص الذين يستسلمون على الفور لذلك الشعور؛ فهم لا يدرون كيفية مقاومته، وربما يسيطر عليهم الغضب أو الخوف ويشعرون أن عليهم أن يفروا من المكان.
اقترب منها رجل يرتدي مئزرا ويدفع أمامه عربة عليها صندوق من صناديق القمامة. ولم تدر إن كان قدم لتحيتها أم أنه يسير في وجهته، فمر أمامها، لكنه كان يبتسم، وبدا ودودا، فقدمت له نفسها وأخبرته عن الشخص الذي أتت لزيارته. أنصت إليها وأومأ برأسه عدة مرات، وازدادت ابتسامته اتساعا، وشرع يهز رأسه ثانية ويربت بأصابعه على فمه لكي يجعلها تدرك أنه لا يستطيع الكلام أو أنه غير مسموح له بذلك، كما يفعل الأشخاص في بعض الألعاب، واستمر في طريقه دافعا العربة على نحو متخبط وقد سلك منحدرا يؤدي إلى القبو بالطابق الأدنى.
إنه نزيل بالمكان وليس موظفا. لا بد وأن هذا المكان من ذلك النوع الذي يعمل فيه النزلاء إن كان بمقدورهم هذا بالطبع. وتكمن الفكرة وراء ذلك في أنه من المحتمل أن يفيدهم هذا العمل، وقد يكون ذلك صحيحا بالفعل.
أخيرا ظهر شخص بدا أنه المسئول، وكانت امرأة في نفس عمر نانسي تقريبا ترتدي حلة داكنة - فلم تكن ترتدي ذلك المئزر الأبيض الذي يرتديه معظم الأشخاص في المكان - وأخبرتها نانسي بكل شيء مجددا. أخبرتها أنها تلقت منهم خطابا، فقد قام أحد المرضى - أو أحد المقيمين كما يطلقون عليهم ويريدونك أن تطلق عليهم - بإخطارهم باسمها بوصفها الشخص الذي يمكن الاتصال به.
كانت محقة حينما اعتقدت أن الأشخاص الموجودين في المطبخ لم يكونوا من عمال المساعدة في أعمال المطبخ.
قالت رئيسة الممرضات وهي تنظر يمينا ويسارا في ابتسامة يشوبها بعض التحذير: «لكنهم يبدو عليهم أنهم يحبون العمل هنا؛ إنهم يفتخرون به.» ثم قادت نانسي نحو مكتبها الذي كان عبارة عن حجرة بعيدة عن المطبخ. وأثناء حديثهما اتضح أن عليها أن تتعامل مع كافة أنواع المقاطعات؛ فهي من يتخذ أي قرار يتعلق بالمطبخ والبت في أي شكوى عندما يدلف أحد من الباب مرتديا مئزره الأبيض ومحدقا فيهما. كذلك كان ينبغي لها أيضا أن تنظر في بعض الملفات والفواتير أو الإخطارات التي ثبتت على خطافات على الحوائط على نحو لا يبدو مهنيا أو منظما. بالإضافة إلى استقبالها لبعض الزوار مثل نانسي. «لقد قمنا بمراجعة السجلات القديمة لدينا، وأخذنا الأسماء المسجلة بها في خانة الأقارب.»
قالت نانسي: «لكني لست من الأقارب.» «أيا كانت صفتك. ثم قمنا بكتابة خطابات على النحو الذي وصلك؛ وذلك حتى نحصل على بعض الإرشادات لنتمكن من معرفة الطريقة التي يرغب الأقارب التعامل بها مع مثل هذه الحالات، وفي الواقع لم نتلق الكثير من الاستجابات. إنه للطف منك أن تقطعي كل تلك المسافة.»
سألتها نانسي عما تعنيه بعبارة «مثل هذه الحالات».
قالت لها رئيسة الممرضات إنها تعني الأشخاص الموجودين بالمكان منذ سنوات، وهم ربما لا ينتمون إليه بالأساس.
قالت: «أرجو أن تتفهمي أنني حديثة العهد بالمكان، لكني سأخبرك بما أعرفه.»
وفقا لما روته فإن المكان كان يضم الكثير من الحالات، ولكنه تحديدا للمختلين عقليا، أو لمن يعانون من الشيخوخة والخرف، أو لمن لا يرجى تطورهم الذهني على نحو طبيعي بطريقة أو بأخرى، أو لأولئك الأشخاص الذين لا تستطيع عائلاتهم التكيف معهم أو لا تود ذلك؛ فقد كان هناك دائما، ولا يزال، نطاق واسع من تلك الحالات المتنوعة، لكن المرضى الأكثر خطورة يوضعون في الجناح الشمالي تحت الحراسة.
كان هذا المكان بالأساس مستشفى خاصا يمتلكه أحد الأطباء ويقوم بإدارته. وبعد وفاته، تولت العائلة - عائلة الطبيب - مسئولية المكان، واتضح فيما بعد أنه كان لهم أسلوبهم الخاص في الإدارة. فقد تحول جزء منه إلى مستشفى خيري، وكانوا يقومون ببعض الإجراءات غير المعتادة للحصول على نوع من الإعانات لمساعدة بعض المرضى الفقراء، غير أن تلك الحالات لم تكن تستحق هذه المساعدات الخيرية على الإطلاق.
بعض تلك الحالات ما زالت أسماؤها مقيدة بالسجلات رغم أنها توفيت، والبعض الآخر ليس له حق الوجود في المكان أو الأوراق اللازمة لذلك. ويعمل العديد منهم في المستشفى في مقابل الإقامة فيها، وقد يكون هذا بالشيء الجيد من أجل معنوياتهم، لكنه في الوقت نفسه شيء مخالف للوائح والقوانين.
ويجرى في الوقت الحالي تحقيق شامل وسيتم غلق المكان؛ فقد أصبح عتيقا على أي حال. لقد كانت سعته صغيرة، ولم تكن الأمور كما هي عليه الآن. وسيتم نقل الحالات الحرجة إلى مستشفى كبير في فلينت أو لانسينج، لم يتحدد هذا الأمر بعد، ويمكن لبعض المرضى الذهاب إلى دور الإيواء، أو الدور الجماعية التي تأوي حالات الإعاقة الذهنية، كما هو التوجه الآن، وثمة مجموعة أخرى يمكنهم تدبر أحوالهم إذا ما أقاموا مع أقاربهم.
وتدخل تيسا ضمن هذه الحالات؛ فقد كانت بحاجة لبعض جلسات العلاج بالكهرباء حينما قدمت إلى هنا، لكنها تتلقى أنواعا بسيطة من العلاج منذ أمد طويل.
قالت نانسي: «معاملة بالصدمة؟»
قالت رئيسة الممرضات: «ربما معالجة بالصدمة.» قالت هذا وكأن إضافتها أحدثت فرقا جوهريا. وأردفت قائلة: «أخبرتني أنك لست قريبة لها. هل هذا يعني أنك لا تنوين اصطحابها معك؟»
قالت نانسي: «لدي زوج كان من المفترض أن يكون في مكان كهذا حسبما أعتقد، لكني أرعاه بالمنزل.»
قالت رئيسة الممرضات وهي تتنهد على نحو لا ينم عن تكذيبها لما يقال، ولكنه لا ينم عن تعاطفها كذلك: «أوه، حقا، لكن المشكلة تكمن في أنها ليست حتى مواطنة، وهي نفسها لا تعتقد أنها كذلك. إذن أظن أنك لا ترغبين في رؤيتها الآن، أليس كذلك؟»
قالت نانسي: «بالقطع أرغب في ذلك، فهذا ما قدمت لأجله.» «أوه، حسنا، إنها لا تبعد عن هنا كثيرا؛ فهي موجودة بالمخبز، إنها تقوم بالخبز في هذا المكان منذ سنوات طويلة. أعتقد أنه كان هناك خباز يقوم بتلك المهمة في يوم من الأيام، لكنه عندما ترك العمل لم يقوموا بتعيين أحد مكانه، ولم يكن هناك حاجة لذلك؛ فهناك البديل وهو تيسا.»
قالت وهي تنهض من مكانها: «والآن، ربما ترغبين في أن آتي لك بعد فترة وأقول إن هناك ما أود التحدث معك بشأنه، ومن ثم يمكنك الخروج دون أن تشعر؛ فتيسا شخصية ذكية وتفهم ما يدور حولها، وبإمكانها توقع ما سيحدث، وقد تشعر ببعض الحزن حينما تراك وأنت تغادرين بدونها؛ لذا سأساعدك على أن تغادري خلسة.» •••
لم يصب الشيب تيسا تماما، وكان شعرها المموج معقوصا إلى الخلف في شبكة تمسك بشعرها، مما كشف عن جبهتها الخالية من أي تجاعيد، والتي بدت لها مشرقة، بل أعرض وأعلى وأكثر بياضا عن ذي قبل. وقد اكتسب جسمها زيادة في الحجم أيضا، وأضحت ذات قوام عريض. كان لها نهدان كبيران مستديران مشدودان يختبئان أسفل ملابس الخباز البيضاء. وبالرغم من تلك الحمولة وتلك الوضعية التي تتخذها في هذه اللحظة - حيث كانت منحنية على المائدة وتقوم بفرد رقاقة كبيرة من العجين - إلا أن كتفيها كانتا مفرودتين في رشاقة وإجلال.
كانت تقف بمفردها في المخبز ولا يرافقها سوى فتاة طويلة نحيفة ذات ملامح جميلة، لا بل كانت سيدة، وكانت قسمات وجهها الجميل تتقلص باستمرار في حركات غريبة لاإرادية.
قالت تيسا: «أوه نانسي، إنه أنت.» كانت تتحدث بصورة طبيعية تماما بالرغم من أنها كانت تحاول التقاط أنفاسها بصعوبة وهي تتحدث في حميمية وود لاإرادي يميزان من يحملون الكثير من اللحم فوق عظامهم. «توقفي عما تفعلينه يا إلينور، لا تكوني سخيفة، اذهبي وأحضري مقعدا لصديقتي.»
قالت في ارتباك وهي ترى نانسي تود معانقتها، كما يفعل الناس الآن: «أوه، إن الدقيق يلطخ ملابسي كلها، وهناك شيء آخر، فربما عضتك إلينور؛ فهي لا تحب أن يتودد إلي أحد.»
عادت إلينور سريعا وهي تحمل مقعدا، وتعمدت نانسي أن تنظر في وجهها مباشرة وتتحدث معها بلطف. «أشكرك جزيل الشكر يا إلينور.»
قالت تيسا: «إنها لا تتحدث، لكنها مساعدتي المخلصة، ولا أستطيع أن أفعل شيئا بدونها، أليس كذلك يا إلينور؟»
قالت نانسي: «لقد دهشت عندما تعرفت علي؛ فقد تغيرت كثيرا عن الماضي وتقدمت في العمر.»
قالت تيسا: «نعم، لقد كنت أتساءل هل ستأتين حقا أم لا؟» «كان من المحتمل أن أكون توفيت، هل تذكرين جيني روس؟ لقد توفيت.» «نعم.»
