ثم خلف من بعد أولئك خلف عرفوا أن فطرة الدين وطبيعته لا تتحمل شهواتهم العريضة، وألفوا بلاط الملك فسيح الأرجاء بعيد ما بين المناكب، ولكنه لا يساعفهم على أغراضهم وتتبع خطواتهم ما دامت أوصاله ملتحمة بالإدارة الدينية، ولم يهتدوا حيلة إلى فارق بينهما سوى أن يسدوا منافس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون دعاة الإصلاح، وابتكروا ضروبا من الخسف وأفانين من الإرهاق كانوا يهجمون بها على الناس هجوم الليل إذا يغشى، وإذا سمعوا مناديا ينادي ليحق الحق ويبطل الباطل كلموه بألسنة السيوف.
ولما أبق الملك من حضانة الدين وخفقت عليه راية الاستبداد، خالط الأفئدة رعب وأوجال، كأنما مزجت بطينتها، فبعد أن كان راعي الغنم يفد من البادية وعصاه على عاتقه، فيخاطب أمير المؤمنين بيا أبا بكر ويا عمر ويا عثمان، ويتصرف معه في أساليب الخطاب بقرارة جأش وطلاقة لسان وسكينة في الأعضاء، أصبح سيد قومه يقف بين يدي أحد الكبراء في دولة الحجاج فينتفض فؤاده رعبا، ويتلجلج لسانه رهبة، وترتعد فريصته وجلا، يخشى أن يكون فريسة لبوادر الاستبداد.
ولا نجهل أن القرون السالفة تمخضت فولدت رجالا تمتلئ أفئدتهم غيرة على الحق والعدالة، فصغرت في أعينهم أبهة الملك، وازدروا بما يكتنفها من أدوات الاستبداد، فجاهروا بالنصيحة المرة، وخففوا من ويلات المنكر نصيبا وافرا؛ كالقاضي أبي الحسن منذر بن سعيد البلوطي المتوفى سنة 355، وكنت تعرضت إلى نبذة من سيرته في مجلة السعادة عدد 17، ومثل القاضي أبي بكر الطرطوشي صاحب كتاب «الحوادث والبدع»، ولكن هؤلاء الرجال لم يبلغوا النصاب الكافي لإصلاح شأن أمة عظيمة، وما كانوا إلا أمثلة نادرة يضربها الله لدعاة الإصلاح لعلهم يتذكرون.
آثار الاستبداد
إذا أنشبت الدولة برعاياها مخالب الاستبداد، نزلت عن شامخ عزها لا محالة، وأشرفت على حضيض التلاشي والفناء؛ إذ لا غنى للحكومة عن رجال تستضيء بآرائهم في مشكلاتها، وآخرين تثق بكفاءتهم وعدالتهم إذا فوضت إلى عهدتهم بعض مهماتها، والأرض التي اندرست فيها أطلال الحرية إنما تأوي الضعفاء والسفلة، ولا تنبت العظماء من الرجال إلا في القليل، قال صاحب لامية العرب:
ولكن نفسا حرة لا تقيم بي
على الضيم إلا ريثما أتحول
فلا جرم أن تتألف أعضاء الحكومة وأعوانها من أناس يخادعونها، ولا يبذلون لها النصيحة في أعمالهم، وآخرين مقرنين في أصفاد الجهالة يدبرون أمورها على حد ما تدركه أبصارهم، وهذا هو السبب الوحيد لسقوط الأمة، فلا تلبث أن تلتهمها دولة أخرى، وتجعلها في قبضة قهرها، وذلك جزاء الظالمين. ثم إن الاستبداد مما يطبع نفوس الرعية على الرهبة والجبن، ويميت ما في قوتها من البأس والبسالة.
فمن في كفه منهم قناة
كمن في كفه منهم خضاب
صفحة غير معروفة