كنا ذات يوم جماعة قليلة العدد نتحدث عن التليفزيون عندنا، ولماذا هو موضع سخط من الناس ؟ وكان بيننا رجل مسئول بحكم منصبه الرفيع، وهو من أشد الرجال إخلاصا وصدقا ونزاهة، بل كان هذا الرجل هو نفسه الذي ألقى علينا السؤال، وأذكر أني أجبته بقولي: إن المبدأ العام الذي تعمل وسائل الإعلام على أساسه، هو ألا يذاع إلا ما نكون فيه بمأمن من وجهة النظر الرسمية؛ ولذلك ترانا نتجنب كل ما من شأنه أن يخالف بصورة مثيرة! وأنت إذا حذفت من كل موضوع مواضع الإثارة فيه، لم يبق لك إلا هامش ضيق مسلم به ومتفق عليه، وبالتالي فهو بارد ماسخ لا يشد الانتباه، ولعل ذلك هو ما أكسب «ندوات الأربعاء» التي انتظم عليها التليفزيون فترة من الزمن، أهميتها ومتعتها؛ فلقد كان تعدد وجهات النظر سمة بارزة فيها؛ ومن ثم أقبل الجمهور على الاستماع.
كان عند رجال الفكر من أسلافنا شيء اسمه «التقية»، ويقصدون بها أن «يتقي» المفكر مزالق الأذى أمام من بيده القوة، فلا بأس - حتى من الوجهة الخلقية - أن يفصح عن شيء ويبطن شيئا آخر ابتغاء النجاة، لكن إذا كانت هذه «التقية» مقبولة في عصور الطغيان المذهبي، فما الذي يبررها بيننا اليوم والرأي الحر مسموح به؟
وهنا ترد إلى ذهني دراسة الفلسفة في جامعاتنا، وما كان يمكن لها أن تؤديه في هذا المجال، ولعل هذه أن تكون مناسبة جيدة أرد فيها على خطابات كثيرة كانت جاءتني على فترات، ولم أجد في نفسي ميلا للرد عليها، خشية أن يجيء الرد غير ملائم في مقالة تنشر في صحيفة يومية، والسؤال الذي وجهه إلي أصحاب تلك الخطابات هو: ما هي الفلسفة، وماذا يتعلم فيها دارسوها؟ وكان السائلون جميعا من أرباب الثقافة العلمية، وها أنا ذا أجيبهم الآن إجابة موجزة، أتوخى فيها الجانب المفيد، فأقول إن الفكر الفلسفي في كل عصوره، وعند الأمم كافة ممن أسهموا في مثل ذلك الفكر، هو تحليل للركائز الأساسية في ثقافة العصر المعين الذي يعيش الفيلسوف بين ظهرانيه، فإذا كانت الثقافة السائدة دينية الطابع، جاءت تحليلات الفلاسفة وعليها مسحة دينية؛ لأن الموضوعات التي يتناولونها بالتحليل مأخوذة من المجال الديني، وكذلك إذا كانت الثقافة السائدة يغلب عليها طابع العلم، دارت التحليلات الفلسفية بدورها حول الأفكار الرئيسية في مجال العلوم، أو كانت الثقافة السائدة تغلب عليها المذاهب السياسية جاءت الفلسفة لتدور باهتمامها في ميدان الفكر السياسي، وهكذا.
وتاريخ الفلسفة هو تلك التحليلات التي تنوعت موضوعاتها بتنوع الثقافات السائدة في العصور المتتالية، وهذا هو ما يدرسه دارس الفلسفة أساسا؛ فهو يدرس ماذا قال فلان عن المشكلة الفلانية في العصر القديم، وماذا قال علان عن مشكلة أخرى في العصر الوسيط أو الحديث؛ لأن مجموع هذه الأقوال - بعد تنسيقها ووضعها في تسلسل مترابط الحلقات - هو في الحقيقة تاريخ الفكر البشري وهو في أعلى ذراه، ولنلحظ جيدا أن هؤلاء المفكرين الفحول لم يخلقوا المشكلات التي يفسرونها ويحللونها ويقيمون عليها بناءات فكرية متسقة مترابطة، أقول إنهم لم يخلقوا مشكلاتهم من الوهم أو من العدم، بل إنهم ينتزعونها انتزاعا من المناخ الفكري كما يحيا فيه الناس ويتنفسونه هواء في نشاطهم اليومي.
وبعد هذا الشرح الموجز السريع، أقول إن الدراسة الفلسفية في جامعاتنا، كان يمكن أن تكون أغنى مصدر يخرج لنا الفئة التي تستخلص من حياتنا الثقافية دفائنها لتعريها بالتحليل النقدي إلى أن تصبح هياكلها واضحة أمام الناس، لكن أقسام الفلسفة في جامعاتنا أبعد ما تكون عن هذا التدريب لطلابها، فيخرج الطالب وهو على شيء من المعرفة المفككة الغامضة عما قيل في عصور مختلفة عن مشكلات مختلفة، قد تشبه مشكلاتنا وقد لا تشبهها، نعم إن دراسة ذلك التاريخ الفكري هو أوجب الواجبات على دارس الفلسفة، لكن الفائدة تتم لو أننا جعلناه في الوقت نفسه ميدانا للتدريب على طريقة التحليل الثقافي تحليلا كاشفا ومضيئا.