كانت تيسا تصنع فطيرة مخبوزة؛ فقد قامت بقطع جزء من العجين على شكل دائرة، ثم قامت بفرده على صينية خبز معدنية، ثم رفعته وراحت تلف العجين بمهارة بيد واحدة وتقطعه بالسكين التي تمسكها بيدها الأخرى. وقامت بتكرار ذلك سريعا عدة مرات.
قالت: «هل توفي ويلف؟» «لا، ما زال حيا، لكنه أصيب بالجنون يا تيسا.»
أدركت نانسي متأخرا أنه ليس من اللباقة أن تتفوه بشيء كهذا، وحاولت أن تدخل على الحديث بعض العبارات اللطيفة، فقالت: «وولفي المسكين؛ إنه يقوم بأشياء غريبة.» حاولت منذ سنوات أن تناديه بوولفي (كاسم تدليل مشتق من كلمة وولف التي تعني ذئب بالإنجليزية) معتقدة أن الاسم يتماشى وفكه الطويل وشاربه الرفيع وعينيه اللامعتين اللتين تعكسان شيئا من الصرامة؛ بيد أن الاسم لم يرق له؛ فقد تشكك في أنه نوع من السخرية، فتوقفت عن مناداته به. أما الآن فلم يعد يعترض على ذلك، وكان مجرد تفوهها بهذا الاسم يشعرها بأنها أكثر تألقا وعطفا تجاهه، وقد كان ذلك عونا لها في ظل الظروف الراهنة. «أصبح يبغض الأبسطة على سبيل المثال.» «الأبسطة؟»
قالت نانسي وهي ترسم مستطيلا في الهواء: «إنه يسير عبر الحجرة على هذا النحو.» ثم استطردت: «ولذا، اضطررت لإزاحة الأثاث بعيدا عن الجدران؛ فهو يدور حول الحجرة بعيدا عن البساط.» وانفجرت في الضحك بصورة غير متوقعة، إلا أن ضحكتها كانت تحمل نوعا من الاعتذار.
قالت تيسا وهي تومئ برأسها، وقد اكتسى كلامها بنبرة تأكيد بحكم خبرتها وإقامتها بالمكان ومعرفتها بمن هم فيه: «الكثير من الأشخاص هنا يفعلون ذلك؛ فهم لا يرغبون في وجود حائل بينهم وبين الجدران.» «إنه يعتمد علي بشدة؛ فطوال الوقت ينادي «أين نانسي؟» إنني الوحيدة التي يضع فيها كامل ثقته هذه الأيام.»
مرة أخرى تحدثت تيسا بلهجة الخبير المحترف العالم ببواطن الأمور: «هل بات عنيفا؟» «لا، لكنه مع ذلك يتشكك في كل شيء، إنه يعتقد أن الناس تأتي وتخبئ الأشياء منه؛ فيهيأ له على سبيل المثال أن هناك من يغير عقارب الساعة، بل وقد يغير الأيام في الصحيفة أيضا، ثم يحدث أن يعود لطبيعته إذا ما ذكرت أي مشكلة طبية يعاني منها أحد الأشخاص ويقوم بتشخيصها على نحو سليم تماما. إن العقل لشيء عجيب وغريب حقا.»
وهنا أيضا افتقر كلامها إلى الكياسة مرة أخرى. «إنه مشوش، ولكنه ليس عنيفا.» «هذا شيء جيد.»
وضعت تيسا الصينية ثم راحت تضع الحشو على الفطيرة من وعاء ضخم ليس له ماركة معروفة، عليه ملصق مدون عليه «توت بري». وبدا أن الحشو كان ذا قوام خفيف ودبق.
قالت: «تفضلي يا إلينور، هذه البقايا لك.»
كانت إلينور تقف خلف مقعد نانسي مباشرة؛ وكانت نانسي تحرص على ألا تستدير وتنظر نحوها. انسلت إلينور وجلست أمام طاولة العجين دون أن ترفع بصرها نحوهما، وراحت تشكل قطع العجين التي خلفتها تيسا من تقطيعها بالسكين.
قالت تيسا: «لقد توفي ذلك الرجل، إنني أعرف هذا جيدا.» «عن أي رجل تتحدثين؟» «هذا الرجل صديقك.» «أولي، أتقصدين أن أولي توفي؟»
قالت تيسا: «ألا تعلمين ذلك؟» «لا، لا أعلم.» «ظننت أنك تعرفين. ألم يكن ويلف يعلم؟»
قالت نانسي بتلقائية مدافعة عن زوجها الذي ما زال على قيد الحياة: «تقصدين هل يعلم ويلف.»
قالت تيسا: «ظننت أنه يعرف، أليسا قريبين؟»
لم تجبها نانسي. بالطبع كان عليها أن تعرف أن أولي قد توفي طالما أن تيسا موجودة في هذا المكان.
قالت تيسا: «أعتقد إذن أنه احتفظ بالأمر لنفسه.»
قالت نانسي: «لطالما كان ويلف بارعا في المداراة. متى حدث ذلك؟ وهل كنت معه؟»
هزت تيسا رأسها لتقول لا، أو أنها لا تعرف. «حسنا، متى حدث ذلك؟ بماذا أخبروك؟» «لم يخبرني أحد بشيء، إنهم لا يخبرونني بشيء على الإطلاق.» «أوه تيسا.» «كان لدي ثقب في رأسي، ظللت هكذا لفترة طويلة.»
قالت نانسي: «أكان الأمر مثلما كنت تعرفين الأشياء؟ أتذكرين الطريقة؟» «لقد أعطوني بعضا من الغاز.»
قالت نانسي في صرامة: «من؟ ماذا تعنين بأنهم أعطوك غازا؟» «المسئولون هنا، أعطوني الإبر.» «لقد قلت إنهم أعطوك بعضا من الغاز.» «لقد أعطوني الإبر والغاز لعلاج رأسي حتى يجعلوني أنسى. هناك بعض الأشياء التي أتذكرها، لكني لا أستطيع تحديد وقت حدوثها. ظل هذا الثقب في رأسي لفترة طويلة.» «هل توفي أولي قبل أن تأتي إلى هنا أم بعدها؟ ألا تذكرين كيف توفي؟» «أوه، لقد رأيته، كانت رأسه مغطاة برداء أسود، وكان هناك حبل ملفوف حول عنقه. لقد فعل أحدهم ذلك.» أغلقت فمها وكأن شفتيها شبكت إحداهما بالاخرى للحظة قبل أن تردف قائلة: «كان لا بد أن يعدم أحدهم بالكرسي الكهربائي.» «ربما كان هذا مجرد حلم سيئ، ربما اختلطت أحلامك بما حدث في الواقع.»
رفعت تيسا ذقنها وكأنها تود أن تقرر أمرا ما وقالت: «لا ليس كذلك. لم تختلط أحلامي بالواقع.»
حدثت نانسي نفسها قائلة: إنها الصدمات الكهربائية، هل تخلف الصدمات الكهربائية ثقوبا في الذاكرة؟ لا بد وأن هناك بعض المعلومات عن ذلك في السجلات الخاصة بها. ستذهب وتتحدث إلى رئيسة الممرضات ثانية.
راحت تنظر إلى ما تفعله إلينور ببقايا العجين؛ فقد كانت تشكلهم ببراعة وتصنع منها رءوسا وأنوفا وذيولا وتلصقها ببعض لتكون فئرانا صغيرة من العجين.
وبحركات سريعة حادة راحت تيسا تشق فتحات على الجزء العلوي من الفطائر حتى يتخللها الهواء، وقد دخلت قطع العجين الصغيرة المشكلة على هيئة فئران إلى الفرن مع الفطائر أيضا.
مدت تيسا يدها كي تحضر لها إلينور منشفة صغيرة مبتلة لتمسح أي أثر للعجين الدبق أو غبار الدقيق من على المائدة.
قالت تيسا في صوت خفيض: «أحضري مقعدا.» أحضرت إلينور المقعد ووضعته عند نهاية الطاولة لتجلس عليه تيسا بالقرب من مقعد نانسي.
قالت تيسا: «ربما يمكنك أن تذهبي لتعدي لنا قدحين من الشاي، ولا تشغلي بالك، سنراقب ما صنعته جيدا، سنراقب فئرانك الصغيرة.»
قالت لنانسي: «دعينا ننس كل ما كنا نتحدث بشأنه، ألم تكوني تنتظرين طفلا في آخر مرة وصلتني منك رسالة؟ أكان ولدا أم بنتا؟»
قالت نانسي: «كان صبيا، لقد كان هذا منذ سنوات طويلة للغاية، وقد أنجبت بنتين بعده. لقد كبروا جميعهم الآن.» «إن المرء لا يشعر بمقدار الوقت الذي يمر هنا، قد تكون تلك نعمة أو قد لا تكون. لا أدري. وماذا يعمل أولادك؟» «الولد ...» «ما اسمه؟» «آلان، ودرس الطب هو أيضا.» «إنه طبيب. هذا شيء جيد.» «والفتاتان متزوجتان. وقد تزوج آلان أيضا.» «وما اسمهما؟ الفتاتان؟» «سوزان وباتريشيا، وكلتاهما درست التمريض.» «لقد اخترت أسماء لطيفة.»
أحضرت إلينور الشاي، وصبته تيسا. كانت الغلاية موضوعة على الموقد طوال الوقت.
قالت وهي تصب لنفسها في قدح به جزء مكسور: «إنه ليس بنوع فاخر من الخزف.»
قالت نانسي: «لا بأس به. هل تذكرين يا تيسا ما كنت تتمتعين به من قدرات في السابق؟ لقد كنت تستطيعين ... لقد كانت لك القدرة على معرفة الأشياء والتنبؤ بها. كنت تستطيعين تحديد أماكن الأشياء لمن كانوا يأتون إليك ليسألوك عن مكان وجود ما فقدوه.»
قالت تيسا: «أوه، لا، كنت أتظاهر بذلك فقط.» «لا يمكن أن يكون هذا صحيحا.» «أشعر بألم في رأسي حينما أتحدث عن ذلك الأمر.» «آسفة لذلك.»
ظهرت رئيسة الممرضات عند عتبة الباب.
قالت لنانسي: «لم أكن أود أن أزعجكما وأنتما تحتسيان الشاي، لكن هل تمانعين في المرور على مكتبي لدقيقة واحدة بعدما تنتهين من تناوله؟»
انتظرت تيسا بالكاد حتى تبتعد عن مرمى سمعهما.
وقالت: «وهكذا لن تضطري إلى وداعي.»
بدت وكأنها اعتادت قبول تلك المزحة المعتادة.
قالت: «إنها دوما تقوم بتلك الخدعة. والجميع يعرفها. أعلم أنك لم تأتي لتأخذيني، وكيف لك ذلك؟» «ليس ثمة مشكلة تتعلق بك يا تيسا، بل إن الأمر يتعلق برعايتي لويلف.» «هذا صحيح.» «إنه يستحق أن أفعل له شيئا. لقد حاول قدر استطاعته أن يكون بمثابة الزوج الصالح. لقد قطعت على نفسي عهدا بألا يذهب لأي مؤسسة علاجية.»
