نسق العلم بمجمل فروعه: الفلك ثم الفيزياء، ثم الكيمياء ثم البيولوجيا ثم العلوم الإنسانية ... تشكل صورة عقلية أو تمثيلا مجردا لهذا الوجود، لو نظرنا بعيون العلم، لو نظرنا إلى الوجود (الأنطولوجي) من خلال هذا النسق المعرفي (الإبستمولوجي)، هل سنجد الحرية الإنسانية مثبتة أم منفية؟
وطبعا العلم الحديث إنجاز حضاري لا يتجاوز عمره بضعة قرون، والإنسان موجود قبله بزمان سحيق، ثم أبدعه في مرحلة متقدمة، فلو كانت حرية الإنسان الأنطولوجية كائنة ... فالإنسان حر قبل العالم وبعده، ولو لم يكن هكذا، فإن العلم بداهة لم يخلق الوجود ولا هو خلق الإنسان، وبالتالي، لن يستطيع أن يفعل شيئا مهما أثبت أو أنكر، على هذا يبدو جليا أن المشكلة الفلسفية المطروحة في هذا الكتاب ليست ما إذا كانت الحرية الأنطولوجية كائنة أصلا أم لا، بل السؤال الذي سنجيب عنه محدد جدا: هل حرية الإنسان الأنطولوجية كائنة في عالم العلوم أم غبر كائنة؟ هل العلم بالذات يقرها أم ينفيها؟ وسوف نرى مدى الخطورة والأهمية الفلسفية؛ لأن تتعارض أو تتوافق الحرية الإنسانية مع العلم بالذات.
وهذا بأن نتجاوز العوامل المعاصرة التي أملت المنظور العالمي دون سواه، وندلف إلى العوامل الآتية من ميراث مشكلة الحرية ... من ماهيتها وطبيعتها، والمواقع التي استثارتها في تاريخ الفلسفة، وهي عوامل أقوى وأسطع تؤدي مباشرة إلى المطلوب، إذ تلقي بنا توا في قلب المشكلة، فتاريخها الحقيقي، بوصفها مشكلة فلسفية فعلا، بل والمشكلة الفلسفية الأولى التي تمثل معضلا عسيرا يقض مضاجع الفلاسفة أجمعين، ويوجه خطا فلسفاتهم ويحدد معالمها ... هذا التاريخ بداية حاسمة للعلم الحديث في القرن السادس عشر.
ذلك أنها - أي مشكلة الحرية الإنسانية في صورتها الأنطولوجية التي اتفقنا على أنها موضوعنا - تتأتى من، وفقط من مبدأ الحتمية
Determinism
الذي ينفيها.
فمنطوق المشكلة كالآتي: إما أن الإنسان حر يمكن أن يمارس اختيارا بين بدائل متاحة أمامه، وإما أن هذا الوجود خاضع لحتمية حددت مساره أزلا وأبدا، فحتمت كل حدث من أحداثه بحيث لا بد وأن يحدث، ويستحيل أن يحدث سواه، فلا بدائل وبالتالي لا اختيار أمام الإنسان الذي يحيا في هذا الوجود.
ولولا افتراض الحتمية هذه لما كان لمشكلة الحرية الأنطولوجية أن تقوم، فضلا عن أن تكون الفلسفة الأولى، ولكنها كانت هكذا لأن مبدأ لم يلعب في تاريخ الفكر البشري دورا يماثل أو حتى يداني الدور الذي لعبه مبدأ الحتمية في تاريخ العلم الحديث (من القرن 16 إلى نهايات القرن 19). •••
بل ولم تكن الحتمية مجرد مبدأ من مبادئ العلم وحسب، إنها سيطرت على النسق العلمي، وعلى عمل العلماء، وتغلغلت في صميم نسيج العلم، بحيث أصبحت اللحمة، وسداها سائر النظريات والفروض ومجمل النشاط العلمي.
فقد أضحت الحتمية ركيزة يرتكز عليها العلم، وفي الوقت نفسه هدفا منشودا يسعى للوصول إليه، وبين هذا وذاك تجدها أيضا المحك المعتمد طوال الطريق العلمي.
صفحة غير معروفة