35
قبل هذه النظرة اللاحتمية المعاصرة التي هي تقدم إبستمولوجي حقيقي وملموس في علم النفس، وانعقدت الآمال عليها ليحقق هذا العلم قدرا أكبر من التقدم نحو فهم طبيعة النفس البشرية، وبعد أن طال تعثره، انطلق علم النفس المعرفي على قدم وساق، وتتوالى منجزاته البحثية وتسير قدما.
ولئن كان علم النفس هو الذي يتعامل مباشرة مع واقعة الاختيار وظاهرة الحرية الإنسانية، فإن الأمر لا يقتصر عليه، والنظرة اللاحتمية تتغلغل الآن في العلوم الاجتماعية الشتى.
والمسألة بجملتها - كما أوضح المدخل - أن الفيزياء بحكم عموميتها وشمول موضوعها لمسرح الظاهرة العلمية، هي الأصل وصاحبة القول الفصل، وكما كانت العلوم تهرول نحو مثالها الحتمي، فإنها الآن أصبحت تهرول نحو مثالها اللاحتمي، وكما سهل عليها اتباع الفيزياء في الحتمية وإنكار الحرية، يسهل عليها أكثر اتباعها في اللاحتمية وإثبات الحرية، خصوصا وأن فلسفات العلوم المعاصرة بذلت جهدا جهيدا للوقوف على أنه في مبدأ اللاحتمية طريق التقدم، وهو كفيل بالإسهام في حل مشكلة العلوم الإنسانية وتضييق الفوارق بينها وبين العلوم الطبيعية، التي كنا نظنها تعمل بموضوعية مطلقة، مستحيلة على الباحث في العلوم الإنسانية.
وعلى أية حال، فإن ما فعله علم النفس المعرفي، فعلته بدرجات متفاوتة أحدث الفروع في شتى التخصصات، فمثلا قام المؤرخان الألمانيان إدوارد ماير وماك فيبر بدراسة جادة للاحتمال الموضوعي في التاريخ، أي تصور ما كان يمكن أن يحدث في الماضي، وإنه تصور علمي يعين على فهم أعمق للحاضر، فهذه الإمكانيات ليست أشباحا لما كان البشر يأملون فيه، ولكنها الإمكانيات التي فشلنا في تحقيقها، أساسا لأننا كنا نفتقر إلى المقدرة العقلية على إدراك الاحتمالات الموضوعية لما فيه الخير.
36
ولأن التاريخ مجال إنساني صرف، فإن مجال الإمكانية فيه هو مجال الإرادة الحرة والجدة ... الفعل الجديد؛ ولذلك لا بد وأن يأخذ المؤرخ عامل الحرية في اعتباره، واهتمام المؤرخ بالحرية هو اهتمام بمحض لاتعين
Undeterminacy
في عملية التاريخ، بمعية نهاية مفتوحة في جانب التاريخ الإنساني الذي يناقض الأنظمة الحتمية الميكانيكية المغلقة، ولنتذكر ثورة الحتميين العارمة على البعد الأخلاقي للتاريخ - في الفقرة 11أ - لنلاحظ أن عامل الحرية يعني أيضا الاهتمام في كتابة التاريخ بالبعد الأخلاقي المناقض لمجرد التساؤلات الفنية التقنية التي نثيرها حول الآلات الميكانيكية،
37
صفحة غير معروفة