قالت تيسا : «لا. لا تدعيه يذهب لأي مؤسسة علاجية.» «يا إلهي! ما تلك الكلمات الغبية التي أتفوه بها؟»
كانت تيسا تبتسم، وقد لمحت نانسي في هذه الابتسامة نفس الشيء الذي كان يثير حيرتها منذ سنوات مضت. لم يكن نوعا من الاستعلاء، إنما هي ابتسامة تحمل نوعا من العطف والحنو غير العادي الذي لا مبرر له. «إنه كرم منك أن تأتي لزيارتي يا نانسي، وكما ترين إني أحافظ على صحتي؛ فهذا شيء جيد على الأقل. من الأفضل أن تذهبي لتمري سريعا على تلك المرأة.» «ليس لدي أي نية في أن أتسلل خفية. بل أنوي أن أودعك.»
والآن ليس ثمة وسيلة تستطيع من خلالها أن تسأل رئيسة الممرضات عما أخبرتها به تيسا، بل إنها لا تعرف إن كان من حقها أن تسأل بالأساس؛ على أي حال سيبدو الأمر وكأنها تتسلل خلسة من وراء ظهر تيسا، وقد يؤدي ذلك إلى نوع من الانتقام، ولكن ما الذي يحمل على الانتقام؟ حسنا، في مكان كهذا لا يمكن للمرء أن يعرف. «حسنا، لا تودعيني قبل أن تتذوقي واحدا من فئران إلينور. فئران إلينور العمياء. إنها تريدك أن تتذوقي أحدها. إنها تحبك الآن. ولا تقلقي، فأنا أتأكد بنفسي من أنها تحافظ على نظافة يديها جيدا.»
أكلت نانسي فأرا من المخبوزات، وأخبرت إلينور بأنها لذيذة جدا. وافقت إلينور على أن تبادلها السلام بالأيدي، وكذلك فعلت تيسا بعدها.
قالت تيسا في لهجة حادة ومنطقية: «إن لم يكن توفي، لماذا لم يأت إلى هنا ليأخذني؟ قال إنه سيفعل.»
أومأت نانسي برأسها وقالت: «سأكتب لك.» •••
وكانت تعني هذا حقا، ولكن عندما عادت إلى منزلها وجدت أن ويلف يحتاج الكثير من الرعاية، وأصبحت زيارتها إلى ميشيجان مجرد شيء مربك في ذهنها، بل وبدت وكأنها وهما؛ لذا لم تفعل.
مربع، ودائرة، ونجمة
في أحد أيام أواخر الصيف في بداية السبعينيات، كانت هناك امرأة تتجول في فانكوفر؛ وهي مدينة من المدن التي لم تزرها مطلقا من قبل، وعلى حد علمها لن تأتي لزيارتها ثانية. سارت من الفندق الذي كانت تنزل به في وسط المدينة حتى جسر شارع بورارد، وبعد فترة قصيرة وجدت نفسها في شارع فورث أفينيو. اشتهر شارع فورث أفينيو في ذلك الوقت بأنه يضم العديد من المحلات الصغيرة التي تبيع البخور، والكريستالات، والزهور الصناعية الضخمة، والملصقات الدعائية لسلفادور دالي وأغنية وايت رابيت، كذلك توجد به أيضا العديد من المتاجر التي تبيع الملابس زهيدة الثمن؛ سواء تلك الرديئة ذات الألوان البراقة أو ذات الألوان الترابية التي تشبه الأغطية في ثقلها، وجميعها مصنوعة في مناطق فقيرة بالعالم لا يسمع عنها إلا في الأساطير. وتبدو الموسيقى المنبعثة من هذه المتاجر وكأنها تهاجمك - بل تصدمك - حين تمر من جانبها، وكذلك هو الحال مع الروائح الغريبة التي تشعر بنكهتها الحلوة، وأولئك الصبية والفتيات أو الشباب والشابات المتكاسلين الذين يبيتون على أرصفة الشوارع. كانت المرأة قد سمعت وقرأت عن الثقافة الشبابية الجديدة، كما يطلقون عليها؛ فقد برزت هذه الثقافة وانتشرت منذ سنوات، ولكن يقال إنها في طريقها للتراجع والاختفاء الآن. غير أنها لم تتخيل مطلقا أن تشق طريقها وسط تجمعاتها، أو أن تجد نفسها بمفردها، كما يبدو، في وسط هؤلاء الشباب.
كانت امرأة في السابعة والستين من عمرها؛ هزيلة الجسم بدرجة اختفت معها أردافها وقل حجم صدرها، تتسم مشيتها بالسرعة وهي مرفوعة الرأس، وتجول بنظرها من ناحية إلى أخرى بأسلوب فيه نوع من التحدي والفضول.
وكل من كانت تراهم كانوا أصغر منها بثلاثين سنة على الأقل.
اقترب منها شاب وفتاة باحترام شابه بعض الحماقة. كانا يضعان حول رأسيهما أطواقا من الشرائط المجدولة، وأرادا أن يبيعاها لفافة صغيرة من الورق.
سألتهما إن كان حظها مدونا بداخلها.
قالت الفتاة: «ربما.»
قال الفتى في لهجة استنكار: «إنها تحوي الحكمة.»
قالت نانسي وهي تضع دولارا في القبعة المطرزة التي مداها نحوها: «أوه، في تلك الحالة سآخذها.»
قالت نانسي وهي تبتسم ابتسامة عريضة لم تستطع إخفاءها ولم يبادلها الاثنان تلك الابتسامة: «والآن أخبراني باسميكما.»
قالت الفتاة وهي تأخذ ورقة النقود وتدسها في جزء من ملابسها : «آدم وحواء.»
شرعت نانسي في تذكر لعبة طفولية كان بها هذه الأغنية: «آدم وحواء وقرصة موجعة ذهبوا إلى النهر مساء السبت ...»
لكن الشاب والفتاة مشيا من أمامها وقد علت وجهيهما أمارات الضجر والازدراء.
يكفي هذا. وأكملت طريقها.
هل هناك أي قانون يمنع وجودي هنا؟
رأت مقهى صغيرا متواضعا يضع لافتة على إحدى نوافذه، لم تتناول شيئا منذ طعام الإفطار الذي قدم إليها في الفندق. كانت الساعة جاوزت الرابعة. توقفت لترى ما يعلنون عنه.
قرأت عبارة «ما أجمل العشب!» وخلف تلك الكلمات المكتوبة بخط رديء رأت امرأة يبدو عليها الغضب تكاد تبكي وتكسوها التجاعيد؛ كان شعرها خفيفا يطير إلى الخلف من على جبهتها وقرب وجنتيها، ذا لون بني يميل إلى الحمرة ومظهر جاف. تذكرت كلام مصفف الشعر وهو يقول إن الأفضل دائما أن تضفي لونا أفتح من لون شعرك الطبيعي. وكان شعر نانسي بنيا داكنا، يكاد يقترب من اللون الأسود.
لا، لم يكن كذلك. إن شعرها الآن أصبح رماديا.
مرات قليلة في حياتك - أو على الأقل هي مرات قليلة إن كنت امرأة - التي تفاجأ فيها بنفسك على هذا النحو دونما أي استعدادات. كان الأمر بالنسبة لها أشبه بتلك الأحلام المخيفة التي كانت ترى فيها نفسها تسير في الشارع مرتدية رداء النوم أو ذلك الجزء العلوي من منامتها فقط دون أي مبالاة بالأمر.
خلال العشر أو الخمس عشرة سنة الماضية استطاعت أن تجد وقتا تتطلع فيه بعين فاحصة إلى وجهها في الضوء الشديد حتى تستطيع أن ترى بشكل أفضل ما يمكن أن تخفيه مستحضرات التجميل، أو إن كان الوقت قد حان لكي تبدأ في تلوين شعرها بالصبغات، لكنها قط لم تتلق صدمة كهذه عندما مرت عليها تلك اللحظة التي لم تر خلالها فقط أماكن العيوب القديمة أو الحديثة في جسدها أو حتى ذلك الانحدار الذي لا يمكن تجاهله، إنما فوجئت أمامها بشخص غريب عنها تماما.
شخص لم تعرفه من قبل، ولا ترغب في معرفته.
أبدلت تعبيرات وجهها على الفور، وظهر بعض الارتياح على قسماتها. يمكن أن نقول إنها تعرفت حينها على ذاتها. وسرعان ما فتشت بلهفة واشتياق عن الأمل بداخلها كما لو أنه لم تتبق دقيقة واحدة لتفقدها. كانت بحاجة لوضع بعض من مثبت الشعر حتى لا يتطاير شعرها هكذا حول وجهها، كما أنها تحتاج إلى أن تضع طلاء شفاه أكثر وضوحا؛ فالأحمر المرجاني، والذي يصعب الحصول على درجته الآن، سيكون أفضل من ذلك البيج الكئيب المائل للوردي رغم أنه يساير الموضة ولونه طبيعي. جعلها تصميمها للحصول على ما تريد تستدير عائدة أدراجها مرة أخرى؛ فقد رأت متجرا كبيرا لأدوات التجميل على بعد ثلاث أو أربع بنايات إلى الخلف، كذلك فإن رغبتها في ألا تمر مرة أخرى من أمام آدم وحواء دفعتها لأن تعبر الطريق.
ولولا عبورها الطريق، لما كان ذلك اللقاء بينهما.
رأت شخصا متقدما في العمر يسير على الرصيف؛ رجلا ليس بالطويل، لكنه ممشوق الجسم قوي البنية، أصلع عند مقدمة الرأس حيث لا يوجد سوى بعض الشعر الأبيض الخفيف والمتطاير في كل اتجاه مثلها تماما. كان يرتدي قميصا من قماش الدنيم مفتوحا عند الرقبة، وسروالا وسترة من طراز قديم. لم يكن به ثمة ما يجعله يشبه الشباب الصغار الموجودين في الطريق؛ فشعره ليس معقوصا على هيئة ذيل حصان، ولا يضع وشاحا أو يرتدي الجينز. لم تكن لتظنه خطأ من ذلك النوع من الرجال الذي اعتادت أن تراه يوميا على مدار الأسبوعيين الماضيين.
عرفته على الفور؛ إنه أولي، لكنها تسمرت في مكانها؛ فقد كان لديها سبب وجيه لتعتقد أن ما تراه قد لا يكون حقيقة.
إنه أولي. ما زال على قيد الحياة! أولي.
رآها وقال: «أوه، نانسي!»
لا بد وأن التعبير الذي ارتسم على وجهها (بمجرد أن تغلبت على لحظة الفزع التي ألمت بها والتي بدا أنه لم يلحظها) يشبه كثيرا ما ارتسم على وجهه هو الآخر من تعبيرات؛ ألا وهي الشك، والابتهاج، والاعتذار.
ولكن الاعتذار عن ماذا؟ هل لأنهما لم يفترقا كأصدقاء؟ أم لأنه لم يكن هناك أي تواصل بينهما خلال كل تلك السنوات الماضية؟ أم بسبب كل تلك التغيرات التي اعترتهما، والأسلوب الذي ينبغي أن يقدما به نفسيهما الآن، لا طائل من ذلك.