وإذن فهذا مثل آخر نسوقه للطريقة التي يقف بها المثقفون منا موقف المتفرج، وكأن مشكلاتنا الفكرية الحية أمر لا يعنيهم؟ فإذا سألت أستاذ الفلسفة - مثلا - ماذا تكون علاقة العقل العلمي المنطقي بالإيمان الديني أو بالتذوق الفني؟ أجابك في قدرة عما قاله في ذلك أرسطو قديما وابن سينا وسيطا وكانط حديثا وبرتراند رسل معاصرا، لكنه لا يعتقد أن من شأنه أن يجيب عن السؤال فيما يختص بالموقف الراهن في حياتنا، مع أن لكل موقف خصائصه التي ينفرد بها، وإلا لما اختلف قديم عن حديث.
إن الحياة الأكاديمية الصرف، التي تتشرنق داخل أسوار الجامعة، حياة قد تخرج لنا «الباحث العلمي»، لكنها لا تخرج لنا «المفكر» الذي يبث النشاط الحيوي في معالجة ما يعترضنا من مسائل تحتاج إلى التنوير والتفسير والهداية، وقد يكون ما يصرف «الباحثين» عن الخوض في مشكلات الحياة الفكرية الجارية، هو مبدأ «التقية» الذي ورثناه عن أسلافنا؛ فمن لا «يفكر» لا يخطئ، وبالتالي فهو في مأمن من سخط الساخطين، ولك أن تستعرض تاريخنا الثقافي الحديث، لترى كيف يتعرض من يحاول التفكير للقذف بأشنع التهم، ويحضرني الآن اسم كتاب كان له صدى عند صدوره، وكان لمؤلفه شيء من الذيوع، وكان محور المؤلف في كتابه أن يصف رجالا من أمثال علي عبد الرازق وطه حسين بأنهم عملاء للاستعمار؛ الأول بكتابه: الإسلام وأصول الحكم، والثاني بكتابه: مستقبل الثقافة في مصر. وكان لي الشرف بأن سلكني المؤلف في تلك الزمرة الكريمة، بكتابي: خرافة الميتافزيقا. إنه لم يذكر أسماء الرجال، واكتفى بذكر أسماء الكتب، والذي عرض هؤلاء لتهمة العمال للمستعمر هو أنهم جاوزوا الجدران الأكاديمية ليخوضوا في الحياة الفكرية العامة؛ ومن هنا جاءت الرغبة عند مثقفينا القادرين بأن يكتفوا بموقف المتفرج؛ لأنه أضمن للسلامة والعافية.
الرأي الحر أمر عسير بمقدار ما هو أمر خطير؛ لأنه رأي يستتبع مسئولية قائله أمام ربه وأمام ضميره وأمام الناس؛ ولأنه رأي لا يجيء بالضرورة مسايرا للرأي المألوف، ولذلك فإن كان الناس قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا - كما قيل - فكذلك قد ولدتهم أمهاتهم يخافون الحرية وتبعاتها (واقرأ في خوف الإنسان من الحرية كتابا من تأليف أريك فروم، وترجمه إلى العربية مجاهد عبد المنعم مجاهد)؛ ومن هذا الخوف من الحرية وعبئها الثقيل كثيرا ما يميل الناس إلى إلقاء مهمة الرأي إلى رجل أو إلى هيئة يختارونه أو يختارونها لتحمل عنهم أعباء القرار.
ويحدث هذا التواكل الذهني أكثر ما يحدث عندما تدل الخبرة على أن للفكر الحر عواقبه وعقابه، وعندئذ يؤثر المثقفون لأنفسهم موقف المتفرج، فإذا دفعوا دفعا إلى المشاركة وقعوا في الازدواجية التي أشرت إليها، وهي أن يكتبوا في العلانية شيئا وأن يتحدثوا في مجالسهم الخاصة بشيء آخر، وخذ هذا المثل القريب: أن السيد الرئيس محمد أنور السادات لم يترك فرصة إلا انتهزها ليؤكد للناس أمانهم من عواقب الحرية في الفكر والتعبير عنه، ومع ذلك لم نسمع من كان يجب أن يكون لهم الرأي في حياتنا - وأعني رجال الجامعات - لم نسمع منهم شيئا يقترحون به تغييرا أو تحويرا في الأفكار السائدة، حتى إذا ما أعلن السيد الرئيس عن رأيه في أن تكون اشتراكيتنا اشتراكية ديمقراطية، عندئذ نهض رجال الجامعات بالكتابة في شرح الفكرة وتأييدها، فإذا كان هذا هو موقفهم فلماذا كتموه في صدورهم ووقفوا متفرجين؟
لقد وهبنا الله رجالا أفذاذا بقدراتهم الفطرية ودراستهم، فعلونا بهم عن آخرين كثيرين، لكن هبة الله لنا لا تؤتي كل ثمارها إلا إذا أقلع هؤلاء الأفذاذ عن الوقوف من قضايانا الحيوية موقف المتفرج.
صفحة غير معروفة