وكنتيجة لتقدم نظرية الكوانتم، لم تعد الفيزياء رهينة النظام أو الخطة الحتمية الموهومة للقوانين، وتوقفت الحتمية تماما عن أدنى مساهمة في الصياغات الأخيرة للفيزياء النظرية،
18
بدأ الأمر بلامبالاة تجاه الحتمية أو إهمال لها في المرحلة الأولى لنظرية الكوانتم، على أساس أنه حتى ولو كان ثمة خطة علية صارمة تكمن خلف الظواهر، فإن البحث عنها لم يعد أسلوب عمل مجديا، وثمة مثل أخرى من الأجدى تعقبها، لقد أدرك الجميع أن العلية فقدت دورها، البعض ندموا وأملوا في أن تعود يوما ما، وكان هذا مواقف شخصية والموقف المعتمد هو اللامبالاة تجاه الحتمية أو أن أحدا لم يعد ينشغل بها، وبعد أن حدث التطور الأعظم في نظرية الكوانتم الجديدة التي بدأت عام 1925 وتم اعتمادها عام 1927 حين ظهر مبدأ اللاتعين لهيزنبرج انقلبت هذه اللامبالاة تجاه الحتمية إلى عداء صريح لها، وجهود موجهة بتعمد من أجل الخلاص النهائي منها،
19
فقد توصلنا إلى نقطة هامة جدا، وهي أن اللاحتمية في الفيزياء المعاصرة ليست البتة مجرد فشل للحتمية، كما لو كنا نصادر على استئذان لفشلنا في اكتشاف العوامل المؤدية للحتمية، وكأن هذه العوامل موجودة فعلا، لقد أصبحت اللاحتمية - خصوصا بعد مبدأ هيزنبرج - تعميما كميا دقيقا، تماما كقوانين الطبيعة، وكأي من تلك التعميمات التي كانت تشكل ما كنا نعتقد فيه من قانون علي،
20
بعبارة أخرى، لم يعد الأمر مقصورا على أننا لم نعرف بعد أن الحتمية صادقة، بل بالأحرى لقد عرفنا أنها كاذبة.
21
فكان الانتصار الساحق للاحتمية، وتوطد نهائيا بفعل عوامل كثيرة، أهمها أن الانتصارات العظمى للتنبؤات في الأوقات المتأخرة تقوم على قوانين إحصائية صريحة، ولا تستند البتة إلى أي أساس علي، والأهم من ذلك، أن القوانين الكلاسيكية المقبولة حتى الآن، والتي ظهرت في البداية على أنها علية، قد أثبت البحث الدقيق أنها ذات طبيعة إحصائية.
من هنا حلت اللاحتمية محل الحتمية في كل موضع، فأحرزت الفيزياء - ولا تزال تحرز - تقدما سريعا؛ لأنها لم تعد تضع الخطة العلية كهدف عملي،
صفحة غير معروفة