بالتأكيد كان لدى نانسي أسباب لشعورها بالصدمة أقوى مما كان لديه، لكنها لن تفصح عنها في تلك اللحظة على الأقل حتى يلتقطا أنفاسهما من وقع المفاجأة ويجمعا شتات نفسيهما.
قالت نانسي: «إنني هنا لليلة واحدة فقط؛ أعني أنني هنا منذ الليلة الماضية وسأمكث هنا الليلة أيضا، لقد كنت في رحلة بحرية متجهة إلى ألاسكا بصحبة بعض الأرامل كبار السن؛ فقد توفي ويلف كما تعلم، منذ عام تقريبا. أتضور جوعا، فأنا أسير منذ فترة طويلة ولا أدري كيف بلغت هذا المكان.»
أضافت بشيء من الحماقة: «لم أكن أعلم أنك تعيش هنا.» لأنها لم تكن تعتقد أنه على قيد الحياة أصلا؛ بيد أنها لم تكن واثقة من وفاته أيضا. على حد علمها لم يكن لدى ويلف أي أخبار في هذا الشأن، بالرغم من أنها لم تحصل على الكثير من المعلومات من ويلف؛ لأنه كان قد فقد صوابه، وحتى في رحلاتها القصيرة إلى ميشيجان لرؤية تيسا لم تستطع أيضا أن تحصل على أي معلومات.
قال أولي إنه لا يعيش في فانكوفر أيضا، وإنه في زيارة إلى المدينة لفترة قصيرة فقط، وهو هنا لأسباب طبية، نوع من الفحوصات الروتينية. وأخبرها أنه يعيش في جزيرة تكسادا، وقال إن مكانها أمر معقد يطول شرحه، لكن يكفي القول إنه استقل ثلاث سفن وثلاث عبارات لكي يصل من هناك إلى هذه المدينة.
قادها إلى شاحنة بيضاء قذرة ماركة فولكسفاجن تقف في أحد الشوارع الجانبية، وتوجها إلى أحد المطاعم. اعتقدت أن السيارة تنبعث منها رائحة مياه المحيط، وأعشاب البحر ورائحة السمك والمطاط. اتضح فيما بعد أنه لا يتناول إلا السمك الآن، ولا يأكل اللحم على الإطلاق. كان المطعم - الذي لا يحوي أكثر من نصف دستة من الطاولات الصغيرة - يابانيا، وكان هناك صبي ياباني يقطع السمك بسرعة مخيفة خلف النضد، وكان له ذلك الوجه الحزين الجميل مثل وجه كاهن صغير. ناداه أولي قائلا: «كيف الحال يا بيت؟» رد الشاب بلهجة أهل أمريكا الشمالية الساخرة ودون أن يغفل إيقاع كلماته: «رائع.» انتاب نانسي شعور بسيط بالانزعاج؛ فهل مكمنه أن أولي تفوه باسم الشاب في حين أن الآخر لم يذكر اسم أولي؟ أم لأنها تمنت ألا يلحظ أولي أنها انتبهت لذلك؟ هناك بعض الأشخاص - وخصوصا الرجال - يولون أهمية لصداقاتهم مع العاملين في المتاجر أو المطاعم.
لم تحتمل فكرة تناول السمك النيئ، فطلبت بعضا من النودلز. كانت أعواد الأكل التي أحضرها الشاب غير مألوفة بالنسبة لها - فلم تكن تشبه تلك الأعواد الصينية التي استخدمتها مرة أو مرتين من قبل - ولكنهم لا يقدمون غيرها في هذا المكان.
والآن وبعد أن استقر بهما المقام آن لها أن تتحدث عن تيسا، لكن قد يكون من اللياقة أن تنتظر قليلا حتى يبدأ هو في إخبارها.
لذا شرعت في التحدث عن رحلتها البحرية؛ فقالت إنها لن تذهب ثانية في مثل هذه الرحلات؛ فهي تخاف على حياتها؛ وليس هذا بسبب الطقس، بالرغم من أنه كان سيئا في بعض الأوقات حيث تساقطت الأمطار وحجب الضباب الرؤية أحيانا، بل إنهم حظوا برؤية كافية في الواقع حيث شاهدوا الكثير من المناظر الطبيعية تكفيهم ما تبقى لهم من العمر. مروا بالكثير من الجبال والجزر والصخور والمياه والأشجار. وكان كل من في الرحلة يعلق قائلا: أليس ذلك بالشيء الخلاب؟ أليس هذا مذهلا؟
مذهل، خلاب، رائع، مذهل.
رأوا الدببة والفقمات وأسود البحر، ورأوا أيضا أحد الحيتان، والتقط الجميع الصور، وكانوا يتصببون عرقا وهم يلعنون كاميراتهم الجديدة خوفا من ألا تعمل على نحو جيد. ثم غادروا المركب، واستقلوا القطار من المحطة الشهيرة حتى المدينة الشهيرة بتعدين الذهب، والتقطوا المزيد من الصور. وكان هناك بعض الممثلين الذين ارتدوا ملابس تعود لفترة تسعينيات القرن التاسع عشر، وماذا فعل معظم الناس هناك؟ اصطفوا لشراء الحلوى.
كانوا يرددون الأغاني في القطار وعلى المركب، وأسرفوا في الشراب، بل إن هناك من كانوا يبدءون يومهم منذ وقت الإفطار بلعب الأوراق والقمار، ثم الرقص كل ليلة، عشر سيدات عجائز مع رجل واحد متقدم في العمر. «وضعت النساء جميعهن الأشرطة على رءوسهن، وتزين وصففن شعورهن كالكلاب في العروض، وأصدقك القول؛ لقد كانت المنافسة شديدة.»
كان أولي يضحك عند بعض أجزاء من روايتها، بالرغم من أنها لمحته مرة وهو لا ينظر إليها، بل نحو النضد بشرود وبتعبير ينم على القلق. كان قد انتهى من تناول الحساء وربما كان يفكر فيما يليها من طعام. ربما شعر ببعض التجاهل والاستخفاف عندما لم يحضر طعامه على الفور، شأنه في ذلك شأن بعض الرجال.
لم تفلح محاولات نانسي في إحكام سيطرتها على النودلز بتلك الأعواد. «ثم رحت أتساءل، يا إلهي، ماذا أفعل هنا؟ كان الجميع يقولون لي باستمرار إن علي أن أرفه عن نفسي. لقد ظل ويلف لسنوات فاقدا لصوابه، وتغيرت شخصيته، وكنت أعتني به في المنزل. وبعد وفاته، كان الناس يقولون لي إنه علي أن أخرج وأشارك في الأنشطة؛ كأن أنضم إلى نادي الكتاب للكبار، أو رابطة التجول في الطبيعة، أو الرسم بألوان المياه، بل إنهم حتى نصحوني أن أنضم إلى رابطة الزوار المتطوعين الذين يذهبون ويتطفلون على المخلوقات الفقيرة البائسة في المستشفيات، لكني لم أشعر بأي رغبة في أن أفعل ذلك، ثم بدأ الجميع ينصحونني ويكررون أن علي أن أخرج وأستمتع بحياتي، وكذلك قال أولادي بأنني بحاجة إلى إجازة طويلة؛ لذا أخذت أفكر وأماطل في الأمر ولم أكن أعرف حقا إلى أين أذهب، ثم حدث وأن سألني أحدهم: لم لا تذهبين في رحلة بحرية؟ لذا رحت أفكر في الأمر، بإمكاني أن أذهب بالفعل في رحلة بحرية.»
قال أولي: «شيء مثير للاهتمام؛ فأنا لا أعتقد أن فقدان زوجة يمكن أن يجعلني أفكر فيما بعد بأن أذهب في رحلة بحرية.»
واصلت نانسي الحديث دون توقف، وقالت: «هذا ذكاء منك.»
انتظرت أن يذكر شيئا بشأن تيسا، لكن جاء الصبي بالسمك الذي سيتناوله وراح يأكل محاولا إقناعها بأن تتذوق منه.
لكنها لم تفعل، بل إنها توقفت عن تناول الوجبة بالكلية، وأشعلت سيجارة.
قالت إنها كانت تترقب وتنتظر لترى ما سيكتبه بعد هذا السبق الصحفي الذي أحدث كل هذا الصخب. لقد أثبت ذلك المقال أنه كاتب جيد.
بدا متحيرا لوهلة كما لو أنه لم يستطع تذكر ما تتحدث عنه، ثم هز رأسه كما لو أنه دهش من كلامها وقال بأن هذا كان منذ سنوات طويلة؛ طويلة جدا. «لكن ليس هذا ما كنت أريده حقا.»
قالت نانسي: «ماذا تعني بذلك؟ لقد تغيرت عما كنت عليه، أليس كذلك؟ فلست كما كنت سابقا.» «بالطبع لا.» «أعني أن هناك شيئا مختلفا بالأساس، لقد تغيرت من الناحية البدنية؛ فبنيتك مختلفة؛ كتفاك. أم أنني لا أتذكر جيدا؟»
قال: هو كذلك تماما. أدرك أنه يريد أن يحيا حياة بها نوع من النشاط البدني، فما حدث بالترتيب هو أن ذلك اللعين عاوده مرة أخرى (خمنت أنه يعني مرض السل)، وأدرك حينها أنه يفعل كل الأشياء الخاطئة؛ لذا قرر التغيير. كان هذا منذ سنوات. تلقى تدريبا ليصبح صانع قوارب، ثم عمل مع رجل يدير مراكب صيد متخصصة في الصيد على أعماق كبيرة. وكان يعتني بمراكب يمتلكها أحد كبار الأثرياء. كان ذلك في ولاية أوريجون بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم عاد إلى كندا، ومكث هنا فترة في فانكوفر، وبعدها اشترى قطعة أرض في سيشلت تطل على البحر، وذلك عندما كانت الأسعار لا تزال زهيدة. ثم بدأ بعد ذلك في تجارة قوارب التجديف؛ فكان يقوم ببنائها وتأجيرها وبيعها وإعطاء بعض الدروس في صناعتها. ثم مر عليه وقت شعر خلاله بأن سيشلت أصبحت مزدحمة للغاية؛ لذا تنازل عن قطعة الأرض لأحد أصدقائه بثمن بخس يكاد يكون بلا مقابل في الواقع. لقد كان هو الشخص الوحيد الذي لم يتمكن من تحقيق ثروة من قطعة أرض في سيشلت.
قال: «لكن حياتي لا تدور حول تحقيق الثروة فقط.»
كان قد سمع عن إمكانية الحصول على أرض في جزيرة تكسادا، وهو الآن لا يغادرها عادة. وهناك عمل في أشياء كثيرة ليكسب قوته؛ استمر في العمل في مجال صناعة قوارب التجديف إلى جانب بعض أنشطة الصيد، وقد استعان به البعض عاملا وبناء للمنازل ونجارا.
قال: «أستطيع تدبير أمري.»
