56

هموم المثقفين

تصانيف

هي أسطر كتبتها منذ عشرين عاما، وقصدت بها إلى تصوير الموقف العقلي بالنسبة لمجال معين وجماعة معينة، لكنني أعيد نشرها اليوم؛ لأنها تصور حياتنا العقلية في كل مجال وبالنسبة للكثرة الغالبة ممن أوصلتهم الفهلوة إلى مواضع الريادة.

اللاعقل في حياتنا

أرسلت منذ بضعة أسابيع مقالة بعنوان «في حياتنا العقلية» ففوجئت حين رأيتها منشورة تحت عنوان «في حياتنا العائلية»، كأنما عامل المطبعة الذي صف حروف العنوان لم يصدق أن تكون لنا «حياة عقلية»، أو لعله لم يسمع قط قبل ذلك أن توصف حياة الإنسان أحيانا بأنها عقلية في منحاها ومسارها، وظنها فلتة قلم من الكاتب، فتبرع بذلك التصحيح ليكون للعنوان عنده معنى مفهوم، ولم يأبه أن تنعدم الصلة بين مادة المقالة وعنوانها.

ولقد سمعت من أستاذ لعلم النفس في إحدى جامعاتنا، بأنه أراد القيام ببحث علمي على مجموعة من طلابه وطالباته، يقيس به ميولهم، فكان من بين ما طلبه من هؤلاء الطلبة والطالبات أن يختار كل منهم كتابة موضوع إما في الحياة «الانفعالية» وإما في الحياة «العقلية»، فلم يقدم منهم طالب واحد ولا طالبة واحدة على الكتابة عن الحياة العقلية، واختاروا جميعا حياة الانفعالات.

تأيدت عندي الفكرة - من هذه الأمثلة وغيرها - بأن «العقل» وحياته مسكين في ديارنا، لا نكاد نطيق أن يكون له ركن عندنا ليقيم فيه، لكنني حين شرفني الدكتور إبراهيم حلمي عبد الرحمن ، بأن ضمني عضوا في لجنة يرأسها، عملها هو أن تخطط لمصر تخطيطا بعيد المدى نسبيا، وجدت نفسي بين صحبة كريمة، أستمع إلى أفرادها، أو أقرأ لهم ما أعدوا من تقارير، فلا أجد إلا تفكيرا عقليا من الطراز الرفيع، إنها مجموعة من الطراز الرفيع، إنها مجموعة من العلماء، تخيلت أنها لو أمسكت زمام الريادة في أي بلد من بلاد العالم المتقدم، لكانت هناك خير من يرسم الطريق، وهنا سألت نفسي فيما يشبه الثورة الغاضبة قائلا: إذا كان هؤلاء هم رجالنا في التخطيط العلمي لشعبنا؛ تخطيطا يجسد العقل على صفحاته وبين سطوره وأرقامه، فما الذي يصيبنا بعد ذلك في طريق حياتنا العملية؟ ما الذي ينقصنا ليطرد بنا السير إلى أمام، ما دام هذا هو طرازنا في الجانب النظري؟

ولم تكد تهدأ ثورتي حتى جاءني الجواب عن سؤالي يسعى، وذلك أني أخذت أتصفح أوراقا أمامي بطريقة عفوية عابرة، فإذا عيني تقع في سطورها على حقائق تشد الانتباه، وكان مما قرأته أن هيئة رسمية في سنة 1960م أقرت بادئ ذي بدء أن التصنيع هو الطريق الأساسي الوحيد الذي يخرج البلاد من الضيق إلى السعة، ومن التخلف إلى التقدم، ثم وضعت للدولة تخطيطا تسير على منهاجه ليحقق لها ذلك الهدف، ومضت خمسة عشر عاما بعد ذلك، وجاءت سنة 1975م، وقيس التقدم الصناعي الذي تقدمته البلاد خلال تلك الفترة فإذا بالناتج المضاف عن طريق الصناعة تقل نسبته سنة 1975م عنها سنة 1960م! ومعنى ذلك أن اتجاه السير في حياتنا العملية قد جاء مضادا لما أراده لنا «العقل» وهو يرسم الطريق! فتصور مسافرا أراد السفر من القاهرة إلى الإسكندرية فركب قطار الصعيد!

ومما وقعت عليه عيني أيضا في تلك القراءة العابرة للأوراق التي وجدتها أمامي، أن مشروعات صناعية أقيمت لها المباني وجهزت الآلات، وإذا بها لا تجد المادة التي تصنع (بتشديد النون)، فعملت بجزء منها وبقيت سائر الأجزاء معطلة، وهكذا، وهكذا أخذت أطالع أمثلة عجيبة تدل أوضح الدلالة وأقواها، على أننا إذا كنا قد استطعنا بفضل رجالنا الممتازين أن نستهدي العقل العلمي في رسم خطة السير، فلقد نكبنا برجال آخرين في دنيا التنفيذ، جعلوا يخلطون الأمور بعضها ببعض: يقدمون غير المهم على المهم، وينافس بعضهم بعضا في مجالات كانت تستدعي التعاون والتكامل، إلى آخر هذه القصة الطويلة الحزينة.

عندئذ ظهر لي تفسير المفارقة المؤسفة التي أثارت في النفس ثورتها وغضبها، وهي تتلخص في هذا السؤال: كيف حدث أن كان بيننا رجال بأعلى الكفاءة العلمية والعقلية حين يخططون، ثم لم نجد في الناتج الفعلي على أرض الواقع إلا نقيض ما أردناه وخططنا له؟ والحل الذي ظهر لي واضحا هو أنه بينما ساد «العقل» عند مرحلة التفكير والتدبير، جاء «اللاعقل» بعد ذلك فسد علينا منافذ الطريق.

إن هنالك فجوة تؤدي إلى انفصام، بين الصفوة التي تحتكم إلى «العقل» في استباق الرؤية، وبين الكثرة الغالبة - وهي التي سيناط بها عملية التنفيذ والتطبيق - لأنها كثرة لا تؤمن في أعماقها لا بالعقل ومنطقه ولا بما يترتب على العقل من علوم وصناعات، ومما يقوي نفور الناس من العقل والعلم والإيمان بهما، فريق من أصحاب الكلمة المكتوبة أو الكلمة المنطوقة، وسوست لهم الشياطين بأن العقل الإنساني عاجز، وبأن العلم تضليل، وراحت تبث هذه الدعوى فتلقفها منهم الناس في لهفة؛ لأنها دعوة تضمن لهم الاسترخاء والراحة، في الوقت الذي يقتضي منهم نشاط العقل كثيرا من اليقظة القلقة الواعية التي ترهق أعصابهم بغير داع.

لقد جاءتني فتاة تعمل في الصحافة عند أولى درجاتها، جاءت تطلب مني تعليقا على حديث أملاه عليها علم من أعلام الفكر في حياتنا اليوم، وربما كان الأقرب إلى الصواب أن أقول عنه إنه من أعلام «اللافكر» في حياتنا (أعني أنه يجعل الأولوية لوجدانه)؛ لأن الفكر بحكم تعريفه هو «منطق العقل»، على حين أن الرجل ما ينفك يعلن بأعلى صوته أنه عدو للعقل ومنطقه، أو هو على الأقل ضعيف الإيمان بقدرة ذلك العقل البشري في الكشف عن الحقائق، لماذا؟ لأن صاحبنا قد وجد راحة نفسه في حياة الوجدان الصوفي، والرأي مجمع على أن هذا الوجدان الصوفي إنما يقف من المنطق العقلي موقف النقيض من النقيض.

صفحة غير معروفة