الوضع السليم الآن، كما أثبت تطور العلم على مدار القرن العشرين، أن اللاحتمية هي المعقولية، وتصحب معها الحرية التي تعين اختيار سلوك محتمل دون سواه.
هكذا يتجلى إنقاذ اللاحتمية العلمية لمذهب الحريين:
فقد اتضح أن محاولات تفنيده عجز عن تخلص العقل من الحتمية، فيجعلها مرادفة للمعقولية، بالتالي يتصورون أن الأفعال إما عشوائية وإما حتمية، وبالطبع الأفضل أن تكون حتمية، وأحسب أن التحليلات السابقة والآتية للحتمية واللاحتمية العلمية تجعلنا ندرك مدى افتقار هذا الاعتراض الدائري للنضج العقلي، فقد أدركنا أن العالم اللاحتمي، ليس كما يتصوره المتخلفون زمانيا وعقليا، أي ليس عالما من العشوائية المحضة والفوضى، إنه عالم ذو معينات (وليس محتمات) مثل عوامل البيئة والوراثة، والشروط الفيزيقية والاجتماعية والتاريخية للموقف، وسائر العناصر التي تخرج عن فعل وفعالية اختيار الإنسان، هذه العوامل لا تعني إلا الحدود التي يمارس الفاعل داخلها حريته واختياره الإرادي ليكون التعيين النهائي للموقف، وبدون تلك الحدود لا موقف وبالتالي لا حرية، بل ولا عالم، ومن سياق هذه العناصر التي تعين - لكن لا تحتم - تتواتر الأحداث، وكل أحداث الكون لاحتمية، ولكن ليس معنى هذا أنها جميعا عشوائية، بالمعنى الذي يجعلها تنبثق فجأة كنبت شيطاني، ثمة فئة معينة من الأحداث سوف يتحقق واحد منها، وليس أي حدث على وجه الإطلاق، هكذا بصورة خزعبلية إبستمولوجيا وأنطولوجيا.
ومعنى هذا أن كل حدث يمكن أن يكون له بديل آخر - أو بدائل أخرى - بغير أن يتهدم العالم وتتحطم سلسلة أحداثه وتقوم القيامة، أي أن الإنسان حر، يمكنه اختيار أي من البدائل أو من الاحتمالات أو من الإمكانيات المطروحة أمامه، على أن يتحمل في النهاية المسئولية، وإذا أخطأ لا يلومن إلا نفسه.
وإذا عدنا إلى أخلاق التساهل التي رفعت الحتمية لواءها لقلنا للحتميين إن الأمر ليس إشباع عقد نفسية وشذوذات سادية بالترفع عن المخطئين والنيل من المجرمين أو صرعهم - كما قال ألبير باييه - اللاحتميون أكثر من الحتميين - ألف مرة - إدراكا أنه لا أحد معصوم، وأن تكوين وخصائص شخصية القديس أو شخصية الأثيم كأية عوامل في هذا الوجود، معينات للموقف لا تحتم أي شيء بعينه، بل تحمل أكثر من إمكانية، وحرية الإنسان تتدخل كعامل لتحديد أية إمكانية ستحدث.
المسألة أن اللاحتمية هي الواقع وهي المثال؛ لذلك ففيها التفسير المعقول للأمر الواقع وللمثال المنشود من أن الإنسان يتحمل ولا بد أن يتحمل مسئولية ما جنت يداه وألا يلقي بالملام على كيان وهمي اسمه سلسلة العلل الفيزيائية والسيكولوجية والاجتماعية.
إنه الالتزام بالموقف الوجودي الذي تمليه اللاحتمية على الإنسان حين تخبره أنهم خدعوه لما قالوا له إنه مجرد ترس الآلة الكونية العظمى، ولما اتضح أن الكون ليس هكذا ... ليس آلة، انتهينا إلى أن الإنسان ليس هكذا ... ليس ترسا، بل هو فاعل حر ومبدع ومسئول.
الفصل السادس
انفراجة المعضل في عالم العلم المعاصر
(39) لو كان ثمة الكثير لكي نقوله هنا، لما كان ثمة داع لكل الحديث السالف، المسألة أصبحت الآن أوضح من أن تحتمل جدالا. (أ)
صفحة غير معروفة