ثم حدثها عن المنزل الذي بناه لنفسه، كان يبدو من الخارج كوخا خشبيا، لكنه كان رائعا ومريحا من الداخل، على الأقل بالنسبة له. كان به حجرة نوم علوية تحوي نافذة صغيرة مستديرة. كل شيء يحتاجه يجده أمامه في متناول يديه، كل شيء بالخارج؛ إذ لم يكن يوجد شيء في الخزانات. وعلى بعد خطوات قليلة من المنزل كان يوجد حوض للاستحمام غاطس تحت الأرض وسط حوض من الأعشاب العطرية، وكان يحمل المياه الساخنة إليه من خلال الدلو، ويجلس للاسترخاء أسفل النجوم حتى في الشتاء.
كان يزرع الخضراوات ويتشاركها مع الغزلان.
وطوال ذلك الوقت الذي كان يسرد فيه كل هذا، اعترت نانسي مشاعر حزن، ولم يكن ذلك بسبب عدم تصديقها لما يقوله - برغم التضارب الكبير - وإنما كانت بسبب حيرتها المتزايدة، ثم شعورها بالإحباط وخيبة الأمل. إنه يتحدث بنفس الأسلوب الذي يتحدث به الرجال الآخرون (فعلى سبيل المثال، كان يتحدث مثل رجل أمضت معه بعض الوقت أثناء رحلتها البحرية، حيث لم تكن شديدة التحفظ باستمرار، أو منطوية على ذاتها كما جعلت أولي يعتقد). الكثير من الرجال ليس لديهم ما يقولونه عن حياتهم سوى ما يتعلق بالمكان والزمان الذي يعيشون فيه، لكن هناك رجالا آخرين أكثر تطورا ومواكبة لما يجري، يتحدثون بمثل هذا الكلام الذي يبدو اعتياديا على نحو ينم عن الخبرة، يظهر من حديثهم أن الحياة كالطريق الوعر، لكن المصائب تمهد الطريق للنجاحات، وثمة دروس مستفادة، وبلا شك يأتي بعد الظلمة نور.
لم يكن لديها اعتراض بشأن الرجال الذين يتحدثون على هذا النحو - إذ كان يمكنها عادة أن تفكر في شيء آخر عندما يحدث ذلك - لكن عندما فعل أولي هذا وتحدث بتلك الطريقة، وهو يميل نحو المائدة الصغيرة المتهالكة ويمد يده نحو الطبق الخشبي الذي يحوي قطع السمكة المقززة، غمرها الشعور بالحزن.
إنه ليس نفس الشخص الذي عرفته، إنه حقا ليس نفس الشخص.
ولكن ماذا عنها؟ أوه، تكمن المشكلة في أنها هي ذاتها؛ نفس الشخصية لم تتغير. عندما كانت تتحدث عن الرحلة البحرية، كانت تشعر بالإثارة، وتستمتع وهي تتحدث هكذا وتنصت لنفسها، ولعبارات الوصف التي تنهال منها. ولم يكن ذلك في الواقع لأنه هو الأسلوب الذي اعتادت التحدث به إلى أولي، بل لأنه نفس الأسلوب الذي تمنت أن تتحدث به معه، بل إنها كانت في بعض الأحيان تتحدث معه هكذا في عقلها؛ وذلك بعد أن رحل ولم تعد تراه (ولكنها لم تكن تفعل ذلك بالطبع إلا بعد أن تغلبت على شعورها بالغضب نحوه فيما بعد). قد يحدث في بعض الأحيان أمر ما يجعلها تحدث نفسها بأنها تتمنى أن تخبر أولي بشأن هذا أو ذاك، وعندما كانت تتحدث للآخرين بالأسلوب الذي ترغب به، كانت تتمادى في ذلك أحيانا، وكان يمكنها حينئذ أن تخمن ما يفكرون به. لعلهم يقولون عنها ساخرة أو ناقدة أو حتى لاذعة، ولم يكن ويلف ليصفها بهذه الكلمات، ولكنه ربما كان يفكر مثلهم، لم تستطع قط أن تحدد. أما جيني فكانت تبتسم، ولكن ليس بطريقتها المعتادة. لقد أصبحت جيني في منتصف عمرها الذي لم تتزوج خلاله كتومة وديعة، ومحبة للأعمال الخيرية (لكن السر وراء ذلك التغيير انكشف قبيل وفاتها عندما اعترفت أنها اعتنقت البوذية).
لذا كانت نانسي تفتقد أولي كثيرا دون أن تعرف ما الذي تفتقده بالتحديد. افتقدت شيئا مزعجا يضطرم بداخله كالحمى الخفيفة؛ شيئا لم تستطع أن تنتصر عليه. لقد اتضح فيما بعد أن الأشياء التي كانت تثير حنقها خلال الفترة القصيرة التي عرفته خلالها هي نفسها الأشياء التي لامست ذاتها واستمرت ذكراها في ذهنها وهي تستعيد ما مضى من أحداث.
والآن يتحدث إليها بشغف؛ يبتسم وهو ينظر في عينيها. لقد ذكرها بأسلوبه البسيط الذي كان يتبعه، والذي كان يجعل منه شخصية جذابة، لكنها كانت تعتقد أنه لم يكن يستخدم هذا الأسلوب معها.
كانت تخشى أن يقول لها: «إنني أشعرك بالملل، أليس كذلك؟» أو أن يقول: «أوليست الحياة رائعة؟»
قال: «لقد كنت محظوظا للغاية، كنت محظوظا في حياتي. أوه، أعرف أن بعض الأشخاص قد لا يعتقدون أني كنت كذلك؛ فقد يقولون إنني لا أستمر في أي عمل، أو إنني لم أجمع ثروة. وقد يقول البعض إنني أهدرت ذلك الوقت الذي كنت فيه فقيرا بلا شيء، لكن ذلك ليس صحيحا.»
أردف قائلا وهو يرفع حاجبيه وعلى وجهه شبه ابتسامة عما فعله: «لقد سمعت ذلك النداء، حقا لقد سمعت ذلك النداء بأن أخرج عن إطار المألوف ... أخرج عن إطار القيام بشيء عظيم ينادي به الجميع - أخرج عن إطار الذات. لقد كنت محظوظا طوال الوقت؛ محظوظا حتى بإصابتي بمرض السل؛ فقد منعتني هذه الإصابة من الالتحاق بالجامعة حيث كنت سأملأ عقلي بهراء، كما أنها منعت تجنيدي في الجيش في حالة نشوب الحرب.»
قالت نانسي: «لم تكن لتذهب للتجنيد على أي حال إن كنت رجلا متزوجا.» (تساءلت ذات مرة بأسلوب ساخر أمام ويلف إن كان الإعفاء من التجنيد يمكن أن يكون سببا للإقدام على الزواج.)
قال ويلف حينها: «إن أسباب الآخرين لا تهمني كثيرا.» وأضاف أنه لن تكون هناك حرب على أي حال، ولم تنشب حرب بالفعل لعقد كامل بعد ذلك.
قال أولي: «حسنا، نعم، لكن ذلك ليس بالشيء القانوني تماما، لقد كنت سابقا لوقتي يا نانسي، لكني دائما ما كنت أنسى أنني لم أكن متزوجا بمعنى الكلمة. ربما لأن تيسا كانت امرأة تتسم بالجدية الشديدة والتعقيد؛ فليس ثمة نوع من المرونة أو الشعور بالراحة معها.»
قالت نانسي بأسلوب هادئ قدر المستطاع: «إذن، احك لي عنك أنت وتيسا.»
قال: «لقد كان ذلك الانهيار هو الذي عرقل كل شيء.»
استكمل حديثه موضحا ما يعنيه بذلك؛ وهو أن حالتها فقدت كل الاهتمام، وكان من تبعات ذلك توقف التمويل؛ أي تمويل الأبحاث حول هذه الحالات. حدث تغير في أساليب التفكير؛ خاصة مع عزوف المجتمع العلمي عما اعتبروه بالتأكيد نوعا من العبث. قال إن بعض التجارب استمرت لفترة، لكن على نحو غير منظم. وحتى الأشخاص الذين كانوا أكثر اهتماما، وأكثر التزاما - الأشخاص الذين كانوا على اتصال به، حتى لو لم يتصل هو بهم - فقد كانوا هم أول من ابتعد، ولم يردوا على الخطابات التي أرسلها إليهم، ولم يحاولوا التواصل معه بأي وسيلة إلى أن قاموا في النهاية بإرسال رسائل قصيرة من خلال سكرتيراتهم يخبرونه فيها بأن الاتفاق برمته ألغي. وعاملوه هو وتيسا معاملة سيئة للغاية وكأنهم كم من القاذورات؛ كأشخاص انتهازيين يسببون الإزعاج؛ وذلك بمجرد أن تحول مسار الأمور وتغيرت الدفة.
قال: «وبعد كل ما عانيناه ذهبنا إلى الأكاديميين ووضعنا أنفسنا تحت تصرفهم، ولم أجد منهم أي استفادة.»
قالت: «ظننت أن معظم تعاملاتك كانت مع الأطباء.» «الأطباء، وصانعي المستقبل المهني، والأكاديميين.»
ولكي تبعده عن ذكريات هذه الجراح الأليمة، وعن ذلك المزاج السيئ، راحت تسأله عن التجارب التي أجريت بالفعل.
قال بأنها كانت تتضمن جميعها استخدام البطاقات؛ ليست بطاقات عادية إنما بطاقات الإدراك الحسي الفائق وما تحتويه من رموز؛ منها الصليب، والدائرة، والنجمة، والخطوط المتعرجة، والمربع؛ فقد كانوا يضعون على المنضدة بطاقة واحدة لكل رمز ووجهها لأعلى بينما تخلط بقية أوراق اللعب وتقلب ليكون وجهها للأسفل. ومن المفترض أن تحدد تيسا أي رمز من الرموز التي أمامها يتطابق مع رمز أول بطاقة من البطاقات الموجودة. كان ذلك اختبار المطابقة المفتوحة، أما اختبار المطابقة المعماة فهو نفس الاختبار السابق فيما عدا أنه يتم قلب الكروت الخمسة الرئيسية. وكانت هناك عدة اختبارات أخرى ذات مستويات صعوبة متزايدة، تستخدم العملات والنرد في بعض الأحيان. وأحيانا لا يستخدم أي شيء سوى صورة ذهنية؛ مجموعة من الصور الذهنية دون أن يكون هناك أي شيء مكتوب، وإما أن يجلس الشخص الخاضع للاختبار والمسئول عن الاختبار كلاهما في نفس الغرفة، أو في غرف منفصلة، أو يبعد أحدهما عن الآخر مسافة ربع ميل.
وقد تم مقارنة معدل نجاح تيسا بالنتائج التي يتم الحصول عليها بالصدفة البحتة أو وفقا لنظرية الاحتمالات التي كان يعتقد أولي أنها تبلغ عشرين بالمائة.
لم يكن ثمة شيء في الغرفة سوى مقعد، ومائدة، ومصباح إضاءة؛ تماما مثل غرفة التحقيقات، وكانت تيسا تخرج من الغرفة منهكة تماما. وقد أزعجتها الرموز لساعات أينما نظرت، وبدأت نوبات الصداع تنتابها.
