إذا ما تخلى عن غضبه فليهدأ؛ فإن هاديس، حسبما أظن، هو وحده الذي لا يهدأ ولا يسيطر على غضبه، ولهذا السبب هو المكروه من البشر أكثر من كل الآلهة، وليذعن لي؛ فأنا الأكثر سلطانا، وأنا الأكبر سنا. (الإلياذة، 9، 158-161)
يحمل ثلاثة رجال العرض إلى خيمة آخيل؛ أوديسيوس، بحديثه المقنع، وأياس الأعظم شأنا، المحارب شديد البأس (ولكن لماذا ليس ديوميديس؟) وشخصية تظهر من العدم، هو فوينيكس، معلم آخيل. ويتبعهم، أيضا، رسولان. لقد سبق أن ناقشنا هذه الإشكالية الجوهرية، حيث نلاحظ أن الأمر يبدو وكأن المنشد الشفاهي يدخل تعديلات على أنشودته وهو مستطرد في إنشاده، ولكن الأمور لا تستقيم معه على الدوام؛ فبدلا من أن يقول إن الرجال الثلاثة ساروا بمحاذاة شاطئ البحر (أو الرجال الخمسة، إذا ما أحصينا الرسولين)، نجده يقول: «وسار «الاثنان » بمحاذاة شاطئ البحر الهادر» (الإلياذة، 9، 182) (طالع: الفصل 1، قسم «بقايا التأليف الشفاهي في نصوص هوميروس»). إن اللغة اليونانية الهوميرية تشتمل على صيغة المثنى (المستخدمة في لفظة «الأياسين» [أي الاثنان اللذان يحملان اسم أياس])، بالإضافة إلى صيغتي المفرد والجمع اللتين تشتمل عليهما اللغة الإنجليزية، وفي هذا الموضع يستخدم هوميروس صيغة المثنى للضمير وللفعل (أي إنه في الواقع يقول «الاثنان سارا»)، وفي موضع تال يتراجع عائدا إلى صيغة الجمع عندما يشير إلى أعضاء البعثة. طرحت تفسيرات كثيرة لهذا الشذوذ النحوي، إلا أن أنه يبدو أن أفضل تفسير هو ذلك القائل إن هوميروس توارث صيغة لمشهد البعثة لم يكن فوينيكس مشمولا فيها. ثمة دور مهم لفوينيكس يؤديه في بعثة هوميروس، إلا أن الأمر يبدو وكأن الأرض تنشق عنه ليظهر فجأة في القصة؛ فالأمر إذن أن هوميروس أدخل فوينيكس إلى القصة، ولكنه لم يكن دائما يعدل صيغة المثنى (فالرسولان الإضافيان ليسا حقا طرفا في البعثة). في هذا الموضع نرى «المنشد الملحمي» وهو دليل جيد ولكنه محير على أن الشاعر - أو محرري نصه - لم يدخلوا تعديلات على «الإلياذة» و«الأوديسة»، المكتوبتين عن طريق الإملاء، لاستبعاد الأشياء الخارجة عن المألوف ومحو الأجزاء المملة.
تجد البعثة آخيل يعزف على قيثارة غنمها في نفس الغارة على طيبة التي سبى فيها خريسيس. ويجدونه ينشد عن «مآثر الرجال»، وهي الإشارة الوحيدة في «الإلياذة» إلى أنشودة بطولية، ولو أن آخيل ليس «بمنشد ملحمي». أما «الأوديسة» فهي، على النقيض من «الإلياذة»، تشير إلى المنشدين الملحميين مرارا وتكرارا.
ولكونه مضيفا كريما يقدم آخيل الطعام إلى الرجال، الذين بعدئذ يسلمونه رسالتهم. ويبتدئ أوديسيوس، مكررا حرفا بحرف عرض أجاممنون السخي، وفقا للنمط الشفاهي في نقل الرسائل، عدا أنه يسقط كلمات أجاممنون الأخيرة غير المقبولة عن كونه الأكثر سلطانا. يستميل أوديسيوس تعطش آخيل نحو الاشتهار إلى الأبد والسؤدد اللذين سوف تمنحهما له كثرة الغنائم. وبعودة آخيل إلى القتال، سوف يقدم أيضا العون إلى رفاقه ، الذين يعانون كثيرا، وفي المقابل سوف يجلونه كل الإجلال. ويضيف أوديسيوس أن الآن هو فرصته المثلى ليقتل هيكتور.
