rhabdos
باللغة اليونانية (انظر شكل
1-7 ). كان أبولونيوس ينظم في عزلة على ألواح شمعية أو باستخدام مرقم وحبر، ثم، حسبما نظن، كان يتلو قصيدته الملحمية من بردية مدونة عليها على دوائر صغيرة من الصفوة الأثرياء، بالغي النفوذ، ممن حظوا بمستوى راق من التعليم. وكان، بقدر ما نعلم، أول رجل على مدى خمسمائة عام يشرع في محاكاة قصائد هوميروس بطريقة واعية.
في زمن أبولونيوس كانت ظروف الحياة في منطقة البحر المتوسط قد تغيرت تغيرا تاما منذ زمن هوميروس. ففيما بعد فتوحات الإسكندر (356-323 قبل الميلاد)، عاش القادة الفكريون للتراث الهيليني في أرض غريبة. كان المنشدون الملحميون قد رحلوا إلى الأبد، وكذلك الطبقات الأرستقراطية القروية التي كانوا يخدمونها. كانت الإسكندرية عاصمة واحدة من أقوى الممالك في التاريخ، وكانت غارقة في الثروة ويدفعها طموح ثقافي. وقعت قوة هائلة لا تنضب في أيدي رجال منفردين، وكان بطالمة مصر سعداء بإنفاقها على التحسين الثقافي. وفي غضون مائة عام من تأسيسها في حوالي 334 قبل الميلاد كانت الإسكندرية قد أصبحت أكبر المدن وأكثرها ثراء وثقافة في العالم. لذلك انتقل شعراء الحقبة الهلينستية العظام إلى هناك وتولوا مناصب في الموزيون، «معبد الميوزات (إلهات الإلهام)».
بالطبع تعلم أبولونيوس الرودسي، الذي كان يشغل وظيفة أمين مكتبة في الموزيون على الأرجح فيما بين عامي 270 و245 قبل الميلاد، شعره من الكتب ولم يعرف شيئا البتة عن الأصول الشفاهية لقصائد هوميروس. وتعامل مع النصوص المنقولة باعتبارها كلاسيكيات أدبية تستحق دراسة جادة ، واهتماما وثيقا، ومحاكاة قائمة على الإعجاب. ابتكر أمناء المكتبات الهلينستيون من أمثال معلم أبولونيوس، العلامة والشاعر العظيم كاليماخوس (حوالي 305-240 قبل الميلاد)، في هذا الوقت تصنيفات معاصرة للنوع الأدبي: «التراجيديا»، و«الكوميديا»، و«الملحمة»، و«الشعر الغنائي»، و«الجوقة»، و«التقليد الساخر»، إلى غير ذلك. وما زلنا نميز معظم هذه الأنواع الأدبية. احتاج أمناء المكتبات بالإسكندرية إلى أن ينسقوا على رفوفهم لفائف بردي مليئة بنصوص أدبية متنوعة جاءتهم من كل أنحاء العالم الناطقة باليونانية، اقتنيت بعطاء من الملك؛ لذا احتاجوا إلى تصنيفات يكون باستطاعتهم تجميع هذه النصوص فيها.
كانت القصائد الهوميرية عند أبولونيوس هي مصدر تعريف الملحمة كنوع أدبي؛ فهي قصيدة طويلة عن المغامرة والحرب تتدخل فيها الآلهة ويحمل فيها الأبطال نعوتا دباجية في بيت من اثنتي عشرة فاصلة مصاغ من التفعيلات الدكتيلية والتفعيلات السبوندية. تنقسم ملحمة «أرجونوتيكا» من نظم أبولونيوس، التي يبلغ طولها حوالي 6000 بيت، إلى أربعة كتب. تروي القصيدة قصة رحلة جيسون إلى مملكة كولخيس في أقصى شرق البحر الأسود لاستعادة الصوف الذهبي، وعلاقته الغرامية مع الساحرة ميديا، ومشكلاته في العودة للوطن. لا نعرف ما الذي قد جعل أبولونيوس يكتب قصيدة كتلك، ولا الكيفية التي انتشرت بها تحديدا، ولكن لا بد وأن الفكرة الرئيسة الأسطورية التي تدور حول جولات جيسون في بلاد غريبة، على غرار «أوديسة» هوميروس، اتخذت معنى جديدا لدى اليونانيين الذين يعيشون حاليا في أرض مصر الغريبة، حيث كانوا عرضة للخطر والغواية.