وكانت النتائج غير حاسمة، وظهرت كل أنواع الاعتراضات؛ ليس بشأن تيسا، وإنما بشأن الاختبارات وما إذا كانت معيبة أو بها نقص، فقال البعض إن الناس لديهم أفضلية في بعض الأشياء؛ إذ إنه عند إلقاء إحدى العملات على سبيل المثال فالكثيرون سيفضلون اختيار الصورة عن الكتابة، سيفعلون ذلك ببساطة؛ هذا كل ما في الأمر. وإضافة إلى ذلك ما قاله سابقا عن المناخ العام وقتها، المناخ الفكري الذي كان يضع كل تلك الأبحاث في نطاق العبث. •••
بدأ الظلام يهبط، ووضعت لافتة «مغلق» على باب المطعم. وكان أولي يجد صعوبة في قراءة الفاتورة، واتضح أن السبب الذي أتى به إلى فانكوفر - ألا وهو المشكلة الطبية - له علاقة بعينيه. ضحكت نانسي وأخذت الفاتورة منه وسددت الحساب. «بالطبع أسدد الفاتورة؛ أولست الأرملة الثرية؟»
ولأنهم لم ينتهوا من حديثهم بعد - ولم تر نانسي مكانا آخر بالجوار - فقد سارا حتى وصلا إلى مقهى دينيز لتناول القهوة.
قال أولي: «ربما كنت تريدين مكانا أفخم، هل كنت تريدين بعض الشراب؟»
قالت نانسي سريعا إنها تناولت كمية من الشراب على المركب تكفيها لفترة.
قال أولي: «لقد تناولت ما يكفيني طوال حياتي، لقد أقلعت عنه منذ خمس عشرة سنة؛ خمس عشرة سنة وتسعة أشهر تحديدا. يمكنك التعرف على من كان سكيرا في الماضي عندما يعد الأشهر.»
وخلال فترة إجراء التجارب، والتعامل مع المتخصصين في علم النفس الغيبي، كون هو وتيسا صداقات جديدة؛ فتعرفا على بعض الأشخاص ممن كانوا يكسبون عيشهم عن طريق القدرات التي يتمتعون بها، وليس عن طريق الاهتمام بالعلم المزعوم، إنما من خلال ما يطلقون عليه قراءة المستقبل، أو قراءة الأفكار، أو توارد الخواطر، أو مختلف الأنشطة التي تتعلق بالنفس. منهم من استقر به المقام في أماكن جيدة حيث يعملون من خلال أحد المنازل، أو أمام واجهات أحد المحال التجارية وبقوا هناك لسنوات. هؤلاء هم الأشخاص الذين كانوا يسدون النصائح الشخصية، ويتنبئون بالمستقبل، ويمارسون علم التنجيم، ونوعا من أنواع العلاج البديل. وهناك فئة أخرى كانوا يقدمون العروض أمام العامة، وكان هذا يعني الانضمام إلى عروض تشبه عروض تشوتوكوا الترفيهية، والتي كانت تتضمن إلقاء بعض المحاضرات، وقراءات ومشاهد من مسرحيات شكسبير، وكان منهم من يغني غناء أوبراليا، بالإضافة إلى عرض شرائح عن بعض الرحلات والأسفار (محاضرات تعليمية وليست من أجل الترفيه فقط)، كل هذا ومرورا حتى بالمهرجانات ذات الأسعار الزهيدة التي تتضمن بعض الفقرات المضحكة الخفيفة، وفقرات التنويم المغناطيسي، وفقرة لامرأة شبه عارية تلتحف بالثعابين. وبطبيعة الحال كان أولي وتيسا يعدان نفسيهما من المنتمين إلى الفئة الأولى؛ فالتثقيف وليس الترفيه هو بغيتهم في حقيقة الأمر، لكن للأسف مرة أخرى لم يكن التوقيت في صالحهم؛ فلقد انتهت تقريبا مثل تلك العروض ذات المستوى الثقافي الأعلى؛ إذ أصبح بمقدور الناس أن تستمع إلى الموسيقى وأن تحصل على قسط من التثقيف من خلال الراديو، وقد شاهد الناس كافة المحاضرات المصورة عن الرحلات في قاعة الكنيسة.
واكتشف أولي وتيسا أن السبيل الوحيد لجني بعض المال هو الانضمام لتلك العروض المتنقلة والعمل في قاعات العروض والاجتماعات في البلدة أو في عروض الخريف. تشاركوا المسرح مع من يقومون بالتنويم المغناطيسي، والنساء اللاتي يلففن الثعابين حول أجسادهن، ومع من يعرضون المونولجات الرديئة، وفتيات عروض التعري اللاتي غطين أجسادهن بالريش، ولكن حتى ذلك النوع من العروض بدأ في الانحسار والاختفاء. إلا أن نشوب الحرب عمل على إنعاشه على نحو غريب بعض الشيء؛ إذ امتد لفترة - وإن كان هذا الامتداد مفتعلا وغير طبيعي - عندما منعت عملية ترشيد الغاز الناس من الذهاب إلى الملاهي الليلية في المدينة أو ارتياد دور السينما الكبرى. ولم يكن التليفزيون قد وصل بعد لتسليتهم بعروض السحر والحركات البهلوانية وهم جالسون على مقاعدهم الوثيرة بالمنزل. ومع بداية الخمسينيات، وظهور برنامج إد سوليفان وغيره كانت نهاية العروض في الواقع.
ومع ذلك كانت هناك بعض الحشود التي لا بأس بها لفترة من الوقت ، وامتلأت القاعات عن آخرها؛ وكان أولي يستمتع بما يفعله؛ إذ كان في بعض الأحيان يلقي محاضرة بسيطة وجادة إلا أنها شائقة على سبيل الإحماء وتهيئة الجمهور وجذب انتباههم في الوقت نفسه. وسرعان ما أصبح أولي جزءا من العرض، وكان عليهم إيجاد شيء أكثر إثارة مما يفعلونه؛ بإضافة نوع من الدراما والتشويق يفوق ما تفعله تيسا بمفردها. ثم كان هناك عامل آخر ينبغي وضعه في الاعتبار؛ استطاعت تيسا مواجهة الأمر على قدر ما تحتمل أعصابها وقدراتها البدنية، لكن ثبت أنه لا يمكن الاعتماد على قدراتها أيا كانت؛ فبدأت تضطرب وتخطئ في تخميناتها؛ لذا كان عليها التركيز بصورة لم تفعلها من قبل، ولكنها أخفقت كثيرا واستمرت نوبات الصداع.
إن ما يشك به معظم الناس يكون صحيحا، وشكوكهم في محلها؛ فمثل هذه العروض مليئة بالخدع والاحتيال والتضليل، وفي بعض الأحيان تكون كلها كذلك، ويكون هذا كل ما في الأمر، لكن ما يأمل به الناس، معظم الناس، يكون صادقا وحقيقيا في بعض الأحيان؛ فهم يأملون بألا تكون تلك العروض كلها مجرد خدع. وبسبب وجود مؤدين على قدر كبير من الأمانة والصدق مثل تيسا، وهي تعرف تلك الآمال وتتفهمها جيدا - ومن عساه أن يفهمها أفضل منها؟ - استطاعوا أن يشرعوا في استخدام بعض الحيل والأشياء الروتينية التي كانت مضمونة النتائج؛ لأنه كان علينا أن نحقق نفس النتائج في كل ليلة.
وقد تكون الوسائل المستخدمة لتحقيق ذلك بسيطة للغاية، وواضحة مثل التقسيم الزائف في الصندوق الذي تدخل فيه السيدة التي يتم شقها إلى نصفين بالمنشار. فهناك ميكروفون خفي، والأكثر احتمالا أن يتم استخدام شفرة بين الشخص الذي يؤدي على المسرح وشريكه الموجود وراء المسرح على الأرض. يمكننا اعتبار هذه الشفرات فنا في ذاتها؛ إنها شفوية وسرية، وليس ثمة شيء مكتوب.
سألته نانسي إن كانت الشفرات المستخدمة بينه وبين تيسا تعد فنا في حد ذاتها؟
أشرق وجهه وقال: «لقد كان لها مدى، وبينها فروق بسيطة.»
ثم أردف قائلا: «كنا نبدو متصنعين أيضا في بعض الأحيان. كنت أرتدي عباءة سوداء ...» «أوه أولي، أحقا كنت ترتدي عباءة سوداء؟» «بالقطع. عباءة سوداء، وكنت أطلب أحد المتطوعين من الجمهور وأخلع العباءة عني ثم ألفها حوله أو حولها، وذلك بعد أن تكون عينا تيسا معصوبتين - حيث يقوم واحد من الجمهور بفعل ذلك ويتأكد من أن عينيها معصوبتان على نحو جيد - ثم أشرع أنا في مناداتها وأسألها: «من الذي أخفيه تحت العباءة؟» أو «من هو الشخص الذي أخفيه تحت العباءة؟» أو أقول المعطف بدلا من العباءة أو القماش الأسود، أو «ما الذي أخفيه؟» أو «من الذي ترين؟» أو «ما لون الشعر؟» «هل الشخص طويل أم قصير؟» وبإمكاني أن أفعل ذلك من خلال الكلمات أو عن طريق التغييرات الطفيفة في طبقة الصوت. وهناك الكثير والكثير من التفاصيل. وكانت تلك فقرتنا الافتتاحية.» «ينبغي أن تكتب عن تلك التجربة.» «لقد كنت أنوي ذلك؛ لقد كنت أريد أن أكشف عن بعض أسرار المهنة، لكني تراجعت وأخذت أفكر من ذا الذي سيهتم بهذا على أي حال؟ فالناس إما يرغبون في أن يخدعهم الآخرون، أو لا يرغبون في ذلك؛ فهم لا يبحثون وراء الأدلة والحقائق. وهنالك شيء آخر فكرت به؛ وهو كتابة رواية بوليسية؛ إذ إن الوسط الذي كنا نعيش فيه كان ملائما لذلك. وظننت أنني أستطيع تحقيق أرباح طائلة ثم نترك البلد بعد ذلك، ثم فكرت بعدها في كتابة سيناريو أحد الأفلام. هل رأيت ذلك الفيلم الذي أخرجه فيليني؟»
أجابت نانسي بأنها لم تفعل. «هراء. لا أقصد فيلم فيليني، بل الأفكار التي كانت لدي في ذلك الوقت.» «حدثني عن تيسا.» «لا بد وأنني قد كتبت لك، ألم أراسلك؟» «لا.» «أعتقد بأني كتبت لويلف.» «أعتقد أنه كان سيخبرني بذلك.» «حسنا، ربما لم أفعل، أعتقد أني كنت في أسوأ أوقات حياتي.» «في أي عام كان هذا؟»
لم يستطع أولي أن يتذكر ذلك، لكن كانت الحرب الكورية قد اندلعت، وهاري ترومان هو الرئيس وقتها. بدا في أول الأمر أن تيسا أصيبت بالأنفلونزا، لكن حالتها لم تتحسن، وأضحت أكثر وهنا، وكانت تغطي جسمها كدمات غريبة؛ أصيبت بسرطان الدم.
