وإذا أضفنا إلى ذلك كله ما توفر ليثرب من ماء وغذاء إلى حد الاكتفاء الذاتي، أدركنا ما تملكه يثرب من ممكنات الصمود الحربي، وهي كلها اعتبارات لا شك كانت معلومة لصاحب الدعوة. أما قيمتها الكبرى فكانت تتمثل في وقوعها على عصب طريق الإيلاف الشامي.
المستوى الفكري
أما على المستوى الفكري، فكان واضحا أن يثرب في اختلاف كبير عن مكة، حيث أدت عوامل عدة إلى تكون الفكر اليثربي بألوان جد مخالفة للفكر المكي؛ فبينما كان الفكر المكي قد تجاوز مجموعة العقائد القديمة على مستوى جدية الاعتقاد وصدق الإيمان، وتحولت العقائد عنده إلى أداة يمكن تخديمها لصالح المكاسب التجارية، وتحولت قصص السالفين من أبطال وأنبياء، إلى أساطير الأولين، فإن وجود اليهود في يثرب، مع كتابهم المقدس، وحكاياتهم عن قدامى أنبيائهم، وسلوكهم وفق شرائع محددة وضعها أولئك الأنبياء، وضع التاريخ الديني، والنبوي منه تحديدا، موضع احترام بين عرب يثرب، ناهيك عن النبوءة التوراتية المتواترة، عن مجيء نبي آخر الزمان، ليقيم لليهود دولتهم الغابرة، التي سقطت وانتهى أمر يهودها بالشتات من فلسطين عام 70م على يد الرومان، وهو ما وجد فيه اليثاربة العرب عند ظهور الدعوة الإسلامية إنباء بالنبي
صلى الله عليه وسلم
كان مخبوءا في رحم التوراة القديم، لكن مع تحليل جديد، في ضوء المعنى الأممي الذي خرج بالنبوة عن دائرة بني إسرائيل الضيقة، وعن العنصرية اليهودية المتزمتة، إلى آفاق رحبة، تستوعب فكرة عدم عنصرة النبوة وتجنيسها، وخروجها عن اليهود إلى الأمم، فكان الرسول أميا، من الأمم، غير يهودي، عربي، زعيما للعرب، ومؤسسا لديانة عالمية، وليس حكرا على بني إسرائيل، ودولتها الغابرة، أو المقبلة في حلمها التوراتي.
ثم كان التوحيد التوراتي، مدعاة لاختلال عرب يثرب بالوثنية، مما هيأهم لقبول فكرة التوحيد، والإقبال عليها عندما جاءت عربية، يدعو إليها نبي عربي، يفاخرون به اليهود الذين طالما تفاخروا عليهم بتاريخهم النبوي، وكتابهم المقدس. هذا فضلا عن تواضع النضوج الاقتصادي والاجتماعي في يثرب، مقارنا بما حدث في مكة. فبينما أصبحت الأفكار الدينية في مكة وسيلة لمزيد من الارتزاق، فإن العكس كان عند عرب يثرب، حيث كانت الحرمات التي فرضها السلوك اليهودي، تمهيدا طيبا لقبول عقيدة إيمانية توحيدية؛ ليس فقط لتحقيق أهداف بعينها، بل بنفوس تأثرت بالتراث الديني التوراتي حولها، مما جعلها أكثر قبولا لتصديق الدعوة وتقديس الإيمان. هذا إضافة إلى الثراء الفكري، الذي صاحب ذلك المناخ، وسببته متاخمة يثرب للمناطق الحضارية العريقة في الشمال، على حدود الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية.
الهجرة
وإعمالا لكل تلك الظروف، يمكننا أن نقرأ ببعض الوعي، لقاء العقبة الأول والثاني بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وبين نقباء يثرب، لنرى فيه وثيقة ميلاد الدولة وهي تدون في التاريخ، باتفاق بين أخوال النبي اليثاربة، وبين النبي الأمين، والتي ظهرت في البدء كما لو كانت مجرد اتفاق دفاعي عن شخص النبي، حيث كان النبي في مكة ممتنعا ببيته الهاشمي ممن عاداه وخالفه، وكان معنى الاتفاق على الهجرة إلى الأخوال، هو الانتقال إلى حمى جديد، يرفع الضغط عن الأعمام، في شكل يظهر كلون من الحماية. وكان للأحداث دلالتها الصادقة، التي تنطق بمدلولاتها في ذهاب «العباس بن عبد المطلب» عم النبي، وهو بعد على دين قومه، مع ابن أخيه، للقاء اليثاربة سرا في العقبة الثانية، وهو لم يذهب - فيما يقول «الطبري» - «إلا لأنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له.»
لكن الواضح بما لا يقبل جدلا، أن فكرة الحرب والنية عليها، كانت قائمة ومبيتة في ذلك التحالف، وقد وعاها الأنصار جيدا.
صفحة غير معروفة