حسب أبولونيوس نفسه يكتب بأسلوب هوميري، وشعره، عندما يتلوه، يبدو «هوميريا»، ولكن نعوته ليست إلا نعوتا مدبجة منمقة وبالطبع لا تعكس صياغة شفاهية. إنها أدوات أسلوبية الغرض منها استحضار الطريقة الهوميرية في استعمال النعوت وإعلاء مستوى التعبير الشعري، في استدعاء للخبرة المكتسبة. كل شيء في شعر أبولونيوس مدروس ومختلق. فهو يستخدم لغة هوميروس القديمة، ثم يستحدث أساليب قديمة من عنده. ها هو مثال لملحمة أبولونيوس المستحدثة، ذات الوعي الذاتي، الحديثة، التناصية، من المشهد الذي يجابه فيه جيسون التنين العظيم الذي يحرس الصوف الذهبي:
ولكن أمامهم مباشرة كان الأفعوان بعينيه الثاقبتين اليقظتين يراهم قادمين ومد رقبته الطويلة وفح فحيحا مرعبا، وتردد الصوت على امتداد ضفاف النهر العالية وعبر الغابة اللامتناهية. سمعه أولئك الذين كانوا يعيشون في أرض كولخيس بعيدا جدا عن أرض تيتانيان أيا [حيث كان يوجد الصوف]، التي توجد بالقرب من نهر ليكوس المتدفق، النهر الذي يتشعب من عند نهر أراكسيس ذي الهدير الصاخب ويمزج مجراه المقدس بنهر فاسيس، ويتدفق كلاهما معا كنهر واحد ويصبان مياههما في البحر القوقازي. وبدافع الخوف استيقظت الأمهات الشابات، ومددن أيديهن في ذعر كأنما يدفعنه بعيدا عن أطفالهن حديثي الولادة، النائمين بين أذرعهن، وارتعدت أطرافهن من الفحيح. (أرجونوتيكا، 4، 128-138)
لعله كان مقصودا في هذا الوصف أن نتذكر عندما صاح آخيل من السور بصوت عال حتى إن اثني عشر رجلا سقطوا صرعى (الإلياذة، 18، 230)، ولكن هوميروس لم يكن ليسمح بوجود تنين في قصائده، وحتى العناصر الخيالية لرحلة أوديسيوس تروى بشكل منفصل عن صوت المؤلف، ولا نجد مطلقا مثل هذه التأثيرات المبالغ فيها. كان هوميروس يحب القوائم، التي من شأن الأسماء التي تشتمل عليها أن تكون غامضة على القارئ المعاصر في الإسكندرية؛ لذا يدرج أبولونيوس ثلاثة أنهار وبحرا واحدا غامضين وبعيدين، مستدعيا معرفة نخبوية عن جغرافيا لا يعرف بشأنها إلا قليلون. لا يدعو أبولونيوس البحر الأسود باسم البنطس، وإنما باسم أكثر «شاعرية» وهو البحر القوقازي؛ لأن جبال القوقاز تقف منتصبة عند الحافة الشرقية للبحر الأسود، كما سوف يدرك جمهور أبولونيوس المثقف. وهذا التحول المفاجئ من وصف الأنهار البعيدة، حيث كان يسمع صوت فحيح التنين، إلى رعب أمهات يحمين أطفالهن يذكرنا بأندروماك وأستياناكس، ولكن هذه الفقرة النمطية غير هوميرية إلى حد كبير في تناولها لشعور وجداني عميق، ولتأثيرها المبالغ فيه.
كذلك قدم أبولونيوس موضوعات سردية عصرية في تصويره لضعف جيسون غير البطولي وقوة ميديا غير الأنثوية. وفي حين يصف هوميروس في إسهاب شهير الدرع التي يتلقاها آخيل من السماء حتى يتمكن من قتل هيكتور، يسهب أبولونيوس في وصف عباءة جيسون (أرجونوتيكا، 1، 721-767)، التي سوف يستخدمها ليغطي نفسه وملكة ليمنوس وهما يتطارحان الغرام! (3) هوميروس في إيطاليا
صفحة غير معروفة