كانا قد اختبئا في إحدى المدن التي تقع بالقرب من الجبال في قيظ الصيف، وأملا في الذهاب إلى كاليفورنيا قبل حلول الشتاء، لكنهما لم يتمكنا حتى من حجز تذاكر رحلتهما التالية، وسافرت المجموعة التي كانا برفقتها من دونهما. وحصل أولي على عمل في إذاعة المدينة؛ إذ استطاع أن يحسن من نبرة صوته وهو يقدم العرض مع تيسا، فراح يقرأ نشرة الأخبار في المذياع، بجانب الكثير من الإعلانات، وكان يكتب بعض هذه الإعلانات أيضا حيث غاب المسئول عن ذلك لتلقي العلاج - أو شيء من هذا القبيل - في أحد المستشفيات الخاصة لعلاج إدمان الشراب.
وانتقل هو وتيسا من الفندق الذي كانا يقيمان به إلى إحدى الشقق المفروشة التي لم يكن بها - بطبيعة الحال - أي أجهزة تكييف، لكن لحسن الحظ كان بها شرفة صغيرة تتدلى أمامها إحدى الأشجار، وقد وضع أريكة بها حتى تستنشق تيسا الهواء المنعش؛ فلم يكن يريد أن يضطر لإيداعها في أي مستشفى - وهو الأمر الذي سيستلزم الكثير من الأموال بالطبع؛ إذ لم يكن لديهما أي نوع من التأمين - لكن كان في اعتقاده أيضا أنها أكثر راحة وهدوءا في ذلك المكان وهي ترى أوراق الأشجار وهي تتمايل، لكنه اضطر في نهاية الأمر أن يأخذها إلى المستشفى، وفي غضون أسبوعين كانت قد توفيت.
قالت نانسي: «هل دفنت هناك؟ ألم يجل بخاطرك أنه كان بإمكاننا أن نرسل لك بعض النقود حينها؟»
قال: «لا؛ وأعني لا لكلا السؤالين؛ أعني أنني لم أفكر في طلب المال من أي شخص؛ إذ شعرت أنها مسئوليتي. وقمت بإحراق جثتها ثم غادرت المدينة على عجل ومعي رماد جسدها، حتى وصلت إلى الساحل. لقد كان هذا آخر شيء طلبته مني في الواقع؛ كانت تريد أن تحرق جثتها وأن يتناثر رمادها عبر أمواج المحيط الهادئ.»
إذن كان هذا هو ما فعله، كما حكى، وقد تذكر ساحل ولاية أوريجون، والشريط الساحلي الذي يقع بين المحيط والطريق السريع، وتذكر أيضا الضباب وبرودة الصباح الباكر، ورائحة مياه البحر ، ومنظر تلاطم الأمواج الباعث على الشجن والحزن. قام حينها بخلع حذائه، وشمر عن رجليه وراح يخوض المياه، واقتربت طيور النورس لترى إن كان يحمل شيئا إليها، لكنه لم يكن يحمل سوى رماد تيسا.
قالت نانسي: «تيسا ...» ثم لم تستطع أن تكمل عبارتها. «أدمنت الشراب بعد هذا، وبالكاد استطعت تدبر أمري بطريقة أو بأخرى، لكني كنت أشعر أنني عديم النفع، إلى أن اضطررت إلى الإقلاع نهائيا عنه.»
لم يرفع بصره نحو نانسي وهو يتحدث. مرت لحظات ثقيلة كان يعبث خلالها بمنفضة السجائر.
قالت نانسي: «أعتقد أنك اكتشفت أن الحياة لا بد أن تستمر.»
تنهد. وكان تنهده ينم عن شيء من الارتياح واللوم. «كلماتك قاسية يا نانسي.» •••
قام بتوصيلها إلى الفندق الذي كانت تنزل به، وسمعت أصوات قعقعة عالية من التروس بالشاحنة، والتي كانت ترتج وتهتز بشدة.
لم يكن الفندق فاخرا أو غالي الثمن، ولا يوجد به أي حارس، ولم يريا حتى باقة ضخمة من الزهور يمكن التطلع إليها بالداخل، ولكن عندما قال أولي: «أراهن أنه لم تقترب من هذا المكان سيارة كسيارتي التي تبدو كالكومة القديمة»، ضحكت نانسي ووافقته الرأي. «وماذا عن عبارتك؟» «لقد فاتتني، منذ وقت طويل.» «أين ستبيت الليلة إذن؟» «عند أصدقاء لي في هورس شو باي، أو سآتي إلى هنا إن شعرت بعدم الرغبة في أن أوقظهم. لقد قضيت هنا ليالي كثيرة من قبل.»
كانت غرفتها مجهزة بفراشين، فراشين متماثلين. قد ينظر إليها أحدهم نظرة بها قدر من الاشمئزاز إن دخلت وهو معها، ولكنها بالقطع تستطيع تحمل ذلك؛ طالما أن الحقيقة تختلف تماما عما يمكن أن يظنه أي شخص.
أخذت نفسا عميقا كما لو أنها تهيئ نفسها لتقول شيئا. «لا يا نانسي.»
ظلت تنتظر كل هذا الوقت لكي يتفوه بكلمة واحدة صادقة. ظلت هكذا طيلة فترة ما بعد الظهيرة، وربما لجزء لا بأس به من حياتها؛ كانت تنتظر وها هو الآن قد قالها.
لا.
كان يمكن اعتبارها نوعا من الرفض لعرض لم تتفوه به. كان يمكن أن تشعر بالصدمة حيال ما بدا وكأنه نوع من الغرور، أو شيء لا يحتمل.
ولكن في الواقع كان ما سمعته واضحا ويتسم باللين والرقة، وبدا في تلك اللحظة وكأنه يحمل الكثير من التفهم شأنه شأن أي كلمة قيلت لها على الإطلاق. لا.
كانت تعلم خطورة أي شيء قد تقوله؛ خطورة رغبتها؛ لأنها لا تدري كنه تلك الرغبة؛ ورغبة تجاه ماذا؟ لقد أحجما عن أي شيء بينهما، أيا كان هذا الشيء منذ سنوات، وعليهما أن يفعلا ذلك بالقطع الآن؛ لأنهما كبرا في السن، لم يكبرا بشدة، ولكنهما كبرا بدرجة تمنعهما من أن يبدو مظهرهما قبيحا وسخيفا. ومن سوء الحظ أنهما أمضيا الوقت معا وهما يكذبان.
فقد كانت تكذب هي الأخرى حتى أثناء صمتها، وحتى في هذه اللحظة ستستمر في الكذب.
قالها ثانية: «لا.» ولكن في تواضع خال من أي شعور بالحرج؛ «فلن تسير الأمور على نحو جيد.»
بالقطع لن تكون كذلك، وأحد أسباب هذا هو أن أول شيء ستفعله حينما تعود إلى منزلها هو أن تبعث برسالة لذلك المكان في ميشيجان لتعرف ما الذي حدث لتيسا ولتعود بها إلى حيث تنتمي. ••• «يصبح الطريق سهلا إن كنت حصيفا بما يكفي لأن تسافر متخففا من الأحمال.»
ظلت الورقة التي باعها إياها آدم وحواء في جيب سترتها، ولم تخرجها إلا في المرة التالية التي ارتدت فيها تلك السترة بعد قرابة عام من عودتها إلى منزلها، واعترتها بعض مشاعر الحيرة والقلق إزاء تلك الكلمات المطبوعة عليها.
لم يكن الطريق سهلا؛ فالخطاب الذي أرسلته لميشيجان ارتد إليها مرة أخرى دون أن يفتح؛ فمن الواضح أنه لم يعد ذلك المستشفى موجودا، لكن نانسي اكتشفت أن بإمكانها التحقيق في الأمر، وشرعت في أن تفعل ذلك. هناك هيئات يمكن مراسلتها للاستفسار، وهناك سجلات يمكن الكشف عنها إن أمكن. لم تفقد الأمل. إنها لن تعترف بأنه أصبح من الصعب أن تصل إلى مبتغاها.
أما في حالة أولي فإنها ربما أوشكت أن تعترف بذلك. كانت قد بعثت بخطاب إلى جزيرة تكسادا، معتقدة أن العنوان كافيا؛ فلا بد وأن من يقطنون هناك أعداد قليلة ويمكن العثور على أيهم بسهولة، لكن الخطاب عاد مرة أخرى وهو يحمل كلمة واحدة فوق المظروف. «انتقل.»
لم تحتمل فكرة أن تفتحه ثانية وأن تقرأ ما كتبته. كانت واثقة أنها قالت الكثير؛ أكثر من اللازم.
ذباب على حافة النافذة
جلست في مقعد ويلف الريكلاينر القديم في الغرفة المشمسة بمنزلها. لم تكن تنوي الخلود للنوم، كان الوقت بعد الظهيرة في يوم من أيام الخريف وما زال الضوء ساطعا؛ لقد كان في الواقع يوم مسابقة كأس نهائي دوري كرة القدم الكندي، ومن المفترض أنها في حفلة يشارك الجميع في إعداد طعامها ويشاهدون المباراة على التليفزيون، لكنها اعتذرت في الدقيقة الأخيرة. لقد اعتاد الناس مثل هذه الأشياء منها الآن؛ وما زال البعض يقولون إنهم قلقون حيالها، إلا أنها عندما تظهر ثانية في المحافل فإن بعضا من عاداتها القديمة أو احتياجاتها تعيد تأكيد نفسها، وأحيانا لا تستطيع منع نفسها من العودة لحياة التجمعات فيتوقف قلقهم عليها لفترة.
يقول أولادها إنهم يأملون ألا تكون قد اعتادت على العيش في الماضي والحنين إليه.
لكن ما تعتقد أنها تفعله، أو ما تريد أن تفعله إن أتيح لها الوقت، هو ألا تعيش في الماضي بقدر ما تريد أن تفتح ذلك الماضي وتلقي نظرة فاحصة على أحداثه.
إنها لا تعتقد أنها كانت نائمة حينما وجدت نفسها تدخل غرفة أخرى؛ فالغرفة المشمسة - تلك الغرفة الوضاءة خلفها - قد انكمشت لتصبح ردهة مظلمة. وكان مفتاح الفندق معلقا في باب الغرفة، كما تعتقد أن ذلك هو مكانه المعتاد، بالرغم من أنه شيء لم تواجهه في حياتها.
كان مكانا متواضعا؛ حجرة متهالكة لمسافرين أنهكهم التعب. كان بها مصباح إضاءة يتدلى من السقف، وقضيب تتدلى منه شماعتان للملابس مصنوعتان من السلك، وستارة من قماش عليه نقوش من الزهور بألوان الأصفر والوردي يمكن جذبها لتخفي الملابس المعلقة عن النظر. ربما كانت الغاية من وراء نقوش الزهور المطبوعة على الستارة هو إضفاء مناخ من التفاؤل، وربما المرح والابتهاج، لكنها ولسبب مجهول كان لها تأثير عكسي.
