فالحرية أساسا - كما يقول إريك فروم - فرصة متاحة للفعل أكثر من أن تكون هي الفعل نفسه.
30
والخلاصة أن الحرية هي انعدام القسر وتوافر البدائل لتختار الإرادة بينها، وهذا التعريف الجامع المانع للحرية صحيح ونحن نقبله، بل ونعتمده كأساس الحديث المقبل عن الحرية، بيد أنه ينطبق على كل وجوه الحرية المذكورة آنفا وعلى سواها ولا يستبعد شيئا منها، ويوضح أكثر من كل سبق أن الحرية مقولة فضفاضة، وما زال السؤال ملحا: كيف يمكن تحديد مشكلة الحرية التي تشغلنا في هذا الكتاب؟ ••• (4) «الإجابة»: مطروحة ضمنا فيما سبق وصراحة في مقدمة الكتاب، فقد تبينا فصلا تاما بين مستويين لمقولة الحرية الإنسانية، بالانتباه إليه لا تعود مشكلة الحرية أكثر تشتتا ولا أقل تحددا من أية مشكلة أخرى.
ذلك أنه لا بد من الفصل بين حرية الإنسان بوصفه كائنا في هذا الكون أو الوجود ذي البنية أو الطبيعة المعينة منذ بدايته وحتى نهايته، «الحرية في المستوى الأول» وبين حرية الإنسان بوصفه كائنا في جماعة أو مجتمع ما يخضع لتحويلات ومتغيرات لا حصر لها عبر تاريخه «الحرية في المستوى الثاني».
الحرية من المستوى الأول حرية الإنسان بوصفه موجودا في هذا الوجود يمكن أن نسميها: الحرية الأنطولوجية؛ لأنها تعتمد على طبيعة هذا الوجود وطبيعة أحداثه التي تشكل أفعال الإنسان بعضا منها، فهل سياقها يستلزم أو على الأقل يسمح للإنسان بأن يمارس اختيارا؟ وبالتالي يتضمن وضع الإنسان في هذا الوجود حرية حين يكون ثمة بديل للحدث بمعنى أنه يمكن ألا يحدث أو أن يحدث سواه، أو أن يحدث على نحو آخر، أم أن كل الأحداث وبالتالي كل أفعال الإنسان مقدرة سلفا في طريق واحد لا سواه وكل مفاهيم الحرية والإرادة والاختيار أوهام وأباطيل لا مكان لها في الكون الذي نحيا فيه.
مشكلة الحرية بهذا المنظور إما أن تكون ميثولوجية، كأن تتدخل قوى أسطورية كالمويرا لتنفي حرية الإنسان وتلزمه بمصير محتوم مهما فعل وبتصرفات معينة لا محيص له عنها، وإما أن تكون ثيولوجية دينية حين يتعارض العلم المسبق لله، وقدراته تعالى أو مشيئته الشاملة مع إمكانية الاختيار أمام العبد، وإما أن تكون ميتافيزيقية حين تضطلع الفلسفة برسم صورة لوجود حتمي، تنتفي فيه أية حرية إنسانية، كتلك التي رسمها الرواقيون وسبينوزا، ثم أصبحت علمية حين تكفل العلم الحديث برسم هذه الصورة الحتمية للعالم، إنها نفس أطوار «كونت» التي مرت بها الحتمية: ثيولوجية ثم ميتافيزيقية ثم علمية، ذلك أن مشكلة هذه الحرية - أي الحرية في مستواها الأول - لا تأتي إلا من الحتمية التي تنفيها.
وكما يقول برلين كل صور الحتمية ترتد في النهاية إلى نموذج أو خطة أو مثال أو أفكار، كائنة في العقل الإلهي أو في العقل الكوني، كأهداف أو ككليات تحقق نفسها كعقليات ميتافيزيقية أو كتبريرات ثيولوجية آتية من عالم آخر، إن الحتمية تشبع الرغبة في المعرفة، ليس فقط معرفة كيف أو لماذا يوجد هذا العالم ولكن أيضا، معرفة لماذا استحق أن يوجد ولماذا وجد هذا العالم على وجه الخصوص دون غيره، ولماذا لم يوجد أي عالم غيره على وجه الإطلاق، وكان الحل مطروحا في حدود قيم، إما مطمورة في الوقائع ذاتها وإما هي محتمة من علو أو عمق متعال، كلها نظريات هي صور للحتمية، وسواء أكانت حتمية ثيولوجية أم أستطيقية أم دينية أم ميتافيزيقية، أم في النهاية علمية ميكانيكية، فإن الخاصة المشتركة بينها جميعا هي أن حرية الفرد في الاختيار وهم قائم على الجهل بالحقائق الذي يفترض أن ثمة مساحة معينة من حياة الإنسان لا تحددها قوانين تعبر عنها تعميمات العلم، تقدم المعرفة سيجعل مساحات جديدة من الخبرة محكومة بقوانين تمكننا من الاستدلال المنهجي والتنبؤ، وكلما عرفنا أكثر ضاقت مساحة حرية الإنسان وبالتالي مسئوليته،
31
حتى تتلاشى تماما في النهاية حين يصل التقدم العلمي إلى الدرجة المنشودة.
أما الحرية في المستوى الثاني، فهي تأتي من طبيعة أو بنية الجماعة المعينة التي ينتمي إليها الفرد الباحث عن الحرية فقد لا تسمح بها، ولكن بالتغيير والتطوير يمكن أن تسمح بها، فهذه هي الحرية التي تستلزم جهاد الأبطال وتضحيات الرواد وأحيانا استبسالهم واستشهادهم، المجتمعات كثيرة والجماعات أكثر؛ لذلك إذا كانت الحرية في المستوى الأول لها صورة واحدة هي الحرية الأنطولوجية وعائق وحيد هو الحتمية، فإن الحرية في المستوى الثاني لها صور شتى وعوائق شتى، حسب منظور الاهتمام الفكري والعلمي إنها حريات بعدية عينية تعددية نسبية تطورية جزئية، كالحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية والدينية والفنية والعلمية والفكرية والأكاديمية ... إلخ.
صفحة غير معروفة