وما أيسر هذا الآن فقط الآن بعد أن رسمت الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة صورة أنطولوجية لعالم يصلح للأحرار المسئولين، لإنسانية الإنسان، عالم العلم به لا ينفي الحرية الإنسانية، ولا يحيله إلى آلة عظمى ومعتقل للمجبورين بل على النقيض تماما من هذا؛ إنه التناقض المنطقي بين الحتمية واللاحتمية.
في عالم العلم الحديث كانت الحرية حلما تنأى عنه الحقيقة، ومثالا يهدره الواقع وفي الآن نفسه تطبيقا يفتك به التجريد، وممارسة يخل بها التنظير، أما في عالم العلم المعاصر فقد أصبحت الحرية كما ينبغي لها أن تكون، إنها الحلم والحقيقة، الواقع والمثال، التجريد والتطبيق، الممارسة والتنظير.
الخاتمة
(44) في الفصل الأول من الكتاب، حين الإجابة عن التساؤل ما الحرية، اتضح أنها ليست مقولة هلامية فضفاضة منذرة بالتشتت وأوراق اعتمادها ضائعة، إذ يمكن جعلها لا تقل تحديدا عن أية مقولة فلسفية أخرى، وذلك بالفصل بين مستويين، الأول: الحرية الأنطولوجية، حرية الإنسان بوصفه موجود في هذا الوجود وهي حرية مطلقة، إما أن تكون أو لا تكون، وهي تساؤل يجيب عليه العقل بشتى إمكانياته، إنها مشكلة فلسفية بحتة، والحرية في مستواها الثاني هي الحريات البعدية العينية الجزئية النسبية، وهي مرهونة بوجود المفكرين والدعاة والمصلحين لتحقيق قدر أكبر أو أقل: إنها حرية الإنسان بوصفه كائنا في جماعة أو مجتمع معين، يخضع لمتغيرات عدة، على أنه اتضح أن البحث في/أو/عن هذه الحريات أو بدقة أوجه التحرر من دون الحرية الأنطولوجية هو تناقض أو انفصام، لا بد من إثبات الحرية الأنطولوجية أولا، ثم أوضح الفصل الثاني كيف أنه يستحيل إثباتها في عالم العلم الحتمي.
إن الحريات في عالم العلم الحتمي معضل، أو قرنا إحراج لا مخرج منهما، إما العلم وإما الحرية، وبالطبع من منظورنا العلمي يكون الرد: إنه العلم ولا حرية، فماذا فعل الفلاسفة إزاء مصاب الحرية الفادح؟ كانت الإجابة في الفصل الثالث الذي أوضح أن الفلاسفة لم يفعلوا، ولم يكن يمكن أن يفعلوا أكثر من: نفي الحرية، إما نفيها بمعنى السلب واللاحرية، وإما نفيها بمعنى إبعادها وطردها من عالم العلم إلى عوالم أخرى موهومة أو متصورة أو متخيلة كعالم النوميا أو الأنا والمطلق ... إلخ.
وتلك هي نظريات الحرية الميتافيزيقية العظمى في تاريخ الفلسفة، على أنها في حقيقتها لا تخرج عما فعله الرائد المغمور بيكو ديلا ميراندولا، الذي فصم العالم إلى عالمين هما عالم المادة للعلم الحتمي، وعالم الروح للحرية الإنسانية، وكانت الفلسفة الألمانية قد وجدت تعميقا لهذا الفصم في تشربها بنظرية الإسكافي يعقوب بوهيمه الصوفية في اللا-أساس، كأساس الحرية.
من هنا كانت الشيزوفرينيا الصريحة واغترب الإنسان عن العلم وعالم العلم، واكب أزمة العلم الحتمي (التي أوضحها مدخل الكتاب) زمانيا، حركة فرنسية تدرك أن العلم - خصوصا بعد وضعية أوجست كونت - قد غزا الإنسان وأعماقه، ولم يعد ثمة مجال لنفي الحرية إليه أنطولوجيا، فلم يبق إلا الوجه الآخر للعملة أي الإبستمولوجيا، وكانت هذه الحركة الفرنسية تتلمس إثبات الحرية الإنسانية عن طريق نقد العلم وتقليم أظافره الحتمية إبستمولوجيا، شنوا حربا شعواء على الحتمية العلمية في محاولة لجلب الحرية إلى نفس هذا العالم، ولكن كانت محاولاتهم لإثبات الحرية قائمة على لاحتمية إبستمولوجية، ولم يجرؤ أحد منهم على القول بلاحتمية أنطولوجية، فكانت الحرية الفرنسية - وهي موضوع الفصل الرابع - خطوة عرجاء بساق واحدة، ولكنها على أية حال خطوة واسعة، آن بعدها الأوان لكي يستقيم السير إلى الحرية بلاحتمية إبستمولوجية وأنطولوجية معا، خصوصا وأننا بهؤلاء الفرنسيين قد ودعنا القرن التاسع عشر وأقبلنا على مشارف القرن العشرين، الظافر دون سواه بلاحتمية إبستمولوجية وأنطولوجية معا، فكان الفصل السادس مكرسا لعرض نظريات الحرية في العالم اللاحتمي، الحرية الحقيقية، غير المنفية إلى عوالم أخرى موهومة أو متصورة.
بدأ اللقاء بأبيقور الرائد العظيم لللاحتمية وللحرية، كأصل تاريخي، ثم انتقلنا إلى واحد من أشد فلاسفة اللاحتمية والحرية حماسا وهو الفيلسوف المعاصر وليام جيمس، وهو من الفلاسفة ذوي المنزع العلمي الواضح، ولكن كان ينبغي أن ندع للعلماء أنفسهم حق الحديث، فكان الحديث لإدنجتون ثم كومتون ونظريتيهما في الحرية، وأخيرا كان مذهب أو بالأصح اتجاه الحرية
Libertaranism ، بوصفه مذهب كل فيلسوف آمن بالحرية في قلب العالم الذي نحيا فيه، أوضح عرضنا ومناقشاتنا أنه مذهب كان إلى حد ما غريقا، واللاحتمية العلمية المعاصرة دون سواها هي القادرة على إنقاذه، على أني آمنت إيمانا عميقا، بأن مقولة الحرية في العالم اللاحتمي تكاد تكون مسلمة فلسفية عامة، تكاد تفرضها قواعد التفكير، ولا ترتبط بفيلسوف أو اتجاه معين.
وعلى أية حال كان الفصل الأخير حول هذا لينتهي الحديث بأن الستار قد أسدل تماما على أي تناقض أو صراع بين العلم والحرية الإنسانية، هذا الصراع انتهى تماما وأضحى مرحلة قابعة في التاريخ.
صفحة غير معروفة