ألقى أولي بنفسه فجأة فوق الفراش على نحو عنيف، حتى إن الزنبرك أطلق صوتا بائسا وكأنه يتأوه. بدا أنه وتيسا قد وصلا بالسيارة الآن، وقاد هو السيارة طوال الوقت. وقد جعله ذلك اليوم من أيام الربيع الحار والمحمل بالأتربة في حالة تعب غير عادية. وهي لا تستطيع القيادة. أحدثت قدرا كبيرا من الضوضاء وهي تفتح حقيبة الملابس، والمزيد من الضوضاء وهي تقف خلف ذلك الفاصل الخشبي داخل دورة المياه. تظاهر بالنوم عندما خرجت من دورة المياه، ولم يكن يطبق جفنيه تماما، فرآها وهي تنظر إلى مرآة منضدة الزينة المليئة بالبقع والرتوش في الأماكن التي أزيل فيها طلاء ظهر المرآة. كانت ترتدي تنورة طويلة تصل لكاحلها من قماش الساتان الأصفر، وجاكيت أسود قصيرا، مع وشاح أسود مزركش بالزهور، يصل طول أهدابه لنحو نصف متر. كانت ملابسها من تصميمها، ولم تكن مبتكرة أو ملائمة لها. كانت بشرتها مصبوغة باللون الوردي، ولكنها لم تكن مشرقة. وضعت في شعرها المشابك وبعضا من رذاذ تثبيت الشعر، وقد بدا شعرها بعد أن شدته وكأنها تعتمر خوذة سوداء. كانت تضع ظلال جفون باللون الأرجواني، وقد رفعت حاجبيها إلى أعلى وعززت من سوادهما كأجنحة الغراب. كانت تطبق جفنيها بشدة، وكأنه نوع من العقاب على عينيها الناعستين. بدت - في الحقيقة - وكأنها ترزح تحت ثقل الملابس، ومساحيق التجميل وتصفيفة الشعر.
شعرت ببعض الضجيج الذي صدر عنه دون قصد، والذي كان ينم عن شيء من نفاد الصبر أو الشكوى. اقتربت من الفراش وانحنت لتخلع عنه حذاءه.
فطلب منها ألا تشغل بالها بذلك.
قال: «علي أن أخرج ثانية بعد دقائق قليلة؛ يجب أن أذهب لأراهم.»
كان يقصد الناس الموجودين بالمسرح، أو منظمي العرض الترفيهي، أيا كانوا.
لم تتفوه بكلمة، بل وقفت أمام المرآة وهي تنظر لنفسها ولا تزال تشعر بثقل الملابس والزينة وشعرها الذي كان مستعارا، وروحها، وراحت تتجول في الحجرة كما لو أن هناك أشياء لتفعلها، لكنها لم تجد أي شيء لتفعله. •••
حتى عندما انحنت لتخلع حذاء أولي لم تنظر في وجهه. وإذا كان قد أغلق عينيه عندما استلقى على الفراش فذلك - كما كانت تعتقد - لأنه ربما يتجنب النظر إلى وجهها. لقد أصبحا زوجين محترفين؛ فهما ينامان، ويأكلان ويسافران معا، بل قد يكون إيقاع تنفسهما واحدا، لكنه لا يحدث أبدا - فيما عدا خلال ذلك الوقت الذي يحملان فيه مسئولية أداء فقرتهما أمام الجمهور - أن ينظر أحدهما في وجه الآخر خشية أن يلمحا شيئا مخيفا.
لم يكن ثمة مسافة كافية على الحائط لتستند عليها منضدة الزينة ذات المرآة المليئة بالبقع، بل كان جزء منها يبرز أمام النافذة فيحجب جزءا من الضوء الذي يتسلل منها. نظرت نحوها بشك للحظات، ثم حاولت أن تستجمع قوتها لكي تحرك جانبا منها لمسافة صغيرة إلى داخل الحجرة. التقطت أنفاسها وأزاحت الستارة الشبكية المتسخة جانبا. وعند أقصى جانب من حافة النافذة التي كانت مختفية وراء الستارة ومنضدة الزينة رأت كومة صغيرة من الذباب الميت.
يبدو أن شخصا ما أقام منذ فترة قريبة في تلك الغرفة وأمضى الوقت في قتل الذباب، ثم قام بجمعه في كومة وأخفاها في هذا المكان. لقد كان الذباب الميت مرتبا على هيئة كومة هرمية غير متماسكة جيدا.
صاحت عند رؤيتها لهذا المنظر، ولم يكن صياحها نابعا من شعورها بالاشمئزاز أو الفزع، بل من المفاجأة، بل يمكنك أن تقول من الابتهاج. «أوه، أوه، أوه.» فتلك الحشرات قد أشعرتها بالسعادة كما لو أنها تشبه المجوهرات حينما تضعها أسفل الميكروسكوب. تلك الومضات باللون الأزرق، والذهبي، والزمردي! تلك الأجنحة الشفافة اللامعة! صاحت، لكن لم تكن صيحتها بسبب رؤيتها لبريق تلك الحشرات على حافة النافذة؛ فليس لديها ميكروسكوب، وقد فقدت الحشرات بريقها بعد أن ماتت.
بل صاحت لرؤيتها في هذا المكان؛ فقد رأت كومة من أجسام رقيقة مجتمعة معا ومخبأة في تلك الزاوية وغطاها الغبار. لقد رأتها هكذا في مكانها قبل أن تضع يدها على منضدة الزينة أو تزيح الستائر. كانت تعرف أنها موجودة في ذلك المكان بالطريقة التي اعتادت بها معرفة الأشياء.
لكنها لم تعرف شيئا منذ فترة طويلة، لم تعرف شيئا، وكانت تعتمد على الخدع والخطط التي يتدربون عليها. كادت تنسى، لقد كانت تشك إن كانت هناك طرق أخرى بالأساس.
أيقظت أولي الآن، واقتحمت فترة الغفوة التي يقتنصها بصعوبة. صاح وهو يهب من مكانه: ما الأمر؟ ألدغك شيء؟
قالت: لا، ثم أشارت إلى الذباب. «كنت أعرف أنها هنا.»
تفهم أولي على الفور ما كان يعنيه هذا الأمر بالنسبة لها، وقدر الارتياح الذي لا بد وأن شعرت به، رغم أنه لم يكن ليستطيع أن يشاركها سعادتها؛ لأنه كاد هو الآخر أن ينسى بعض الأشياء؛ كاد أن ينسى أنه آمن بقدراتها في يوم من الأيام. إنه الآن لا يشعر إلا بالقلق حيالها وحيال نفسه، فيجب أن ينجح عرضهما الزائف.
قال: «متى عرفت بوجودها؟»
قالت: «عندما نظرت في المرآة، عندما نظرت إلى النافذة. لا أدري متى.»
شعرت بسعادة غامرة. لم تعتد أن تشعر بالسعادة من عدمها حيال ما يمكن أن تفعله؛ فقد كانت تعتبر الأمر مسلما به. والآن لمعت عيناها كما لو أنها أزالت الغشاوة والأوساخ عنهما، وبدا صوتها كما لو أن حلقها أنعشته المياه الحلوة العذبة.
قال: نعم، نعم. سارت نحوه وطوقت عنقه بذراعيها وألصقت رأسها على صدره بشدة؛ مما جعل الأوراق التي في جيبه تصدر بعض الخشخشة.
كانت بعض الأوراق السرية التي حصل عليها من رجل التقى به في إحدى هذه المدن؛ وهو طبيب يعرف عنه أنه يعتني بأمثالهما من الجوالين، وكان يمن عليهما في بعض الأحيان من خلال تأدية بعض الخدمات التي لا تدخل ضمن المعتاد. كان أولي قد أخبر الطبيب أنه يشعر بالقلق حيال زوجته، التي تستلقي في الفراش، وتحملق في السقف لساعات ويعلو وجهها علامات التركيز الشديد، وتظل أياما لا تتفوه خلالها بكلمة واحدة، فيما عدا ما هو ضروري أمام الجمهور فقط (كان هذا كله صحيحا بالفعل). وراح يسأل نفسه، ثم الطبيب، إن كانت قدراتها غير العادية ليس لها علاقة في نهاية الأمر بنوع من الخلل الخطير في قواها العقلية وطبيعتها. لقد كانت تنتابها بعض النوبات المرضية في الماضي، وتساءل إن كان يمكن أن تتكرر ثانية. إنها ليست شخصا ذا طبيعة سيئة، وليس لها أي عادات سيئة، لكنها ليست شخصا طبيعيا، إنها فقط شخصية متفردة، والعيش مع شخص متفرد يمكن أن يسبب نوعا من الإرهاق والتوتر بقدر لا يستطيع أن يتحمله أي إنسان. تفهم الطبيب ما قاله، وأخبره بمكان يمكن أن يأخذها إليه لكي تأخذ قسطا من الراحة.
كان يخشى أن تسأله عن مصدر تلك الخشخشة التي سمعتها عندما التصقت به بشدة. لم يكن يريد أن يقول بعض الأوراق؛ مما سيدفعها للسؤال: أي أوراق؟
لكن إن كانت قد استعادت هذه القوى - وهذا اعتقاده، إلى جانب استعادته هو لتقديره واهتمامه الشديد بها، والذي كاد أن ينساه - إن كانت قد عادت إلى سابق عهدها، أليس من المحتمل أن تعرف ما كان مدونا في تلك الأوراق دون حتى أن تكلف نفسها عناء النظر إليها وقراءتها؟
إنها بالفعل تعرف شيئا، لكنها تحاول جاهدة أن تتجاهله.
إن كانت معرفتها تعني استعادتها لما كانت تملكه ذات يوم، وهو استخدام عينيها ذات النظرات المتعمقة، والوحي الذي ينطق به لسانها على الفور، أفلن تكون أفضل بدون تلك القوى؟ وإن كان الأمر أنها هي من تخلت عن تلك القوى والقدرات، وليس العكس، ألن ترحب بذلك التغيير؟
كانت تعتقد أنه بمقدورهما أن يفعلا شيئا آخر؛ أن يعيشا حياة أخرى مختلفة.
حدث نفسه بأنه سيتخلص من تلك الأوراق بأسرع وقت ممكن، وسينسى الفكرة برمتها؛ فإنه هو الآخر قادر على التحلي بالأمل والاحترام.
نعم نعم، كانت تيسا تشعر بكم الوعيد الذي صدر عن صوت الخشخشة الخافت أسفل وجنتيها. •••
كان الشعور بالراحة المؤقتة قد خفف قليلا من حدة الأمور، وبعث نوعا من الراحة. كان شعورا جليا قويا بدرجة شعرت معها نانسي أن المستقبل المعلوم يتهاوى تحت سطوته ويتناثر بعيدا كأوراق الأشجار القديمة القذرة. •••
لكن تلك اللحظة كانت تحمل في الانتظار شعورا بعدم الاستقرار، وقد عزمت نانسي أن تتجاهله، ولكن لا طائل من ذلك؛ فإنها تدرك الآن بالفعل أن هناك من يبعدها، ويجذبها بعيدا عن هذين الشخصين ويعيدها إلى ذاتها ثانية. يبدو وكأن شخصا يتسم بالحسم والهدوء قد أخذ على عاتقه مهمة إخراجها من تلك الغرفة ذات الشماعات المصنوعة من السلك والستارة المنقوشة بالزهور؛ أيمكن أن يكون ويلف؟ شيء ما يقودها برقة وبإصرار بعيدا عما بدأ ينهار وراءها، ينهار ويتحول ببطء إلى السواد الذي يشبه السخام والرماد الناعم.
صفحة غير معروفة