16
لقد وجدوا أنه من الضروري تقبل المذهب الحتمي في شكله التقليدي، فأفعالنا تحددها إرادتنا، وإرادتنا تحددها دوافعنا، ودوافعنا محكومة بماضينا، سيفكر عالم النفس في هذا الماضي على ضوء الوراثة والبيئة وعالم الفسيولوجيا في ضوء الأنشطة الكهربائية الكيميائية ... ولكنهم جميعا سيتفقون على أن القوة النسبية للدوافع تحددها أحداث الماضي بحيث لا يختار الإنسان لنفسه أبدا فماضيه هو الذي يختار دائما،
17
أولم تعلمنا الحتمية العلمية أن المستقبل مجرد وليد للماضي؟
ظل هذا هو موقف العلماء، وتمسك به حتى بعض من علماء الفيزياء والمعاصرين ومن الذين أهدوا العقل البشري الاهتداء إلى اللاحتمية، وعجزوا هم عن التخلص من الحتمية، مثلا، ... كتب ماكس بلانك في كتابه «إلى أين يتجه العلم» ما يزكي هذا المعضل مؤكدا وجوب التمسك بأن مبدأ العلية يمتد حتى يشمل أسمى إنجازات النفس البشرية، فيجب أن نقر بأن عقل كل من عباقرتنا العظام أرسطو وكانط وليوناردو وجوتة وبيتهوفن ودانتي وشكسبير حتى في أسمى لحظات السمو الفكري وأعمق مراحل التعمق النفسي يكون خاضعا لأوامر العلية ويكون أداة بين يدي قانون جبار يحكم العالم،
18
وإلى مثل هذا يجنح آينشتين هو الآخر.
على أن علماء العلوم الإنسانية كانوا أكثر من غيرهم حماسا لنفي الحرية، لوثيق اتصالها بموضوعهم، وكان الاجتماعيون الفرنسيون، مقتدين بإمامهم أوجست كونت، في منتهى الاتساق والعزم والجزم في هذا، فرغبتهم في جعل علمهم المتعثر كفيزياء نيوتن جعلتهم من غلاة الحتميين، رأى أوجست كونت أن الفلسفة الميتافيزيقية واللاهوتية تنطلق من الإنسان فنتج عن ذلك اعتمادها على فكرة الإرادة كصفة للظواهر، أما سيادة الروح الوضيعة فقد أدت إلى بروز فكرة القانون والتي تمثل تقدم الروح الوضعية في مدى تدرجها في الظواهر حتى بلوغها الإنسان ذاته والمجتمع بوصفهما آخر مجالين يبلغهما تطور سيادة هذه الفكرة،
19
أي فكرة القانون الوضعي الذي يحل محل الحرية.
صفحة غير معروفة