يقوم فسطاط الحرية على قاعدتين عظيمتين؛ هما المشورة والمساواة، بالمشورة تتميز الحقوق، وبالمساواة ينتظم إجراؤها، ويطرد نفاذها، وكل واحدة من هاتين القاعدتين رفع الإسلام سمكها وسواها.
المشورة
قضت سنة الله في خلقه أن سلطة شرع الأحكام وتصريف الأوامر والزواجر لا تستقل وحدها بردع الخليقة وقيادتهم إلى سابلة العدالة؛ فكثير من الناس من يجري مع أهوائه بغير عنان، ولا يدخل بأعماله الاختيارية تحت مراقبة العقل على الدوام، ألا ترى إلى جملة من أحكام الشريعة كيف بنيت على رعاية الوازع الطبيعي وتغلبه على الوازع الشرعي؛ كرد شهادة العدو على عدوه، وعدم قبول شهادة الرجل لابنه أو لأبيه وإقراره في حال مرضه لصديق ملاطف أو وارث قريب؛ فلا بد إذا من سلطة أخرى لتنفيذ تلك الأحكام المشروعة بالوسائل المؤثرة، وإن كره المبطلون، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالة القضاء لأبي موسى الأشعري: «وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.» وتسمى هذه السلطة بالسلطة القضائية، وكان زمامها في عهد نزول الوحي بيد النبي
صلى الله عليه وسلم
يتولى الحكومة على الجاني، ويباشر فصل النوازل بنفسه من غير أن يدور في حسبان مسلم مطالبته بإعادة النظر في القضية أو استئنافها لدى غيره، وما كانوا يرون قضاءه إلا حكما مسمطا، يتلقونه بأذن واعية وصدر رحيب؛ لعلمهم يقينا كعمود الصبح أنه حكم الله الذي لا يقابل بغير التسليم، قال تعالى:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ، وقال تعالى:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . وإن تعجب فلا عجب لهذا؛ فإن الوازع الشرعي قد يتمكن من النفوس الفاضلة إلى أن يصير بمنزلة الطبيعي أو أقوى داعيا. وسهل انقياد العرب على ما كانوا عليه من الأنفة وصعوبة المراس، وانصاعوا إلى قانون الشريعة مجملا ومفصلا من جهة أن الدين معدود من وجدانات القلوب؛ فالانقياد لأحكامه من قبيل الانقياد إلى ما يدعو إليه الوجدان. وليست الشرائع الوضعية بهذه الدرجة، فإن الناس إنما يساقون إليها بسوط القهر والغلبة، ويحترمونها اتقاء للأدب والعقوبة، ولا يتلقونها بداعية من أنفسهم، إلا إذا أدركوا منها وجه المصلحة على التفصيل.
وإنما ورد من فصل قضائه
صلى الله عليه وسلم
قدر يسير بالنسبة إلى مدة حياته، لما كانت عليه حالة المسلمين يومئذ من الاستقامة والتئام العواطف القاضية بأن تكون معاملاتهم خالية من الدسائس خالصة من المشاكل، وهكذا ما ساد الأدب وانتشرت الفضيلة بين أمة إلا اتبعوا شرعة الإنصاف من عند أنفسهم، والتحفوا برداء الصدق والأمانة بمجرد بث النصيحة والموعظة الحسنة فيخفت ضجيج الضارعين وصخب المبطلين، ولا تكاد تسمع لهما في أجواف المحاكم حسيسا. وضم
صفحة غير معروفة