ولقد ذكر الشهرستاني في «الملل والنحل» عشر مسائل دار حولها فكر العلاف، وثلاث عشرة مسألة للنظام، وكان من أهم الموضوعات التي تناولها العلاف بالبحث، موضوع الذات الإلهية وصفاتها، باحثا عن تصور تفهم به الصلة بين الذات والصفات، فهما يؤدي إلى توحيد حقيقي، ولا يؤدي إلى تعدد بأي معنى من معانيه؛ وكذلك تناول موضوع الإرادة الإلهية، البادية في قول الله تعالى إذا أراد شيئا:
كن
فيكون؛ ثم انتقل العلاف إلى الإرادة الإنسانية، ليرى فيها ضرورة أن تكون حرة الاختيار، ليكون صاحبها مسئولا عما يفعل، وبغير ذلك لا يتحقق العدل، وكان مما بحثه العلاف أيضا، وجوب أن تقام معرفة الإنسان لربه على براهين العقل.
وأما «النظام» فكان يشارك العلاف في مسائل عرفت بها المعتزلة جميعا، كالقول بحرية إرادة الإنسان في اختياره لأفعاله، ليكون للتبعة الخلقية معناها الصحيح، لكنه تميز بسعة الأفق وعمق الغور، حتى ليذهلنا في كثير من المواضع، باقترابه في الرأي من فلاسفة عصرنا هذا اقترابا شديدا، مثال ذلك موقفه من موضوع أثير حوله جدل كثير، وهو عن علاقة الله تعالى بفعل الشر: أهو غير قادر على فعل الشر؟ أم هو قادر على فعله ولكنه لا يفعله؟ فكان الرأي في ذلك عند النظام، هو نفسه الرأي الذي كنا لنسمعه من أصحاب المذهب الإجرائي في المعاني، من فلاسفة عصرنا؛ أي أن معنى عبارة معينة، إن هو إلا مجموعة الإجراءات العملية التي تترتب عليه؛ فإذا اختلفت عبارتان في ألفاظهما، لكنهما يولدان مجموعة من الإجراءات لا تختلف بين إحداهما والأخرى، كان معناهما واحدا برغم اختلافهما في الألفاظ. وهكذا كان موقف النظام من العبارتين السالفتين؛ إذ قال إنه لا فرق بينهما؛ إذ إن الله تعالى لا يفعل الشر على كلا القولين.
ومسألة أخرى يروعنا فيها النظام برأيه الذي سبق به عصرنا بعدة قرون؛ وهو أن الإنسان يعرف بنفسه لا بجسمه، شريطة أن تفهم النفس على أنها وظائف، لا على أنها كيان قائم بذاته في باطن الإنسان، فكأنما أراد النظام أن يقول عن النفس إنها أنماط سلوكية، يراها بعينيه من شاء أن يرى.
ومسألة أخرى تضع النظام في قلب الفلسفة في عصرنا، وهي رأيه عن شيء ما - أي شيء كان - بأنه مساو لمجموعة ظواهره التي تدركها منه الحواس؛ أي أن المعول على معرفة الشيء ليس هو «الجوهر» المزعوم كمونه وراء الظواهر، بحيث إذا ما تغيرت الظواهر، كان له هو الثبات والدوام، فتثبت بالتالي هوية الشيء وتدوم.
بهذا القول عن حقائق الأشياء، يمكن المشابهة بينه وبين «هيوم» في الفلسفة الإنجليزية التجريبية الحديثة، لكن النظام لا يلبث أن ينتقل إلى مسألة أخرى، فإذا هو يشبه في «عقلانيته» ليبنتز شبها شديدا، بل أدهشنا أن يلجأ في التوضيح إلى مثل، كان هو نفسه المثل الذي ساقه ليبنتز في توضيحه لوجهة نظره؛ وذلك أن النظام في رؤيته للعلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض، قال إنها «تتولد» بعضها من بعض؛ أي أن الشيء يكمن مضمونه في جوفه، إلى أن يظهر ذلك المضمون علانية في وقته المناسب، مثال ذلك (وهنا يشترك معه ليبنتز في المثال) كان آدم يحمل في طبيعته كل من ظهر، ومن سوف يظهر من البشر؛ وهكذا قل في كل شيء، فأفعال فرد من الناس - مثلا - تظهر متتالية على تعاقب لحظات الزمن، لكنها جميعا كانت كامنة في طبيعة صاحبها منذ اللحظة الأولى، كأن الكائن من الكائنات يشبه شريط السينما، في أن تكون القصة كلها مطوية فيه، ثم تأخذ الحوادث في الظهور شيئا فشيئا إذا انبسط ما انطوى.
5
ونمضي مع المسلمين الأولين في تاريخهم الفكري، خلال القرنين التاسع والعاشر بعد الميلاد (الثالث والرابع من تاريخ الهجرة) فإذا نحن أمام حركة عقلية نشيطة دائبة، تنقل «العقل» اليوناني بكل ما قد أنتجه من فلسفة وعلم؛ فإذا كان اليونان عند الغرب هم معجزته الكبرى، لما أبدوه من قدرة على «التنظير» بعد أن لم يكن يعرف الشرق القديم إلا الممارسة العملية؛ فقد كان للمسلمين القدرة على تقبل ذلك الفكر النظري وهضمه، والإضافة إليه؛ وماذا نقول في قوم خلقوا علم الجبر في الرياضة من عدم، وهو ما يزال يحمل اسمه العربي في لغات الغرب، وأضافوا إلى الأعداد «العربية» - كما تسمى في الغرب، برغم افتراضهم بأن العرب نقلوها عن الهند - أضافوا إليها «الصفر» الذي أحدث ثورة حقيقية في علم الحساب، وكان أحد علمائهم في الرياضة - وهو الخوارزمي - هو الذي ابتدع اللوغارتم، وقد سمي كذلك على اسم صاحبه.
وتطول بنا القصة لو مضينا في رواية ما اضطلع به المسلمون في دنيا العلوم بشتى صنوفها، من منطق ورياضة وفلك وطب وكيمياء وغيرها، ذلك أن هدفنا هنا - كما أشرنا من قبل - هو بيان - الاتجاه الفكري العام على طريق المنطق العقلي، دون الوقوف طويلا عند تفصيلات تمتلئ بها الكتب.
صفحة غير معروفة