تجسد إجابة آخيل الشهيرة حالته الذهنية، وغضبه المتأصل من الطريقة التي كان يعامل بها، تجسيدا مثاليا. إن حديثه «يمثل» غضبه. فهو يكره من يقول شيئا، ولكنه يضمر في قلبه شيئا آخر بقدر ما يكره بوابات هاديس (وهو السلوك الذي يفتخر به أوديسيوس في «الأوديسة»). وهو لا يجد أي تأثير في إغرائهم له بالسؤدد؛ لأن التقدير، كما يمكن لكل شخص أن يرى، ليس بالضرورة أن يكون هو الجزاء؛ فالموت يتربص بالجميع ولذلك فالجميع متساوون، من يستحقون التقدير ومن لا يستحقونه. ويقول إنهم ربما يكونون قد أتوا إلى طروادة للثأر من سرقة امرأة من أحدهم، ولكن قائدهم الجبان ذاته متورط في سرقة من نفس النوع. من أجل ذلك ما الداعي لأن يموت أي أحد في سبيل استعادة هيلين؟ وأما عن هيكتور، فليقاتله أجاممنون؛ إن كان هو «أفضل الآخيين» كما يدعي. كان يتعين عليه ألا يوجه الإهانة إلى أعظم مقاتليه. غدا سوف يحزم آخيل أغراضه ويبحر عائدا إلى الديار. أما عن غنائم أجاممنون، فلا يمكن أن تكون كافية أبدا؛ لأن حياة آخيل ليست للبيع. وحياته هو هي المهددة بالخطر. أما عن ابنة أجاممنون، فليجد لها شخصا من مكانة اجتماعية مناسبة؛ لأن من الواضح أن آخيل ليس من مرتبة لائقة بما يكفي. عندما يفقد المرء حياته، لن تعيدها أي عطايا ولا أي نساء. وحسب إحدى النبوءات، فإن آخيل يستطيع أن يحرز مجدا، لكنه سوف يموت شابا، أو يعيش مديدا دون مجد، ويقول مهددا إنه درب ربما يكون عليه الآن أن يختاره؛ نظرا لأن المسعى العسكري بلا طائل. وينصحهم جميعا بأن يذهبوا إلى ديارهم مثلما سوف يفعل هو لا محالة. إنهم بحاجة إلى خطة أخرى من أجل إنقاذ أنفسهم؛ فهذه الخطة ليست مجدية.
يا لعظم الغضب الذي يستنزفه!
ومع ذلك فإن إجابة آخيل، رغم ما به من غضب يختلج في كل جوارحه، تلبي المتطلبات المنطقية لمناشدة أوديسيوس ؛ فهو ليس بمقدوره أن يقبل العرض؛ لأنه رفض القيم التي يعتبرها العرض من المسلمات، تلك القيم التي طالما عاش هو وفقا لها إلى أن أظهر له أجاممنون، الأعلى منه سياسيا ولكنه أدنى منه حربيا وأخلاقيا، كم هي فارغة. يصرف آخيل البعثة ويسأل معلمه فوينيكس أن يبيت ليلته عنده.
ربما كان هوميروس نفسه هو من ابتدع الظهور المفاجئ لفوينيكس، الذي يمثل الالتزامات العاطفية التي يكنها المرء لعائلته وضرورة الاستجابة لاستعطاف متوسل. يحكي فوينيكس قصة مشوقة عن حياته، وكيف أنه عاشر محظية والده، ثم صار عنينا بسبب لعنة والده. واستقبله بيليوس والد آخيل كلاجئ وسلم إليه الطفل الصغير آخيل ليتولى تنشئته. (لذا فرغم كل شيء ينبغي على آخيل أن يقبل التماس أجاممنون.) إن فوينيكس هو، نوعا ما، «بمثابة» الأب لآخيل، وكونه أبا، فهو يتوقع من آخيل أن يجلب له الشهرة، وأن يقر بفضله. ويقول فوينيكس إنه حتى الآلهة يمكن إقناعها؛ لذا فآخيل، الذي هو مجرد إنسان، يمكن إقناعه أيضا.
يسرد فوينيكس قصة رمزية مبهمة نوعا ما عن كينونات لاهوتية، هن «إلهات الصلاة» اللواتي يتبعن درب «آتي»
atê ، [ربة] «الغضب الشديد والجنون والأذى والخداع والخراب والحماقة»، ذات القوة التي تذرع بها أجاممنون لتبرير سلوكه الطائش. يقول فوينيكس إن «آتي»
صفحة غير معروفة